بأمر واحد ، فالحقّ بالنسبة إلى كلّ ناظر هو ما استصوبه ورجّحه واطمأنّ به ، وليس تطرّق الإشكال ظاهرا في دليل يوجب الجزم بفساده وعدم صحة ما قصد إثباته بذلك الدليل في نفس الأمر ؛ لأنّا نجد أمورا كثيرة لا يتأتّى لنا إقامة برهان على صحّتها ، مع أنّه لا شكّ في حقّيّتها عندنا ، وعند كثير من المتمسّكين بالأدلّة النظريّة ، وغيرهم. ورأينا (١) أيضا أمورا كثيرة قرّرت بالبراهين قد جزم بصحّتها قوم بعد عجزهم ، وعجز من حضرهم من أهل زمانهم عن العثور على ما في مقدّمات تلك البراهين من الخلل والفساد ، ولم يجدوا شكّا يقدح فيها ، فظنّوها براهين جليّة وعلوما يقينيّة. ثم بعد مدّة من (٢) الزمان تفطّنوا ـ هم أو من أتى بعدهم ـ لإدراك خلل في بعض تلك المقدّمات أو كلّها ، وأظهروا وجه الغلط فيها والفساد ، وانقدح لهم من الإشكالات ما يوهن تلك البراهين ويزيّفها.
ثمّ إنّ الكلام في الإشكالات القادحة ؛ هل هي شبهة أو أمور صحيحة كالكلام في تلك البراهين ، والحال في القادحين كالحال في المثبتين السابقين ؛ فإنّ قوى الناظرين في تلك البراهين والواقفين عليها متفاوتة ، كما بيّنّا ولما ذكرنا ، والحكم (٣) يحدث أو يتوقّع من بعض الناظرين في تلك الأدلّة بما يزيّفها بعد الزمان الطويل مع خفاء العيب (٤) على المتأمّلين لها ، (٥) المتمسّكين بها قبل تلك (٦) المدّة المديدة وإذا جاز الغلط على بعض الناس من هذا الوجه ، جاز على الكلّ مثله ، ولو لا الغلط والعثور عليه واطمئنان البعض بما لا يخلو عن الغلط ، وبما لا يؤمن الغلط فيه ـ وإن تأخّر إدراكه ـ لم يقع بين أهل العلم خلاف في الأديان والمذاهب وغيرهما. فهذا من جملة الأسباب المشار إليها.
ثمّ نقول : وليس الأخذ بما اطمأنّ به بعض الناظرين واستصوبه وصحّحه في زعمه بأولى من الأخذ بقول مخالفه وترجيح رأيه. والجمع بين القولين أو الأقوال المتناقضة غير ممكن ، لكون أحد القولين مثلا يقتضي إثبات ما يقتضي الآخر نفيه ، (٧) فاستحال التوفيق بينهما والقول بهما معا.
__________________
(١) ه : رائينا.
(٢) ق : بعد.
(٣) في بعض النسخ : ولحكم.
(٤) ق : الغيب.
(٥) ق ، ه : لها و.
(٦) ق : ذلك.
(٧) ق ، ه : بنفيه.