ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحسن والقبيح ، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع تدخّل في شئون ربّ العالمين ، ولكن الواقع ليس ذلك.
توضيحه : أنّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية ، يكشف عن القوانين السائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إنّ كل زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنّ العقل بذلك فرض حكمه على الطبيعة ، أو يقال : إنّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم وكشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكه حسن الفعل وقبحه وأنّ أيّ فعل يصدر منه أو لا يصدر منه ، وبين فرضه الحكم على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وإرادته وفعله. فليس العقل هنا حاكماً وفارضاً على الله سبحانه ، بل هو ـ بالنظر إلى الله تعالى وصفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنّ الموصوف بمثل هذه الصفات وخاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإخلال بما هو حسن.
وبعبارة أُخرى : أنّ العقل يكشف عن أنّ المتصف بكل كمال ، والغنيّ عن كل شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقّق الصارف عنه ، وعدم الداعي إليه ، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتى لا يقدر على الخلاف ، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح ، فإنّ كلاً من الفعل والترك بالاختيار ، وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح. ولا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل ، بل الله بحكم أنّه حكيم ، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح. وليس دور العقل هنا إلّا دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.