قوله تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (١) : كان يونس عليهالسلام من أهل التوحيد والمعرفة والعشق ، وكان يسبح في بحار الألوهية والربوبية ، ويجد منها جواهر الأزليات والأبديات ولآلئ أسرار المعارف والكواشف ، فبلغ قعر عين الأولية والآخرية ، وصار متلاشيا في لجج بحار الذات ، وخارجا بنعوت الاتحاد من لجج الصفات ، وكاد يدّعي ما يدّعي أهل السكر في الأنائية ، فالتقمه حوت قهر غيرة الإلهية ، وهو ملام حيث ما انسلخ من أوصاف الحدوثية ، وكاد يبقى في بطن حوت القهر ، فأغاثه عرفان بقاء الحق بعد عرفانه بفنائه فيه ، ونجّاه من طوفان قهر الأزل ، ولم يبق في الحيرة والغيرة بقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) أي : فلولا كان من العارفين بقدم الأزل وتنزيه الأبد للبث في حجاب الغيرة ، وفيه حقيقة شطح العارفين أنه كان عليهالسلام في حجال الخلوة في بطن الحوت ، وهي كانت له معاريج مشاهدة القدم أي : لولا أنه كان من الأنبياء والمتمكنين من أهل القدوة والأسوة لبقي في مشاهدة القدم إلى يوم البعث ، إلى محشر مساقط تجلي الجلال والجمال التي قال سبحانه : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، ولكن كان رحمة البلاد والعباد ؛ ليعرفهم منازل الأبرار والأتقياء ومقام العبودية والربوبية.
وقال سهل : من المسبحين من القائمين بحقوق الله قبل البلاء.
قال ابن عطاء : من العارفين بنا المتعرفين إلينا قبل وقوع ما وقع.
(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤))
قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : أهل البدايات في مقام الطاعات والأوساط في المقامات ، مثل التوكل والرضا والتسليم ، والمحبون في مقام الحالات والمواجيد ، وأهل المعرفة في مقام المعارف ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام ، ولا يبقى المقام للموحدين ؛ فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات ، وليس لهم مقام معلوم ؛ لأن هناك لم يكن لهم وقوف ؛ حيث أفناهم قهر الجلال والجمال والعظمة والكبرياء عن كل ما وجدوا من الحق ، فبقوا في الفناء إلى الأبد.
قال ابن عطاء : لك مقام المشاهدة ، ولهم مقام الخدمة.
__________________
(١) قال في كشف الأسرار : فصادفه حوت جاء من قبل اليمن فابتلعه ، فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى (وهو مليم) حال من مفعول التقمه أي داخل في الملامة ومعنى دخوله في الملامة كونه يلام سواء لاموه أم لا يقال ألام الرجل إذا أتى أو آتى بما يلام عليه فيكون المليم بمعنى من يستحق اللوم سواء لاموه أم لا يقال ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه.