نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

ترك كل واحد من الأطراف أيضا حيث إنه إذن في المخالفة الواقعيّة للتكليف المعلوم ، فهو أيضا إذن في الظلم وهو قبيح.

وإن قلنا بأن العقاب بجعل الشارع على مخالفة التكليف الواقعي ، فالإذن في كل طرف مساوق لرفع العقاب عن مخالفة التكليف الواقعي المعلوم ، وهو مناف لثبوت العقاب على الواقع وهو المصحح لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المعلوم واقعا ، وإلا فضمّ غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا بل بالعرض مناف لفعليّة التكليف المعلوم ، لما عرفت من أنه يتقوّم الباعثيّة والزاجريّة بكونه يستحق العقاب على مخالفته.

ومما ذكرنا تبين أن التأمين الواقع (١) لموضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل دافع للتكليف الفعلي بأثره فيسوغ المخالفة القطعيّة أيضا ، ومع بقاء التكليف الفعلي بأثره على حاله يكون موضوع القاعدة محفوظا ، وتخلف الحكم عن موضوعه التام خلف.

وبالجملة ، فمحصّل الكلام أن الترخيص إن كان شرعيّا وكان استحقاق العقاب بحكم العقل ، فالمحذور زيادة على المنافاة بين الحكم المعلوم بالإجمال والترخيص الشرعي لزوم الإذن في الظلم وهو قبيح. وقد عرفت وجه كون ترك الموافقة القطعيّة ظلما.

وإن كان الترخيص شرعيّا والعقاب بجعل الشارع ، فالمحذور الزائد على المنافاة بين نفس الحكمين هو التنافي بين جعل العقاب ورفعه وإثباته ونفيه كما بيناه ، حيث إن ضمّ غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا للواقع.

ولا مورد للمحذور المتقدم وهو الإذن في الظلم ، إذ العقاب كما عرفت ليس بملاك كونه ظلما.

__________________

(١) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خطه قده ، والصحيح : الرّافع.

١٠١

وإن كان الترخيص عقليّا والعقاب بحكم العقل ، فليس فيه محذور المنافاة بين الحكمين ، إذ ليس الترخيص العقلي من مقولة الحكم ، بل مجرد الإذعان بالمعذوريّة ، وكونه معذورا عند العقلاء وعدم كونه معذورا لكونه مذموما عليه بملاك الظلم متنافيان.

وإن كان الترخيص عقليا وجعل العقاب شرعيّا ، فليس فيه محذور المنافاة بين الحكمين ولا الإذن في الظلم ، إذ ليس هناك مقولة الإذن ولا العقاب بملاك الظلم ، بل المعذوريّة عند العقل مع فرض كونه معاقبا عليه شرعا ولازمه عدم المعذوريّة لا يجتمعان.

٤٥ ـ قوله « قده » : أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن كل ما كان من شئون العلم ومقتضياته ، فهو المناسب للمقام ، وكل ما كان من شئون الجهل ، فهو من مقاصد المقصد الآتي في البراءة والاشتغال ، وهذا ينطبق على ما أفاده « قدس سره » إذ الاقتضاء لاستحقاق العقاب من شئون العلم والمانعيّة من شئون الجهل ، وعلى ما ذكرنا سابقا (٢) من عدم التفاوت بين العلمين التفصيلي والإجمالي في حد العلميّة وأنهما ليسا طورين من العلم يتمحض البحث في إمكان جعل الجهل التفصيلي عذرا عقلا وشرعا ، فلا مجال للبحث عنه إلا في المبحث الآتي.

لكنك قد عرفت سابقا (٣) أن الاقتضاء بمعنى السببية القابل لمنع المانع غير معقول هنا ، لأن نسبة الموضوع إلى حكمه العقلائي أو حكمه الشرعي ليست نسبة السبب إلى مسببه حتى يتصور المانعيّة والاشتراط.

وقد عرفت أيضا أن مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال من دون انحلاله

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٣.

(٢) ذيل قول المصنف قدس سره فهل القطع الإجمالي كذلك فيه إشكال التعليقة ٤١.

(٣) في التعليقة ٤١.

١٠٢

موضوع تام للقبح عقلا ، أو لجعل العقاب شرعا ، وأنها ليست لو خليت ونفسها كذلك حتى يمكن عدم لحوق حكمها لها بعروض ، عارض ، بل القابل لارتفاع الحكم المزبور عنه موضوع آخر ، وهي مخالفة المعلوم بالإجمال المنحلّ ولو حكما.

وحينئذ فالبحث هنا ليس راجعا إلى البحث عن الاقتضاء بوجه أصلا ، بل المبحوث عنه استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم المعلوم إما عقلا أو شرعا.

والمبحوث عنه في باب البراءة والاشتغال هو أن المجهول تفصيلا غير محكوم بالجواز فعلا أو بنفي المؤاخذة عنه لرجوعه إلى رفع العقاب المجعول على مخالفة المعلوم ، وهو ينافي بقاء التكليف الفعلي على حاله.

وقد حقق في محله أن مجرد ترتب المسألة على مسألة لا يوجب وحدة المسألة ، بل تعدد المسائل بتعدد القضايا موضوعا أو محمولا أو هما معا وتعددهما هنا واضح بالبيان المزبور.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر أن تخصيص المقام بالبحث عن حرمة المخالفة القطعيّة وتخصيص البحث الآتي بوجوب الموافقة القطعيّة كما عن شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » لا وجه له (١).

وتوجيهه بأن البحث عن حرمة المخالفة القطعيّة بحث عن أصل اقتضاء العلم والبحث عن وجوب الموافقة القطعيّة بحث عن مقدار الاقتضاء وكيفيته لا عن أصله.

غير وجيه ، إذ مقدار الاقتضاء وكيفيته لو لم يكونا من مقتضيات الشك والجهل لا وجه للبحث عنهما في ما أعد للبحث عن مقتضيات الجهل وأحكامه.

وتوهم أن وجوب الموافقة القطعيّة من مقتضيات احتمال العقاب ووجوب دفع الضرر المحتمل عقلا لا من آثار العلم بالتكليف حيث لا علم بالإضافة إلى

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٣٠.

١٠٣

كل واحد من الأطراف فله مساس بالاحتمال لا بالعلم.

مدفوع بأن معنى منجزيّة العلم ترتب استحقاق العقاب عقلا على مخالفة التكليف الفعلي المعلوم بملاحظة انطباق عنوان قبيح عليه كعنوان هتك حرمة المولى ونحوه أو من جهة جعل العقاب شرعا على مخالفة التكليف الواقعي المعلوم.

وهذا منشأ ترتب استحقاق العقاب على مخالفة التكليف بارتكاب بعض الأطراف عند المصادفة ، لا أن استحقاق العقاب من آثار احتماله ، ولا من آثار قاعدة دفع الضرر المحتمل ، إذ مع عدم استحقاق العقاب على المخالفة الواقعيّة للتكليف المعلوم في البين لا موضوع لقاعدة دفع الضرر ، ومع ثبوته لا حاجة إليها ، إذ الوقوع في العقاب على تقدير المصادفة من آثار كونه على الفرض مخالفة موجبة للعقاب لا من آثار مخالفة قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فالاحتمال لا ضرر عليه ، ولا أثر له لا عقلا ولا شرعا ، فتدبر.

ولا نعني بحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة إلا اقتضاء المخالفة مطلقا لاستحقاق العقاب عقلا ، فتدبر. فانه حقيق به.

وليعلم أن هذه المسألة على جميع التقادير مسألة عقليّة وإدراجها في الكلام باعتبار حسن المعاقبة من الشارع وإلا فليس كل مسألة عقلية كلامية.

وأما دعوى (١) أن في المسألة جهتين بإحداهما تكون كلاميّة وهي حيثية اقتضاء العلم الإجمالي لاستحقاق العقوبة وبالأخرى أصوليّة وهي حيثية انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري باعتبار التوصل بها إلى الترخيص شرعا في ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها وأن الجهة الأولى من مبادي الجهة الثانية.

فمندفعة بأن انحفاظ المرتبة من شئون المجهول تفصيلا لا من شئون

__________________

(١) كما في كلام المحقق النائيني قده. أجود التقريرات : ٢ / ٩ ـ ٤٨.

١٠٤

المعلوم إجمالا ، بمعنى أنه مع الجهل التفصيلي هل يمكن جعل حكم ظاهري كما في سائر موارد الجهل أم لا ، وليس من مقتضيات العلم بما هو علم ، فهو من مسائل مباحث الشك والجهل لا من مباحث القطع.

مع أن الجهة الأولى لا مبدئيّة لها إلا لانحفاظ المرتبة من حيث أثر الحكم الظاهري لا من حيث انحفاظها من حيث نفس الحكم ، فإن حيثية الاقتضاء لاستحقاق العقاب أجنبية عن مضادة الترخيص للوجوب والحرمة فافهم جيّدا.

٤٦ ـ قوله « قده » : مما لا يمكن أن يؤخذ فيها ... الخ (١).

قد ذكرنا (٢) في مباحث الألفاظ أن وجه الاستحالة ليس توقف الحكم على ثبوت موضوعه ، فإن ثبوت الموضوع خارجا يسقط الحكم لا أنه مصحّح لعروضه عليه ، وثبوته الذهني غير مقوم لمطلوبيّته بل يستحيل ذلك ، لأن صفة العلم التي هي مناط الثبوت الذهني لا يعقل أن تكون مقومة لصفة الشوق النفساني المتقوّمة بمتعلقه ، وإلا لزم اتحاد الفعليّين في التحصل وهو محال.

فكما أن مقوم صفة العلم نفس الماهية ، كذلك مقوم صفة الشوق نفس الماهية ، غاية الأمر بنحو فناء العنوان في المعنون ، كما حققناه (٣) في مبحث اجتماع الأمر والنهي وغيره.

بل المانع ما ذكرنا غير مرّه أن الحكم متأخر عن موضوعه طبعا ، فلو أخذ في موضوعه لزم تقدم المتأخر بالطبع ، وهو خلف.

نعم التحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق فعلا عدم المانع من هذه الجهة أيضا ، لأن الأمر ليس بوجوده الخارجي داعيا لأن الشوق المحرّك للعضلات

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٤.

(٢) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٦٧.

(٣) نهاية الدراية ٢ : التعليقة ١٦٨.

١٠٥

لا بد من أن يكون علّة واقعة في أفق النفس وليس إلا الأمر بوجوده العلمي ، فالأمر بوجوده الخارجي موقوف على موضوعه ، ومتأخر عنه وبوجوده العلمي مأخوذ في الموضوع المتقدم عليه ، ووجوده العلمي غير متقوّم بوجوده الخارجي ، بل بماهيّته الشخصيّة ، كما (١) شرحناه في مبحث أخذ القطع بشخص الحكم في موضوعه ، فراجع وتدبر.

وأما شبهة لزوم الخلف من وجه آخر وهو أن فرض نفس اتيان الشيء بداعي أمره وبعنوان أنه واجب فرض عدم تعلق الأمر بالمجموع من الشيء وقصد الامتثال وقصد الوجه وفرض تعلق الأمر بالمجموع فرض عدم تعلقه بذات الشيء وهو المراد بأنه يلزم من أخذه في المتعلق عدم أخذه فيه وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

فهي مدفوعة بما أشرنا إليه في مبحث أخذ القطع بشخص الحكم في موضوع نفسه (٢) من أن المأمور به ليس هو المأتي به بداعي أمره بما هو كذلك حتى يلزم منه الخلف ، بل الصلاة مثلا نوع له أصناف وطبيعي له حصص ، فالصلاة المأتي بها بداع الأمر حصة وصنف ، والصلاة المأتي بها بغيره من الدواعي حصة وصنف آخر ، فيمكن تعلق الأمر بذات تلك الحصة وذلك الصنف الملازم لذلك الداعي الخاص ، فلم يلزم من الأمر بذات هذه الحصة عدم الأمر بها.

ومنه يعلم أيضا أن المقيد بما هو ليس مأمورا به حتى لا يكون لذات المقيد أمر ، وليس قصد القربة وقصد الوجه مأخوذا في عرض الصلاة حتى يلزم دعوة الأمر إلى جعل نفسه داعيا ليلزم علّية الشيء لعلّية نفسه ، بل قصد القربة والوجه غير مأخوذ في المتعلق بأي وجه كان مع قصر الأمر على ما لا ينفك عنهما ، فتدبر.

__________________

(١) التعليقة ٢٧.

(٢) التعليقة ٢٧.

١٠٦

٤٧ ـ قوله « قده » : ولا يكون إخلال حينئذ ... الخ (١).

قد صرح (٢) « قدس سره » في مبحث الأقل والأكثر من مباحث البراءة والاشتغال بإمكان قصد الوجه غاية وتوصيفا إجمالا تارة وتفصيلا أخرى : فإن كان الجزء الزائد زيادة لم يؤخذ عدمها في المركب فقصد الوجه إجمالا معقول ولا إخلال إلا بالتميز.

وإن كان الجزء الزائد جزء مستحييا ومن أجزاء الفرد كانت طبيعة الواجب منطبقة على الأكثر بتمامه وكماله لصدق الطبيعة على الفرد بمشخصاته ، فيقصد باتيان الأكثر اتيان الواجب بما هو مفصلا لا الواجب المردّد بين الأقل والأكثر.

أقول : أما قصد الوجه بنحو الغاية الداعية ، فلا ريب فيه ، لإمكان دعوة الأمر النفسي بما هو وجوب نفسي إلى اتيان متعلقه الذي هو إما تمام الأكثر أو في ضمنه.

وأما قصد الوجه توصيفا ، فليس معناه إتيان الموصوف بأنه واجب خارجا بإتيان الأكثر كما هو صريح كلامه « قدس سره » حيث قال « رحمه الله » وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية وتوصيفا بإتيان الأكثر بمكان من الإمكان إلى آخره (٣) لما مر مرارا أن (٤) الوجوب لا يعرض المأتي به حتّى يوصف بعنوان الواجب ليؤتى به مقترنا بوجهه ، بل معروض صفة الوجوب هي الطبيعة الفانية في مطابقها قبل وجودها في الخارج ، وأما بعده فيسقط الوجوب فكيف يعرضه.

بل المراد من قصد الوجه بنحو التوصيف أنه يتمكن من قصد الصلاة الواجبة بما هي واجبة ، فيأتي بمطابقها في الخارج بإتيان الأكثر.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٤.

(٢) كفاية الأصول / ٣٦٥.

(٣) كفاية الأصول / ٣٦٥.

(٤) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٦٧. نهاية الدراية ٢ : التعليقة ١٦٨. وفي التعليقة المتقدمة.

١٠٧

وأما قصد الوجه في الأكثر تفصيلا إذا كان الزائد جزء الفرد نظرا إلى صدق الطبيعة على الفرد بمشخصاته ، فقد بينا في محله أن مشخص الطبيعة في الصلاة وغيرها على حد سواء ، والمشخص الاعتباري لا معنى له.

إلا أن فضيلة الطبيعة وكمالها لا يعد أمرا في قبالها ، فيكون كالمشخص الحقيقي الذي لا يزيد على وجود الطبيعة.

وعليه فنقول : إن صدق الطبيعة على الفرد بمشخصاته مع وضوح أن زيدا انسان بنفسه وبدنه لا بكمّه وكيفه ووضعه وأشباهها بملاحظة أن صحة حمل الانسان على زيد بما هو زيد ليس إلا بلحاظ الاتحاد في الوجود الساري من الشخص إلى الطبيعة النوعية ، فإنه مجرى فيض الوجود بمعنى أن هويّة زيد الممتازة بنفسها عن هويّة عمرو حيث إن الوجود عين التعيّن والتّشخّص مطابق الانسان من حيث تفرّد حصة من الطبيعة النوعيّة في مرتبة ذات هذه الهويّة.

فالوجود الواحد وجود هذه الحصة بالذات ووجود طبيعي الانسان بالعرض وإلا فكمّه وكيفه ووضعه فرد طبيعي الكم والكيف والوضع ولا يعقل أن يكون فرديّة فرد لطبيعة مناطا لفرديّة شيء آخر لطبيعة أخرى.

فصدق الطبيعي على الفرد بمشخصه الحقيقي وهو الوجود الذي هو التعين والتشخص صحيح ، وصدقه على الفرد بلوازمه من كمّه وكيفه ووضعه غير صحيح.

والعناية المصححة في الأول اتحاد الطبيعي وحصته في الوجود وهذه العناية مخصوصة بما كان كذلك من الاتحاد في الوجود الساري ، لا في مثل الصلاة وأجزائها المستحبة المكملة لها المغاير لها وجودا ، فتدبر جيّدا.

بل لو قلنا باتحاد الأعراض وموضوعاتها في الوجود كما هو المحقق عند جملة من أهل التحقيق ، فصدق الطبيعي على الفرد بعوارضه صحيح أيضا.

إلا أن الأجزاء المستحبة ليست كالأعراض بالنسبة إلى المركب

١٠٨

الاعتباري من الأجزاء الواجبة ليكون لها اتحاد في الوجود الساري ، فتأمل جيّدا.

٤٨ ـ قوله « قده » : ضعيف فى الغاية وسخيف إلى النهاية ... الخ (١).

وجه الضعف أن من يقول باعتبار قصد الوجه إنما يعني الوجه النفسي دون الغيري أو العرضي ، إذ منشؤه أن الأعراض القائمة بموضوعات الأحكام واقعا عناوين لها في نظر العقل ، حيث لا يذعن العقل بحسن شيء إلا بما له من الوجه الحسن المنطبق عليه بلحاظ قيام الجهة المحسنة به قيام العرض بموضوعه.

وهذا الفعل بماله من الوجه العقلي موضوع للحكم الشرعي واقعا لتنزّه ساحة الشارع عن الأغراض النفسانيّة والاقتراحات الغير العقلائيّة.

ومع معلوميّة الوجه العقلي يجب إتيان الفعل بذلك الوجه حتى يصدر عنه بما هو فعل حسن بالاختيار.

ومع عدم معلوميّته يجب إتيانه بالوجه الشرعي المحاذى للوجه العقلي حتى يصدر الحسن بما هو حسن عن هذا الوجه بالاختيار.

ومن الواضح أن الوجه الشرعي المحاذي للوجه العقلي ليس إلاّ الوجوب النفسي دون الغيري والعرضي أو الجزئيّة المنتزعة عن كل واحد بلحاظ الوجوب النفسي المتعلق بالكل.

وربما يتوهم أن جزء العبادة عبادة ولا فرق بين عبادة وعبادة في نظر من يرى وجوب قصد الوجه في العبادة.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٤.

١٠٩

ولا يخفى فساده : أما أولا فلما ذكرنا في مسألة النهي عن العبادة أن جزء العبادة من حيث الجزئية للعبادة ليس بعبادة بأيّ معنى كان ، لأن العبادة إمّا يراد بها العبادة الذاتيّة أي ما هو حسن بنفسه وبذاته ، أو يراد بها ما لا يسقط أمره إلا إذا أتى به بداعي أمره ، ولا يجب أن يكون جزء العبادة معنونا بعنوان حسن ، بل اللازم تعنون الواجب النفسي الشرعي بالعنوان الحسن العقلي ، والجزء مقوّم المعنون بالعنوان الحسن لا أنه معنون به ، وإلا لكانت الأجزاء واجبات نفسيّة.

كما أن الأمر النفسي الواحد حيث تعلق بالمجموع فالمجموع بحيث لو لم يأت به بداعي أمره لم يسقط أمره ، لا كل واحد من الأجزاء ، وفساد العبادة مع عدم إتيان بعض أجزائها بداع الأمر النفسي ليس من حيث نفس ذلك الجزء ، بل من حيث عدم إتيان المجموع الذي هو متعلق الأمر النفسي بداع الأمر.

وأما ثانيا فلأنا فرضنا أن الجزء عبادة بالمعنى الثاني ، إلا أن قصد الوجه ليس من حيث كونه عبادة بأي معنى كان ، بل من حيث لزوم قصد العنوان الحسن العقلي بقصد ما يحاذيه من العنوان الشرعي ، وليس ذلك إلا المركب المعنون بالعنوان الحسن العقلي الذي تعلق به وجوب نفسي واحد.

نعم إن كان احتمال اعتبار قصد الوجه لا لذلك الوجه بل لمجرد دخله في الغرض فمقتضى الأصل لزومه حتى في الجزء سواء كان جزء العبادة عبادة أم لا.

١١٠

في تكرار العبادة وما يتعلق به من النقض والإبرام

٤٩ ـ قوله « قده » : إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى ... الخ (١).

وذلك إذا فعل استهزاء وسخريّة بأمر المولى ، فلا يصدر العمل عن داع الهي بل داع شيطاني.

بخلاف ما إذا كان داعيه أمر المولى وكان اللعب والعبث في نحو امتثال أمر المولى وكيفية إطاعته ، فإن الفعل على أيّ حال ينشأ عن داع الهي.

وتحقيق المقام أن المانع ، إمّا عدم صدور العمل عن داع الهي بل عن غيره ، أو التشريك في الداعي بحيث لا يكون الأمر مستقلا في الدعوة ، أو تعنون الفعل بنفسه بعنوان اللعب ، أو تعنون الفعل المأتي بداعي الأمر بعنوان اللعب والكل مفقود :

أما الأول ، فلأن المفروض أن المحرك لفعل كل من المحتملات هو الأمر المحتمل تعلقه به.

وأما الثاني ، فلأن المفروض عدم محرك إلى ذات كل واحد من المحتملات سوى الأمر المحتمل ، فلا تشريك في الداعي ، وإلا فلو فرض التشريك لم يكن فرق بين الداعي العقلائي وغيره في المفسديّة وعدم صدور العمل عن داع الهي مستقل في الدعوة.

وأما الثالث ، فلأن المفروض أن ذات العمل صلاة واتصافها باللعب والعبث باعتبار صدورها عن داع نفساني شهواني ومع فرض صدورها عن داع الأمر المستقل في الدعوة لا معنى لتعنون ذات الصلاة باللعب والعبث.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٤.

١١١

وأما الرابع ، فبان اتصاف المأتي به بداع الأمر بوصف اللعب والعبث بأن يكون الداعي إلى جعل الأمر داعيا غرضا نفسانيا غير عقلائي ، والمفروض أن داعيه إلى امتثال أمر المولى ما هو الداعي في غيره من توقع الثواب أو تحصيل مرضات المولى أو غيرهما.

وتوهم أن اتصاف مثله بعنوان اللعب غير ضائر ؛ لفرض صدور العمل عن داع الأمر وهو حسن بذاته.

مدفوع بأن المأتي به بداع الأمر أو بقصد التعظيم إنما يكون حسنا بذاته ، بمعنى أنه لو خلى ونفسه يندرج تحت عنوان الانقياد للمولى وعنوان الاحسان إليه ، لا أن حسنه كحسن العدل والاحسان ذاتي لا يتخلّف عنه.

بل التعظيم في مورد يعرف به المولى فيقتل اساءة اليه ولو مع حفظ عنوانه ، كانحفاظ عنوان الصدق في المهلك للمؤمن ، مع أن الصدق حسن بذاته بذلك المعنى فلو فرض اتصاف المأتي به بداع الأمر بعنوان اللعب من حيث كون داعي الداعي غرضا شهوانيا نفسانيا لا يصدر ممدوحا عليه بل مذموما عليه.

ومن جميع ما ذكرنا يتضح أيضا أن الداعي إلى تحصيل اليقين باطاعة الأمر أيضا هو الداعي في غير هذا المورد وهو اسقاط العقاب في وجدان العقل مثلا.

بل لو كان هناك لعب ولغو لكان في كيفية تحصيل اليقين باطاعة الأمر. وهو أجنبي عن اتصاف الاطاعة بعنوان اللعب ، بل هو عنوان تحصيل اليقين ، لا عنوان الفعل المتولد منه اليقين باطاعة الأمر.

توضيحه أن لتحصيل اليقين باطاعة الأمر طريقان :

أحدهما معرفة الواجب واتيان الواجب بعينه فيحصل له اليقين باطاعة الأمر واسقاطه.

١١٢

ثانيهما اتيان محتملات الواجب الواقعي ، فإنه يوجب حصول اليقين باطاعة الأمر الواقعي وسقوطه.

فاختيار الطريق الثاني على الأول لأحد أمور ثلاثة : فتارة يختاره لداع محبوب وهو الاشتغال بالانقياد المحبوب عقلا في مدة مديدة.

وأخرى يختاره لداع عقلائي وهو فيما إذا كان تحصيل معرفة الواجب أكثر مئونة من اتيان المحتملات فسهولة الطريق تدعوه إلى اختياره.

وثالثة لا لذا ولا لذاك بل لمجرد غرض نفساني ، فتحصيل اليقين من أصله وإن كان كما في سائر الموارد إلا أن تحصيل اليقين من هذا الطريق الخاص لغرض نفساني ، فيصدق اللعب على تحصيل اليقين من هذا الوجه ، لا على نفس الفعل الذي هو سبب لحصول اليقين بالاطاعة.

ومنه تعرف أنه كما لا لعب ولا عبث في الأمر كذلك في كيفيّة إطاعته ، وإنما اللعب في تحصيل اليقين حيث لا مرجح عقلائي لتحصيل اليقين من هذا الوجه ، الخاص ، فتدبره جيدا فإنه دقيق جدّا.

وربما يقال (١) : بلزوم تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي لا من حيث اعتبار قصد الوجه ، بل من أجل عدم استقلال العقل بحسن الامتثال الإجمالي ، إلا مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي ، نظرا إلى أنه يجب الانبعاث عن شخص أمر المولى وإرادته مع امكانه ، وأن الانبعاث فيما نحن فيه انبعاث عن احتمال البعث ومرتبة الأثر متأخرة عن مرتبة العين ، وأنه مع الشك في ذلك لا مجال ، إلا للاشتغال لا البراءة ، وإن قلنا بها في مثل قصد الوجه ، إذ الشك هنا في كيفية الاطاعة الموكولة إلى حكم العقل ، لا فيما يمكن اعتباره شرعا ولو بأمر آخر ، فليس هنا مجعول شرعي مجهول حتى يحكم برفعه.

__________________

(١) القائل هو المحقق النائيني قدس سره أجود التقريرات : ج ٢ / ٤٤.

١١٣

وفيه : أما أولا فبأن عنوان الانقياد المنطبق على كل فعل من المحتملين من العناوين الحسنة بالذات أي لو خلى وطبعه كالصدق الحسن بهذا المعنى ، ومن المعلوم أن ما كان حسنا بذاته يكون حسنا بالفعل ، إلا إذا انطبق عليه عنوان قبيح كانطباق عنوان المهلك للمؤمن على الصدق.

ومن الواضح أن مجرد التمكن من الامتثال التفصيلي لا يوجب تعنون الامتثال الاجمالي بعنوان قبيح ، ولا عدم التمكن مقوم حسنه ، فلا معنى لعدم استقلال العقل بحسنه.

وأما ثانيا فبأن الداعي الموجب لانقداح الارادة هو البعث بوجوده في أفق النفس ، لاستحالة دعوة البعث بوجوده الخارجي.

فصورة البعث الحاضر في النفس سواء كانت مقرونة بالتصديق العلمي أو بالتصديق الظني أو بالتصديق الاحتمالي هي الداعية بالذات ومطابقه في الخارج داع بالعرض.

فإن كانت الصورة مطابقة لما في الخارج كان الانبعاث عن شخص الأمر بالعرض.

وإن لم يكن مطابقة كان الانبعاث عن مجرد الصورة.

والأول اطاعة حقيقية والثاني انقياد محض ، فالاتيان بالمحتملين متضمن للانبعاث عن شخص البعث قطعا.

وأما ثالثا ، فلأن الانبعاث التفصيلي إما أن يحتمل دخله في الغرض أم لا ، فان احتمل دخله كان حاله حال قصد القربة والوجه من حيث امكان اعتباره شرعا ، بأمر آخر ، فيكون مرفوعا عند الجهل ، وإن لم يحتمل دخله فيه نقطع بسقوط الغرض بمجرد الموافقة الاجمالية ، فيقطع بسقوط الأمر ، فلا موجب للاشتغال.

١١٤

المقدمة الثانية : في الأمارات الغير العلمية

٥٠ ـ قوله « قده » : بيان ما قيل باعتباره من الأمارات ... الخ (١).

لكن هذا العنوان لا يعم مباحث الظن بما هو ظن كما هو الموضوع للمسألة حقيقة.

وتوهم أن جعل الظن عنوانا لهذا المقصد كي يعم الجميع غير صحيح ، لظهور الظن في الفعلي ، مع أن المبحوث عنه في غير مباحث الظن الانسدادي ظنون نوعية.

مدفوع بأن معنى ظهور الظن في الفعلي ظهوره في معنى ثبوتي والمعنى الثبوتي مطابقه حيثية ذاته حيثية طرد العدم وهو لا ينافي كون الأسباب مفيدة له ، بطبعها وبنوعها لو لا الموانع ، فالشخصية والنوعية من أوصاف أسبابه لا من أوصافه ، وظهوره في ماله مطابق فعلي لا يكون إلا بالقرينة كما لا يخفى.

نعم الحجية والاعتبار في الأمارات وصف لها بحال نفسها ، فلو جعل الظن عنوانا لهذا المقصد كان الوصف بحال متعلقه أعني سببه ، فتدبر جيّدا.

ومما ذكرنا تبين أنه لا جامع بين الأمارات والظن بما هو ، فلا بد جعل (٢) الأمارات بابا ، وجعل الظن بما هو بابا آخر.

وليعلم أيضا أن ما ذكره « قدس سره » هنا عنوانا لموضوع هذا المقصد لا ينطبق عليه شيء من التقسيمين اللذين ذكرهما في أول القطع (٣) ، إذ بناء على تقسيمه الأول ينبغي البحث عن لواحق القطع بالحكم الظاهري الفعلي ولو بالبحث عن سببه وأنه يتولد من الأمارة شرعا أم لا ، وبناء على تقسيمه الثاني

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٥.

(٢) هكذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف ، لكن الصحيح : فلا بد من جعل ...

(٣) كفاية الأصول / ٢٥٧.

١١٥

فالموضوع هناك هو الطريق المعتبر ، فالبحث عن اعتباره هنا بحث عن ثبوته ، لا عن ثبوت شيء له ، ولذا قلنا (١) هناك إن اللازم جعل الطريق الناقص موضوعا حتى يصح البحث عن اعتباره شرعا هنا ، فراجع.

٥١ ـ قوله « قده » : لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية ليس كالقطع ... الخ (٢).

قد عرفت في أوائل (٣) مبحث القطع معنى حجّية القطع بنحو العلّية.

ومجمله أن انكشاف التكليف الفعلي حقيقة له دخل بنحو الشرطيّة في استحقاق العقاب المترتب على مخالفة التكليف المعلوم المنطبق عليه عنوان هتك حرمة المولى وغيره من العناوين القبيحة بالذات أي الموجبة لاستحقاق الذم والعقاب.

فدخل القطع في استحقاق العقوبة بنحو الشرطيّة جعليّ عقلائي ، بداهة أن استحقاق الذم والعقاب عقلا ليس مما اقتضاه البرهان ، بل هو داخل في القضايا المشهورة الميزانية التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع.

بل التعبير بالشرطيّة أيضا مسامحة ، فإن حقيقة الشرطيّة هي الدخالة في فعليّة التأثير ، فالشرط إما مصحّح لفاعليّة الفاعل أو متمّم لقابليّة القابل ، وحيث لا تأثير ولا تأثّر ، فلا معنى لحقيقة الشرطيّة.

نعم ، العلم من علل قوام الموضوع المحكوم بالتقبيح العقلائي ، فإن الموضوع مؤتلف من المخالفة والتكليف والعلم وفعلية وصفه (٤) بفعلية الموصوف.

__________________

(١) التعليقة ٥.

(٢) كفاية الأصول / ٢٧٥.

(٣) التعليقة ٧.

(٤) والصحيح وصف.

١١٦

لا يقال : حيث إن المترتب عليه الغاية الداعية إلى التقبيح العقلائي هي المخالفة للتكليف المعلوم ، فللعلم دخل في تحقق العلة الغائية ، فصح أن ينسب العليّة إلى العلم ، لكونه علّة للعلّة الغائية.

لأنّا نقول : للعلم دخل في تحقق نفس الغاية المترتبة على المخالفة ، والغاية علة بوجودها العلمي ، لا بوجودها العيني المتأخر عن ذيها ، هذا بالنسبة إلى الموضوع للحكم العقلائي.

وأما فعليّة الذم والعقاب ، فعن حكمة داعية اليهما لا أنهما مترشحان من مقام ذات المخالفة الخاصة.

مع أن الكلام في الحكم بالاستحقاق لا في فعليّة الذم والعقاب.

ومنه تعرف أن حجية القطع ليست حكما آخر من العقلاء في خصوص القطع ، بل الظلم قبيح عند العقلاء ، ولا ينطبق إلا على مخالفة التكليف المنكشف تمام الانكشاف ، وحيث إن القطع حقيقته (١) نوريّة محضة يتحقق به موضوع الحكم العقلي (٢) قهرا ، فينطبق عليه حكمه.

وحيث إن الظن ليس حقيقته (٣) نوريّة محضة فلذا لا يتحقق به موضوع الحكم الفعلي بنفسه إلا بعناية زائدة من الشرع أو العقل.

وبما ذكرنا يظهر ما في عبارات المتن من أنحاء المسامحات كما لا يخفى.

٥٢ ـ قوله « قده » : ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر ... الخ (٤).

ظاهره وجود القول بسقوط الواقع بالظن بسقوطه وحجّية هذا الظن والظاهر أن مراده « قدس سره » ما أفاده المحقق الخوانساري « قدس سره » في باب الاستصحاب ، حيث قال : إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معينة مثلا

__________________

(١) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، والصحيح : حقيقة.

(٢) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خطه قده ، والصحيح : الفعلي.

(٣) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، والصحيح : حقيقة.

(٤) كفاية الأصول / ٢٧٥.

١١٧

فعند الشك في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج من العهدة ، وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال إلى آخره (١)

فإن ظاهره كفاية الظن بسقوط الواقع بعد العلم بثبوته. وإلا لقال لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل القطع بالخروج عن العهدة والله العالم.

٥٣ ـ قوله « قده » : في بيان امكان التعبد بالأمارة ... الخ (٢).

ظاهره كما يدل عليه تتمة العبارة أن الامكان المبحوث عنه هنا هو الامكان الوقوعي ، أي ما لا يلزم من فرض وقوعه ولا وقوعه محال في قبال الامكان الذاتي أي ما كان بالنظر إلى نفس ذاته لا اقتضاء بالنسبة إلى الوجود والعدم ، أي ما ليس بذاته ضروري الوجود ولا ضروري العدم.

ويقابلهما الوجوب والامتناع الذاتيّان والوقوعيّان فرب ممكن بالذات واجب الوقوع كالمعلول الأول للعلة الأولى الواجبة بالذات ، فان وجوبه (٣) الذاتي من حيث العلّية يقتضي ضرورة وجود معلوله دون ساير المعاليل لسائر العلل ، فانها واجبة بالغير لا أنها واجبة الوقوع حيث يلزم من فرض لا وقوعها محال.

ومنه علم أن الوجوب بالغير والامتناع بالغير غير الوجوب الوقوعي والامتناع الوقوعي ، وربّ ممكن بالذات ممتنع الوقوع كصدور معلولين من العلة الأولى البسيطة بذاتها ، فانهما في حد ذاتهما ممكنان ، إلا أن لازم وقوعهما تركب العلة الأولى من خصوصيتين ذاتيّتين والمفروض بساطتها في ذاتها.

وعن بعض اجلة العصر (٤) أن المراد عن (٥) المحذور العقلي الذي فرض

__________________

(١) مشارق الشموس / ٧٦.

(٢) كفاية الأصول / ٢٧٥.

(٣) والصحيح : وجوبها ومعلولها.

(٤) درر الفوائد / ٣٤٩.

(٥) في المصدر من المحذور.

١١٨

عدم لزومه في الامكان الوقوعي إنما هي الموانع العقليّة لا عدم المقتضي ، لأنه لو كان المراد أعم من المقتضي وعدم المانع لكان العلم بالامكان في شيء مساوقا للعلم بوجوده.

أقول : هذا خلط بين الامتناع الوقوعي والوجوب الوقوعي والامتناع بالغير والوجوب بالغير وعدم العلة التامة سواء كان بعدم المقتضي أو بوجود المانع يوجب امتناع المعلول امتناعا بالغير ، كما أن وجوب وجود المعلول بوجود علّته التامة وجوب بالغير.

نعم إذا فرض امتناع المقتضي أو وجوب المانع كان امتناع المعلول امتناعا وقوعيّا.

ومنه تعرف أنه مع فرض وجود العلّة التامة يجب وجود المعلول ، كما أنه مع عدمها يمتنع وجوبا وامتناعا بالغير ، وليس في قبال الوجوب بالغير والامتناع بالغير امكان بالغير كما يتصور في قبال الوقوعيين منهما امكان وقوعي ، إذ ما كان امكانه بالغير فهو في حد ذاته واجب أو ممتنع ، ويستحيل انقلابه عما هو عليه بذاته بسبب الغير.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أن المعروف أن الامكان المتنازع فيه هنا هو الامكان الوقوعي نظرا إلى أنه لا يتوهم أحد من العقلاء أن التعبد بالظن بذاته يأبى عن الوجود كاجتماع النقيضين.

إلا أنه ليس بذلك الوضوح ، فإن التعبد بالظن إذا كان معناه جعل الحكم المماثل ، فجعل المثل في مورد وجود المثل أو الضد واقعا عين الجمع بين المثلين أو الضدين في موضوع واحد ، لا أنه يلزم من ايجاد المثل في مورد الابتلاء بالمثل جمع بين المثلين غير ايجاد المثل في موضوع مبتلى بمثله.

نعم إن كان التعبد بالظن معنى لازمه جعل حكم مماثل لا عينه ، فحينئذ لازمه الجمع بين المثلين كما سيجيء في تحقيق حقيقة دليل التعبد.

١١٩

٥٤ ـ قوله « قده » : وليس الامكان بهذا المعنى بل مطلقا ... الخ (١).

الاطلاق بلحاظ الامكان الذاتي.

وتحقيق القول في المقام أن الشيء : تارة يطلب فيه الجزم به كما في أصول العقائد والمعارف اليقينيّة ، بناء على اعتبار اليقين فيها دون مجرد عقد القلب والبناء على ثبوتها ، فمثله لا يعقل الجزم بثبوته إلا مع الجزم بامكانه ، فلا يجامع احتمال الاستحالة.

وأخرى يطلب منه الجري على وفقه والعمل على طبقه دون الجزم بتحققه كالحكم العملي ، ومنه التعبد بالظن ، فانه لا يعتبر فيه الجزم بثبوته لئلا يجامع احتمال استحالته ، فمثله يكفي فيه مجرد وجود الحجة على ثبوته.

فالدليل المتكفل لحجية الخبر مثلا سواء كان ظاهر الكتاب أو الأخبار المتواترة معنى أو سيرة العقلاء مع عدم ردع الشارع عنها يكون حجة على حجية الخبر من دون منافاة لاحتمال الاستحالة ، إذ الحجة لا يزاحمها إلا الحجة ، واحتمال الاستحالة ليس بحجة.

فاتضح أن مستند الكفاية ليست القاعدة الموروثة عن الشيخ الرئيس حتى يقال : إن الغرض مجرد عدم الانكار دون الاعتقاد.

كما أنه اتضح أن وجه الكفاية ليس حكما جديدا من العقلاء في الحكم بالامكان ما لم يقم في الوجدان على استحالته برهان كما هو ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري (٢) « قدس سره » وبعض أجلة المعاصرين (٣) رحمه الله ، لما يرد عليه ما أفاده المصنف قدس سره في المتن.

بل الوجه ما مر من كفاية وجود الحجّة على حجّية الخبر مثلا حيث لا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٦.

(٢) فرائد الأصول المحشى ١ : ٤٥.

(٣) وهو المحقق الهمداني قده. تعليقته المطبوعة بانضمام فرائد الأصول : / ١٧.

١٢٠