والتيقن بلطيف صنعه والكرم العميم منه على جميع البرية ، وبأن يرضى العباد بما يجري عليهم من الأقدار السابقة في الأزل ، ولا يكونوا مهتمين بما يستقبلون من الأيام الباقية والأعمار الماضية بجهة الرزق ؛ لأنه تعالى قدّر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وما قدّر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين وجهد الجاهدين ، ألا ترى إلى الوحوش والطيور لا تدّخر شيئا إلى الغد «تغدو خماصا وتروح بطانا» (١) ؛ لا تكالهما على الله بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها ، كيف يكون الإنسان يهتم لأجل رزقه ويدّخر شيئا لغده ولا يعرف حقيقة رزقه وأجله ، فربما يأكل ذخيرته غيره ولا يصل إلى غده ؛ لذلك كان صلىاللهعليهوسلم لا يدّخر شيئا لغد ؛ إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة ، ولذلك وصف الله سبحانه في أوائل الآية أهل التوكل والرضا بقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل : ٤٢] ، ثم بيّن أنه تعالى رازق جميع ذوات الأرواح بقوله : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ؛ ليسقط عن القلوب اهتمام الرزق من قلوب الخصوص والعموم ؛ لأجل نفوسهم ولغيرهم ؛ لأنه سميع مقالة السائلين في طلب حوائجهم منه ، عليم بما ادخره من أرزاقهم في خزائن جوده ، ودقيقة إشارة التوحيد أن الأرزاق في أماكن العدم معدومة ولا يوجدها بالحدثان ؛ لأن إيجادها من نعوت قوة الرحمانية الأزلية ، ولو يحصرها بجميعها كيف تحملها الدابة ، وأصل حقيقة الرزق مشاهدة العدم والأرواح لا تحمل سطواتها في وقت التجلي ، بل الله يكسبها قوة أزلية تحمل بها منه ما عليه من كنه كشفه.
قال بعضهم في تفسير قوله : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) قال : لا تدّخر شيئا لغد.
قال النهرجوري : لا تجزعوا من التوكل ؛ فإنه عيش لأهله ، قال الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ.)
وقال ابن عطاء : يرزقها بالتوكل ، ويرزقكم بالطلب.
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : افهم يا غافل أن الله سبحانه اختار أهل صفوته بالاصطفائية القدمية ، وخصّهم بعرفان نفسه والإيقان فيما بان منه لهم من أنوار الربوبية في مقام العبودية ، فطارت أرواحهم من عالم الملكوت بأجنحة أنوار الجبروت في أوائل إيجادها إلى الأكوان ؛ لحصول عبودية الرحمن ، فصحبها سنا قربه وضياء دنوه وحلاوة أنسها بما رأت من جلاله وجماله ، فتحركت من الأزل إلى الأبد بنعت شوقها إلى صانعها ، وما
__________________
(١) رواه الترمذي (٤ / ٥٧٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٩٤) ، وأحمد (١ / ٥٢).