دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال : «الّذي جعل لكم الأرض مهادا» ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا : الذي جعل لنا الأرض مهادا ، إلا أن قوله في أثناء الكلام : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) لا يليق إلا بكلامه.
ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلا يقول : الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السّامع لهذا الكلام : الزاهد الكريم ، كأن ذلك السامع يقول : أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه ، فيكون النعتان جميعا من رجلين لرجل واحد (١).
ومعنى كون الأرض مهادا واقعة ساكنة ، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية ، وستر عيوب الأحياء والأموات ، ولأن المهد موضع راحة الصبي. فكانت الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحات (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض ، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ، ليحصل بها الانتفاع (٢). ثم قال : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أو لتهتدوا إلى الحق في الدّين (٣).
قوله تعالى : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان ، لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم (٤).
قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) قرأ العامة مخفّفا ، وعيسى (٥) وأبو جعفر (٦) مثقّلا ، وتقدم الكلام فيه في آل عمران (٧). وتقدم في الأعراف الخلاف في تخرجون وتخرجون (٨) أي كما أحيينا هذه البلدة بالمطر ، ومعنى الميتة الخالية من النبات ، كذلك تخرجون من قبوركم أحياء. والمعنى أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته ، فكذلك يدل على قدرته على المبعث والقيامة.
ووجه التشبيه أنه جعلهم أحياء بعد إماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة.
__________________
(١) نقله الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.
(٢ و ٣) الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.
(٢ و ٣) الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٩٦.
(٤) المرجع السابق.
(٥) المراد به الثقفي ـ كما تقدم ـ عند الإطلاق.
(٦) أحد العشرة.
(٧) عند قوله : «وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ» ٢٧ ، وقد روى حفص عن عاصم التشديد في كل ما ورد في القرآن من هذا الحرف ، وقرأ بالتخفيف ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو عمرو وابن عامر ، وبالتثقيل قرأ نافع وحمزة والكسائي ، انظر السبعة ٢٠٣ ، والإتحاف ١٧٢.
(٨) يقصد الآية ٢٠ ومنها تخرجون فعلى البناء للفاعل قرأ حمزة وخلف والكسائي في الأعراف وفي الزخرف ، وفي البناء للمجهول قرأ الباقون وانظر الإتحاف ٢٢٣ ، والسبعة ٥٨٤ ، والبحر ٨ / ٧.