وأصحّهم تصوّرا لما يذكر من هذه الشأن أتمّهم قربا من الطبقة الأولى ، ولهم الجمع بين التنزيه المنبّه عليه في سورة الإخلاص ، وفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وبين تشبيه : «ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة» (١) و «يسكن جنّة عدن في دار له فيها» ويتحوّل في الصور يوم القيامة ، وينزل مع ملائكة السماء السابعة فيستوي على عرش الفصل والقضاء ، ويراه السعداء ، ويسمعون كلامه كفاحا ، ليس بينه وبينهم ترجمان فيثبت كلّ ذلك للحقّ كما أخبر به عن نفسه ، وبحسب ما ينبغي لجلاله ، في مرتبة ظاهريّته ، لأنّ كلّ هذا من شؤون الاسم «الظاهر» كما أنّ التنزيه متعلّقه الاسم «الباطن».
ولحقيقة سبحانه المسمّاة بالهويّة الجمع بين الظاهر والباطن كما نبّه على ذلك بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (٢) ، فعيّن مقام الهويّة (٣) في الوسط بين الأوّليّة والآخريّة ، والظاهريّة والباطنيّة ، وكذلك نبّهنا سبحانه فيما شرع لنا من التوجّه إلى الكعبة بعد التوجّه إلى بيت المقدس على سرّ ما أشرنا إليه بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) ؛ أي بين المشرق والمغرب ؛ لأنّه أردف ذلك بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ؛ (٥) أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب.
ولمّا كان المشرق للظهور والمغرب للبطون والوسط للهو (٦) كما بيّنّا ، كان صاحب الوسط له العدل والاستقامة المحقّقة ، وأمّا قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٧) ، فهو تنبيه منه سبحانه على سرّ الحيطة والمعيّة الذاتيّة والإطلاق ، ويظهر حكم ذلك في الحائر الذي لم يتحقّق جهة القبلة ، وفيمن يتوجّه إلى القبلة من جهة المغرب أو المشرق كأنّ أحدهما متوجّه إلى المغرب ـ وإن كان قصده استقبال القبلة من جهة المغرب ـ والآخر بالعكس كأنّه متوجّه إلى المشرق ، وفيمن ينتقل على راحلته ؛ فإنّه يصلّي حيث توجّهت به راحلته كما ثبت ذلك عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وفي المصلّي في نفس الكعبة لا يتعيّن بجهة معيّنة هكذا (٨) حال من عاين محتد الجهات وارتقى عنها إلى حيث لا «أين» ولا «حيث» ولا «إلى» ؛ لأنّه حصل
__________________
(١) طبقات الشافعية ، ج ٩ ، ص ٨١.
(٢) الحديد (٥٧) الآية ٣.
(٣) ق : الهو.
(٤) البقرة (٢) الآية ١٤٢.
(٥) البقرة (٢) الآية ١٤٣.
(٦) ق : للوسط الهو.
(٧) البقرة (٢) الآية ١١٥.
(٨) في بعض النسخ : هكذا من.