نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الجهات مع عدم التمكن إلا من صلاة واحدة هو أن التكليف بعد تنجّزه يكون كل من محتملاته محتمل العقاب.

ومع عدم التمكن من رعاية تمام المحتملات وعدم المرجح لبعضها على بعض يحكم العقل بالتخيير.

وهذا غير جار فيما نحن فيه حيث لا يعقل تنجّز التكليف ، لا من حيث العمل ، ولا من حيث الالتزام.

أما من حيث العمل ، فلعدم التمكن من رعاية التكليف عملا وعدم خلوه من الفعل والترك موافقة احتماليّة قهريّة لا عقليّة.

وأما من حيث الالتزام ، فلأن الالتزام الجدي بكل منهما غير معقول مع عدم العلم به إلا بنحو التشريع المحرم عقلا ونقلا ، وحيث لا موافقة التزامية فلا معنى لتخيير العقل بين أنحاء محتملاته من حيث الالتزام.

ومنه يعلم أن الأمر كذلك بناء على وجوب الالتزام شرعا فتدبر.

٣٦ ـ قوله « قده » : ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام ... الخ (١).

إذ على فرض لزوم الالتزام بالحكم بعنوانه لا لزوم في مفروض البحث على أي تقدير حتى يكون مانعا.

بخلاف ما لو قلنا بلزوم الالتزام بالحكم ولو بنحو الإجمال ، فانه مانع عن جريان الأصول.

لا لما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (٢) « قدس سره » في الرسالة من أن لازمه الإذن في المخالفة العمليّة للتكليف بالالتزام ، فانه مختص بما إذا كان هناك

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٨.

(٢) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٣٨.

٨١

تكليف مولوي بالالتزام.

بل لأن المخالفة الالتزاميّة معصية التزاميّة للتكليف كالمخالفة العمليّة ، والإذن في المعصية كائنة ما كانت قبيح.

والتحقيق أنّا إن قلنا : بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري فلا منافاة بين الالتزام بالواقعي والالتزام بالظاهري ، فلا يلزم من إجراء الأصول الإذن في المخالفة الالتزاميّة ، فتدبّر جيّدا.

فان قلت : لا يدور لزوم المخالفة الالتزاميّة مدار تنافي الحكمين ، وإلاّ لكان نفس تضاد الحكمين أولى بالاستناد إليه في استحالة التعبد بالإباحة مثلا.

وكذا استحالة الالتزام الجدّي بالمتنافيين ، فانها أولى بالاستناد إليها في المقام ، بل المخالفة الالتزاميّة لازمة ولو قلنا بعدم تضاد الحكمين وعدم استحالة الالتزامين ، فان نفس الالتزام بالإباحة التزام بخلاف ما يجب الالتزام به من الحكم المعلوم بالإجمال ولو لم يكونا متضادين.

قلت : الفرض عدم لزوم المخالفة الالتزامية بناء على عدم تنافي الحكمين ، إذ المخالف للوجوب الواقعي عدم الوجوب واقعا أو الإباحة واقعا ، فالالتزام بالإباحة الظاهريّة ليس التزاما بالحكم المخالف حتى يندرج تحت المخالفة الالتزاميّة ممن يرى المانع منحصرا في المخالفة العمليّة أو الالتزاميّة كالعلامة الانصاري « قدس سره » في غالب كلماته.

٣٧ ـ قوله « قده » : كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام ... الخ (١).

هذا ناظر إلى ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » (٢) في دفع محذور عدم الالتزام بأن الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فلا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٩.

(٢) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٣٨.

٨٢

موضوع للزوم الالتزام.

وأورد عليه في المتن بلزوم الدور ، وتقريبه أن جريان الأصل موقوف على عدم المانع من جريانه.

والإذن في المخالفة الالتزاميّة الذي هو لازم التعبد بعدم الحكم المعلوم بالإجمال حيث إنه قبيح فهو مانع.

وعدم لزوم هذا المانع موقوف على نفي الحكم المعلوم بالإجمال لئلا يكون له المخالفة الالتزاميّة.

وعدم الحكم المعلوم بالإجمال موقوف على جريان الأصل.

فصحّة جريان الأصل يتوقف على نفسها ، كما أن عدم الحكم كذلك.

ويندفع الدور بأن مفاد الأصل بنفسه رفع الحكم من الوجوب أو الحرمة ، لا أنه يتوقف على رفعه.

وليس لازم رفع الحكم الإذن في المخالفة الالتزاميّة المحرّمة فانها لا تحرم ، بل لا تتحقّق إلا مع ثبوت الحكم ولا مانعيّة لحرمة المخالفة الالتزاميّة أو قبح الإذن فيها إلاّ على تقدير ثبوت موضوعها ، وما لا مانعيّة له إلاّ على تقدير ثبوت موضوعه كيف يمنع عن رفع موضوعه.

فان قلت : هذا بالإضافة إلى الحكم الفعلي ، فإنه مرفوع بالأصل ، وأما الحكم الواقعي فلو وجب الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم بالإجمال مع ثبوته حتى مع جريان الأصل يلزم من جريانه الإذن في المخالفة الالتزاميّة.

قلت : أوّلا لا نسلّم حرمة المخالفة الالتزاميّة للواقعي المحكوم بعدمه تنزيلا ، ومفاد الأصل رفعه تنزيلا ، فلا يمنع إلا حرمة المخالفة الالتزاميّة لما له ثبوت ولم يكن منفيّا ولو تنزيلا.

وثانيا : حيث إن مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلي أو الحرمة الفعليّة ، فلازمه عدم الالتزام بالوجوب الفعلي أو الحرمة الفعليّة ، لا عدم الالتزام

٨٣

بالوجوب الواقعي أو الحرمة الواقعيّة حتى يكون بلحاظ هذا اللازم قبيحا.

لكنه يناسب ما سلكناه في عدم المانعيّة ، لا ما سلكه « قدس سره » في عدمها بلحاظ عدم الموضوع لوجوب الموافقة الالتزاميّة.

وبناء على هذا الجواب لا حاجة إلى قصر وجوب الموافقة الالتزاميّة على الحكم الفعلي الذي لم يرفع تنزيلا ، بل يجتمع مع وجوب الالتزام بكل ما ثبت من الشارع على حسب مرتبته من الثبوت ، فتدبّر.

فان قلت : الأصل لا يرفع إلا الوجوب الفعلي أو الحرمة الفعليّة ، لأن كل واحد منهما في نفسه مشكوك.

وأما الالزام المعلوم بالتفصيل ، فلا يعقل أن يرفعه الأصل المتقوم موضوعه بالشك ، فيجب الالتزام بهذا الالزام ، ويلزم من التعبد بالإباحة الإذن في عدم الالتزام بالالزام.

قلت : أصالة عدم الوجوب وعدم الحرمة تنفي الوجوب والحرمة الفعليّين بالذات والالزام الفعلي بالتّبع ، إذ يستحيل الالزام الجدي إلاّ متقوّما بالبعث والزجر الجدّيين ، فلا موضوع لوجوب الالتزام أيضا.

والعلم بالالزام الواقعي لا يقتضي إلا الالتزام به وهو كما عرفت لا يمنع من عدم الالتزام بالالزام الفعلي ، كما لا يمنع من عدم الالتزام بالوجوب أو الحرمة الفعليّين ، فتدبّر.

٣٨ ـ قوله « قده » : إلاّ أن يقال إن استقلال ... الخ (١).

سيجيء إن شاء الله تعالى أن حكم العقل لو فرض ثبوته تنجيزيّ لا تعليقيّ.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٩.

٨٤

٣٩ ـ قوله « قده » : إلاّ أن الشأن حينئذ في جواز جريان ... الخ (١).

المراد من الأصل الجاري في أطراف المعلوم بالإجمال : إما أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الحرمة ، وإما أصالة الإباحة وأصالة الحل المستفادة من قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » وأشباهه.

فإن أريد أصالة عدم الوجوب وعدم الحرمة فوجه الإشكال أنه لا يترتب عليها فائدة بحيث لم تكن لو لا جريان الأصلين المزبورين ، لمكان استقلال العقل بعدم الحرج في الفعل والترك ، فهو المستند للفعل المحتمل حرمته وللترك المحتمل وجوب نقيضه.

وفيه أولا أن جريان الاستصحاب منوط بوجود أركانه من اليقين والشك الموجودين هنا ، وكون المتعبد به حكما عمليا مجعولا أو موضوعا ذا حكم عملي ، والمفروض أن الوجوب والحرمة حكمان عمليان مجعولان إثباتا ونفيا ، وعدم حصول الغاية العقليّة ، لأن مثل هذا العلم الإجمالي على الفرض غير منجّز لا للوجوب والحرمة بعنوانهما ولا للالزام الجامع بينهما كما عرفت.

وثانيا بأن حكم العقل إنما يكون مستندا للفعل والترك ما لم يكن التكليف فعليا إثباتا أو نفيا ، فكما أنه لا مجرى له إذا صار الحكم فعليّا ، كذلك إذا صار عدمه فعليّا ، ومع فعليّة عدم الحكم بلسان الأصل لا مجرى لحكم العقل ، فهو المستند للفعل والترك دون حكم العقل كما سيأتي نظيره إن شاء الله تعالى في أوائل البحث عن تأسيس الأصل في الظن.

وإن أريد أصالة الحل والإباحة المستفادة من أدلة البراءة ، فوجه الإشكال : إن كان مجرد الاضطرار إلى أحد الأمرين من الفعل والترك ، فهو موجود في تمام موارد الاباحات لعدم خلو الانسان من الفعل والترك ، وهو غير

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٩.

٨٥

الاضطرار المانع عن مطلق التكليف ، لصدور كل من طرفي الفعل والترك بالاختيار.

مع أنه إنما يمنع عن الإباحة إذا كانت الإباحة عبارة عن الترخيص في الفعل والترك معا.

بل الإباحة كالوجوب والحرمة يتعلق بطرف الفعل ، وترك المباح كترك الواجب وترك الحرام ليست محكومة بالأحكام ، بل معنى ترك الواجب أنه ترك ما يجب فعله فيستحق به العقوبة وترك المباح معناه ترك ما لا منع من فعله ، لا أنه محكوم شرعا بحكم مثل حكم فعله كما في الواجب والحرام فتفطن.

وإن كان عدم التمكن من مراعاة الواقع على أي تقدير ، فهو مضطر إلى عدم مراعاة الواقع ، فمن البين أنه يمنع عن إيجاب الاحتياط لا عن الإباحة والترخيص ليقال : إن الإباحة ضروري الثبوت.

وإن كان استقلال العقل بالتخيير وعدم الحرج في فعله وتركه ، فلا يكون الحكم مولويا حينئذ ، فيندفع أن مجرد ذلك لا يمنع عن الحكم المولوي ، فانه لا شبهة في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومع ذلك لا إشكال في صحة الحكم بالإباحة الشرعيّة في مورده.

وكما أن إعمال المولوية هناك من جهة إمكان الأمر بالاحتياط ، فكذلك هنا من جهة إمكان التعبد بأحد الطرفين شرعا لحكمة نوعيّة ، فليست الإباحة الشرعيّة ضروريّ الثبوت ، وإنّما يحكم العقل بالرخصة من جهة عدم وجدان المرجح في نظره لأحد الطرفين.

وإن كان قصور أدلة الإباحة الظاهرية للمورد حيث إنه لا شك في عدم إباحته واقعا فكيف يعمه قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » ، فهو له وجه ، لكنه مختص بصورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، ولا يعم كلّ الصّور ، فانه لا بأس بشموله لما إذا دار الأمر بين حرمة شيء وحرمة ضده ، فإن كلا منهما

٨٦

مشكوك الحلية والحرمة.

ويمكن أن يقال : ـ بعد شمول قوله عليه السلام كل شيء لك حلال للشبهة الوجوبية نظرا إلى أنه مما يحرم تركه ، فيعمه الغاية ، وبعد شمول الخبر لصورة دوران الأمر بين المحذورين ، لعدم دخولها في الغاية ، نظرا إلى أنها غاية عقليّة لا تعبّديّة ، ومثل هذا العلم لا ينجز الحكم عقلا ، وبعد شموله للشبهات الحكميّة كالموضوعيّة بالإغماض عن كونه جزء رواية مسعدة بن صدقة الواردة في الشبهات الموضوعيّة ـ إنه على هذا لا مانع عقلا ولا نقلا من شموله لما لا يحتمل فيه الحلّية واقعا :

أما عقلا فواضح ، إذ لا يشترط في جعل الحكم الظاهري موافقته للواقع ، فللشارع أن يقول : إذا شككت في وجوب شيء فهو محرم عليك وبالعكس.

نعم فيما كان فيه نظر ، إلى الواقع وكان دليل الاعتبار بعنوان تصديقه في نظره أو إبقاء الواقع ، فلا محالة يعتبر فيه أن يكون الحكم المماثل مماثلا للمحتمل.

وأما لفظا (١) ، فمن الواضح عدم تقييده باحتمال الحلّية المقابلة لسائر الأحكام ، والحلّية بمعنى عدم الوجوب الذي هو موجود في الشبهة الوجوبيّة موجودة هنا أيضا ، فتدبر.

وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق القول في جميع ما ذكرنا في البحث عن دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من مباحث البراءة (٢).

٤٠ ـ قوله « قده » : نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع ... الخ (٣).

لكن لا يخفى عليك أن تقييد القطع الموضوعي بما إذا حصل من سبب

__________________

(١) هكذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، لكن الصحيح : نقلا.

(٢) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٥٨ و ٦٢.

(٣) كفاية الأصول / ٢٦٩.

٨٧

ينبغي حصوله منه بهذا العنوان لا يكاد يجدي في الردع عن ترتيب أثر القطع حال حصوله ولو مع التفات القاطع بأنه كثيرا ما يقطع من سبب لا ينبغي حصوله منه ، إذ حال حصوله يقطع بأن هذا السبب ينبغي حصوله منه ، وإلا يؤول الأمر إلى حدوث المعلول بلا علّة في نظره إلا إذا عقد القاطع مزيّة لنفسه في الالتفات إلى مزايا السبب بحيث يوجب احتفافه بها القطع لكل من التفت إليها ، فهو عالم بأنه سبب غير متعارف ، لكنه يعتقد جهل متعارف الناس بمزاياه الموجبة لحصول القطع.

نعم تقييد القطع بذوات الأسباب المتعارفة خال عن الإشكال ، لأنه غير مناف لحصول القطع من غيرها والردع عنه كما لا يخفى.

٤١ ـ قوله « قده » : فهل القطع الإجمالي كذلك فيه إشكال ... الخ (١).

تحقيق المقام برسم أمور : منها أن حقيقة الحكم الحقيقي الذي عليه مدار الاطاعة والعصيان هو الإنشاء بداعي البعث والتحريك وجعل الداعي ، ولا يتصف الإنشاء بشيء من الأوصاف المزبورة وهي كونه باعثا ومحرّكا وداعيا حتى يصل إلى من أريد انبعاثه وتحركه وانقداح الداعي في نفسه.

لا لتلازم البعث والانبعاث والتحريك والتحرك كتلازم الإيجاد والوجود ، بداهة دخالة اختيار العبد وإرادته في ذلك ، مع أن البعث الحقيقي موجود أراد العبد امتثاله أم لا.

بل ، لكون المراد من البعث الحقيقي الذي أمره بيد المولى جعل ما يمكن أن يكون باعثا ومحركا وداعيا للعبد ، بحيث إذا خلا عما ينافي رسوم العبودية وينافر مقتضيات الرقّيّة لخرج من حد الإمكان إلى حد الوجوب وتحقق البعث

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٢.

٨٨

والانبعاث خارجا.

ولا يتصف الانشاء بهذه الأوصاف موجها بجهة الإمكان إلا بعد وصوله إلى العبد ، وسيجيء (١) إن شاء تعالى توضيحه في مبحث الاشتغال ، وإلا فلا يمكن أن يكون الإنشاء الواقعي باعثا ومحركا وداعيا وزاجرا وناهيا بما هو أمر واقعي ، بل ولا بما هو ملتفت إليه من دون قيام الحجة عليه ، إذ لا يكون الإنشاء المزبور بعثا على أي تقدير إلاّ بلحاظ باعثيّته في أفق النفس ، فما في أفق النفس هو الباعث بالذات ، وما في الخارج باعث بالعرض ، كالمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض.

ولا يعقل أن يكون ما في أفق النفس باعثا على أيّ تقدير ، إلاّ بوجوده العلمي التصديقي ، ففرض جعل الإنشاء الخارجي داعيا على أيّ تقدير بوجوده النفساني هو فرض جعل وجوده العلمي التصديقي داعيا ، فإنه الداعي على أيّ تقدير.

مضافا إلى أن الإنشاء المزبور لا يكون باعثا لزوميّا في نفوس العامة ، إلاّ إذا كان بحيث يستحق عليه العقاب ، فكونه كذلك محقق لدعوته بنحو اللزوم.

ومنه علم أن مرتبة الفعليّة والتنجّز في مطلق الأحكام الحقيقيّة من النفسيّة والطريقيّة واحدة.

ومنها أن حقيقة العلم الإجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا تفارق العلم التفصيلي في حدّ العلميّة ، وليسا هما طوران من العلم نظرا إلى تعلق العلم الإجمالي بالمردد أعني أحد الأمرين ، بل ربما يبني عليه إمكان تعلق الصفات الحقيقيّة بالمردد فضلا عن الاعتباريّة كما في كلمات استادنا العلامة « رفع الله

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٧١.

٨٩

مقامه » (١) ، بل التحقيق أن طرف العلم ينكشف به تفصيلا لا مجال للتردد فيه بما هو طرف للعلم ، إذ القائم بالنفس الذي به تشخّص مقولة العلم أمر جزئي شخصي بحسب هذا الوجود ، والمردد بما هو مردد لا ثبوت له ماهيّة ولا هويّة ، إذ كل ماهية لها نحو من التعيّن الماهوي الذي به يمتاز عن سائر الماهيات ، وكل هويّة بنفسها ممتازة عن سائر الهويات ، كيف والوجود نفس التشخّص والوحدة رفيق الوجود تدور معه حيثما دار.

نعم متعلق طرف العلم مجهول أي غير معلوم ، فلم يلزم تعلّق صفة حقيقيّة ولا اعتبارية بالمردد ، بل ضم الجهل إلى العلم صار سببا لهذا الاسم ، وإلا فالعلم علم دائما ، ومتعلّقه بحده منكشف به تفصيلا من غير ترديد في نفس ما هو طرف العلم.

وممّا ذكرنا تبين أن الوجه في عدم إمكان تعلق صفة بالمردد هو عدم ثبوت وشيئيّة للمردد بالحمل الشائع حتى يمكن تعلق صفة ، به لا أن العرض يحتاج إلى موضوع يقوم به حتى يقال : بأنه مختص بالأعراض المتأصّلة دون مثل الملكيّة التي هي من الأمور الاعتباريّة كما عن العلاّمة الانصاري « قدس سره » (٢) في بيع صاع من الصبرة ، ولا ما يقال : من أن الصفة إذا كانت موجبة لتشخص شيء في الخارج ، فحيث إن ما في الخارج معيّن لا مردد ، فلا يمكن تعلقها بالمردد دون غيرها ، ولذا يفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة ، فإن الأولى جزء أخير من العلّة التامّة لوجود شيء في الخارج دون الثانية كما عن غير واحد ، فتدبر.

ومنها قد عرفت في مبحث التّجرّي (٣) أن ملاك استحقاق العقاب هتك

__________________

(١) كما نبه عليه في هامش الكفاية : ١٤١.

(٢) المكاسب المحشى بحاشية السيّد : ١ / ٣٣٣.

(٣) راجع التعليقة ١٠.

٩٠

حرمة المولى والظلم عليه بالخروج عن رسوم الرّقيّة ومقتضيات العبوديّة ، لا المخالفة وتفويت الغرض وارتكاب المبغوض ، لوجود الكل في صورة الجهل مع عدم الاستحقاق عقلا ، بداهة أن زيّ الرقيّة ورسم المملوكيّة ليس يقتضي موافقة أمر المولى ونهيه مع الجهل بهما ، وليس عدمها ظلما عليه وهتكا لحرمته ، بخلاف ما إذا انكشف المطلوبيّة وتبيّن المحبوبيّة.

ومنها أن هتك حرمة المولى والظلم عليه من العناوين القبيحة بالذات وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي محال.

بداهة أن كل عنوان محكوم عليه بالقبح إما أن يكون بنفسه وبعنوانه موجبا للذم والعقاب ، أو بما هو منته إلى عنوان كذلك ، للزوم انتهاء كل ما بالعرض إلى ما بالذات.

وعنوان الظلم من العناوين التي بنفسها وبعنوانها من غير انتهائها إلى عنوان آخر يحكم عليه بالقبح ، فلو فرض حفظ عنوانه دون حكمه لزم التخلف وهو خلف.

بخلاف عنوان الكذب ، فإنه لو خلّى وطبعه يقتضي القبح ، ولكن إذا عرض عليه عنوان الإصلاح كان حسنا ، مع أن عنوانه محفوظ عند طروّ العنوان الحسن.

ومنه تبين أن مخالفة المولى ما لم تتصف بعنوان الهتك والظلم لا يوجب الذم والعقاب ولو اقتضاء ، لما عرفت في معنى الاقتضاء ، حيث إنها لو خليت ونفسها لا تندرج تحت عنوان الظلم ، بل إذا قامت الحجة على التكليف.

ولا معنى للاقتضاء المساوق للسببية حتى لا ينافي الاشتراط بشيء كالوصول هنا ، لأن نسبة هذه العناوين الحسنة أو القبيحة إلى حكم العقلاء بحسنها أو قبحها ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، بل نسبة الغاية إلى ذي الغاية.

٩١

ففي الموصوفة بالقبح مفسدة نوعيّة مخل (١) بالنظام ، فلذا دعت العقلاء إلى البناء على ذم فاعلها.

فقولهم الموضوع مقتض لحكمه يراد به هذا المعنى من الاقتضاء لا السّببيّة.

وعلى ما ذكرنا ، فما لم يتصف المخالفة بعنوان الظلم لا موضوعيّة لها للحكم بالقبح أصلا ، ومع اتصافه بعنوان هتك الحرمة والظلم يستحيل التخلف ، فلا يكون هذا الحكم العقلي على نحو الاقتضاء ، بل على نحو العليّة ، بنحو التّنجيز لا بنحو التعليق.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم أن الحكم الذي ينبغي أن يكون محل الكلام ما عرفت في الأمر الأول ، وهو ما بلغ درجة حقيقة الحكميّة كي يتمحّض البحث في تفاوت نفس العلم التفصيلي والإجمالي في التّنجيز وعدمه.

وحيث إن العلم الإجمالي لا يفارق التفصيلي في حقيقة انكشاف أمر المولى ونهيه ، فلا محالة يتمحّض البحث في أن الجهل التفصيلي بمتعلق طرف العلم يعقل أن يجعل عذرا شرعا أو عقلا أم لا.

وحيث إن ملاك استحقاق العقاب كما في الأمر الثالث هتك حرمة المولى وهو منطبق على المخالفة للحكم المعلوم في البين ، ولو لم يعلم طرف المعلوم تفصيلا ، فلا فرق بين العلمين في التنجيز.

وحيث إن هذا الحكم العقلي على نحو العليّة التامّة كما عرفت في الأمر الرابع تعرف أنه لا يعقل جعل الجهل التفصيلي عذرا عقلا ولا شرعا ، إلاّ مع التصرف في المعلوم وهو خلف.

ومرجعه إلى جعل العلم التفصيلي شرطا في بلوغ الإنشاء الواقعي إلى

__________________

(١) هكذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف ، لكن الصحيح : مخلّة.

٩٢

درجة الحكم الفعلي الحقيقي ، أو جعل الجهل التفصيلي مانعا عن بلوغه كذلك ، وهو في حدّ ذاته أمر معقول لا يخص العلم الإجمالي ، بل يمكن إجرائه في العلم التفصيلي أيضا بأن يكون العلم التفصيلي الخاص. شرطا في بلوغ الحكم إلى درجة الفعليّة ، وإلا فالوصول الذي هو عند التحقيق شرط البعث الحقيقي هو الأعم من التفصيلي والإجمالي كما عرفت. وعلى أيّ حال لا ربط لهذا المعنى بتعليقيّة الحكم العقلي واقتضائيّته.

فان قلت : مقتضى عدم تعلق العلم الإجمالي بالمردد بما هو مردد وعدم تعلقه بالواقع بخصوصه ـ إذ لا وعاء لتعلقه به إلا في أفق النفس والمفروض عدم العلم بالخصوصيّة ـ عدم تنجز الحكم إلا بمقدار تعلق العلم به ، فإنه المنجّز دون الاحتمال.

وتنجز الوجوب المتعلق في وجدان العقل بما لا يخرج عن الطرفين يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة فقط ، دون الاحتماليّة أيضا ، فان مخالفة التكليف الواقعي بما هو لا أثر لها ، وليست مصداقا للظلم ، لأنه بخصوصه غير واصل ليكون مخالفته ظلما في وجدان العقل.

وليس الظلم من العناوين التي تنطبق على الواقع لا في وجدان العقل ، لأن ما يقتضيه رسوم العبوديّة هو ترك ما أحرز أنه مبغوض المولى في وجدان العقل ، لا ترك ما هو مبغوض المولى واقعا.

وحيث إنه لم يحرز أن هذا بخصوصه مبغوض المولى ، فلا يكون خروجا عن ذي الرّقيّة ، فلا يكون ظلما ، فلا يستحق عليه الذم عقلا ولا العقاب شرعا.

بخلاف ما إذا أتى بالفعلين معا فإنه بهما خارج عن زيّ الرّقيّة ، لعدم انزجاره بالزجر المعلوم المتعلق بما لا يخرج عما فعله.

ولا يمكن دعوى أن فعل ما يحتمل أنه مبغوض المولى إذا اقترن باحتمال آخر ظلم بنفسه ، فإن مقتضاها استحقاق العقاب على كليهما معا ولا يقولون ، به.

٩٣

والموافقة القطعيّة بترك كلا الفعلين المعلوم حرمة أحدهما أو بفعل كلا الأمرين المعلوم وجوب أحدهما وإن كانت عدلا حسنا ، لكنه ليس ترك الحسن قبيحا ، بل القبيح ما يندرج تحت عنوان الظلم كما عرفت.

قلت : لا ينحصر الظلم في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال ليقال : بعدم إحراز المخالفة وعدم الأثر لمخالفة التكليف الواقعي.

بل نفس عدم المبالاة بالتكليف اللزومي وعدم الانبعاث ببعثه وعدم الانزجار بزجره في وجدان العقل ظلم على المولى ، لخروجه عن زي الرقيّة ورسم العبوديّة ، وهذا جامع بين المخالفة القطعيّة للتكليف وترك الموافقة القطعية ، إذ كما أن مخالفته في وجدان العقل ظلم كذلك ترك موافقته في وجدان العقل إذا كان لزوميا ظلم ، فإن كليهما من عدم المبالاة عملا بالتكليف المعلوم.

ومن المعلوم أن المبالاة بالوجوب المتعلق بما لا يخرج عن الطرفين في وجدان العقل ليست إلا بالانبعاث عنه ، والانبعاث عن المعلوم لا عن الواقع لا يكون إلا بفعلهما معا فإن الانبعاث عن المعلوم المحكوم بالحسن عقلا ليس إلا الانبعاث في وجدان العقل ، وفعل أحدهما وإن كان يحتمل أن يكون انبعاثا ، لكنه انبعاث عن الواقع المحتمل لا انبعاث عن المعلوم.

ففعل أحدهما وعدمه في عدم الانبعاث عن المعلوم في وجدان العقل على حد سواء ، فهو تارك للمبالاة بأمر المولى في وجدان العقل ، فيكون ظالما مستحقا للذم والعقاب.

وليس ترك كل محتمل مصداقا لعدم المبالاة أو محققا له ليستحق عقابين ، بل الذي يضاف إليه المبالاة وعدمها نفس التكليف الواحد المعلوم ، وليس للأمر أو نهي واحد (١) إلا شأن واحد ، فليس له إلا انبعاث واحد وانزجار

__________________

(١) هكذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : لأمر أو نهي واحد.

٩٤

واحد.

نعم لازم هذا المبني استحقاق العقاب على عدم المبالاة بالبعث المعلوم ولو مع فعل أحدهما المصادف مع الواجب الواقعي ، ولا بأس به بعد الالتزام بأن ملاك استحقاق العقاب تحقق الظلم القبيح عقلا سواء صادف الواقع أم لا كما عرفت في مبحث التجري (١) مفصلا. هذا كله إن كان استحقاق العقاب بحكم العقل.

وأما إن كان بحكم الشارع وجعله كما هو أحد الطريقين في باب الاستحقاق ، فلازمه استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي بعد قيام الحجة عليه.

توضيحه أن قاعدة اللطف كما تقتضى بعث الشارع نحو ما فيه صلاح العباد وزجره عما فيه الفساد ، كذلك تقتضى جعل العقاب على ترك ما فيه الصلاح وفعل ما فيه الفساد تحقيقا للباعثيّة والزاجريّة.

ومن الواضح أن جعل العقاب ما لم يصل ولو بوصول ملزومه وهو التكليف لا يكون محققا للدعوة بعثا أو زجرا.

وعليه ، فالعلم بالتكليف علم بلازمه وهو العقاب المجعول على مخالفته من حيث إنه مخالفة لا من حيث الاندراج تحت عنوان الظلم حتى ترد المحاذير المتقدمة ، كما أنه بملاحظة العلم المزبور يحتمل العقاب على فعل كل واحد لاحتمال حرمته واقعا.

وعليه ، فإذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع فقد وقع في عقابه ، وإلا فلا ، وهذا الاحتمال هو الحامل للعبد على الفرار من العقاب من دون حاجة فيه إلى حكم من العقلاء أو الشارع.

ومما ذكرنا تعرف الخلط في كثير من الكلمات بين المسلكين ، فتارة يرتبون

__________________

(١) التعليقة ١٠.

٩٥

آثار المسلك الأول ، وأخرى آثار المسلك الثاني ، وعلى أي حال ، فالعلم الإجمالي منجز للتكليف مطلقا.

٤٢ ـ قوله « قده » : وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه ، محفوظة ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن انحفاظ المرتبة : إن كان بلحاظ تعليقيّة حكم العقل بالاستحقاق على عدم المؤمّن من الشارع مطلقا أو في بعض الأطراف كما توهم.

ففيه أولا ، أن هذا المعنى لا ربط له بانحفاظ المرتبة ، لأنه إنما يلتزم به دفعا للتنافي بين نفس الحكمين الواقعي والظاهري ، لا دفعا للتنافي بين آثارهما ، وحكم العقل وورود المؤمّن شرعا مربوط بالثاني دون الأول.

نعم من لا يرى منافاة بين نفس الحكمين مطلقا بل يرى المنافاة بينهما من قبل آثارهما ، فله أن يقول بانحفاظ المرتبة بهذا المعنى ، إلا أنه أجنبي عن مسلك شيخنا الأستاد « قدس سره ».

وثانيا قد عرفت أن مخالفة التكليف المعلوم بل عدم المبالاة به بالانبعاث عنه والانزجار به ظلم عليه ، وهو قبيح بالذات ، وتخلف الذاتي عن ذي الذاتي محال ، فلا حكم من العقل هنا بنحو الاقتضاء والتعليق ، بل بنحو العليّة والتنجيز كما فصلناه آنفا.

وإن كان انحفاظ المرتبة بلحاظ إناطة الإنشاء الواقعي بوصوله تفصيلا في صيرورته بعثا وزجرا شرعا.

ففيه أن الكلام في العلم الطريقي المحض لا في العلم المأخوذ في الموضوع ، وإلا فالعلم التفصيلي أيضا يمكن أن لا يكون منجّزا ، لإناطة الإنشاء في الباعثيّة والزاجرية بعلم تفصيلي حاصل من سبب خاص أو في مورد مخصوص.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٢.

٩٦

وقد عرفت أن الكلام هنا متمحض في الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي.

وإن كان انحفاظ المرتبة بلحاظ فعليّة الحكم الواقعي من وجه وفعليّة الحكم الظاهري من جميع الوجوه ولا منافاة بين الفعليّة المطلقة ومطلق الفعليّة بل بين الفعليّين من كل وجه وهو الفعلي بقول مطلق وهذا هو المراد هنا كما نص عليه في مبحث الاشتغال (١).

ففيه أن الفعلي من وجه لا معنى له إلا ما ذكرناه سابقا في شرح كلامه وتصحيح مرامه « زيد في علو مقامه » (٢) من أنه الإنشاء بداعي جعل الداعي دون غيره من الدواعي ، لاستحالة صيرورته بعثا وزجرا للزوم الانقلاب ، ومثل هذا الإنشاء هو تمام ما بيد المولى وتمام ما يتحقق منه بالفعل ، وقيام الحجة عليه يجعله مصداقا للبعث والزجر فعلا ، فيكون فعليّا من جميع الوجوه.

إلا أن الفعلي من وجه بهذا المعنى إنما يمكن جعل حكم فعلي مطلق على خلافه أو على وفاقه إذا كان محتملا أو مظنونا ، فانه ما لم تقم الحجة عليه لا يكون فعليا مطلقا كي يلزم اجتماع الضدين والمثلين ، وأما إذا قامت الحجة عليه ، فلا.

وقد بينا أن العلم الإجمالي في حدّ العلميّة كالعلم التفصيلي ، ولا فرق في الوصول المقوم للباعثيّة الفعليّة والزاجريّة الفعليّة بين الوصول التفصيلي والإجمالي.

ومع كفاية هذا المقدار من الوصول عقلا في تحقق البعث والزجر ، فلا يعقل بعث آخر أو زجر آخر أو ترخيص على خلاف الحكم الواصل.

وأما ما أفاده شيخنا العلامة « قدس سره » في البحث وأشار إليه في (٣)

__________________

(١) كفاية الأصول / ٩ ـ ٣٥٨.

(٢) التعليقة ٣٠.

(٣) قد تعرض له المصنف قدس سره في التنبيه الرابع حيث قال في جواب إشكال أورد على نفسه

٩٧

أوائل هذه المباحث في تقريب الفعلي من وجه والفعلي بقول مطلق بأن الغرض من التكليف : تارة يكون بحدّ يوجب قيام المولى مقام البعث وإيصاله إلى المكلف ولو بنصب طريق موافق وإيجاب الاحتياط ، فمثله لا يجوز الترخيص في خلافه ، فإنه نقض للغرض.

وأخرى لا يكون بذلك الحد ، بل بحيث إذا وصل من باب الاتفاق لتنجّز ، وكان سببا لتحصيل الغرض من المكلف ، فمثله يجوز الترخيص في خلافه وسدّ باب وصوله.

وأدلة الأصول الشاملة لموارد العلم الإجمالي كاشفة عن أن الغرض من سنخ الثاني وليس مثلها في مورد العلم التفصيلي.

فمندفع ، أما أولا ، فبأن هذا التفصيل إنما يجدي في دفع شبهة نقض الغرض من التعبد بالظن وغيره على خلاف الواقع كما سيجيء إن شاء الله تعالى في محله لا في مقام دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري من حيث نفسهما والكلام في الثاني.

وأما ثانيا ، فإنه يجدي في الحكم على خلاف الحكم الواقعي ، لا على خلاف الحكم الواصل من باب الاتفاق مع حكم العقل بعدم الفرق بين أنحاء الوصول.

وأما ثالثا ، فبأنه يجدي في عدم لزوم نقض الغرض من المكلف به لا في عدم لزوم نقض الغرض من نفس التكليف ، فإن الغرض من نفس التكليف في جميع الموارد سنخ واحد.

ومن البيّن أن الغرض من نفس التكليف جعل الداعي والباعث فعلا ، والترخيص الفعلي نقض لهذا الغرض.

__________________

في القول بإمكان أخذ الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده يمكن أن يكون الحكم فعليا بمعنى أنه لو تعلق به القطع على ما هو عليه من الحال لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة. كفاية الأصول / ٢٦٧

٩٨

ومن جميع ما ذكرنا تبين عدم انحفاظ المرتبة رأسا بين الغرض من الحكمين وبين نفس الحكمين وبين آثارهما ، فهما متنافيان نفسا ومن حيث المبدأ والمنتهى.

٤٣ ـ قوله « قده » : ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي ... الخ (١).

يمكن إبداء الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض : أما في الشبهة البدويّة ، فبما عرفت في تحقيق حقيقة الحكم الحقيقي (٢) ، وأنه جعل ما يمكن أن يكون داعيا ، والخطاب الواقعي بما هو واقعي لا يمكن أن يكون داعيا بحيث لو مكن العبد نفسه عن امتثاله أمكن أن يكون ذلك الخطاب داعيا ، فالخطابات الواقعيّة ما لم تصل إلى المكلف بنحو من الوصول ولو بالحجّة الشرعيّة أو الأمر الاحتياطي لا يعقل أن تتصف بكونها باعثا وداعيا ، أو زاجرا وناهيا ، وبهذا ترتفع المناقضة والمضادة بين الأحكام الواقعيّة ومفاد الأصول الشرعيّة.

ومنه علم أن عدم فعلية الحكم الواقعي المجهول ليس من جهة الاستكشاف من أدلة الأصول ، بل مطابق للقاعدة الحاكمة بدوران الفعليّة مدار الوصول.

وأما الشبهة الغير المحصورة ، فلما سيجيء (٣) إن شاء الله تعالى أن القدر المتيقن من موردها ما إذا لزم من الاحتياط فيها عسر مخل بالنظام أو كان بعض أطرافها خارجا من مورد الابتلاء كما هو كذلك غالبا ، وعدم فعليّة الحكم فيهما عقلي ، بداهة عدم موقع للبعث والزجر الحقيقيين مع لزوم اختلال النظام أو خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء ، فلا علم إجمالي بالحكم الفعلي حتى

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٢.

(٢) التعليقة ٣٠.

(٣) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٨١.

٩٩

يحكم العقل بامتثاله ويكون الإذن هناك إذنا على خلاف الحكم العقلي.

٤٤ ـ قوله « قده » : ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين ... الخ (١).

هذا إذا كان الوجه في التنجز مضادة الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري كما نص عليه في مبحث الاشتغال (٢) ، إلا أنه من القطع بثبوت المتنافيين لا احتماله ، وذلك لأن الترخيص في كل واحد بدلا ترخيص تخييري ينافي الحرمة التعيّنيّة قطعا.

نعم إذا كان الترخيص بالإضافة إلى أحدهما المعين كان ثبوت الحكمين المتنافيين محتملا ، لا (٣) مقطوعا.

مضافا إلى أن التنافي إنما يكون إذا كان الترخيص شرعيّا ، وأما إذا كان عقليّا ، فلا حكم مجعول من العقل أو العقلاء بحيث يضاد حكما مجعولا آخر ، بل غايته إذعان العقل بعدم الاستحقاق على ارتكاب كل واحد من المشتبهين بدلا عن الآخر.

وأما إن كان الوجه في التنجز من حيث المخالفة القطعيّة هو كونها ظلما ، فيستحق عليه العقاب ، بخلاف الموافقة القطعيّة ، فإن إلزام العقل بها من باب حكمه بدفع الضرر المحتمل ، ومع تأمين الشارع بترخيصه في أحد الطرفين لا يحتمل الضرر كي يجب دفعه عقلا.

ففيه : إن كان ترك الموافقة القطعيّة لعدم الانبعاث بالبعث المعلوم وعدم الانزجار بالزجر المعلوم في وجدان العقل ظلما ، كما قربناه ، فالإذن فيه إذن في الظلم وهو قبيح كالإذن في المخالفة القطعيّة.

وإن لم يكن كذلك ، بل كان مخالفة التكليف المعلوم واقعا ظلما ، فالإذن في

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٣.

(٢) كفاية الأصول / ٣٥٨.

(٣) كلمة « لا » زيادة منا ليست في المطبوع ولا في المخطوط بغير خطه قده.

١٠٠