الظاهر إلى الباطن وما وراءه ، كجاري العادة ـ إن شاء الله تعالى ـ
اعلم ، أنّ قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تعريف للصراط (١) المستقيم المذكور من باب ردّ الأعجاز على الصدور. ولفظة «الصراط» قد سبق الكلام عليها بمقتضى اللسان ، فلا حاجة إلى التكرار. وأمّا (الَّذِينَ) فنذكر فيه ما تيسّر ، فنقول :
الجملة من قسم النكرات ، ولا توصف بها المعارف إلّا بواسطة «الّذي» ونحوه من الموصولات المتفرّعة منها ، و «الّذي» أصله الّذي ولكثرة التداول والاستعمال أفضي فيه الأمر إلى أن حذفت ياؤه المشدّدة (٢) ، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء الأخرى ، فقالوا : «الّذ» ثم حذفوا الكسرة ، فقالوا : «الّذ» وحذف بعضهم الذال أيضا ، فلم يبق إلّا اللام المشدّدة ، التي هي عين (٣) الفعل ؛ فإنّ اللام الأخرى لام التعريف ، فإذا قلت : زيد الذي قام ، أو قلت : القائم ، كان المعنى واحدا ، فلام «القائم» ناب مناب قولك «الذي» ، والياء والنون في «الذين» ليس للجمع ، بل لزيادة الدلالة ؛ لما تقرّر أنّ الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهنّ سواء ؛ ولأنّه لو كان الياء والنون في «الّذين» للجمع ، لأعيد إليه حين الجمع الياء الأصليّة المحذوفة على جاري العادة في مثل ذلك ، ولم يكن أيضا مبنيّا بل معربا و «الّذين» مبنيّ بلا شكّ ، فدلّ ذلك على صحّة ما ذكر ، فاعلم.
وأمّا فصول هذه الآية فهي كالأجوبة لأسئلة ربانيّة معنويّة ، فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول العبد : «اهدنا الصّراط» : أيّ صراط تعني ، فالصراطات كثيرة وكلّها لي؟ فيقول لسان العبوديّة : أريد منها المستقيم ، فيقول (٤) لسان الربوبيّة : كلّها مستقيمة من حيث إنّي غايتها كلّها ، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعها ، فأيّ استقامة تقصد في سؤالك؟ فيقول لسان العبوديّة : أريد من بين الجميع صراط الذين أنعمت عليهم ، فيقول لسان الربوبيّة : ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ، ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبوديّة : قد علمت أنّ رحمتك واسعة كاملة ، ونعمتك سابغة شاملة ، لكنّني لست أبغي إلّا صراط الذين أنعمت عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، الصافية من كدر الغضب ومزجته ،
__________________
(١) ق : الصراط.
(٢) المراد الياء الثانية.
(٣) كذا في الأصل. لعلّ الصحيح : فاء الفعل ، فان مادته ل ذ ى.
(٤) ه : فتقول.