إنّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إمّا أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها وهذا ينافي حكمه الجاعل مع أنه تعالى حكيم مطلق. وإمّا أن يكون من جهة البداء وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية وهو يستلزم الجهل منه تعالى ، وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.
يجاب عليه :
أولا : إن النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه تعالى ، لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيّد بزمان معلوم عند الله ومجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الذي قيّد به ، ومن المعلوم أن للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين لا يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها.
ثانيا : إنّ النسخ وإن أنكره اليهود في الظاهر تلبيسا على غيرهم من بقية الأمم إلّا أن كتاب التوراة مشحون بموارد النسخ منها ما جاء فيه : ان الله تعالى قال لنوح عليهالسلام عند خروجه من الفلك (أي السفينة) إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريّتك وأطلقت لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه (١).
ثم حرّم الله تعالى على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.
وجاء فيه : أن الله تعالى أمر آدم عليهالسلام أن يزوّج بناته من بنيه ثم حرّم ذلك في شريعة من بعده.
وأيضا كان العمل يوم السبت مباحا ثم حرّمه عليهم (٢).
وكان الختان في شرع إبراهيم جائزا بعد الكبر ثم صار واجبا يوم ولادة الطفل في شرع موسى (٣).
ولعلّ إنكارهم للنسخ مع وجوده في التوراة راجع إلى عدم جواز نسخ الشريعة اللاحقة لشريعة موسى ـ كشريعة النبيّين الكريمين عيسى ومحمد عليهماالسلام ـ فشريعة موسى بنظرهم ناسخة غير منسوخة. ومع هذا فالإشكال وارد عليهم وهو
__________________
(١) سفر التكوين : الإصحاح ٩.
(٢) سفر التثنية : إصحاح ٥.
(٣) مبادي الأصول للحلي : ص ١٧٧.