بذلك التعريف فهو خطأ ، لما تقدم ، ولأنّ العقلاء يدركون بهداية (١) عقولهم المستندة إلى الحس التفرقة بين السواد والبياض ، ولا يتوقفون في الفرق بينهما ، ولا في معرفتهما إلى كون أحدهما قابضا للبصر وكون الآخر مفرقا. فلو حصل مفهومه لم يثبت ذلك إلّا بتدقيق النظر وبعد معرفة السواد والبياض واستقراء أحوالهما ، فيلزم على الأوّل تعريف الشيء بالأخفى ، وعلى الثاني الدور.
المسألة الثانية : في إثبات الألوان (٢)
ذهب جماعة من قدماء الحكماء ، إلى أنّه لا حقيقة للألوان ، بل البياض إنّما يحصل من مخالطة الهواء بالأجسام الشفافة المتصغّرة جدا. والسواد فإنّما يتخيل (٣) في غور الجسم وعمقه ؛ لعدم الضوء والإشفاف فيه (٤) ، فلما لم ينفذ الضوء في عمقه ولا الإشفاف ، تخيل أنّ هناك لونا هو السواد ، وليس كذلك.
ومن هؤلاء من جعل الماء سببا للسواد ، وقال : إذا شاهدنا الثياب مبتلة شاهدناها مائلة إلى السواد. وأيضا فلأنّ الماء يخرج الهواء ، وليس إشفاف الماء كإشفاف الهواء حتى ينفذ فيه الضوء إلى السطوح ، فلا جرم تبقى السطوح مظلمة ، وذلك هو السواد.
واحتج في البياض : بأنّ زبد الماء أبيض ، ولا سبب لبياضه إلّا مخالطة الهواء لأجزائه الشفافة الصغيرة (٥) جدا. وكذا الثلج أبيض ؛ لأنّ فيه أجزاء جمدية شفافة
__________________
(١) كذا في س ، وفي ق وم : «ببداية».
(٢) راجع الفصل الرابع من المقالة الثالثة من نفس الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٩.
(٣) م : «يتحصل».
(٤) قال الشيخ : «قالوا : فأمّا السواد فيتخيّل لعدم غور الجسم وعمقه الضوء والإشفاف معا» وقوله : «لعدم» مضموم العين مع سكون الدال ، و «الضوء» و «الإشفاف» منصوبان على المفعولية.
(٥) م : «المتصغرة».