لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢))
قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) تقاصرت أبصارهم عن معاني جوهره الذي هو حامل أثقال أنوار كشف الأزل والأبد ، وهو روحه الذي سابق الأشياء بالقدس والأنس ، فعاين الحق قبل الخلق ، فدخل صورته كمصباح في جوهر زجاجة صافية يضيء ، ولو لم تمسسه نار تضيء صورته بضياء الفعل ، ويتنور روحه بنور الصفة ، ثم صار صورته وروحه قنديل أنوار ذات الحق يتجلى منه للعالمين ، فمن خصه الله بالأهلية منه فيراه بنور الحق ، ويرى الحق منه ؛ فلا يقع نظره إلا على قدس وطهارة.
قال جعفر : عيروا الرسول بالتواضع والانبساط ، ولم يعلموا أن ذلك أتم لهيبتهم ، وأشد في باب الاحترام لهم ، وذلك أنهم لم يشاهدوا منه خصائص الاختصاص ألهاهم ذلك عن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ ...) الآية.
ثم بيّن سبحانه أن الأكل والشرب والمشي والسعي في الحوائج لا ينافي النبوة والولاية والاصطفائية الأزلية ، وأن جمهور الأنبياء ما خلوا من صفة البشرية إذ البشرية مركب الصورة والصورة مركب القلب ، والقلب مركب العقل ، والعقل مركب الروح ، والروح مركب المعرفة ، والمعرفة قوة القدوسية صدرت من كشف عين الحق ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) هذا سنة الله في الخلق والأنبياء والأولياء شاركوهم في البشرية ، وفارقوهم في المعرفة والمحبة.
قال جعفر : ذلك أن الله لم يبعث رسولا إلا أباح ظاهره للخلق بالكون معهم على شرط البشرية ، ومنع سره عن ملاحظتهم والاشتغال بهم ؛ لأن أسرار الأنبياء في القبضة لا تفارق المشاهدة بحال.
ثم بيّن سبحانه أن العارف الصادق فتنة للجاهل الغبي ، والمحب القريب فتنة للمنكر البغيض بقوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الأغنياء فتنة الفقراء فالكل ممتحنون بنكاية قهره ومكره.
ثم استفهم منهم بقوله : (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) أي : أتصبرون يا أهل الحقائق في بلائي وامتحاني وأنتم بمرأى مني أجازيكم بمشاهدتي وكشف جمالي؟