ولا بغيره ، ثم أوجد العالم على نحو ما علمه في نفسه أزلا ، فالعالم صورة علمه ومظهره ، ولم يزل سبحانه محيطا بالأشياء علما ووجودا كما علم وأخبر وفهّم. وكلّ ما ظهر فإنّما ظهر منه ؛ إذ لم يكن لغيره وجود مساوق لوجوده ، كما أخبر الصادق المصدّق صلىاللهعليهوآله بقوله : «كان الله ولم يكن معه شيء» (١). وقد أخبر سبحانه عن نفسه ناعتا لها ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢) ونبّه في موضع آخر من كلامه على صفات كماله ، فقال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).
فعلم المحقّقون من خاصّته ، والمعنيّ (٤) بهم من أهل قربه وكرامته بما كشف لهم ، وأطلعهم عليه من أسرار وجوده أوّلا ، وربما أخبر ثانيا : أنّ المراتب ـ وإن كثرت ـ فإنّها ترجع إلى هاتين المرتبتين وهما : الغيب والشهادة والحقيقة الجامعة بينهما ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
فكلّ شيء فله ظاهر وهو صورته وشهادته ، وباطن وهو روحه ومعناه وغيبه ، فنسبة جميع الصور ـ على اختلاف أنواعها الخفيّة والجليّة ـ إلى الاسم «الظاهر» المنعوت بالشهادة ، ونسبة جميع المعاني والحقائق المجرّدة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئيّة المتعيّنة ، أو أسباب أو شروط كيف شئت (٥) قلت إلى الغيب والاسم «الباطن».
وكلّ شيء موجود فهو من حيث معناه أو روحانيّته ، أو هما معا متقدّم على صورته ، تقدّما بالمرتبة والشرف ، وله درجة الأوّليّة باعتبار. وللصورة من وجه آخر تقدّم على المعنى والروحانيّة ولو من حيث التقدّم العلمي ؛ فإنّ العلم بالجزء متقدم على العلم بالكلّ ، والعلم بالظاهر متقدّم على العلم بالباطن وشرط في معرفته ، ومن حيث إنّ الأرواح الإنسانيّة إنّما تتعيّن بعد الإنشاء المزاجي وبحسبه أيضا ، فظهر أنّ كلّ واحد من الصور والحقائق الباطنة أوّل من وجه وباعتبار ، وآخر أيضا من وجه وباعتبار.
__________________
(١) طبقات الشافعية ، ج ٣ ، ص ٣٦٤.
(٢) الحشر (٥٩) الآية ٢٣.
(٣) الحديد (٥٧) الآية ٣.
(٤) ق : المعتني ، ه : المغني.
(٥) ق : شئت و.