نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

والكراهة بناء على أصالة الوجود وبقاء حقيقة الأعراض كالسواد والبياض عند الحركة والاشتداد ، فذات الارادة ، المقطوع بها إذا حدث فيها مصلحة موجبة لإرادتها تأكدت الإرادة ، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الخلف.

١٣ ـ قوله « مد ظله » : قلت : العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ... الخ (١).

قد عرفت أن الفعل المتجري به معنون بعنوان هتك الحرمة وقد صدر عن اختيار بواسطة إحراز الحكم ولو كان مخالفا للواقع فراجع ، وإلا قصد العصيان ليس معنونا بأحد العناوين القبيحة بالذات كالظلم ، لما عرفت أن العزم على الظلم ليس بظلم ، لعدم كونه ذا مفسدة مخلّة بالنظام حتى يكون موردا لتطابق الآراء على قبحه.

ولا يخفى عليك أن الكلام هنا في ما يوجب استحقاق الذم والعقاب عند العقلاء من دون فرق بين أوامر الشارع والموالي ، وليس الكلام في ما يقتضي إجراء العقاب ، كي يورد عليه باستحالة التشفي في حقه تعالى ، وسيجيء ما ينفعك إن شاء الله في دفعه.

١٤ ـ قوله « مد ظله » : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادي الاختيار ... الخ (٢).

قد عرفت ما يغنيك عن ذلك لعدم ترتب العقاب على القصد ، بل على الهتك الاختياري.

نعم إشكال انتهاء كل فعل اختياري إلى ما لا بالاختيار بل انتهاء كل ذلك إلى الإرادة الأزليّة والمشيّة الالهيّة أمر آخر لا اختصاص له بالمقام. وقد

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٠.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٠.

٤١

أشبعنا الكلام فيه في مبحث الطلب والإرادة (١).

١٥ ـ قوله « مد ظله » : مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ... الخ (٢).

إذ الإرادة لا توجد عن إرادة متعلّقة بنفسها.

لكن ليس ذلك مناط الإراديّة والاختياريّة ، بل الموجود يتصف بالاختياريّة ، إما بواسطة تعلّق القصد به ، أو بما يتوقف عليه.

والإرادة من قبيل الثاني ، فإن المقدمات المؤدّية إلى إرادة الفعل إنّما تكون علّة تامّة لها إذا لم يحدث مانع عنها.

والتأمّل فيما يترتب على متابعة الهوى ومخالفة المولى مانع اختياري عن تأدية المقدمات إلى إرادة الفعل ، وعدمه أيضا اختياري موجب لاختياريّة إرادة الفعل.

ومثل المقام يكفي فيه سبق الإرادة بالإرادة ، ولا يجب عدم انتهائها إلى ما لا بالاختيار ، إذ المفروض أن استحقاق العقاب مترتب على قصد الحرام وإرادة الطغيان على المولى بفعل ما أحرز أنه مبغوض له ، وهذه الخصوصيّة لا توجد في الإرادة السّابقة ، كي تكون مثل اللاّحقة في إيجاب العقاب ، فيجري فيها ما جرى في لاحقها.

مع أن الكلام في التّسوية بين المعصية الحقيقيّة والتجرّي ، فكما كان يكفي في الاختياريّة مجرّد صدور الفعل عن إرادة ، كذلك يكفي فيها حدوث الإرادة عن إرادة وإن لم يوجب كون كل إرادة عن إرادة.

لكنه قد أشرنا (٣) سابقا إلى أن مجرد إمكان حدوث القصد عن قصد لا

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥٢.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٠.

(٣) التعليقة ١٠.

٤٢

يجدي في المقام ، إذ الكلام في موارد التجرّي بفعل ما اعتقد حرمته عن قصد وإن لم يكن القصد عن مقدمات قصديّة فما أفاده في استحقاق العقاب على القصد لا يفيد إلاّ في موارد مخصوصة.

نعم إذا كان الإشكال في اختياريّة القصد من حيث عدم كونه مقدورا لترتّبه على مباديه الغير الاختياريّة قهرا ، فالجواب عنه بالتّمكن من التّأمل إلى آخر ما أفاده وجيه.

إلاّ أنّ الاختياريّة لا تتوقّف على مجرّد القدرة ، بل الشعور والقصد أيضا ، فتدبر.

مع أن إشكال التسلسل يناسب عدم الاختياريّة من حيث القصد لا من حيث القدرة.

١٦ ـ قوله « مد ظله » : انّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده عن سيده ... الخ (١).

قد أشرنا آنفا إلى أن الكلام : تارة في ما يوجب استحقاق الذم والعقاب عند العقلاء.

وأخرى فيما يقتضي إجراء العقاب ممن خولف أمره ونهيه وأحد الأمرين لا دخل له بالآخر.

والكلام هنا في مرحلة الاستحقاق عقلا كما هو مقتضي تحرير البحث منه دام ظلّه ، وموضوعه كما عرفت بالبرهان ليس إلا الهتك الاختياري المنطبق على فعل ما أحرز أنه مبغوض المولى.

وانتهائه إلى الإرادة الأزليّة غير ضائر إذ انتهاء سلسلة الاختيار إليه تعالى كما يصحّح عند العقلاء الذم والعقاب لمولى عرفي بالنّسبة إلى عبده كذلك

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦١.

٤٣

له تعالى بالإضافة إلى عبيده وإلاّ لما صحت المؤاخذة للموالي العرفيّة بالإضافة إلى مماليكهم كما هو واضح.

وأما فعليّة التعذيب وإجراء العقاب من ربّ الأرباب مع استحالة التّشفّي منه تعالى ، فقد تعرضنا لها في حواشينا على الطلب والإرادة بما لا مزيد عليه فلا حاجة إلى الإعادة (١).

فما أفاده « دامت إفاداته » في المقام من أن العقوبة من تبعة التجرّي ولو كان غير اختياري : إن أراد ما هو الجواب في باب إجراء العقاب من أنه من تبعات الأقوال ولوازم الأعمال كما يساعده البرهان وظواهر القرآن ، فهو وإن كان أحد الأجوبة الصحيحة ، إلاّ أن الكلام هنا في استحقاق العقاب عقلا وهو مشترك بين الواجب وسائر الموالي العرفيّة ، فلا معنى لتعليل الاستحقاق بذلك.

وإن أراد « مد ظلّه » أن الاستحقاق يترتب على ما ينتهي إلى الذات والذّاتيّات وإن كان بلا اختيار كيف وينتهي بالأخرة إلى ما لا بالاختيار؟

ففيه أن الاستحقاق العقلي لا بد من أن يترتب على أمر اختياري ، وإن انتهى بالأخرة إلى ما لا بالاختيار ، فيترتب على الفعل الإرادي دون نفس الإرادة.

مع أن الانتهاء إلى الذات والذاتيّات وانقطاع السؤال يناسب ترتب نفس العقاب لا استحقاقه العقلائي.

مع أن إشكال استحالة التشفي منه تعالى وعدم داع في نشأة الآخرة لإجراء العقاب لا ربط له بالانتهاء إلى ما لا بالاختيار ، بل لو لم يكن في العالم فعل غير اختياري لجرى الإشكال ، بل الإشكال من حيث الاختياريّة يناسب الاستحقاق عقلا.

وأما وجه فعليّة العقاب في الآخرة وسرّ إفاضة الوجود على المواد القابلة ،

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥٤.

٤٤

فهو استعداد النفوس بملكاتها الرذيلة الحاصلة من الأعمال المتكررة للصورة التي يظهر بها في الآخرة ، وإفاضة تلك الصور من واهب الصّور بتوسط ملائكة الرحمة والعذاب عدل منه تعالى وصواب.

وبقيّة الكلام يطلب من حواشينا على الطلب والارادة ، ومن الهوامش التي علقناها عليها ، والله الهادي.

١٧ ـ قوله « مد ظله » : وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ... الخ (١).

إذ عدم المعلول بعدم علته من غير دخل فيه للاختيار والاضطرار بعد فرض كون العلة علة والمعلول معلولا.

١٨ ـ قوله « مد ظله » : بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ... الخ (٢).

قد عرفت وجهه ودفعه ، إذ الحركة اما بقصر القاسر ، أو بالطبع ، أو بالارادة ، وانتفاء الأولين واضح ، فلا محيص عن الأخير ، فراجع (٣).

١٩ ـ قوله « مد ظله » : فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم ... الخ (٤).

المتوهم صاحب الفصول « رحمه الله » وهذه عبارته فان التحقيق أن التجري على المعصية معصية أيضا لكنه إن صادفها تداخلا ، وعدّا معصية واحدة انتهى (٥).

ويمكن توجيه كلامه « زيد في علوّ مقامه » بدعوى أنه لم يظهر منه رحمه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٢.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٢.

(٣) التعليقة ١٠ / ٣٣.

(٤) كفاية الأصول / ٢٦٢.

(٥) الفصول في الأصول ، طبع هاشم / ٨٩.

٤٥

الله سببيّة كل من التّجري والمعصية الواقعيّة للعقاب ليورد عليه بأن المراد من التداخل إن كان وحدة العقاب ، فهو مناف لسببيّة كل منهما وإلا فلا معنى للتداخل ، بل لم لا يكون مراده أن المصحح للعقاب هتك حرمة المولى ، سواء تحقق بالمعصية الواقعيّة أم لا ، فليس في مورد المصادفة ، إلاّ سبب واحد ، ومراده من التداخل هو التداخل بحسب الأثر كما هو ظاهر كلامه ، وظاهر قوله عدّا معصية واحدة أي بحسب الأثر فان شرب الخمر الذي علم به مبغوض للمولى وهتك الحرمة أيضا مبغوض ، لكن هذين المبغوضين في حكم مبغوض واحد من حيث السببية والتأثير في الاستحقاق فتأمل.

في القطع الموضوعي بقسميه

٢٠ ـ قوله « مد ظله » : بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بالغاء جهة كشفه ... الخ (١).

ملخصه أن إحدى الجهتين فيه وإن لم ، تنفك عن الأخرى ، لكن للحاكم لحاظ إحدى الجهتين واعتبارها في حكمه دون الأخرى ، فالتفكيك في مقام الاعتبار لا دخل له بالتفكيك في حقيقته.

قلت : لا ريب أن للقطع جهات عديدة :

منها أنّه عرض ، فلو اعتبر في موضوع الحكم بهذا الاعتبار كان سائر الأعراض حالها حاله.

ومنها أنه من مقولة الكيف ، وحينئذ يشاركه جميع أنواع مقولة الكيف إذا اعتبر في الحكم بهذه الحيثية.

ومنها أنه من نوع الكيف المختص بذوات الأنفس ، فتشاركه سائر

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٣.

٤٦

الكيفيات القائمة بالأنفس.

ومنها أنه كيف نفساني له إضافة إلى طرفه ، إضافة إشراقيّة ، فحينئذ يشاركه الظن والاحتمال ، بل التصور المحض أيضا.

ومنها أنه كاشف وطريق كشفا تصديقيا ، فحينئذ يشاركه خصوص الظن.

ومنها أنه كاشف تام بحيث لا يبقى بينه وبين المطلوب حجاب ، وهذا هو الذي يكون به القطع قطعا ، ولا شبهة في أن القطع المأخوذ من حيث الكاشفيّة والطريقية يراد به هذه المرتبة الأخيرة من الكشف ، دون مطلق الكاشف ، وإلاّ لعم الدليل للظن من دون حاجة إلى التنزيل.

وأما ملاحظة القطع من حيث إنه طريق معتبر ، فيكون موضوعيا على وجه الكاشفية ، ومن حيث كشفه الخاص ، فيكون على وجه الصفتية ، كما عن بعض الأجلة (١) قدس سره.

فمدفوعة بأن الظاهر تقسيم العلم بنفسه ولو بلحاظ حيثياته الذاتية كالأمور المتقدمة ، وهذا تقسيم بلحاظ حكمه وهو اعتباره عقلا.

مع أن لازمه ورود الأمارات على الأصول ومسلك الشيخ قدس سره حكومتها عليها ، فلا يصح حمل كلامه « قدس سره » عليه.

وعليه فلا يبقى لأخذ القطع من حيث خصوصيّة كونه صفة من الصفات القائمة بالشخص معنى معقول إلا أخذه من إحدى الجهات المزبورة ولا يقول به أحد.

وأما حفظ القطع بمرتبته الأخيرة التي بها يكون القطع قطعا ، ومع ذلك لا تلاحظ جهة كشفه التام ، فغير معقول ، لأن حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو هو محال ، كحفظ الإنسان بما هو إنسان مع قطع النظر عن انسانيّته.

__________________

(١) وهو المحقق الحائري درر الفوائد / ٣٣٠.

٤٧

وقد عرفت سابقا أنّ حقيقة القطع عين الانكشاف لا أنه شيء لازمه الانكشاف ، فملاحظة القطع بنفسه مع قطع النظر عن حيثيّة كشفه قطع النظر عن حقيقته. كما أن ملاحظة الانكشاف بنفسه من دون ملاحظة انكشاف الشيء غير معقولة ، لأن حقيقة الانكشاف مقولة لا يعقل إلا متعلّقة بشيء.

ولا ينافي ذلك كون العلم نورا لنفسه ونورا لغيره كما في المتن ، فان معنى كونه نورا لنفسه أنه عين النور فلا يحتاج في حضوره للنفس إلى حضور آخر ، لكن هذا النور عين حضور الغير ، كما لا يخفى ذلك على الخبير.

ومنه يعلم أن إرجاع (١) القطع على وجه الصفتيّة إلى ملاحظته ، من حيث إنه نور لنفسه ، وعلى وجه الكاشفيّة إلى ملاحظته من حيث كونه نورا لغيره لا وجه له ، فان معنى كونه نورا لنفسه أن حقيقته عين النور ، وهذا النور عين ظهور الغير ، إذ حقيقة الانكشاف حقيقة تعلقيّة بذاتها ، نظير قولهم واجب الوجود لذاته أي وجوب الوجود عين ذاته وبهذا الوجه يقال : إن الوجود موجود بنفسه أي نفسه هو الوجود ، وإلا فلو فرض ملاحظة الحضور والوجود الذهني بما هو من دون لحاظ تعلّقه بأمر خاص لزم كفاية كل حضور ووجود ذهني في ترتب الحكم مع أنه ليس كذلك قطعا.

إلا أن يلاحظ نفس الحصّة الملازمة للماهيّة الخاصة لا الحضور بما هو كلي ، فيكون الحكم مقصورا ذاتا على خصوص الحضور والملازم لحاضر خاص وهو الخمر مثلا.

لكنه بعيد جدا عن مساق كلام الشيخ الأعظم قدس سره فان اعتبار القطع من حيث إنه صفة خاصّة قائمة بالشخص كما في عبارته هو اعتبار العلم

__________________

(١) كما عن المصنف ( قده ) في المتن.

٤٨

المتقوم بالمعلوم بالذات ، لا خصوص الوجود الذهني.

مضافا إلى أن اعتبار القطع كذلك كالغاء جهة كشفه أصلا عديم المورد في الشرعيّات ، والأمثلة المذكورة في كلام شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » (١) غير منطبقة عليه ، فإن اعتبار اليقين في الأوّلتين من الرّباعيّة وفي الثلاثيّة والثنائيّة ليس قطعا على القول به إلا من جهة اعتبار حدّ خاص من الكاشف وهو الكاشف التّام الذي لا يبقى معه تزلزل واحتمال الخلاف في نفس المصلي ، وأين هذا من الغاء جهة كشفه عن الغير أو مطلقا.

وكذلك اعتبار العلم بخصوصه في مقام الشهادة ، فإنه من جهة اعتبار أعلى مراتب الكشف ، لا إلغاء جهة كشفه عن الغير أو مطلقا ، وكذلك ما جعله ثمرة في آخر كلامه من نذر التصدق إذا كان ولده حيّا أو تيقّن بحياته ، فإن ظاهره أن اعتبار اليقين بما هو يقين هو الفارق ، لا إلغاء ما به اليقين يقين أو بالغير.

وربما يقال (٢) في الفرق بأن المراد من العلم على وجه الصفتيّة نفس الصورة المتقوّمة بالمعلوم بالذات والمراد من العلم على وجه الكاشفيّة تلك الصفة باعتبار كشفها عن المعلوم بالعرض.

ويندفع بأن ملاحظة تلك الصورة المتقوّمة بالمعلوم بالذات عين ملاحظة كشفها الذاتي ، وأما ما في الخارج ، فهو مكشوف بالعرض باعتبار مطابقتها لما في الخارج.

فملاحظة الكشف الذاتي فقط محقّقة للعلم المأخوذ على وجه يكون تمام

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٤ ـ ٥.

(٢) القائل هو المحقق النائيني ( قده ). فوائد الأصول : ٣ / ١٠.

٤٩

الموضوع ، وملاحظة الكشف العرضي معه محققة للعلم المأخوذ على وجه الجزئيّة للموضوع.

ومنه يندفع أيضا توهم (١) أن العلم المأخوذ على وجه الكاشفيّة لا يتصور فيه التماميّة ويتمحّض في الجزئيّة.

ومنشأ هذه الأوهام تخيّل أن العلم له إضافة إلى ما في الخارج ، فملاحظته بماله من الإضافة مصحّحة لاعتبار كاشفيّته عن الغير ، وعدم ملاحظة إضافته معنى إلغاء جهة كشفه.

مع أن الإضافة المقوليّة إلى ما في الخارج ليست من لوازم العلم لإمكان العلم ولا معلوم في الخارج.

والإضافة الإشراقيّة مقوّمة له ، وطرفها ماهيّة المعلوم في أفق النفس فقط.

بل الأولى أن يقال : إن مراد الشيخ الأجل « قدس سره » من التقسيم أن المأخوذ في القضيّة اللفظيّة تارة طريق محض لبّا ، وأخرى جزء الموضوع حقيقة ، فليس للعلم الموضوعي حقيقة إلا قسم واحد.

ويؤيده ما حكى عن بعض نسخ الكتاب بعد الفراغ عن حكم الشق الأول من القطع الموضوعي ما لفظه ، ويظهر ذلك إمّا بحكم العقل بكون العلم طريقا محضا ، وإمّا بوجود الأدلة الأخر على كون هذا الحكم المنوط بالعلم ظاهرا معلقا على نفس المعلوم كما في غالب الموارد. انتهى.

__________________

(١) كما في كلام المحقق النائيني ( قده ). فوائد الأصول : ٣ / ١١.

٥٠

في البحث عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي

٢١ ـ قوله « مد ظله » : ولحاظهما في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي ... الخ (١).

لا يذهب عليك أن القطع والظن حين تعلقهما بشيء طريق صرف ، وليس الملحوظ في تلك الحال على وجه الأصالة والاستقلال إلاّ ذلك الشيء ، والقطع مثلا نحو حضور المعنى عند النفس وهو معنى لحاظه.

وليس للقطع لحاظ لا آليّا ولا استقلاليّا بل هو عين لحاظ الغير ، فليس كالمرآة حتى يعقل أن ينظر فيها إلى شيء فتكون (٢) منظورة بالتبع ، بل القطع عين لحاظ الذهن ونظره إلى المعلوم.

بل القطع كما لا يكون ملحوظا آليّا كذلك ليس آلة ، لعدم تعقل كون لحاظ الشيء آلة للحاظه ، كما لا يعقل أن يكون آلة لذات الشيء أو لوجوده الخارجي.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن القطع إنما يتصف بالطّريقيّة والمرآتيّة عند تعلّقه حقيقة بالشيء ، وفي غير تلك الحال لا يعقل أن يلاحظ إلا استقلالا ، وليس القطع بما هو من وجوه متعلقه وعناوينه حتى يعقل لحاظه تارة بنحو الفناء في المعنون وذي الوجه ، وأخرى بنفسه بمعنى أن يكون تارة ما به ينظر ، وأخرى ما فيه ينظر.

وكيف يعقل لحاظ صفة القطع على الوجه الذي هو عليه حال تعلقه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٤.

(٢) هكذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده لكن الصحيح أن ينظر فيه إلى شيء فيكون منظورا بالتبع فان مرجع الضمائر هو القطع لا المرآة.

٥١

بشيء حقيقة في مقام تنزيل شيء منزلته ، إذ الآلة لا يعقل أن يكون طرفا؟

نعم : يمكن تقريب الاشكال بوجه آخر ، وهو أن القطع والظن حيث إنهما متقوّمان بذات المقطوع والمظنون ، فثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر.

فالأمر بترتيب الأثر على الظن : يمكن أن يكون على وجه الكناية أمرا بترتيب الأثر على لازمه وهو ذات المظنون.

كما يمكن أن يكون على وجه الأصالة والحقيقة أمرا بترتيب الأثر على نفسه.

ولا يعقل ملاحظة الظن ، قنطرة للانتقال إلى لازمه وهو ذات المظنون وملاحظته لا على هذا الوجه بل على وجه الحقيقة والأصالة ، فلا يعقل أن يكون القضيّة الواحدة كنائيّة وحقيقيّة ، فيكون نظير الجمع بين اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي في الاستحالة.

فان قلت : بعد فرض التلازم بين الظن والمظنون لا حاجة إلى الكناية ، بل تدل القضيّة بالمطابقة على ترتيب الأثر على الظن وتدل بالالتزام على ترتيب الأثر على لازمه وهو ذات المظنون ، كما أخبر جدّا في قوله زيد كثير الرماد عن كثرة رماده بالمطابقة وعن جوده بالالتزام فهناك قضيّتان حقيقيّتان إحداهما بالمطابقة والأخرى بالالتزام.

قلت : حيث إن ثبوت أحد المتلازمين يستلزم ثبوت الآخر ، فلا محالة يكون الدال على ثبوت أحدهما بالمطابقة دالا على ثبوت الآخر بالالتزام ، سواء كانت الدلالة تصوريّة أو تصديقيّة.

بخلاف موضوعية أحدهما لحكم ، فانه لا يستلزم موضوعية الآخر لذلك الحكم أو لحكم آخر بوجه من الوجوه ، بل لا بد من فرض الاستلزام بين التّنزيلين والتّعبّدين ، كما في التّقريب الآتي في كلامه من دون دخل للتلازم بين الظن والمظنون كما هو مبنى هذا التقريب.

ويمكن أن يقال : إن ما هو لازم نفس صفتي القطع والظن هي الماهيّة في

٥٢

مرحلة تقوّم الصفتين بها وهي في مرحلة الذّهن وهذه لا حكم لها ، وما لها حكم وهي الماهيّة المقطوعة أو المظنونة بالعرض لا لزوم لها مع القطع أو الظن إلاّ بلحاظ متعلقهما اللازم لهما في الحقيقة فانيا في مطابقه ، فالأمر بالملزوم أمر بلازمه الفاني في مطابقه بنحو الكناية ، فتدبّر جيّدا.

ويمكن أيضا توجيه الإشكال المزبور حقيقة فيما إذا كان المظنون منزّلا منزلة المقطوع دون الظن منزلة القطع ، فإن المظنون والمقطوع حيث إنهما عنوانان ووجهان لمتعلق الظن والقطع ، فيمكن ملاحظتهما فانيا في ذات المظنون والمقطوع ، كما يمكن ملاحظتهما بنفسهما ، فلحاظ العنوانين على الأوّل آليّ وعلى الثاني استقلالي.

إلا أن الآليّة والاستقلاليّة في اللحاظ إنما يصح إذا كان الحكم على الثاني مرتبا على عنواني المظنون والمقطوع ، مع أن موضوع الحكم جزما ما هو مظنون ومقطوع بالحمل الشائع ، لا ما هو كذلك بالحمل الأولي ، فموضوع الحكم سواء كان ذات المظنون والمقطوع أو بما هو مظنون ملحوظ بالاستقلال ، كما أن العنوانين بلحاظ فنائهما في ذات المعنون أو في المعنون بما هو معنون ملحوظان باللحاظ الآلي ، فلا جمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي على أي حال ليقال : بأنه محال.

كما أنه لا ينبغي الاشكال من حيث وقوع الظن والقطع موضوعا في الأدلة لا المظنون والمقطوع.

وذلك لأن الصورة الحاصلة باعتبار اتّحاد الماهيّة والوجود كما أنها مطابق الظن أو القطع كذلك مطابق تلك الماهية ، فيمكن ملاحظة تلك الماهيّة الحاضرة فانية فيما هو كذلك بالحمل الشائع وترتيب الأثر عليها ، فتدبّر.

بل الاشكال أن العنوان : إذا لوحظ فانيا في ذات المعنون بملاحظته معرفا محضا له فلا تنزيل إلا بالإضافة إلى ذات المؤدّى ، وإطلاقه لصورة انضمامه إلى مبدأ العنوان وانفراده عنه بنحو الجمع بين المراتب غير معقول ، وبنحو

٥٣

إلغاء الانضمام عن القيديّة وكذا الانفراد غير مفيد لتنزيل المؤدّى بانضمام المبدأ إليه منزلة الواقع بانضمام القطع إليه.

وإذا لوحظ العنوان فانيا في المعنون بما هو معنون أي الذات القائم بها المبدأ بنحو العنوانيّة المحضة ، فهو لا يفيد إلا تنزيل المؤدّى بما هو مؤدّى منزلة المقطوع بما هو مقطوع من دون تنزيل لذاته منزلة الواقع.

ولا يعقل الإطلاق حينئذ من حيث الانفراد والانضمام ، إذ الإطلاق في شئون الماهيّة ولواحقها لا فيما تتقوّم به ، كما هو واضح ، والجمع بين المعرفيّة المحضة والعنوانيّة المحضة محال ، لا لكونه جمعا بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، بل لكونه جمعا بين المتناقضين وهو ملاحظة المبدأ مع الذات وعدم ملاحظته معها أو ملاحظة عدمه معها.

وتوهم أن الخاص إذا لوحظ فقد لوحظت الذات والخصوصيّة معا ولو لانحلاله إليهما ، فهما ملحوظان بالاستقلال ، وينحل التّنزيل الوحداني إلى التّنزيلين ، فيكون أمرا بالبناء على الذات وعلى الخصوصيّة معا.

مدفوع : بأن لحاظ الخاص بما هو لحاظ أمر واحد وقبوله للانحلال إلى شيئين غير انحلاله فعلا إليهما.

وما لم يلحظ الذات والخصوصيّة كل منهما بالفعل بلحاظ يخصه لا معنى لاختصاص كل منهما بحكم فعلا ، بداهة أن تعدد الحكم بالفعل يستدعي تعدد الموضوع بالفعل.

ومعنى قبول الحكم الوحداني للتعدد بالتحليل تعدد انتسابه إلى أجزاء موضوعه عند ملاحظة كل جزء بنفسه ، لا أن الحكم الواحد في الحقيقة أحكام متعددة لموضوعات متعددة.

وليس التنزيل أمرا قهريّا ليتوهم انحلاله قهرا إلى تنزيلين حقيقيّين مع لحاظ الوحدة في طرف الموضوع حقيقة.

٥٤

وملاحظة الخاص بما هو غير ملاحظة الذات والخصوصيّة بنحو الجمع في العبارة حتى لا ينافي مصداقيّة الإنشاء الواحد لأحكام حقيقيّة متعددة عقلا ، كما في الحكم المتعلّق بالعام الاستغراقي بنحو الكل الأفرادي.

ولا يقاس ما نحن فيه أيضا بالمطلق الشمولي مثل ، أكرم العالم بلحاظ طبيعي العالم بحدّه وترتيب طبيعي الحكم عليه ولازمه عقلا تعلق كل فرد من طبيعي الحكم بفرد من طبيعي الموضوع ، لأن الفارق وجود الجهة الجامعة بين تلك الأفراد دون ما نحن فيه حيث لا جامع بين الذات والخصوصيّة بحيث ينطبق عليهما ، فتدبّر جيّدا.

ومن جميع ما ذكرنا تبيّن عدم إمكان تكفّل الدليل لتنزيلين بالإضافة إلى الواقع والقطع الموضوعي.

وليعلم أن الاشكال إنما يتوجه بناء على أن حجية الأمارة ترتيب الأثر على مؤديها.

وأما لو كانت الحجية بمعنى جعلها منجّزة للواقع ، فالأثر المجعول أثر الخبر مثلا لا ذات المخبر به ، فلا مانع من تنزيل الظن مثلا منزلة القطع في جميع الآثار ، فيكون تنجيزا للظن ، كما أن القطع منجّز ، وتوسعة للموضوع بجعل الظن مكان القطع في كونه تمام الموضوع تارة ، وجزءه أخرى.

فقوله الظن كالقطع مطلقا كناية عن جعل الحجّية للظن ، كما للقطع حقيقة ، وعن دخله في موضوع الحكم بترتيب ما للقطع المتعلق بشيء من الوجوب والحرمة ، فالمكنّى عنه حكم طريقي وحكم نفسي حقيقي.

ولا بأس به بعد عدم لزوم محذور الجمع بين اللحاظين حيث إن موضوع الأثر على أي حال هما القطع والظن لا الواقع حتى يجب لحاظهما بنحو الفناء في المظنون والمقطوع بالحمل الشائع.

ولا يخفى عليك أن الظن والقطع ملحوظان على أيّ تقدير من حيث الطريقيّة لأن الكلام في القطع المأخوذ على وجه الكاشفية.

٥٥

وربما يقال (١) في مقام إشكال الجمع بين اللحاظين بأنه مبني على كون الحجّية بمعنى التنزيل وجعل الحكم حقيقة ، مع أنه ليس كذلك بتقريب أن العلم وإن اختلفوا فيه من حيث كونه من مقولة الانفعال أو الفعل أو الكيف أو الإضافة إلاّ أن الحق أنه فيه جهات كل منهما ، إذ أوّل مراتبه استعداد النفس وتأثّرها من المعدّات لإيجاد صورة في صقعها ، وهذا هو جهة الانفعال ، ثم توجد فيها تلك الصورة ، وهي جهة الفعل ، ثم تتصف النفس بكونها واجدة لتلك الصورة ، وهي جهة الكيف ، ثم إن تلك الصورة المعلومة بالذات للنفس لها إضافة إلى المعلوم بالعرض وهو ما في الخارج ، وهذه جهة الإضافة.

وما عدا هذه المرتبة الأخيرة أمور تكوينيّة غير قابلة للجعل التشريعي ، وأما هذه المرتبة ، فهي في صفة القطع أيضا ذاتيّة غير قابلة للجعل التشريعي ، وفي غيرها كالأمارات قابلة للجعل التشريعي.

ومعنى جعلها التشريعي إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة لها واعتبارها إحرازا شرعا ، فإذا كان الواقع محرزا باعتبار الشارع ترتب عليه جميع آثاره من دوم لزوم جعل الحكم ، ولا توسعة الموضوع للحكم الواقعي ، كما في الحكومة الواقعيّة في مواردها.

والجواب مبني على مقدمة هي ان اعتبارات الشارع ومجعولاته التشريعيّة على ثلاثة أقسام.

أحدها : اعتبار البعث والزجر ونحوهما ، فان الإنشاء بداعي جعل الداعي يصحّح اعتبار الدعوة ، ويصحّح انتزاع الباعثيّة عنه وهو في الحقيقة إيجاد الداعي اقتضاء بحيث يكون داعيا فعليّا عند انقياد العبد.

فهو في الحقيقة جعل تكويني للداعي الاقتضائي ، لكنه حيث صدر من الشارع بما هو ناظر إلى المصلحة الواقعيّة ، فهو جعل تشريعي منه.

__________________

(١) القائل هو المحقق النائيني ( قده ). أجود التقريرات : ٢ / ٩.

٥٦

ثانيها : اعتبار الملكيّة والزوجيّة وشبهها من الأمور الوضعيّة ، وحقيقتها اعتبار معنى مقولي بحيث لو وجد بوجوده الحقيقي كانت مقولة من المقولات ، كما حققناه في محله.

ومثل هذا الاعتبار محقّق للموضوع الذي يترتب عليه الآثار ، وليس بابه باب التنزيل ، إذ ليس للملك المقولي أثر عرفي أو شرعي حتى يكون من باب تنزيل المعتبر منزلة المقولة في الأثر ، بل تمام ما هو موضوع حقيقي للأثر نفس هذا المعنى المعتبر.

ثالثها : اعتبار المؤدّى واقعا أو اعتبار الأمارة علما بإنشاء الحكم المماثل للواقع أو للأثر المرتب على العلم بعنوان أنه الواقع أو بعنوان أنه علم ، وبابه باب تنزيل المؤدى منزلة الواقع في الأثر أو تنزيل الأمارة منزلة العلم في أثره.

ولا يخفى أن المتمحّض في كونه اعتباريّا هو القسم الثاني دون الأوّل والأخير ، فإن الأول إنشاء بداعي البعث لا أنه اعتبار البعث ابتداء ، كما أن الأخير جعل الحكم بلسان أنه الواقع لا اعتبار المؤدّى واقعا ، فالاعتباري المحض هو القسم الثاني الذي هو وجود اعتباري لمعنى مقولي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن اعتبار الإحراز في مورد الأمارة من القسم الثاني دون الأول وهو واضح ، ودون الأخير فانه خلف ، إذ المفروض أنه في قبال التنزيل.

ومن الواضح أن اعتبار أيّ معنى كان في نفسه خفيف المئونة ، ولا يصح إلا بلحاظ أثر يترتب عليه ، وإلا فجميع الاعتبارات متعلّقة بمعان لو تحققت في الخارج لكانت من الأمور التكوينيّة ، فلا اختصاص للاعتبار بخصوص الإحراز وإضافة العلم إلى الخارج.

هذا مع قطع النظر عن فساد جميع ما ذكر من الجهات المزبورة في صفة

٥٧

العلم ، كما أشرنا إلى بعضها (١) فيما تقدم ، وتفصيل القول موكول إلى فنه.

ثم إن الاعتبار الذي هو من القسم الثاني لا يصح إلا إذا كان هناك أثر بحيث يكون نفس الاعتبار موضوعا له ، فيكون تحقيقا لموضوع الأثر لا من باب اعتبار موضوع ذي أثر.

ومن الواضح أن الإحراز الحقيقي له آثار عقليّة وآثار شرعيّة ، فاعتبار ذلك الموضوع حيث إنه لا أثر مجعول له بما هو اعتبار لا يوجب ترتب تلك الآثار العقليّة أو الشرعيّة إلاّ بالخلف بجعل الآثار لشيء بعنوان أنّه موضوعها الحقيقي.

وتوضيح ذلك أن الأثر المترتب على العلم بما هو إحراز حقيقي بذاته إما عقلي أو شرعي ، فالأوّل كالتنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواصل والثاني كالحرمة والنجاسة مثلا المرتبتين على ذات الخمر أو على الخمر المعلوم.

فان كان من قبيل الأول : وإن كان (٢) موضوع استحقاق العقوبة مخالفة التكليف المعلوم حقيقة ، فاعتبار الإحراز في الأمارة إذا لم يستتبع جعل التنجز شرعا لا يجدي شيئا حيث لا يترتب على مخالفة التكليف المحرز بالاعتبار شيء ، فلا يكون الاعتبار محقّقا لموضوع ذي أثر ولا كاشفا عن موضوع ذي أثر ، وفرض كلام هذا القائل أن اعتبار الإحراز لا يوسع دائرة الموضوع في مقام الثبوت والواقع ولو كشفا ، بل يوسّعها في مقام الإثبات ، ولا معنى للتوسعة في مقام الإثبات إلا اعتبار الأمارة بعنوان الإحراز الذي هو موضوع الأثر ، فهو جعل الأثر بعنوان إثبات موضوعه.

وإن كان موضوع الاستحقاق عقلا مخالفة التكليف المحرز بالمعنى

__________________

(١) التعليقة ٢٠.

(٢) كذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف ( قده ) ، والصحيح : فان كان.

٥٨

الأعم من الحقيقي والاعتباري فبابه باب تحقيق الموضوع بنفس اعتبار الإحراز لا باب التنزيل.

لكنه مع اختصاصه بمثل هذا الأثر العقلي هو خلاف مفروضه من عدم التوسعة في الواقع وأن الحكومة ظاهريّة لا واقعيّة.

وإن كان من قبيل الثاني سواء كان العلم طريقا أو مأخوذا على وجه الطريقيّة والكاشفيّة ، فالأثر المترتب على ذات المعلوم أو على المعلوم بما هو معلوم جعل شرعي ، وفرض الحكومة الظاهريّة دون الواقعيّة فرض عدم كون الموضوع الواقعي وسيعا بل مضيّقا ، فكيف يجدي فرض الإحراز واعتباره في الأمارة في ترتب الأثر الشرعي على مؤدى الأمارة قهرا؟ بل هو اعتبار بلا أثر على الفرض ، فلا معنى لكون الاعتبار محققا للموضوع أو كاشفا عن سعته حتى لا تحتاج إلى جعل الأثر.

وإن فرض بالخلف أن الموضوع الحقيقي هو أعم مما أحرز حقيقة أو اعتبارا ، فهو محقق للموضوع.

لكنه خلاف مفروضه من الحكومة الظاهريّة بل ورود تحقيقي.

فالتحقيق أن اعتبار المؤدّى واقعا أو اعتبار الأمارة إحرازا لا يصحّ إلا على الوجه الثالث من دون لزوم كون الحكومة واقعيّة ، فإن التوسعة أو التضييق عنواني لا حقيقي ، فهو جعل الحكم الماثل على طبق المؤدّى بذاته أو بما هو مؤدّى بعنوان أنه الواقع أو الواقع المعلوم في ظرف الجهل بالواقع من دون لزوم توسعة أو تضييق في الموضوع للحكم الواقعي تحقيقا أصلا ، فهي حكومة لا ورود ، وظاهريّة لا واقعيّة ، فتدبّره فإنه حقيق به.

وأمّا ما ذكرناه من التّرديد في التّنجز العقلي من أن موضوعه مخالفة التكليف المحرز حقيقة أو أعم مما إذا كان محرزا اعتبارا ، فتوضيح القول فيه أن استحقاق العقوبة : إن كان من اللوازم الواقعيّة القهريّة للمخالفة لا الجعليّة ، وكان عقليّة باعتبار إدراك العقل النظري لهذا اللازم الواقعي ، فهو ممّا لا يختلف

٥٩

حاله باختلاف الاعتبارات حيث لا يتقوّم بالاعتبار كسائر الواقعيّات ، فلا معنى لدخل الاعتبار فيه.

وإن كان من اللوازم الجعليّة العقلانيّة وعقليّة من حيث إدراك العقل العملي لهذا اللازم الجعلي الذي بنى عليه العقلاء عملا كما مرّ منّا سابقا ، فلا يمكن ترتيبه على مخالفة التكليف الغير المحرز حقيقة إلاّ بجعل الاستحقاق شرعا ، فان جعل الاستحقاق من العقلاء ليس بنحو إنشاء القضايا الحقيقيّة ليتصور أنها ذات موضوع كلي له أفراد محقّقة الوجود وأفراد مقدرة الوجود ، فباعتبار الوصول والإحراز فقط من الشارع يتحقّق عنوان مخالفة التكليف المحرز على الوجه الكلي.

بل قد عرفت سابقا أن مسألة استحقاق المدح والثواب واستحقاق الذم والعقاب داخلة في القضايا المشهورة المسطورة في باب الصناعات الخمس من علم الميزان وهي القضايا التي بنى عليها العقلاء عملا من مدح فاعل طائفة من الأفعال وذم فاعل طائفة أخرى حفظا للنظام وإبقاء للنوع.

ومقدار سعة هذا الموضوع وضيقه يتقدّر بالبناء العملي من العقلاء ، فان فرض أن عملهم في ذم المخالف للتكليف المحرز بالعلم وبخبر الثقة مثلا ، فلا عمل لهم في مورد الأمارة التي يعتبرها الشارع حتى يكون استحقاق الذم والعقاب على مخالفتها عقلائيّا حتى يكتفي من الشارع بمجرد اعتبار الأمارة إحرازا ، بل لا بد من الإنشاء بداعي تنجيز الواقع بجعل الشارع ، فتدبر جيدا.

٢٢ ـ قوله « مد ظله » : فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ ... الخ (١).

فمثل قوله عليه السلام : نعم (٢) بعد السؤال عن أن يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني يفيد تنزيل المأخوذ منه منزلة معالم الدين ، وهو

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٤.

(٢) رجال الكشي / ٣٠٦.

٦٠