نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

المرسلين صلّى الله عليه وآله.

أقول : إذا كان اللازم في الأمور الاعتقاديّة مجرد التّديّن والالتزام به قلبا وأنّ تحصيل العلم والمعرفة أمر به في بعض الأمور الاعتقاديّة كما هو صريح كلامه وصحيح مرامه زيد في علوّ مقامه ، فالقسم الثاني مما لا محصّل له لأنه لا دليل عقلا ولا نقلا على وجوب تحصيل العلم بما أخبر به النّبي صلّى الله عليه وآله ، ولو فرض فاللازم تحصيل العلم بكل ما أتى به النّبي صلّى الله عليه وآله وأخبر به سواء كان من الأمور الاعتقاديّة أو الأحكام العمليّة ، فتخصيص بعض ما أخبر به بذلك بلا مخصّص.

نعم الالتزام بما أخبر به وعدم إنكاره حيث إنّه يرجع إلى عدم الإقرار بأنه رسول فيما أرسل به لازم ، وليس الكلام فيه على الفرض ، بل الكلام في تحصيل العلم بما أخبر به وهو على الفرض غير الالتزام به على الإجمال إذا لم يعلم به تفصيلا وعلى التّفصيل فيما إذا اتّفق العلم به تفصيلا.

وتحقيق المقام أن وجوب العلم بالمعاد واليوم الآخر يتصور على وجوه ثلاثة :

أحدها العلم به على حدّ معرفة الله تعالى بحيث يكون وجوبه نفسيّا بما هو هو.

ثانيها العلم به بعنوان عارض كعنوان أنّه من ضروريّات الدّين ومما أتى به الكتاب المبين وأرسل به سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله.

وثالثها العلم به من حيث إنه مقدّمة للاتيان بالواجبات والتّجنّب عن المحرّمات.

أما الأوّل فمعرفة اليوم الآخر بخصوصياته ليس كمعرفة الله تعالى بحيث يكون كمالا نفسانيّا تكون صورة نورانيّة للنفس ، ويكون وجودا نوريّا إضافيّا للمبدا بصفاته وحياة للنفس وموجبا للابتهاج بشهوده تعالى أبدا في

٤٢١

النشأة الآخرة ، ولا كمعرفة النبي والأئمّة عليهم السلام حيث إنهم مشاكي نوره تعالى ومجالي ظهوره تعالى ، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : معرفتي بالنورانيّة معرفة الله ، وعن خاتم النّبيّين صلّى الله عليه وآله : من رآني فقد رأى الحق.

ومن الواضح أن العلم وإن كان نورا وكمالا للجوهر العاقل لكن شرف العلم بشرف معلومه ، فليس كل معلوم موجبا للسّعادة الأبديّة بحيث يكون شهوده موجبا للابتهاج به لكونه أفضل موجود وأشرفه وأبهاه.

ومما يشهد لذلك أن الدّنيا مزرعة الآخرة وأن المعرفة هنا بذر المشاهدة هناك.

وهذا إنّما يكون في ما إذا لم يعرف هنا لم يكن مشاهدا هناك كذاته وصفاته ومجاليها التامّة وأسمائه الحسنى وأمثاله العليا.

وأما الآخرة بما لها من الخصوصيّات فسواء عرفها هنا أو جهلها تكون مشهودة لأهل النشأة الآخرة عيانا ، قال الله تعالى : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) (١) فافهم جيّدا.

وأما الثاني فلا دليل عليه عقلا ولا نقلا ، بل الدّليل على الالتزام به إجمالا إذا لم يعرف تفصيلا ، والالتزام به تفصيلا إذا علم به كذلك ، وأما تحصيل معرفته تفصيلا فلا ، والكلام فيه لا في الأوّل.

وأما أن عدم الالتزام فيما ذكر سبب مستقل للكفر أو راجع إلى عدم الالتزام بالرسالة ففيه كلام بين الأعلام.

وربما يستظهر الأول نظرا إلى حكم المشهور بكفر النّواصب مع أن مودّة ذي القربى ليس عند النّواصب ضروريّة بل يتقرّبون ببغض أمير المؤمنين عليه

__________________

(١) التكاثر : ٧.

٤٢٢

السلام فكيف يرجع إلى تكذيب الرّسول صلّى الله عليه وآله في رسالته.

لكنّك عرفت فيما تقدّم (١) أن إيجاب بعض الأمور للخلود في الجحيم ليس من باب إنكاره تعالى أو إنكار رسوله صلّى الله عليه وآله ، بل معاداة الحق عند تماميّة الحجّة وإن لم ينظر فيها موجبة للاحتجاب عن الحقّ ، فالمعادى والمعاند للحق بنفس معاداته للحق محجوب عن الحق ومحروم عن ينبوع الحياة الأبديّة وتمام الكلام في محله.

وأما الثالث فنقول : المعرفة والعلم بالنشأة الآخرة وأحوالها وأهوالها وأسرار الطاعات وكيفيّة تأثيرها وكذا المعاصي والملكات الفاضلة والرذيلة وكيفية تأثير التوبة وتطهيرها للنّفس وسرّ الشفاعة وأنّها تختصّ بأهلها كل ذلك لها دخل عظيم في فعل الطاعة والمواظبة عليها والتّجنّب عن المعاصي والرغبة التامّة في تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل واكتساب المعارف الإلهيّة.

بل مرّ منّا مرارا أن دعوة التكاليف متقوّمة باستحقاق العقاب على الفعل أو التّرك في غالب النّفوس.

إلا أن الالتزام الجدّي بالواقع ولو لم يعلم به تفصيلا يكفي في دعوة النفس إلى فعل كلّ واجب عملي أو غيره ، وكذا إلى ترك كلّ حرام ، كيف واحتمال الاستحقاق يكفي في ذلك؟ سواء كان منشأ الاحتمال الجهل بالتكليف أو بما يترتّب عليه مع الترتب عليه جزما لو كان ثابتا واقعا فلا يجب عقلا تحصيل المعرفة.

هذا كلّه إن كان المراد بالإيمان المطلوب في باب العقائد مجرد الالتزام القلبي وعقد القلب ولو على الواقع.

وأما إن كان المراد به العلم التصديقي بشيء مع الثّبات عليه بعدم الميل

__________________

(١) التعليقة ١٦٥.

٤٢٣

إلى الشكوك والشبهات المزيلة لأثر العلم بل لنفسه أحيانا ، فالدليل على وجوب الإيمان باليوم الآخر والعقاب على عدمه من الآيات القرآنيّة في غاية الكثرة ، بل ظاهر جملة منها عده في عداد الإيمان بالله وبرسله وبكتبه.

ولا منافاة بين اعتباره في الإيمان الموجب للخلود في النعيم وعدم اعتباره في الإسلام الموجب لحقن الدم وأشباه ذلك من الطهارة والتّناكح والمواريث فلا يضر به الجهل به ما لم ينكره بلسانه.

نعم العلم بالخصوصيّات غير لازم وإن كان التديّن بها بعد العلم بها لازما.

ومن المعلوم أن الآيات المتكفّلة للإيمان باليوم الآخر تدلّ على وجوب الإيمان به من حيث نفسه لا من حيث إن ثبوت اليوم الآخر مما أخبر به القرآن أو النبيّ أو كونه ضروريا ، فهذه العناوين إنّما يحتاج إليها فيما لم يكن نصّ على وجوب الإيمان به بنفسه لا كالإيمان باليوم الآخر المنصوص بنفسه. وأما أن وجوبه نفسي أو أنه لما فيه من البعث على الطاعة والتجنّب عن المعصية ، فقد مرّ الكلام فيه.

لكنه يمكن أن يقال : إن الإيمان باليوم الآخر راجع إلى الإيمان برجوع الكل إلى الله وكونه تعالى غاية الغايات ككونه مبدأ المبادئ من الكمالات النفسانية الّتي بها حياة النفس أبدا ، فوجوب معرفته عقليّ على حدّ وجوب معرفته بكونه الفاعل الذي ينتهي إليه فعل كل فاعل ، وكذا كونه غاية ينتهي إليها كلّ غاية.

وأما وجوبه عقلا بالمقدار الذي قالوا بوجوب معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وأوصيائهم عليهم السلام من باب احتمال الضرر في تركه ، فهو ثابت هنا أيضا بعد ما ذكرنا من دلالة الآيات على وجوب الإيمان به ، بل هو أولى بذلك لعدم جريان الإشكال المتقدّم في لزوم تحصيل معرفته تعالى فيما نحن فيه.

بيانه أن احتمال الضّرر في ترك معرفة الله تعالى مثلا من باب احتمال

٤٢٤

وجوبها شرعا لا عقلا ، إذ المفروض عندهم أنه لا دليل على وجوبه العقلي إلا قاعدة دفع الضّرر المحتمل وهي لا تحقق موضوعها ، فلا بد من فرض وجوبها شرعا ، مع أنه لا معنى لإيجاب معرفة الله تعالى شرعا ، إذ قبل ثبوت المبدأ وثبوت المولويّة وثبوت النّبوّة للنبيّ المبلّغ لهذا الحكم لا باعثية لهذا الحكم ولا محركيّة له ، وبعد ثبوت المبدا والنّبوّة يكون إيجاب المعرفة تحصيلا للحاصل بخلاف إيجاب العلم باليوم الآخر فانه بعد فرض المبدا والنّبوّة لا مانع منه.

١٧١ ـ قوله « قده » : ضرورة أنّ المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله تعالى ... الخ (١).

إذ ليس النون في ليعبدون المفسر بليعرفون نون الجمع حتى يقال بإطلاقه وعمومه من حيث حذف المتعلق بل نون الجمع ساقط بنصب الجمع بتقدير أن والنون الثابت نون الوقاية فمعناه ليعبدوني أي ليعرفوني فيكون صريحا في معرفته تعالى.

ثم إن في كيفية دلالة الآية على وجوب المعرفة عموما أو خصوصا كلاما لا بأس بذكره : هو أن العبادة والمعرفة التي جعلت غاية لخلق الجنّ والإنس ليست العبادة الذاتيّة لكل موجود إمكاني لانقياد كل معلول لعلّته وتخضّعه لها ، ولا المعرفة الذّاتيّة سواء أريدت المعرفة الفطريّة أو التّجلّي الافعالي له تعالى في مظاهر الأعيان كما هو محتمل قوله : كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف (٢) حيث إنّ له تعالى التجلّي الذّاتي بذاته لذاته في مقام ذاته والتّجلي الأسمائي في مقام صفاته فأراد التجلي الأفعالي في مقام فعله.

بل المراد في خصوص الآية هي العبادة التّشريعيّة والمعرفة الاكتسابيّة ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٠.

(٢) في إحقاق الحق ١ / ٤٣١ ان هذا الحديث من الموضوعات.

٤٢٥

ولذا خصها بالإنس والجنّ ، وإلا فتلك العبادة الذاتيّة والتّجلي الأفعالي لا يختصّ بموجود دون موجود فظاهرها ما يختصّ بمورد التّكليف من ذوى العقول.

وعليه فالمعرفة التي هي غاية الخلق : إمّا المعرفة الحاصلة من العبادة بأن يراد من الآية ليعبدون حتى يعرفون كقوله تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (١).

وأمّا المعرفة السابقة على العبادة بأن يكون المراد من قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُونِ ) ليعرفون بتعلق الإرادة الجديّة بالمعرفة إمّا بالتّجوز أو بنحو الكناية.

أما على الأول فحيث إنّ غاية الواجب واجبة ، فالمعرفة واجبة لكون العبادة واجبة.

وأمّا على الثاني فضروريّة خلق الجنّ والإنس تدلّ على ضرورية الغاية وهي المعرفة ، فتدل على وجوبها بهذه الملاحظة.

وفي كلا التّقريبين لإفادة وجوب المعرفة خصوصا أو عموما نظر : أمّا التقريب الأوّل ففيه أنّ الكلام في معرفة الله بمقدار الذي ينوط به الإيمان وهي المصحّحة للعبادة وهي مفروغ عنها هنا ، والمعرفة المنبعثة عن العبادة سواء كانت واجبة أو لا أجنبية عن المعرفة التي توجب حصولها الخلود في النعيم وعدمه الخلود في الجحيم. ثم إن المعرفة المنبعثة عن العبادة أيضا لها مرتبتان : فمرتبة منها وهي المقصودة من العبادة الواجبة مرتبة لزوميّة توجب فقدها العقاب لا الخلود لكفاية ذلك المقدار من المعرفة السابقة في النورانيّة والحياة الأبديّة.

ومرتبة منها وهي الحاصلة من العبادة المستحبّة مرتبة تورث درجة من القرب ولا يكون في ترك تحصيلها إلا عدم تلك الدرجة لا دركة من العقاب.

وتشريع الواجبات والمستحبّات العباديّة لهذه الغاية لا يقتضي ـ إلاّ وجوب مرتبة من المعرفة بالعبادة تارة واستحباب مرتبة أخرى منها بمرتبة من

__________________

(١) الحجر : ٩٩.

٤٢٦

العبادة أخرى ـ لا وجوب المعرفة بقول مطلق فضلا عن وجوب المعرفة السابقة على العبادة بنصّ هذه الآية.

ومنه يعلم أن المعرفة إذا كانت مطلقة فالمراد منها المعرفة الحاصلة من العبادة لا المعرفة في نفسها ولو مع قطع النظر عن العبادة. وهذه أيضا غير واجبة بقول مطلق.

وأمّا كيفيّة تصور المعرفة المطلقة من عبادته تعالى فلان العبادات كما مر سابقا (١) توجب صقالة مرآة النّفس بتكرّرها ، فيتجلّى المعارف وصور حقائق الأشياء كلّها فيها بمقدار صفاء المادّة وقبولها لإفاضة الصّور العلميّة من واهب الصّور.

وأما التقريب الثاني فلان المعرفة وإن كانت بنفسها غاية للخلق لا أنها من حيث كونها غاية للعبادة ، إلاّ أن من البديهي أن غاية خلق الخلق ليست المعرفة بذلك المقدار اللازم في باب الخلود وجودا وعدما ، كيف وإلا لزم في تشريع الشرائع والأحكام الاقتصار على الالزام بذلك المقدار ، بل المعارف بمراتبها سواء حصلت بمقدّمات برهانيّة أو بغيرها أو بالمواظبة على الطّاعات كلها غاية مقصودة ومتعلّقة للغرض على التفصيل المتقدم.

فالآية بناء على هذا التقريب مسوقة لبيان أن المهمّ في نظره تعالى من خلق العباد حصول المعرفة منهم بمراتبها كما قيل : إن الأعمال مقدّمة للأحوال وإن الأحوال مقدمة للمعارف لأن الباقي في النشأة الآخرة هي النفس بما لها من الهيئات النورانيّة أو الظلمانيّة والحركات الأينيّة والوضعيّة والألفاظ الغير القارة لا قرار لها في هذه الدار فضلا عن تلك الدار.

وعليه فلا دلالة للآية على وجوب خصوص معرفة كما لا دلالة على وجوب عمومها.

__________________

(١) في التعليقة ١٤٥.

٤٢٧

ثم اعلم أن لازم كون العبادة بنفسها أو المعرفة كذلك غاية لخلق الجنّ والإنس أن تكون الغاية ضرورة الحصول لا ضروريّة التحصيل والكلام في الثانية مع أن الأولى غير مترتّبة أيضا إلا بالرجوع إلى العبادة الذاتيّة والمعرفة بمعنى التجلي الأفعالي وهو خلف.

ويندفع الإشكال بأن المراد حصول المعرفة والعبادة تسبيبا وتشريعا لا تكوينا كما دلت عليه الروايات الواردة من أهل بيت الوحي والتنزيل سلام الله عليهم ، فعن الصادق (١) عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال عليه السلام خلقهم ليأمرهم بالعبادة قيل قوله تعالى ( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال : خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي (٢) رحمه الله قال خلقهم للامر والنهي والتكليف وليست خلقة جبر أن يعبدوه ولكن خلقة اختيار ليختبرهم بالأمر والنّهي ومن يطع الله ومن يعصي.

وعليه فالغاية بهذا المعنى ضرورية الحصول ، ضرورة وقوع التشريع والتسبيب إلى إيجاد العبادة بالاختيار ، ولا منافاة بين تشريع المستحبات وضرورية وقوعه ممن شأنه الإرشاد إلى ما يوجب استكمال نفوس العباد بالكمالات اللازمة أو المندوبة.

وليعلم أن ما اشتهر من تفسير العبادة بالمعرفة إمّا بإرادتها منها أو بكونها غاية لها مأخوذ من تفاسير العامّة ، وإلا فما في تفاسير الخاصّة عن أهل بيت الوحي وحملة علم الكتاب هو ما نقلناه هنا وإن كانت المعرفة غاية للعبادة عقلا بل نقلا إلا أنّه لا دخل له بتفسير الآية فافهم ولا تغفل.

__________________

(١) علل الشرائع / ١٣.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ٢ / ٣٣١. لكن بتغيير في عبارة الرواية فراجع.

٤٢٨

١٧٢ ـ قوله « مد ظلّه » : ومثل آية النفر إنّما هو بصدد بيان الطريق ... الخ (١).

لا يخفى عليك أنّ آية النّفر في نفسها لها الدّلالة على أصل وجوب التّفقّه في الدين ، غاية الأمر أن الدّين حيث إنه يحتمل أن يراد منه خصوص الأحكام العمليّة ، فلذا استشهد شيخنا العلاّمة الأنصاري رحمه الله (٢) بما ورد في تفسيرها من شمول التّفقّه في الدّين للتفقه في الأمور الاعتقاديّة كمعرفة الإمام عليه السلام.

وما ورد في هذا الباب مختلف : فبعضه كما أفاده شيخنا الأستاد « قدس سره » في مقام بيان الطريق إلى المعرفة كما في صحيحة (٣) يعقوب بن شعيب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إذا حدث على الإمام كيف يصنع الناس قال عليه السلام : أين قول الله عزّ وجل : ( فَلَوْ لا نَفَرَ ... ) إلى آخره.

وبعضه يدل على وجوب المعرفة وعدم العذر في تركها كما في صحيحة محمد بن مسلم (٤) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها قلت : افيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال عليه السلام : أمّا أهل هذه البلدة فلا ، يعني أهل المدينة ، وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم إن الله عزّ وجل يقول : ( فَلَوْ لا نَفَرَ ... ) إلى آخره.

فظاهر صدرها السّؤال عن وجوب معرفته والمعذوريّة في تركها ، ومن المظنون قويّا أن الاستشهاد بالآية لبيان المعذوريّة بمقدار المسير الذي هو لازم

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٠.

(٢) فرائد الأصول المحشى ١ / ١١٧ و ١١٨.

(٣) الأصول من الكافي ١ / ٣٧٨.

(٤) الأصول من الكافي ١ / ٣٨٠.

٤٢٩

النفر في حال الجهل لا لبيان وجوب التّفقّه بالنّفر.

نعم بمناسبة الحكم والموضوع يعلم من الآية أن ما كان من الدّين يجب التّفقّه فيه ، فإن ظاهرها لزوم التّفقّه في الدّين حيث إنّه من الدّين ، والله أعلم.

١٧٣ ـ قوله « مد ظلّه » : ومع العجز كان (١) معذورا إن كان عن قصور ... الخ (٢).

تحقيق المقام يستدعي بسطا في الكلام لا يسعه المجال وربّما يخرج عن وضع التعليقة والذي لا بد منه هو أن الجهل تارة يكون بسيطا وأخرى مركّبا وعلى أيّ تقدير تارة يكون عن قصور وأخرى عن تقصير والكلام تارة فيما يترتّب عليه من الآثار في هذه النشأة وأخرى فيما يترتّب عليه في نشأة أخرى.

فنقول الإيمان مرتبة منه غيب ومرتبة منه شهادة ولهما آثار في عالمي الغيب والشهادة ، فالإقرار بالشهادتين الّذي هو وظيفة اللّسان وهو مرتبة من الإيمان بحسب عالم الشهادة توجب ترتّب آثار كثيرة في هذه النشأة مما يناسبها من طهارة بدنه وحقن دمه والمناكحة معه والتوارث وأشباه ذلك.

ومع عدم الإقرار لا يترتّب عليه شيء من تلك الآثار سواء كان جاهلا بسيطا أو مركّبا قاصرا أو مقصّرا ، إذ هذه الآثار لمرتبة من الإيمان لا من آثار مرتبة أخرى منه وليس الكلام فيه هنا.

بل الكلام في مرتبة غيب الإيمان المنوط بالمعرفة ومقابلها الجهل ، وآثار الإيمان بهذه المرتبة استحقاق الخلود في النّعيم وعدم الخلود في الجحيم بخلاف الكفر ، وهذه آثار عالم الغيب ومن لوازم مرتبة غيب الإيمان.

ولتحقيق المقام من هذه الحيثيّة ينبغي تقديم مقدّمات : منها أن الإيمان

__________________

(١) كذا في النسخة المخطوطة بخط المصنف الشارح قدس سره ، لكن في الكفاية المصحّحة : ومع العجز عنه كان معذورا.

(٢) كفاية الأصول / ٣٣٠.

٤٣٠

بمعنى المعرفة يقابله الكفر بمعنى الجهل تارة بتقابل العدم والملكة وأخرى بتقابل التّضاد ، فالجهل البسيط ممن شأنه أن يعلم ويعرف مقابل للعلم بتقابل العدم والملكة ، والجهل المركّب المتقوّم باعتقاد غير الحق يقابل الاعتقاد بالحقّ بتقابل التضاد.

فما عدا الإنسان من الحيوان وغيره ليس من شأن نوعه أن يعلم ، فليس له جهل يقابل العلم بتقابل العلم بتقابل العدم والملكة.

ونوع الإنسان على أصناف : فصنف منه أيضا ليس من شأنه بما هو صنف أن يعلم ويعرف كالمجانين والأطفال فليس لهم جهل يقابل العلم بتقابل العدم والملكة وصنف آخر منه أيضا ليس من شأنه أن يعلم وإن كان كبيرا غير مجنون كالمستضعفين من الرّجال والنسوان الذين عقولهم عقول الصبيان لقلّة استعدادهم ، فهؤلاء أيضا بحسب هذا الصّنف ليس من شأنهم أن يعلموا ويعرفوا.

وصنف آخر منه لبعده عن محيط المعرفة بهذا الأمر وعدم التفاتهم حتى يتمكّنوا من العلم به أيضا ليس من شأنهم أن يعلموا فليس لهم جهل يقابل العلم بتقابل العدم والملكة. منها أن التذاذ كل قوة بنيل ما يلائمها وتألّمها بنيل ما يضادّها وينافرها أو بفقد ما يلائمها مع الالتفات إليه وإلى ملائمته وإلاّ فمع عدم الالتفات لا يتألّم بفقده كغير الملتفت إلى ملائمة الحلاوة للذائقة فإنه لا يتألّم بفقدها ، وكذلك الجوهر العاقل فإن التذاذه بنيل المعقولات النافعة في نظام أمور دينه ودنياه وتألّمه بفقده مع الالتفات إلى كونه كمالا للجوهر العاقل.

منها أن للإنسان بحسب ذاته وفطرته جهتين جهة نورانيّة وجهة ظلمانيّة.

فمن حيث نفسه النّاطقة التي هي من عالم الملكوت وهو عالم النور الذي لا تعلّق له بالمادّة الظلمانيّة جوهر مجرّد نوراني.

ومن حيث نفسه الحيوانيّة التي هي معدن القوى البهيميّة والسبعيّة

٤٣١

والشيطنة الّتي فعليّتها فعليّة الشهوة والغضب والمكر والتّدليس والتّلبيس ظلمانيّ محض.

وله جهتان اكتسابيّتان عرضيّتان ، وهي جهة نورانيّة المعارف الإلهيّة والملكات الفاضلة ، وجهة ظلمانيّة الاعتقادات الرديّة والجهالات الراسخة المنبعثة عن معادات الحق والملكات الرّذيلة ، وبهذين الاعتبارين والله أعلم يقول تعالى : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) (١).

فإن المراد بالأول إخراجهم من ظلمات الطبيعة إلى نور المعارف والملكات الفاضلة ، والمراد بالثاني إخراجهم من نور الفطرة ومقام جوهر نفسه النّاطقة إلى ظلمات الاعتقادات الباطلة والملكات الرذيلة ، وإلا فهو في الأصل إمّا نورانيّ أو ظلمانيّ ، فإن كان نورانيّا فما معنى إخراج المؤمن من الظلمات ، وإن كان ظلمانيّا فما معنى إخراجه من النور.

إذا عرفت هذه المقدّمات ، فاعلم أن الجاهل القاصر بالجهل البسيط وإن صدق عليه أنّه غير عارف ولا عالم حيث إن الشيء لا يخرج عن طرفي السلب والإيجاب إلا أنّه : حيث ليس من شأنه العلم كما عرفت ، فليس هو جاهلا في الحقيقة ، وعدم العلم بهذا المعنى ليس ممّا يتألم به لما عرفت من أنّ غير الملتفت إلى كماليّة الشيء بوجه لا يتألّم بفقده.

وحيث إنّ جهله بهذا المعنى ليس اكتسابيّا فليس فيه جهة ظلمانيّة ، بل ليس فيه إلا الظلمة الذاتيّة من حيثيّة والنورانيّة الذاتيّة من حيثيّة أخرى ، فلا جهله بالمعنى المزبور ممّا يتألّم به في النشأة الآخرة ولا الظّلمة الطبيعيّة أمر ما وراء ذاته ولا هو مناط العقوبة الأخرويّة ، ففي الحقيقة ليس في الجاهل القاصر

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

٤٣٢

إلاّ عدم ما لا يتألّم بفقده.

وأمّا الجاهل القاصر بالجهل المركّب فمن حيث عدم الاعتقادات الحقّة قد عرفت حاله ، ومن حيث الاعتقادات الباطلة النّاشئة من عدم الالتفات إلى حقّ سواه يرجع أمره إلى أنه معتقد للحق ومخطئ في التطبيق حيث إنه لا يرى حقّا سواه لعدم التفاته أو لقصوره عن تصوّر حقّ سواه ، فهو غير معاند للحقّ فالحق صورة اعتقاده ذاتا وما أخطأ في تطبيقه عليه مطابقه بالعرض والعرضي يزول والذّاتي لا يزول ، فلا ظلمة اكتسابيّة ذاتية له حتى يحترق بها.

هذه خلاصة الكلام فيما يقتضيه القواعد البرهانيّة الموافقة لما ورد في الشريعة الإلهيّة الناطقة بأن المستضعف ليس بمؤمن ولا بكافر وفسر المستضعف في رواية الكافي (١) عن الباقر عليه السلام : هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها الكفر ولا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان.

وفي الكافي (٢) عن الكاظم عليه السلام قال سألته عن الضعفاء فكتب إليّ الضعيف من لم ترفع إليه حجّة ولم يعرف اختلاف الناس ، فاذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف ، هذا فتدبر.

١٧٤ ـ قوله « قده » : ومجمل القول في ذلك أن العبرة ... الخ (٣).

أما الكلام من حيث المرجّحيّة ، فتفصيل القول فيها موكول إلى مباحث التّعادل والترجيح.

وأمّا الكلام من حيث الجابريّة والموهنيّة فمجمل القول أما في الجابريّة فبأنّ دليل حجّية الخبر حيث دل على حجّية الخبر الموثوق بصدوره ، فإذا حصل الوثوق بصدور الخبر ولو من طريق غير معتبر ، فقد تحقّق موضوع الحكم وجدانا

__________________

(١) الاصول من الكافي : ٢ / ٤٠٤.

(٢) الاصول من الكافي : ٢ / ٤٠٦.

(٣) كفاية الأصول / ٣٣٢.

٤٣٣

قهرا ، فيعمّه دليل الحجّية ، ولا فرق بين الخبر المعلوم تحقق أصله تفصيلا أو إجمالا كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وأما الوثوق بأصل الخبر أو الوثوق بصدور الحكم من المعصوم ولو لم يصدر من الإمام عليه السلام نظير الحدس القطعي برأي الإمام عليه السلام في الإجماع فكلّ ذلك ممّا لا يعمّه دليل حجّية الخبر الموثوق بصدوره ، إذ هو بعد فرض تحقّق أصل الخبر وإنّما يصح ذلك بناء على اعتبار أصل الوثوق والاطمئنان نظرا إلى أنه علم عاديّ عند العقلاء. هذا كله في الكبرى.

وأما الصغرى فربما يجعل منها استناد المشهور إلى الخبر الضعيف وتحقيق القول فيه أن ضعف الخبر تارة يكون للجهل بحال الراوي وأخرى لاتّصافه بما يمنع عن قبول خبره ، فالاستناد إلى الخبر على الأول يمكن أن يكون لتبيّن حاله عندهم من حيث الوثاقة دون الثاني فإنه على الفرض معلوم الحال فينحصر في احتفافه بقرينة توجب الوثوق بصدقه ، فانّ الكذوب قد يصدق.

وأما الكشف عن صدور خبر آخر معتبر أو عن العلم بصدقه ، فخلاف الظاهر من الاستناد إلى الضعيف كما هو المفروض ، إذ على الأول المستند خبر آخر لا ما استندوا إليه ، وعلى الثّاني يكون المستند علمهم بالحكم لا الخبر.

ولا يخفى أن غاية ما يفيده الاستناد إلى الخبر الضّعيف هو الكشف إمّا عن كون الراوي موثوقا عندهم أو عن قرينة موجبة لوثوقهم بصدقه ، مع أن الاعتبار بتحقّق الخبر الموثوق به عندنا.

فكون الراوي ثقة عندهم غير مفيد. ولذا قالوا بأن رواية من لا يروي إلا عن ثقة لا توجب التوثيق بحيث يكون الرواية عن الثقة عندنا بل عن ثقة بنظره.

كما أن الكشف عن وجود قرينة توجب الوثوق بالصدور بنظرهم لا يوجب الوثوق بنظرنا وبالجملة لا بد من تحقق الوثاقة أو الوثوق بالصدور بنظر

٤٣٤

العامل بالخبر لإمكان عدم الوثاقة إذا عرف الراوي أو عدم إفادة القرينة للوثوق إذا علم بها.

ولا يقاس استنادهم إليه من حيث الوثاقة أو من حيث الوثوق بالشّهادة العمليّة بوثاقة شخص أو بنقل القرينة الموجبة للوثوق نوعا حيث إنّ الأول شهادة من المشهور التي هي أولى بالقبول من شهادة البيّنة والثاني إخبار جماعة من العدول الأعلام بجزء موضوع الحكم عن حسّ فلا ينافي عدم حجّية خبرهم عن الحكم الواقعي لكونه عن حدس.

وجه عدم القياس أمّا الأول فحيث إنّ الرجل مجهول الحال : فان كان الجهل بوصفه من حيث الوثاقة فشهادتهم مفيدة.

وأما إذا كان مجهول الحال لكونه مجهول الاسم فلا يعتبر شهادتهم ، إذ لعلّه إذا عرفناه باسمه لكان ممن شهد آخرون بفسقه.

مضافا إلى أن الاستناد إلى مجهول الحال لا يتعيّن في وثاقته عندهم فلعلّه من أجل الوثوق بخبره لقرينة.

وأما الثاني فمن حيث إن نقل القرينة الموجبة للوثوق نوعا يوجب التعبّد بوجود جزء موضوع الحكم.

وأما استنادهم لوثوقهم فلعلّه لوثوقهم شخصا بقرينة لا توجب الوثوق نوعا ، فمجرّد العمل لا يكشف عن قرينة نوعيّة موجبة للوثوق ، بل عن وثوقهم شخصا فعلا وهو غير حجّة إلا للشخص فتدبر.

نعم الإنصاف أن استناد المشهور إذا كشف عن ظفر الكل بموجب الوثوق كان ذلك مفيدا للوثوق نوعا ، لكنه غالبا ليس كذلك بل الغالب في تحقّق الشهرة تبعيّة المتأخر للمتقدم في الاستناد إلى ما استند إليه لحسن ظنّه به ، والله أعلم.

هذا كلّه في الجابريّة للسّند كبرى وصغرى.

٤٣٥

وأما الجابريّة للدّلالة : فأما من حيث الكبرى فالحجّة ببناء العقلاء هو الظهور ، والوثوق بظهور ما لا ظهور له بنفسه لا يحقق الظهور الذي هو موضوع الحكم.

وأما من حيث الصغرى فعمل المشهور مستندا إلى دلالة الرواية : تارة يكون في مقام يختلف الاستظهار بحسب الأنظار فاستظهارهم لا يجدي شيئا.

وأخرى في مقام لا يختلف أحد في عدم ظهور نفس الكلام الواصل فاستظهارهم منه كاشف عن قرينة حافّة بالكلام موجبة لظهوره في المرام.

فان كان كاشفا قطعيّا عن قرينة موجبة للظهور نوعا فلا شبهة في تحقّق الظهور حينئذ.

وإن كان كاشفا ظنّيا فلا شبهة في عدم الاعتبار به لعدم الدليل على حجية الظن بالظهور أو المراد الجدي.

وأما إذا قلنا إن عملهم لا يكشف إلا عمّا يوجب الظّهور بنظرهم ، لا عمّا يوجب الظهور نوعا ، فلا يجدي في القطع بالقرينة الموجبة للظهور النوعي ، إلا على ما ذكرنا من أن كون القرينة موجبة للظهور في نظر المشهور لا يصح. إلا فيما كانت موجبة له نوعا ، لبعد اتفاقهم مع اختلاف أنظارهم على ظهور ما ليس له شأنيّة إفادة الظهور نوعا ، مع ما قدّمناه فيه فراجع. هذا كلّه في الجابريّة للسّند والدّلالة.

وأما الكلام في الموهنيّة فنقول أما الظن بعدم الصدور ، فلا يكون موهنا لعدم تقيّد حجّية خبر الثّقة بعدم الظن بعدم الصدور ، كما لم يتقيّد بالظن الفعلي بصدوره ، وهو بالنّظر إلى حجّية خبر الثّقة من باب الأخبار واضح.

وأما من باب بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة للوثوق بصدوره فنحن وإن قلنا بأن المعتبر كونه موثوقا به نوعا لا فعلا لكنه إذا لم يكن عدم صدوره موثوقا به فعلا ، إذ من البعيد جدّا من عادة العقلاء اعتبار شيء من باب إفادته

٤٣٦

بطبعه للوثوق وتقديمه على الوثوق الفعلي بعدمه خصوصا إذا كان الظن بعدم الصدور حجّة عند العقلاء ، لانبعاثه عن ما بنوا على حجّيته وإن لم يكن حجّة شرعا ، فإنه وإن لم يكن له المانعيّة شرعا ، إلا أن عدم المانع شرعا إنّما يفيد مع وجود المقتضى لحجّيته عند العقلاء.

وقد مرّ مرارا أن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة مقيّد بعدم ما يكون حجّة عندهم على خلافه وليس للعمل إطلاق حتى يتوهّم أنه لهم بناءان أحدهما مطلق والآخر مقيّد حتى يرفع اليد عن أحدهما شرعا ويبقى الثاني.

وأما الظن بعدم الظهور فهو أيضا على المشهور غير مانع عن حجّية الظهور لعدم تقيّدها بالظن الفعلي على وفاقه ولا بعدم الظن على خلافه.

وقد ذكرنا (١) في مبحث حجّية الظواهر أنّه يمكن التقييد بالثاني وأن الظن بالخلاف إن كان حجة عند العقلاء يوجب انتفاء المقتضى إثباتا بالبيان المذكور آنفا ، فلا بدّ من التّكلّف بأن يجعل المنع عن اتّباع الظّن شرعا أمرا بالملازمة باتّباع الظاهر الذي قام الظنّ المنهيّ عنه على خلافه ، فيكون الدليل الشرعي بالملازمة دليلا على حجّية الظّاهر شرعا ، ومثله أيضا جار في المنع عن الظن بعدم صدور الخبر ، فافهم وتدبّر. هذا هو الكلام في الكبرى.

وأما الصغرى فمنها إعراض المشهور عن الرواية سندا أو عدم الاعتناء بظهورها : فان كان كاشفا قطعيّا عن خلل في سندها لا من حيث عدم وثاقة المخبر فانه خلف لفرض تماميّة اقتضائها للاستناد إليها ، بل من حيث احتفافها بقرينة موجبة للقطع بخطإ المخبر أو عن خلل في الدلالة من حيث احتفافها بما لا يكون معه ظاهرا فيما هو ظاهر فيه بنفسها فلا كلام.

وأما إن كان كاشفا ظنّيا عن ذلك لاحتمال الاستناد إلى ما هو الأرجح دلالة منه بنظرهم لا من حيث خلل في السّند أو الدّلالة فلا يكون الإعراض

__________________

(١) في التعليقة ٧٤.

٤٣٧

موهنا. وهذا آخر ما أردنا إيراده في مباحث القطع والظن.

والحمد لله أوّلا وآخرا والصلاة على محمد وآله باطنا وظاهرا.

* * *

٤٣٨

الفهرس الموضوعي

مبحث القطع................................................................. ١١

تشابه المسألة مع مسائل علم الكلام ............................................. ١٣

المراد من الاحكام العقلائية ..................................................... ١٨

مراتب الحكم................................................................. ٢٤

قضية الحسن والقبح ليست من القضايا البرهانية.................................. ٣٠

في التجري................................................................... ٣٢

القطع الموضوعي بقسميه....................................................... ٤٦

قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي...................................... ٥١

أقسام القطع.................................................................. ٦٨

حقيقة الحكم................................................................. ٧٣

في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه .............................................. ٧٦

المراد من الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي................................. ٨٥

حقيقة العلم الإجمالي لا تفارق التفصيلي......................................... ٨٩

إمكان قصد الوجه إجمالا وتفصيلا............................................ ١٠٧

في تكرار العبادة............................................................. ١١١

الأمارات الغير العلمية........................................................ ١١٥

في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري......................................... ١٢١

المراد من الحجية ............................................................. ١٢٣

استتباع الحجية للأحكام التكليفية............................................. ١٣٨

وجه آخر للجمع بين الحكمين................................................ ١٤١

قوام الطريقية................................................................ ١٤٣

في حجية الظواهر............................................................ ١٦٩

الكلام في الإجماع........................................................... ١٨٥

٤٣٩

الكلام في آية النبأ........................................................... ٢٠٢

في إشكال الخبر مع الواسطة ................................................... ٢١٢

في دفع الاشكال عن الخبر مع الواسطة ......................................... ٢١٨

دفع الإشكال بوجه آخر...................................................... ٢٢٤

في آية النفر ................................................................. ٢٣١

في آية الكتمان.............................................................. ٢٤٤

في آية السؤال عن اهل الذكر................................................. ٢٤٥

في آية الأذن................................................................ ٢٤٧

الاستدلال بسيرة العقلاء...................................................... ٢٤٨

أول الوجوه العقلية على حجية الخبر........................................... ٢٥٥

في الوجه الأول عقلا على حجية الظن.......................................... ٢٦٢

في الوجه الثاني عقلا ......................................................... ٢٦٨

دليل الانسداد............................................................... ٢٧٠

مقدمات دليل الانسداد....................................................... ٢٧٢

نتيجة مقدمات الانسداد...................................................... ٢٨٤

الوجوه المتصورة في مقام جعل الأحكام......................................... ٣٠٨

الأمر بالإطاعة مولوي أو إرشادي............................................. ٣٣٢

ملاك نصب الشارع للظن.................................................... ٣٦٠

في نتيجة دليل الانسداد من حيث الإهمال والتعيين............................... ٣٦١

تقرير الكشف.............................................................. ٣٦٧

الفرق بين الحكومة والكشف................................................. ٣٧٩

في المنع عن الظن القياسي..................................................... ٣٨٣

في الظن المانع والممنوع ....................................................... ٣٩٣

في الظن في أصول الدين...................................................... ٣٩٩

الواجب معرفته.............................................................. ٤٢٠

الجهل وأقسامه.............................................................. ٤٣٠

٤٤٠