قال : فعلى ما تقدم لا يكون المحذوف ما قدره الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم وهذا أبلغ في (١) الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر (٢).
قال شهاب الدين : وتقدير أبي القاسم أوقع معنى وأخلص من إيقاع الظاهر موقع المضمر ؛ إذ يصير التقدير «لو شاء إنزال ملائكة لأنزل ملائكة» (٣).
قوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) هذا خطاب لهود وصالح وغيرهم من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وغلب المخاطب على الغائب نحو : أنت وزيد تقومان. و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، وعائدها «به» ، وأن تكون مصدرية ، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون «به» يعود على ذلك المصدر المؤل ، ويكون من باب التأكيد ، كأنه قيل : كافرون بإرسالكم به(٤).
فصل
معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب ، وأتوا بجميع وجوه الدلالات ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف : ١٧] أي من كل جهة. وقيل : المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم ، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم.
فإن قيل : كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤ؟!.
فالجواب : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما ، وبجميع الرسل ، وبهذا التقدير: فكأن جميع الرسل قد جاؤهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، فقالوا : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلا على تكذيب الرسل ، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكة ؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثة البشر. ثم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، وتقدم الجواب عن هذه الشبهة في سورة الأنعام.
واعلم أن قولهم : أرسلتم به ، ليس إقرارا بأن أولئك الأنبياء رسل وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].
__________________
ـ جواب لو مقدر من جنس الجواب تقديره : لو شاء كوني وقد تقدم ويستشهد النحاة بالبيت على حذف ياء الذي تخفيفا وكسر ما قبلها لغة لبعض العرب.
(١) في ب من.
(٢) البحر المحيط ٧ / ٤٩٠.
(٣) الدر المصون ٤ / ٧٢٥.
(٤) المرجعان السابقان.