فصل
معنى «يوبقهنّ» يهلكهنّ ويغرقهن (بِما كَسَبُوا) أي بما كسبت ركابها من الذنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من ذنوبهم فلا يعاقب عليها (١). يقال : أوبقه أي أهلكه ، كما يقال للمجرم : أوبقته ذنوبه أي أهلكته (٢).
فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوما مثله؟
فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ «ويعفو» فقد استأنف الكلام (٣). والعامة على الجزم عطفا على جواب الشرط. واستشكله القشيريّ ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكدا ويهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف : «ويعف» على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف ، وليس المعنى على ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى (٤). قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيّد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم (٥). وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو (٦). وهي تحتمل أن تكون كالمجزوم ، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في «من يتّقي ويصبر» (٧). ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعا ، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السّيّئات (٨).
وقرأ بعض أهل المدينة (٩)(١٠) بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو كنصبه في قول النابغة : شعرا :
٤٣٨٥ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك |
|
ربيع النّاس والبلد الحرام |
ونأخذ بعده بذناب عيش |
|
أجبّ الظّهر ليس له سنام (١١) |
__________________
(١) قاله البغوي في ٦ / ١٢٦ من معالم التنزيل.
(٢) قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٩٣ ، واللسان «وبق» ٤٧٥٥.
(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧ / ١٧٥.
(٤) القرطبي في الجامع بتصرف ١٦ / ٣٣.
(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٢١.
(٦) السابق وانظر الكشاف ٢ / ٤٧١ والقرطبي بدون نسبة فيهما ١٦ / ٣٣.
(٧) وهي قراءة ابن كثير وصلا ووقفا. السبعة ٣٥١ وهي من الآية ٩٠ من يوسف.
(٨) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٤٧١ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٧٥٩.
(٩) أخبر ابن مجاهد في السبعة ٥٨١ ، أنهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي.
(١٠) زيادة من ب.
(١١) بيتان من تمام الوافر له مدحا في النعمان بن الحارث ، والذّناب عقب كل شيء ، و «أجب الظهر» مقطوع السّنام.
والشاهد في «وتأخذ» حيث يجوز فيه النصب والرفع والجزم فالجزم على العطف والنصب على الإضمار والرفع على الاستئناف ، وقد تقدم.