والمدارك والعقائد والمشاهد والأخبار والأوصاف وغير ذلك ممّا ذكر ؛ ولشعوره أيضا بعزّة الحقّ وإطلاقه وعدم انحصاره في كلّ ذلك أو في شيء منه ، ولعدم امتلائه ، ووقوف همّته عند غاية من الغايات التي وقف فيها أهل المواقف المذكورة آنفا ، وإن كانوا على حقّ ، وقفوا بالحقّ له وفيه ، بل أدرك بالفطرة الأصليّة الآليّة دون تردّد أنّ له مستندا في وجوده ، وتحقّق أن ليس هو ، وأقبل بقلبه وقالبه عليه مواجهة منه ومقابلة لمستنده بأجلّ ما فيه ، بل بكلّيّته ، وجعل حضوره في توجّهه إلى ربّه هو على نحو ما يعلم سبحانه نفسه في نفسه بنفسه ، لا على نحو ما يعلم نفسه في غيره ، أو يعلمه غيره ، فإنّه يصير حاله حينئذ حالا جامعا بين السفر إلى الله ومنه وفيه ؛ لأنّه غير مسافر لنفسه ولا بنفسه ، ولا في نفسه ، ولا بحسب علومه الموهوبة أو المكتسبة بالوسائط المركّبة أو البسائط.
وهذه الحالة أوّل أحوال أهل الحيرة الأخيرة ، التي يتمنّاها الأكابر ولا يتعدّونها (١) ، بل يرقون (٢) فيها أبد الآباد دنيا وبرزخا وآخرة ، ليست لهم وجهة معيّنة في الظاهر أو الباطن ؛ لأنّه لم يتعيّن للحقّ عندهم رتبة يتقيّد بها في بواطنهم وظواهرهم ، فيتميّز عن مطلوب آخر ، بل قد أشهدهم إحاطته بهم سبحانه من جميع جهاته الخفيّة والجليّة ، وتجلّى لهم منه (٣) لا في شيء ولا جهة ، ولا اسم ولا مرتبة ، فحصلوا من شهوده في بيداء التيه ، فكانت حيرتهم منه وبه وفيه.
__________________
(١) في بعض النسخ : لا يتعدّوها.
(٢) في بعض النسخ : يرتقوا.
(٣) ق : بينهم.