نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

أم لا.

وهذا أمر واقعي ، ولا دخل له بإدراك القوة العاقلة لكلي الإحسان وكلي الاساءة ، فهو نظير نيل القوة الذوقية للحلو أو المرّ ، وإدراك القوّة العاقلة لكليّ الحلو والمرّ ، فان الأول هو الموجب للانبساط والانقباض مما هو حلو أو مرّ دون الثاني.

وأما إدراك الإحسان الجزئي أو الاساءة الجزئيّة بقوّة الخيال أو الوهم ، فمع كونه أجنبيّا عن القوة العاقلة بما هي قوة عاقلة ليس تأثيره في الانقباض والانبساط من جهة اشتمالها على مصلحة عامة أو مفسدة عامّة.

بل يؤثّر تصور الإحسان إليه إعجابا وانبساطا ، وإن لم يستحق إحسانا ، وكذا تصوّر الضرب والشتم يؤثّر في انقباضه وتألّمه ، وإن كان مستحقا لهما ، وتصور ورودهما على الغير وإن كان يؤلمه ، لكنه بسبب الرقة وشبهها ، لا من جهة كونه ذا مفسدة عامة.

ومنه يظهر أن حمل كلامه « قدس سره » على مطلق الادراك لتصحيح التأثير في الالتذاذ والتألّم لا يجدي شيئا ، ولا يوجب كون الاستعجاب والاستغراب بالملاك الذي هو محل الكلام.

ثانيهما ما أفاده « قدس سره » من أن الملاءمة والمنافرة للعقل توجبان بالضرورة صحة المدح والذم.

وذلك لما عرفت من أن دعوى الضرورة لا تصح إلا بالإضافة إلى ما هو خارج عن محل الكلام ، وهو تأثيرهما أحيانا في انقداح الداعي إلى مجازاة الإحسان بجزاء الخير ، ومجازاة الاساءة بجزاء الشر كما مر تفصيله.

وأما دعوى الضرورة بالنسبة إلى حكم العقلاء بصحة المدح والذم ، فهي صحيحة ، لكنها تؤكّد ما ذكرناه ، من أنه لا واقعيّة لهما إلا بتوافق آراء العقلاء عليهما.

٣٤١

وحيث عرفت حقيقة التحسين والتقبيح العقليين.

فاعلم أن المراد بكونهما ذاتيّين أو عرضيين ليس كونهما ذاتيين بالمعنى المذكور في باب الكليات الخمس ولا كونهما ذاتيّين بالمعنى المسطور في كتاب البرهان كما بيّنا وجهها في مبحث التجري مفصلا (١).

بل بمعنى عدم الحاجة إلى الواسطة في العروض ، والحاجة إليها ، فمثل العدل والإحسان والظلم والعدوان بنفسهما لا من حيث اندراجهما تحت عنوان آخر محكومان بالحسن والقبح ، بخلاف الصدق والكذب فانهما مع حفظ عنوانهما يوصفان بخلافهما.

نعم كونهما ذاتيّين لهما بمعنى آخر ، وهو أنهما لو خلّيا وطبعهما يوصفان بهما ، لاندراج الصدق تحت العدل في القول واندراج الكذب تحت الجور في القول ، دون غيرهما مما لا يتصف بشيء لو خلى ونفسه ، فراجع مبحث التجري.

وهذا بناء على كون الحسن والقبح من قبيل الحكم بالإضافة إلى موضوعه واضح ، فكيف يعقل أن يكون الحكم المجعول منتزعا عن مرتبة ذات موضوعه.

وأما بناء على أنهما من الأمور الواقعيّة ، فهما من قبيل العرض الغير المفارق والعرض المفارق والعرض مطلقا لا يكون ذاتيّا لموضوعه كما هو واضح.

كما أنا ذكرنا غير مرة أن المراد من العليّة والاقتضاء هو اقتضاء الموضوع لحكمه بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية ، لا بنحو اقتضاء السبب لمسبّبه.

بداهة أن الحكم لا يترشح من موضوعه ، بل السبب الفاعلي له هو الحاكم ، وإنما الموضوع لمكان الفائدة المترتّبة على وجوده يدعو الحاكم إلى الحكم عليه : فبعض الموضوعات حيث إنه يترتب عليها بنفسها مصلحة عامة أو مفسدة

__________________

(١) التعليقة ١٠.

٣٤٢

عامة تدعو العقلاء إلى الحكم بحسنها أو قبحها ، ولا محالة لا تتخلف الحكم عن موضوعه التام ، فيعبر عنه بالعليّة التامة.

وبعضها حيث إنه يترتب عليها المصلحة العامة أو المفسدة العامة لو خليت ونفسها لاندراجها كذلك تحت عنوان محكوم بنفسه بالحسن والقبح ، فيعبّر عنه بالاقتضاء ، لمكان اندراجه بلحاظ العوارض تحت عنوان آخر محكوم بضد حكم عنوانه لو خلى ونفسه ، وإلا ففي الحقيقة لا عليّة ولا اقتضاء.

وحيث إن المصلحة العامة قائمة بالعدل والمفسدة العامة قائمة بالظلم ، فالصدق بما هو عدل ذو مصلحة عامة ، والكذب بما هو جور ذو مفسدة عامة ، لا أن الصدق مقتض للمصلحة ، واندراجه تحت عنوان العدل شرط لتأثيره فيها ، وأن إهلاك المؤمن مانع عن تأثيره في المصلحة العامة ، وليست المعنونات بالإضافة إلى عناوينها مقتضيات بالنسبة إلى مقتضياتها ، حيث لا جعل ولا تأثير ولا تأثّر بينها.

فاتضح أنه لا عليّة ولا اقتضاء حقيقة في شيء من المراتب ، لا من حيث العناوين ومعنوناتها ، ولا من حيث المصالح والمفاسد العامة بالنسبة إلى الصدق والكذب ، ولا من حيث العناوين الذاتيّة والعرضيّة بالإضافة إلى الحسن والقبح العقليّين ، فتدبّر جيّدا.

وبعد ما عرفت حقيقة التحسين والتقبيح العقليّين ومعنى كونهما ذاتيّين أو عرضيّين ، فلا بأس بالإشارة إلى الملازمة بين حكمي العقل والشرع وبيان المورد القابل للحكم المولوي وعدمه.

فنقول : الكلام في الملازمة : تارة في أن ما حكم به العقل هل يمكن أن يحكم الشارع على خلافه أم لا ، وعلى الثاني هل يحكم على طبقه مولويّا أو لا.

وأخرى في أن ما حكم به الشارع هل يحكم العقل على وفقه أو لا حكم له.

٣٤٣

أما الأول ، فحيث عرفت أن التحسين والتقبيح العقليّين مما توافقت عليه آراء العقلاء للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة ، فلا محالة لا يعقل الحكم على خلافه من الشارع ، إذ المفروض أنه مما لا يختص به عاقل دون عاقل ، وأنه بادي رأي الجميع لعموم مصلحته ، والشارع من العقلاء ، بل رئيس العقلاء ، فهو بما هو عاقل كسائر العقلاء ، وإلا لزم الخلف من كونه بادي رأي الجميع ، فالعدل بما هو عدل حسن عند جميع العقلاء ومنهم الشارع ، والظلم بما هو ظلم قبيح عندهم ومنهم الشارع.

نعم تفاوت الأنظار في كون الفعل الكذائي عدلا أو ظلما أمر معقول لا يوجب انتفاض هذه الكلية ، ففي موضوعي العدل والظلم لا يعقل الحكم من الشارع بما هو شارع على خلافه ، لتنزّه ساحته عن الاقتراحات الغير العقلائيّة ، فلا يعقل مع انحفاظ حيثية العاقليّة أن لا يكون حاكما بما يحكم به العقلاء.

وأولى بذلك ما إذا قيل بثبوت استحقاق المدح والذم في الواقع ونفس الأمر ، فان ثبوت شيء في نفس الأمر متساوي النسبة إلى العقلاء وإلى الشارع ، ففرض استحقاق الذم والمدح واقعا وعدم ثبوته عند الشارع متنافيان.

وأما ما عن المحقق الحكيم السبزواري (١) « رحمه الله » من أن كل ما هو ممدوح أو مذموم في نفس الأمر ، فهو ممدوح أو مذموم عند الله ، وإلا لزم جهله بما في نفس الأمر.

فهو إنما يتوجه إذا كان المراد من ثبوتهما عند الشارع كثبوتهما عقلا بنحو الثبوت العلمي ، فانه الذي يلزم من عدمه جهله تعالى بما في نفس الأمر.

وأما إذا كان الغرض من هذا النزاع استحقاق الثواب والعقاب من الشارع بعد حكم العقل باستحقاقهما واقعا فاللازم الفاسد من عدمه هو

__________________

(١) شرح الأسماء ص ١٠٧.

٣٤٤

الخلف ، لأن الاستحقاق المزبور متساوي النسبة إلى الشارع وإلى سائر العقلاء.

هذا كله في عدم معقولية الحكم من الشارع على خلاف ما تطابقت عليه آراء العقلاء ومنهم الشارع.

وأما إمكان الحكم المولوي على طبقه ، فقد مر مرارا أن التكليف المولوي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، وقد مر أيضا أن التكليف لا يمكن أن يكون داعيا على أيّ تقدير ، ولكل مكلف عموما ، إلا بلحاظ ما يترتب على موافقته من الثواب وعلى مخالفته من العقاب.

وحيث إن المفروض أن العدل يوجب استحقاق المدح والظلم يوجب استحقاق الذم عند العقلاء ومنهم الشارع ، فهو كاف في الدعوة من قبل الشارع بما هو عاقل ، ولا مجال لجعل الداعي بعد ثبوت الداعي من قبله ، فان اختلاف حيثيّة العاقليّة وحيثيّة الشارعيّة لا يرفع محذور ثبوت داعيين متماثلين مستقلين في الدعوة بالإضافة إلى فعل واحد ، لأن الواحد لا يعقل صدوره عن علّتين مستقلّتين في الدعوة ، وإن لم يلزم هنا اشكال تعدّد البعث من حيث اجتماع المثلين ، لعدم البعث الجعلي في الأحكام العقلائية.

مع أنا ذكرنا في (١) محله أن منشأ الاستحالة أيضا هناك ما ذكرناه هنا ، لعدم التماثل والتضاد في الأحكام التكليفيّة لوجه تفردنا به في محله ، فراجع.

نعم إذا قلنا : بأن ما تطابقت عليه آراء العقلاء نفس استحقاق المدح والذم دون استحقاق الثواب والعقاب أمكن أن يقال : بأنه لا يدعو على أي تقدير ولكلّ مكلف لإمكان عدم المبالاة بالمدح والذم فلا بد من البعث والزجر المترتب عليهما الثواب والعقاب فحينئذ للمولوية مجال.

إلا أن المدح والذم الذين يترتّب عليهما حفظ النظام عند العقلاء ما يعم

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ٦٢.

٣٤٥

الثواب والعقاب أعنى المجازات بالخير والمجازات بالشر.

ولذا جزم غير واحد من أرباب النزاع في المسألة بأن مدح الشارح ثوابه وذمّه عقابه.

مع وضوح أن ترتب الثواب والعقاب عند الجمهور من الأصوليين بل المتكلمين على موافقة البعث والزجر ومخالفتهما بحكم العقلاء لا بنصب الشارع.

وليس الوجه فيه إلا أن موافقة التكليف الواصل عدل في العبودية فيستحق المدح والثواب ومخالفته خروج عن زىّ الرّقيّة فيكون ظلما على المولى فيستحق الذم والعقاب وإلا فلا حكم آخر من العقل في باب الثواب والعقاب بالخصوص.

فيعلم منه أن استحقاق المدح عندهم يعم الثواب واستحقاق الذم عندهم يعم العقاب.

فان قلت : غاية ما ذكرت من المحذور المانع عن التكليف المولوي لزوم ثبوت داعيين مستقلّين ، مع أنه متحقق فيما إذا كان للمكلف داع من قبل نفسه إلى ما يوافق التكليف ، أو إلى ما ينافيه ، والحال أنه لا شبهة في صحة التكليف التوصلي إلى من كان له داع في نفسه إلى ما يوافق التكليف ، كما لا شبهة في صحة التكليف إلى العاصي الذي له الداعي إلى خلاف التكليف.

قلت : ليس المراد من جعل الداعي جعل ما يدعوا بالفعل حتى يستحيل اجتماع داعيين فعليّين لعدم معقوليّة انبعاث واحد عن باعثين فعليّين ، بل المراد جعل الداعي بالإمكان ، أي جعل ما يكون داعيا بحيث لو انقاد العبد ، ومكّن المولى من نفسه خرج البعث الإمكاني من حد الإمكان إلى الوجوب ، فيتحقق الانبعاث الفعلي وهذا المعنى محفوظ مع وجود الداعي من تلقاء المكلف إلى ما يوافق التكليف ، أو إلى ما ينافيه.

٣٤٦

بخلاف ما إذا كان الداعي من قبل المولى موجودا سواء كان بما هو مولى وسيدا أو بما هو عاقل ومرشد ، فانه مع وجود الداعي من قبله يستحيل جعل داع آخر ، فانه يستحيل مع انقياده لمولاه أن يؤثّر البعث مع وجود الدّاعي من قبل مولاه ولو منه بما هو عاقل.

ولا يعقل التفكيك بين انقياده لمولاه بما هو مولى وبما هو عاقل حتى يبقى مجال لتأثير البعث مولوي وإلا لأمكن أن يتصور في جعل بعثين حقيقيّين بإمكان انقياده لأحدهما بخصوصه دون الآخر.

مع أن عدم انقياده لبعث خاص لا يصحّح بعثا آخر ، لأن ملاك صحّة البعث إمكان الداعي بإمكان الانقياد ، وهو محفوظ مع عدم فعليّة الانقياد.

وحينئذ لا يعقل جعل داع بالإمكان بعد وجود داع آخر من قبله بالإمكان حيث لا يمكن خروجهما من الإمكان إلى الفعليّة الحقيقيّة ، لاستحالة انبعاث واحد من باعثين حقيقيين ، فتدبر.

فاتضح من جميع ما ذكرنا أن ما يستقل العقل بحسنه أو قبحه وإن لم يمكن جعل الحكم من الشارع على خلافه ، لكنه لا يعقل أن يحكم مولويّا على وفاقه أيضا ، بل يحكم بحسنه أو قبحه على حد سائر العقلاء.

وهذا فيما كان كالظلم والعدل بذاتهما محكوما بالحسن والقبح واضح.

وأما فيما كان كالصدق والكذب حسنا أو قبيحا بالعرض ، فالحكم المولوي بالإضافة إلى الصدق والكذب بذاتهما أي لو خلّيا وطبعهما أو بعنوان معلوم الحسن والقبح عند العقلاء فكذلك ، لأن الصدق والكذب من حيث نفسهما عدل في القول وجور في القول.

وقد عرفت حال العدل والجور.

وكذا الصدق المعنون بعنوان اهلاك المؤمن ظلم عليه ، والكذب المنجي له إحسان إليه ، فحالهما حال العدل والظلم.

٣٤٧

نعم إذا كان الصدق في مورد معنونا بما فيه غرض مولوي للشارع يدعوه إلى تحريمه ، أو الكذب معنونا بعنوان فيه غرض مولوي للشارع يدعوه إلى تجويزه ، فحيث إنه بذلك العنوان غير معلوم للمكلف بما هو عاقل أمكن للشارع التكليف المولوي على خلاف الحكم العقلي الطبعي لعدم المنافاة بين الحكم الطبعي والحكم العقلي ، كما لا مانع من المولوية لانه بسبب العنوان الطاري الواقعي لم يتحقق داع من قبل العقل حتى لا يبقى مجال لمولوية الشارع.

بقي هنا أمران : أحدهما : أن القضايا المشهورة المتمحضة في الشهرة على أقسام :

منها : ما فيه مصلحة عامة كالعدل حسن والجور قبيح وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحيّة.

ومنها : ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة ، كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء ، وهو خلق فاضل.

ومنها : ما ينبعث عن رقّة أو حميّة أو أنفة أو غير ذلك.

واستلزام الحسن والقبح عقلا للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم فيما كان منشئه المصالح العمومية واضح لأن الشارع يرى المصالح العموميّة.

وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأن المفروض أنها ملكات فاضلة ، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها.

وأما ما ينبعث عن انفعالات طبعيّة من رقّة أو حميّة أو أنفة أو غير ذلك ، فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.

ولذا ترى إن الشارع ربما يحكم لحكمة ومصلحة خاصّة بما لا يلائم الرقّة ، البشريّة كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي ، وكالحكم بجلد شارب الخمر بمقدار لا يوجب السكر فعلا ، أو الحكم بقتل الكافر وسبي ذراريه وأشباه ذلك.

٣٤٨

ثانيهما أن ما ذكرناه إلى هنا إنما هو لعدم استتباع حكم العقل حكم العقل العملي للحكم الشرعي المولي.

وأما استتباع حكم العقل النظري للحكم الشرعي المولوي فمجمل القول فيه أن مصالح الأحكام الشرعيّة المولويّة التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ، ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العموميّة المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع.

وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها.

نعم إن اتّفق إدراك مصلحة خاصّة لبعض الأحكام بحيث كانت في نظر العقل تامة الاقتضاء ، فهل يحكم العقل بحكم الشارع على طبقها أم لا.

والتحقيق أن المصلحة وإن كانت تامة الاقتضاء ، إلاّ أن الغرض من الواجب غير الغرض من الإيجاب ، فربما يكون الواجب تام الاقتضاء بحيث لا يتوقف ترتب الغرض منه عليه على أمر آخر ، إلاّ أن الإيجاب فيه مفسدة ، فلا يكاد يصدر من الحكيم ، والإيجاب إنما يتحقّق بتحقّق علّته التامّة من المقتضى الموجود في الواجب الباعث على إيجابه من عدم المانع من إيجابه.

فمجرّد إحراز المقتضى لا يكفى في إحراز مقتضاه فعلا ، بل اقتضاء أي بنحو ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه ، وهو المعبّر عنه بالحكم الاقتضائي في لسان شيخنا العلامة الأستاد « قدس سره ».

لا يقال : هذا في البعث الفعلي بنحو القضيّة الخارجيّة وأما في البعث الكلي القضيّة الحقيقيّة ، فليس في تلك المرحلة مفسدة تتصور في جعل الحكم على موضوعه.

لأنا نقول : حيث إن جعل الحكم الكلي أيضا بداعي جعل الداعي بحيث يكون فعليّا بوصوله وبفعليّة موضوعه ، فلا محالة إذا كان فعليّة البعث مستتبعة للمفسدة لا يعقل الإنشاء بهذا الداعي إلا متقيدا بما لا يستتبع مفسدة عند فعليّته ، فتدبر.

وأما إن اتّفق إحراز المصلحة وإحراز عدم المفسدة المانعة من البعث ،

٣٤٩

فربما يتوهّم الحكم بثبوت البعث والزجر المولويّين نظرا إلى أن إحراز العلة التامة يستلزم إحراز المعلول.

إلاّ أنه بناء على ما قدمناه من أن حقيقة البعث والزجر المولويّين هو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، فمع العلم بالمصلحة الغير المزاحمة بشيء يجب عقلا تحصيلها ، فان ترك تحصيل الغرض اللزومي الذي لا مانع من الالتزام به خروج عن زيّ الرقيّة وهو ظلم على المولى ، وليس نتيجة البعث وصلاحيّته للدعوة إلا باعتبار أن مخالفة البعث الواصل خروج عن زيّ الرقية وهو ظلم فجعل الداعي مع تحقق الداعي عقلا لغو.

ولا يلزم منه انفكاك المعلول عن علّته التامة ، إذ كما أن المفسدة المترتبة على البعث مانعة شرعا عن فعليّة البعث كذلك وجود الداعي مانع عقلا عن فعليّته وإن لم يمنع عن جعل الحكم الكلي البالغ درجة الفعليّة عند من لا مانع من فعليّة البعث بالنّسبة إليه.

فان قلت : فعليه يستحيل البعث والزجر دائما لانهما يكشفان عن المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة ، ومع انكشافهما بنحو العلّية التامّة لا يعقل صيرورة الإنشاء الكاشف داعيا.

وتوهم الفرق بأن وصول العلة فرع وصول المعلول ، فما يتوقف ثبوته على ثبوت شيء لا يعقل أن يكون مانعا عن ثبوته.

مدفوع بما حرّرناه في محله من أن العلم بالعلّة ليس علّة للعلم بالمعلول ، ولا العلم بالمعلول علّة للعلم بالعلّة بل بينهما التلازم ، والعلم بالملازمة هو العلة للعلم بأحدهما عند ثبوت الآخر ، فهو من قبيل وجود المانع مقارنا لوجود الممنوع لا مترتبا عليه ليستحيل مانعيّته.

قلت : أولا إن المفروض كون الإنشاء الكاشف بعثا فعليّا ، ولذا كشف عن العلّة التامّة ، ففرض مانعيّة العلّة المنكشفة خلف ، ففرض مانعيّتها فرض

٣٥٠

عدم صلاحيّتها للدعوة ، فيلزم من وجوده عدمه.

وثانيا : إنه ليس المانع حقيقة عن البعث بعد البعث أو جعل بعثين دفعة أو جعل البعث بعد وجود ما يمكن أن يكون داعيا عقلا عدم إمكان تعدّد ما يمكن أن يكون داعيا لأن مجرّد تعدّدهما يمنع عن تحققهما بوصف الدعوة الفعليّة في الخارج امتناعا بالغير والامتناع الغيري لا ينافي الإمكان الذاتي والوقوعي كما لا يخفى على الخبير.

بل المانع هو أنه مع وجود الداعي مولويّا أو عقليّا يستحيل جعل الداعي لحصول الغرض من جعل الداعي وتحصيل الحاصل محال.

وأما إذا لم يكن هناك داع مولوي ولا عقلي ، فلا مانع من جعل الداعي وإن حصل به ما يمكن أن يكون داعيا أيضا وهو الغرض المنكشف بالبعث قهرا لأن إمكانه غير مانع.

لا يقال : فجعل داعيين متماثلين دفعة لا مانع منه.

لأنّا نقول : فرق بين جعل الداعي وتحقق الداعي قهرا ، فان الإنشاء بداعي جعل الداعي يترقّب منه الفعليّة عند انقياد العبد ، وفعليّتهما معا عند انقياده غير معقول.

بخلاف الإنشاء الواحد الملازم لتحقق داع آخر قهرا ، فان الداعي الآخر وإن كان يمكن دعوته لكنه غير مجعول ليترقّب منه الدعوة حتى يكون لغوا أو محالا.

فاتضح الفرق بين صورة إحراز المصلحة الملزمة من طريق البعث وصورة إحرازها من غير طريق الأمر ، فان الثاني يمنع عن جعل الداعي مولويّا دون الأول ، فافهم جيّدا.

هذا تمام الكلام في الشق الأول من شقي الملازمة.

وأما الثاني وهو أن ما حكم به الشارع هل يحكم على طبقه العقل أم لا ،

٣٥١

فمختصر القول فيه أن الحكم الشرعي لا يكشف عن المصلحة والمفسدة إلاّ إجمالا فلا يعقل الحكم من العقل بحسنه أو قبحه تفصيلا.

وأما الحكم بحسنه أو قبحه إجمالا بأن يندرج تحت القضايا المشهورة بقسميها ، فلا دليل عليه لأن المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعيّة المولويّة لا يجب أن يكون من المصالح العموميّة التي ينحفظ بها النظام ويبقى بها النوع.

كما أن الأحكام الشرعيّة غير منبعثة عن انفعالات طبعيّة من رقّة أو حميّة أو أنفة أو غيرها ولا ملاك للحسن والقبح العقليّين إلا أحد الأمرين.

نعم العقل يحكم بأن الأحكام الشرعيّة لم تنبعث إلا عن حكم ومصالح خاصة راجعة إلى المكلفين بها ، فالحكم بالعلّة لمكان إحراز المعلول أمر والحكم بالحسن والقبح العقلائيين أمر آخر.

هذا هو الحق الذي لا محيص عنه بناء على ما عرفت من حقيقة الحسن والقبح العقليّين ، وأن قضيّتهما داخلة في القضايا المشهورة لا القضايا البرهانيّة وأن حقيقتهما بلحاظ توافق الآراء لا واقعية لهما غير ذلك ، فتدبره جيّدا وإن كان خلاف ظاهر كلمات الأصوليين بل غير واحد من أهل المعقول إلا أن المتّبع هو البرهان.

فان قلت : قد اشتهر بين العدليّة أن الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة وأن المندوبات الشرعية ألطاف في المندوبات العقليّة ، فيعلم منه أن موارد التكاليف الشرعيّة واجبات عقليّة أو مندوبات عقليّة ، ولا نعنى بالملازمة إلا ذلك.

قلت : وجوبها العقلي واقعا ليس إلاّ بمعنى حكم العقل بوجوبه على تقدير إحراز ما فيه من المصلحة الملزمة.

وعليه فالحكم بوجوب تحصيلها : تارة من حيث اشتمال الفعل على

٣٥٢

المصلحة الموافقة لغرض المولى سواء كانت راجعة إلى المولى أو إلى العبد. وأخرى من حيث اشتماله على نفس المصلحة من دون نظر إلى الموافقة للغرض المولوي.

فان أريد الأول فهو أجنبي عما نحن فيه ، فان وجوب تحصيلها بملاحظة أن ترك المصلحة الموافقة للغرض اللزومي المولوي خروج عن زيّ الرّقيّة كنفس مخالفة التكليف المولوي فهو بعنوان الظلم قبيح عقلا لا من حيث كونه ذا مصلحة ملزمة أو ذا مفسدة كذلك ويناسب اللّطف بمعنى القرب إلى الطاعة فان البعث حينئذ مقرّب إلى موافقة الغرض المولوي.

وإن أريد الثاني فقد عرفت أن المصالح الواقعيّة وإن صحت علّيّتها للأحكام المولوية لكنها لا تجب أن تكون من المصالح العموميّة الباعثة على تطابق آراء العقلاء على مدح فاعلها وذم تاركها.

نعم هنا وجوب عقلي بمعنى آخر غير التحسين والتقبيح العقلائيّين ، فان بعض الأعمال حيث إنه يؤثّر في كمال النفس وصقالة جوهرها لتجلي المعارف الإلهية التي هي غاية الغايات من خلق الخلق فلا محالة لا يرى العقل بدّا منه فالمراد باللزوم العقلي ليس هو البعث ولا التحسين والتقبيح العقلائيّين ، بل الضّرورة العقليّة واللاّبديّة الفعليّة ، وهذا أيضا أجنبي عما نحن فيه.

ولعلّه إليه يرجع ما أفاده (١) السيد العلامة الداماد « قدس سره » في شرح هذه القضيّة المعروفة من أن الواجبات السمعيّة الطاف في الواجبات العقليّة بملاحظة أن الأعمال البدنية والمناسك الجسديّة توجب استعداد النفس لاشراق المعارف الربوبيّة والعلوم الحقيقيّة التي هي واجبات عقليّة ، فالواجبات السمعيّة تقرّب النفس إلى الواجبات العقليّة وأن المندوبات السمعيّة تقرّبها إلى المندوبات

__________________

(١) لم نجده فيما عندنا من كتبه ورسائله.

٣٥٣

العقليّة مستشهدا في ذلك بقوله تعالى في الحديث القدسي : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.

هذا ما يقتضيه النظر القاصر في استتباع الحكم الشرعي للحكم العقلي إثباتا ونفيا.

وأما ما قيل (١) : في نفي الاستلزام من أنه مبنيّ على تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها وهي غير مسلّمة بل يكفي في حسنها كونها بنفسها ذوات مصالح ، فلا كاشفيّة لها عن مصالح في متعلقاتها لتكون واجبات عقلية مستشهدا لذلك بالأوامر الامتحانية ، حيث إنه لا مصلحة في متعلّقاتها بل ربما يكون ذوات مفسدة ، وبأوامر التّقيّة حيث إنه لا مصلحة فيما يوافق المخالفين : وبالأوامر التعبّدية حيث إن المصلحة مترتبة على إتيان متعلقاتها بداعي الأمر ، فلا مصلحة في ذوات المتعلقات.

فالجواب عنه أما عن أصل المبني فبأن حقيقة الحكم هو الإنشاء المنبعث عن إرادة حتميّة أو غير حتميّة بداع البعث والتحريك مثلا فانه الذي يدور عليه الإطاعة والعصيان الموجب لاستحقاق الثواب والعقاب دون الإنشاء بداع آخر كالتعجيز والتسخير والإرشاد وأشباه ذلك.

فنقول : أما الإرادة التشريعيّة وهو الشوق الأكيد المتعلق بفعل الغير الموجب لجعل الداعي نحوه حيث إن فعل الغير تحت اختياره ولا يمكن تحصيله منه لا بجعل الداعي المنبعث عنه الشوق المحرك للعضلات نحو الفعل ، فلا يعقل تعلّقها بما لا يرجع منه فائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوّة من قواه ، فان طبيعة الشوق سنخ طبيعة لا تتعلّق إلا بما يلائم المشتاق ، وليس الشوق من

__________________

(١) القائل هو صاحب الفصول قده / ٣٣٨ الى ٣٤٠.

٣٥٤

الأفعال ذوات المصالح حتى يمكن إيجاده لمصلحة في نفسه.

فتعلّق الارادة بفعل من دون جهة موجبة لها ترجّح بلا مرجّح لا ترجيح بلا مرجّح ، والمفروض انه لا جهة مرجّحة للارادة فيه تعالى شأنه إلاّ الحكمة والمصلحة.

وأمّا الإنشاء بداعي البعث والتحريك فحيث إنه من الأفعال ذوات المصالح والمفاسد فيمكن أن يوجد لمصلحة في نفسه ، ودخل الفعل الخاص المقوّم له في مصلحته غير كون الفعل ذا مصلحة باعثة على الإنشاء بداع البعث فلا يجري فيه البرهان الجاري في الإرادة.

لكنه أيضا لا يعقل انبعاثه عن مصلحة في نفسه من دون مصلحة في الفعل المبعوث إليه لوجه آخر ، وهو أن الغرض الباعث على الإنشاء ربما يكون مقصودا بالذّات وبالأصالة بحيث لا يكون له ما وراء هذا الغرض الحاصل بالإنشاء غرض آخر كالانشاء بداعي الإرشاد فانه بنفس الإنشاء المزبور يحصل إظهار الرشد والخير العائد إلى المخاطب من دون أن يكون هناك حالة منتظرة ، وكالانشاء بداعي التعجيز فانه بإنشائه الخاص يظهر عجزه من متعلقه ، وكالإنشاء بداعي التسخير فانه يسخره بنفس إنشائه.

بخلاف الإنشاء بداعي جعل الداعي فان إمكان الدعوة وإن كان غرضا قائما بالإنشاء المزبور ، إلا أنه سنخ غرض تبعى يراد منه التسبيب إلى إيجاد فعل الآخر.

ومع عدم الغرض في فعل الغير يستحيل التسبيب إلى إيجاده وتحصيله منه ، فالبعث الحقيقي والتّحريك الجدي إلى فعل لا يعقل إلا بلحاظ ما في الفعل من الغرض الموجب لقيام المولى مقام إيجاده التسبيبي.

وبهذا يظهر تبعيّة الأحكام الشرعية للاغراض المولويّة المنحصرة في المصالح والمفاسد القائمة بمتعلّقاتها ، وإن قلنا بخلوّ التكاليف الشرعيّة عن

٣٥٥

الإرادة التشريعيّة كما بيناه مفصلا في مبحث الطلب (١) والإرادة وأشرنا إليه في مسألة (٢) جعل الطريق.

وأما الجواب عن الأمثلة المستشهد بها في المقام ، فنقول : أما عن الأمر الامتحاني ، فتحقيق القول في الامتحان والاختبار منه تعالى مع عدم جهله بشيء هو أنّه ليس المراد من ظهور انقياد العبد لأوامره تعالى وهو الغرض من الأمر الامتحاني هو الظهور العلمي في مقام ذاته المساوق للعلم في مرتبة الذات ، بل الظّهور المساوق للفعليّة والتحقق المساوي للعلم الفعلي ، وهو العلم حال الإيجاد ، فان وجود كل شيء في نظام الوجود من مراتب علمه الفعلي فان وجود كل شيء بلحاظ ارتباطه بالعرض بالمبدإ الأعلى هو نحو حضوره له تعالى فكل موجود علم ومعلوم باعتبارين ، ومثل هذا العلم الفعلي الذي هو عين الحضور والربط والوجود مسبوق بالعدم ويساوق التحقق والثّبوت ويتّصف بالسبق واللحوق الزمانيّين كما أسمعناك في مبحث (٣) المشتق ، فيمكن أن يكون حصوله غرضا من الأمر.

وظهور الانقياد والتمكين خارجا لا يمكن أن يؤمر به بعنوانه لوجهين : أحدهما عدم حصول الغرض من الأمر الامتحاني ، لأنه إذا التفت إلى أن الفعل غير مطلوب منه جدا ، وأن الغرض استعلام حاله ولو بالاشتغال بالمقدمات لم يكن إيجاد المقدمات مهمّا عنده ، فلم يحصل الغرض من كونه جدّا منقادا لإيجاد الفعل الذي يمتحن به لمكان صعوبته عليه.

وثانيهما أن الانقياد للأمر لا يعقل إلا مع إحراز الأمر في نظره ، فاذا قطع

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥١.

(٢) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٥٥.

(٣) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٠٦.

٣٥٦

بأنه لا غرض له في إيجاد الفعل وأنه لا أمر بذات الفعل حقيقة لا معنى لانقياده له ، فلا محالة لا يعقل الأمر الامتحاني إلا بالنسبة إلى الإنشاء الظاهر في نفسه في البعث الحقيقي إلى الفعل ، فبمثل هذا الإنشاء يمتحن عبده ويختبره.

فهذا الإنشاء الخاص وإن لم يكن كالإنشاء بداع الإرشاد من حيث حصول الغرض بنفس الإنشاء ، بل الغرض لا يحصل إلاّ بقيام العبد مقام امتثال ما اعتقده بعثا.

لكنه ليس كالبعث الحقيقي بحيث يكون الغرض منه حصول ما تعلّق البعث به ، بل الغرض قيامه مقام الامتثال وفعليّة ما فيه بالقوّة من الانقياد والتمكين للمولى ولو بفعل بعض المقدمات القريبة.

فبالإضافة إلى ذات الفعل الذي لا غرض فيه لا بعث حقيقي أيضا ، لفرض كون الأمر واقعا للامتحان لا للتّحريك الجدي. وبالإضافة إلى ما فيه الغرض وهو قيام العبد مقام الانقياد للمولى وفعليّة ما فيه بالقوّة من السعادة والشقاوة لا بأس بالأمر به حيث لم يلزم منه عدم تبعية الحكم لمصلحة في متعلقه.

لكنه لا بعث بالنسبة إليه واقعا أيضا لوجهين : أحدهما أنه بعد ظهور الإنشاء في البعث الحقيقي كفى به داعيا في نظر المكلف فيحكم العقل بلزوم الامتثال فيحصل به الغرض المولوي وهو قيامه مقام الامتثال ومع حصول الغرض من البعث في نظر المكلف لا موجب للبعث الواقعي نحو تحصيل الانقياد.

وثانيهما : أن الإنشاء بداعي جعل الداعي واقعا إلى الانقياد بعنوانه غير معقول ، فان انقداح الداعي إلى المجهول عنوانه المبعوث إليه محال فجعل الداعي محال ، وقد عرفت أن ايصال البعث نحو الانقياد بعنوانه يلزم منه المحذوران المزبوران فراجع.

وأما عن الأمر الصادر على نحو التقيّة ، فنقول : إن التقيّة تارة في الأمر ،

٣٥٧

وأخرى في الفعل المأمور به.

وبعبارة أخرى تارة يكون الأمر من باب التقيّة ، وأخرى يكون الأمر بالتقيّة.

فعلى الأول لا أمر حقيقة بذات الوضوء الخاص مثلا ، بل إمّا أمر حقيقة بغيره بنحو التورية ، أولا أمر حقيقة بشيء أصلا ، بل يقصد مجرد التلفظ أو مع معناه الإنشائي المفهومي بداعي حفظ نفسه المقدسة عن شر المخالف.

وعلى الثاني فالأمر حقيقي منبعث عن مصلحة في الفعل لا بذاته ، بل من حيث إنه ينحفظ به نفس المكلف أو عرضه أو ماله فلم يلزم عدم تبعيّة الأمر الحقيقي للمصلحة في متعلقه في شيء من الفرضين.

وأما عن الأوامر التعبّديّة ، فتحقيق القول فيها أن ذوات الأفعال التعبّديّة لها مصالح خاصّة قائمة بنفسها من باب قيام المقتضى بالمقتضي ، وأن الشرائط ومنها قصد القربة إمّا من مصحّحات فاعليّة الفاعل أو من متمّمات قابليّة ، القابل ، فهي ليست دخيلة في مرحلة الاقتضاء ومن علل قوام المقتضي ، وإلا لكان جزء لا شرطا بل ، دخيلة في فعليّة المقتضى من المقتضي.

والشوق إلى الفعل باعتبار ما يترشّح منه من الفائدة القائمة به ، فكذا البعث المنبعث من الشوق المزبور ، وينبعث من الشوق إلى ما فيه الغرض شوق تبعي إلى ما له دخل في فعليّة الغرض ، وكذا ينبعث بعث مقدّمي من البعث الأصيل إلى ما له دخل في فعليّة المبعوث إليه بماله من الفائدة المترقبة منه ، فتوقّف فعليّة المصلحة على قصد القربة لا يوجب عدم تعلق الأمر بما فيه المصلحة ، وعدم انبعاثه عن مصلحة في متعلّقه.

وأما ما أجاب به شيخنا العلامة رفع الله مقامه في فوائده (١) من أن الأمر

__________________

(١) الملحقة بالتّعليقة على فرائد الأصول / ٣٤٤.

٣٥٨

في التعبّديّات قد تعلق بالراجحات بأنفسها فلم يتعلّق الأمر بغير ما هو حسن عقلا.

فلا يخلو عن شيء أمّا أولا : فلأن كل التّعبّديّات ليست راجحات بذاتها عقلا وإن كان بعضها من العبادات الذاتيّة التي لو لم يؤمر بها لأمكن إتيانها عبادة كالصلاة المركّبة من أجزاء كلها راجحات عقلا.

وأما ثانيا : فلأن الأمر بالصلاة لم ينبعث عن رجحانها الذاتي بل عن المصلحة المترتّبة عليها ، فالركوع مثلا وإن كان تعظيما للمولى وهو حسن لأنه عدل في العبوديّة وإحسان إلى المولى ، إلا أنه لم يؤمر به من حيث كونه إحسانا إلى المولى ، بل من حيث كونه استكمالا للعبد وموجبا للانتهاء عن المنكر والفحشاء مثلا ، والمفروض ترتب هذه المصلحة على الركوع المأتي به بداع الأمر مثلا ، فمجرّد حسن الركوع ذاتا لا دخل له بتبعيّة الأمر به لمصلحة فيه.

وأما ثالثا ، فلأن الراجح بالذات لو لم يقصد بعنوانه لم يقع حسنا ولا راجحا فالركوع إذا لم يؤت به بعنوان التعظيم مثلا لا يقع حسنا ، وإتيانه بداعي أمره لا يوجب وقوعه تعظيما فان قصد عنوانه الواقعي لا يوجب وقوعه معنونا بعنوانه.

ولذا لو أمر بركوع مردّد بين كونه مقصودا به التعظيم أو السخرية لا يقع الركوع تعظيما ولا سخريّة إذا أتى به بداعي أمره على ما هو عليه واقعا ، مع أنه لا شبهة في ترتب الأثر عليه إذا أتى به بداعي الأمر.

فيعلم منه أن الركوع المأمور به ليس من حيث عنوانه التعظيمي مأمورا به ، كما علم أن قصد عنوان التعظيم من طريق الأمر إجمالا غير معقول ، فليس اعتبار قصد الأمر للتّوصل إلى تحقق ذلك العنوان الحسن.

فالصحيح في دفع الاشكال ما ذكرناه ، وبقيّة الكلام تطلب من غير المقام.

ولقد خرجنا بهذا المقدار عن وضع التّعليقة إلا أن المسألة لمّا كانت مهمّة

٣٥٩

معضلة ولم يتعرض لها أستادنا العلامة « رفع الله مقامه » في هذا الكتاب أحببنا التكلم فيها بأدنى مناسبة.

١٤٦ ـ قوله « قده » : وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال ... الخ (١).

حاصله أن نصب الشارع للظن : تارة بملاك حكم العقل بحجّيته ، فهذا هو الذي يكون بلا موجب لحصوله بحكم العقل.

وأخرى بملاك آخر ، فهذا لا مانع منه لعدم حصول موجبه بحكم العقل ، بل لا يعقل مانعيّة حكم العقل عنه لأنه مبنى على عدم نصب الشارع له ، فمع نصبه له لملاك آخر غير مقدّمات الانسداد لا يعقل تماميّة مقدّمات الانسداد الموجبة لاستقلال العقل.

ولا يخفى عليك أن هذا البيان صحيح على تقدير إرادة المنجّزية والمعذّريّة من الحجّية.

وأما إذا أريد جعل الإطاعة الظنّية بدلا عن الإطاعة العلميّة فلا ، إذ الإطاعة بحكم العقل دائما ولا مجال لتصرف الشارع فيها بوجه كما مرّ (٢) مفصّلا.

وقد مر سابقا (٣) أن الكشف عن الحجّية بالمعنى الأول هو الصحيح ولا استقلال للعقل بالحجّية بالمعنى الأول والكشف بالمعنى الثاني في نفسه غير صحيح حيث إن أمر الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب بحكم العقل العملي كما مر وجهه ، فالحجّية بهذا المعنى شرعا غير صحيحة لا بملاك حكم العقل ولا بغيره.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢١.

(٢) في التعليقة ١٤٤.

(٣) في التعليقة ١٤٤.

٣٦٠