من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر ، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقين وتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لمحة حصل هذا اليقين. فقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب ردّة ؛ لأن الأمر غير معلوم بل احسموا الباب (١).
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي إجلالا له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) يجوز أن يكون «أولئك» مبتدأ و «الذين» خبره والجملة خبر «إنّ» ويكون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية. ويجوز أن يكون (الَّذِينَ امْتَحَنَ (اللهُ قُلُوبَهُمْ) صفة «لأولئك» أو بدلا منه أو بيانا و (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) جملة خبرية (٢).
ويجوز أن يكون «لهم» هو الخبر وحده و «مغفرة» فاعل به واللام في قوله : «للتّقوى» يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنت لكذا أي صالح أي كائن (٣) ويحتمل أن يكون للتعليل (٤). وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان السبب المتقدم ، كقولك : جئتك لإكرامك ابني (٥) أمس أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان علّيّة (٦) المقصود المتوقع الذي يكون لاحقا لا سابقا ، كقولك : جئتك لأداء الواجب ، أي ليصير مجيئي سببا لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه (٧) فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم. وعلى الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله
__________________
(١) الرازي السّابق.
(٢) أخذ المؤلف ـ رحمهالله ـ كل هذه الأوجه من كتاب التبيان لأبي البقاء العكبري ١١٧٠.
(٣) قاله جار الله الزمخشري في كشافه ٣ / ٥٥٧.
(٤) أحد قولي الزمخشري أيضا وعنه أخذ الإمام الرازي في تفسيره هذين الوجهين وفصل التفصيل المرئي أعلى كما نلمح.
(٥) في ب لي بدل من ابني.
(٦) في تفسير الرازي : غاية.
(٧) في ب : بقوله تحريف.