مقدّمات البراهين التي أقيمت لإثبات المطالب التي هي محلّ الموافقة على ما بيّنّا (١) سرّه في هذا التمهيد.
وفي الجملة قد (٢) بيّن أنّ غاية كلّ أحد في ما يطمئنّ إليه من العلوم هو ما حصل في ذوقه ـ دون دليل كسبي ـ أنّه الحقّ ، فسكن (٣) إليه ، وحكم بصحّته ، هو ومن ناسبه في نظره وشاركه في أصل مأخذه وما يستند إليه ذلك الأمر الذي هو متعلّق اطمئنانه.
وبقي : هل ذلك الأمر المسكون إليه ، والمحكوم بصحّته هو في نفسه صحيح ، على نحو ما اعتقد فيه من حاله ما ذكرناه (٤) أم لا؟ ذلك لا يعلم إلّا بكشف محقّق ، وإخبار إلهي.
فقد بان أنّ العلم اليقيني الذي لا ريب فيه يعسر اقتناصه بالقانون الفكري والبرهان النظري.
هذا ، مع أنّ الأمور المثبتة بالبراهين على تقدير صحّتها في نفس الأمر ، وسلامتها في زعم المتمسّك بها بالنسبة إلى الأمور المحتملة والمتوقّف (٥) فيها ؛ لعدم انتظام البرهان على صحّتها وفسادها يسيرة جدّا.
وإذا كان الأمر كذلك فالظفر بمعرفة الأشياء من طريق البرهان وحده إمّا متعذّر مطلقا ، أو في أكثر الأمور.
ولمّا اتّضح لأهل البصائر والعقول السليمة أنّ لتحصيل المعرفة الصحيحة طريقين :
طريق البرهان بالنظر والاستدلال ، وطريق العيان الحاصل لذي الكشف بتصفية الباطن والالتجاء إلى الحقّ. والحال في المرتبة النظريّة فقد استبان ممّا أسلفنا ، فتعيّن الطريق الآخر ، وهو التوجّه إلى الحقّ بالتعرية والافتقار التامّ ، وتفريغ القلب بالكليّة من سائر التعلّقات الكونيّه ، والعلوم والقوانين.
ولمّا تعذّر استقلال الإنسان بذلك في أوّل الأمر ، وجب عليه اتّباع من سبقه بالاطّلاع ، والكمّل من سالكي طريقه سبحانه ، ممّن خاض لجّة الوصول ، وفاز بنيل البغية والمأمول ،
__________________
(١) ق : تبيّن.
(٢) ق : فقد تبيّن.
(٣) ق : سيكن.
(٤) ق : ذكرنا.
(٥) ب : المتوفّق.