ثمّ قد يقال لما يستقر عليه الجسم ويمنعه من النزول : إنّه مكان ، ولمّا تأملوا الجسم الأسفل عرفوا أنّه بأجمعه ليس مكانا للأعلى ، إذ لو عدم الجسم ولم يبق إلّا سطحه الحاوي لكان هو المكان ، لأنّ الأعلى يمكنه أن يستقر عليه ويمنعه من النزول.
ثمّ إنّهم يجعلون للسهم النافذ في الهواء مكانا ، وللطير الواقف في الجو مكانا ، وليس تحتهما ما يمنعهما من النزول ، فيحصل من أقوالهم أنّ المكان هو السطح المماس الحاوي لوجود الأمارات الأربع المتفق عليها بين الجماهير فيه ، فإنّ الجسم يحصل فيه ، ولا يسع معه غيره ، ويفارقه المتحرك بالحركة ، ويقبل المنتقلات. وأيضا القول بأنّ المكان هو البعد محال ، فيكون هو السطح ، إذ لا يعقل غيرهما. وبيان الأوّل من وجوه (١) :
الأوّل : لو كان المكان هو البعد لزم التداخل ، أو حلول المعدوم في المعدوم ، أو حلول المعدوم في الموجود ، أو بالعكس ، أو مساواة الكل للجزء في المقدار. والأقسام بأسرها باطلة بالضرورة ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية : أنّ المكان لو كان هو البعد لكان مغايرا لبعد الجسم المتمكن بالضرورة ، فإذا حلّ فيه فإمّا أن يبقى البعدان كما كانا متميزين ، فيكون الكلّ مساويا لجزئه في المقدار ، ضرورة عدم اتّساع الإناء بعد حلول الماء فيه ، وعدم زيادة مقدار الماء باعتبار حلوله في الإناء ، وإن لم يبقيا متميزين لزم التداخل. وإن حصل العدم ، فإن عدما معا لزم حلول المعدوم في المعدوم ، وإن عدم المتمكن لزم حلول المعدوم في الموجود ، وإن عدم المكان لزم العكس.
الثاني : لو كان المكان هو البعد لزم اجتماع بعدين متماثلي الماهية في مادة
__________________
(١) راجع الفصل السابع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٨.