نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الفعلية من أول الأمر تحصيل الفراغ بما هو مفرغ في نظر الشارع عموما أو خصوصا أو الأخير فقط على التقريبين المتقدمين ، أو تحصيل الفراغ بما هو مفرّغ غير جعلي وبما هو مفرغ جعلي ، إذ الحجّية بمعنى المعذّريّة ليست إلاّ أن موافقتها مفرّغة للذمة ومبرئة لها ، فجعل الحجّيّة جعل المفرّغيّة والمبرّئية.

والفرق بين هذين الوجهين أنه على الأول ليس من الشارع جعل المفرّغيّة واعتبارها ، بل حيث إن الطريق المنصوب غالب الإصابة عنده ، فهو مفرّغ للذّمة في نظره بالخصوص ، كما أن العلم طريق في جميع الأنظار ومنها نظر الشارع.

بخلاف الثاني ، فان المفرّغيّة جعليّة شرعيّة. هذا إذا كان قوله في حكمه متعلّقا بتفريغ الذمة.

وعلى الثاني وهو تعلّقه بالواجب ، فالمراد منه أن الواجب تفريغ الذمة بسلوك الطريق شرعا ، أي الواجب بحكم الشارع هو تفريغ الذمة بسلوك الطريق ، فليس بعد نصب الطريق باعتبار وصول الواقع به حكم مولوي من الشارع ، إلا الأمر بتفريغ الذمة عن الواقع بسلوكه ، فقوله مثلا : اعمل بالطريق يستلزم فراغ ذمتك عن الواقع.

وهذا المعنى وإن لم يكن مراد المحقق « قدس سره » ، بل مراده « قدس سره » أحد الوجهين الذين يجمعهما تعلّق قوله عليه السلام في حكمه بتفريغ الذمة والوجوب المتعلق بتفريغ الذمة حينئذ هو الوجوب الفعلي ، إلا أن الغرض من إبداء هذا الاحتمال أنه لا يرد عليه بناء على إرادته ما أورد عليه من أن الأمر بالتفريغ عقلي إرشادي ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أن الوظيفة الأوليّة سواء كانت تحصيل العلم بالفراغ بالمفرغ الأعم من الواقعي والجعلي ، أو خصوص المفرغ الجعلي لا تصل النوبة بعد انسداد باب العلم بالفراغ ، إلا إلى خصوص الظن بالمفرغ الجعلي ،

٣٢١

دون الظن بالواقع أو الأعم من الواقع والطريق :

أما على الأول ، فلأن أداء الواقع بما هو واقع لا أثر له عند العقل ، بل لأثر لأدائه في ظرف وجدان العقل ، فالمفرغ هو أداء الواقع المعلوم ، حتى يكون مفرغا في وجدان العقل.

فليس الظن بأداء الواقع ظنا بما هو مفرّغ في جميع الأنظار ، ولا ظنا بما هو مفرّغ في نظر الشارع أو باعتبار الشارع.

بخلاف الظن بالطريق ، فانه يوجب الظن بالفراغ بما هو مفرّغ في نظر الشارع أو بحسب اعتباره.

وأما على الثاني ، فالأمر أوضح لأن الوظيفة الأولية كانت تحصيل العلم بالفراغ في نظر الشارع أو في اعتباره بالخصوص ، فلا يتنزل إلاّ إلى الظن بما كان العلم به علما بالفراغ منه. وهذا ما يمكن أن يوجه به كلامه « رفع مقامه ».

ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما أورده شيخنا الأستاد « قدس سره » من عدم كون تفريغ الذمة بحكم الشارع مولويا بل بحكم العقل إرشادا.

وجه الاندفاع أن هذا المعنى راجع إلى جعل الحجّية بمعنى المنجّزيّة تارة والمعذّريّة أخرى ، وهو جعلي مولوي ، لا عقلي إرشادي.

وأوضح اندفاعا منه ما أورده ثانيا من تسليم الحكم المولوي والتسوية بين الظن بالواقع والظن بالطريق في حصول الظن بالفراغ بحكم الشارع بدعوى أن الاستلزام المزبور بملاحظة أن النصب يستلزم الحكم بالفراغ ، والتكليف بالواقع أيضا يستلزمه ، ضرورة أن الإتيان بما كلف به واقعا يلزمه حكم المولى بالفراغ ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعي ، وهو واضح البطلان ، كما أوضحه في تعليقته على الكتاب (١).

__________________

(١) حيث علق على قوله قلت : الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ ، فقال : وذلك لضرورة الملازمة بين الإتيان بما كلف به واقعا وحكمه بالفراغ إلى آخره فراجع.

٣٢٢

وأنت خبير بأن جعل الحجّيّة جعل المبرئيّة والمعذّريّة مولويّا ، بخلاف جعل التكليف بالصلاة ، فانه ليس إلاّ إيجاب الصلاة مولويّا ، ولا يعقل أن يكون هذا الجعل جعل المعذّريّة والمفرّغيّة ، ولا جعل تبعي لهذا الجعل ، إذ جعل المعذّر والمفرّغ عن الواقع فرع ثبوت الواقع ، فلا معنى لجعله بجعل الواقع ، بخلاف جعل المفرّغ بلسان صدّق العادل بعد ثبوت التكليف الواقعي.

نعم الحكم بالفراغ بالمعنى الآخر بأن يكون الإتيان بالواقع مجزيا في نظر الشارع وغيره لا ريب فيه. لكنه ليس من مقولة الحكم لا إرشاديّا ولا مولويّا.

هذا بناء على ما هو التحقيق في تقريب ما أفاده شيخ المحققين (١) « رحمه الله » من كون الحكم بالمفرّغيّة عبارة عن جعل المفرّغيّة بموافقة الطريق لا عبارة عن الحكم بالتفريغ والأمر بتحصيله كما يساعده عباراته وهو الذي فهمه من كلامه « رحمه الله » شيخنا العلامة « رفع الله مقامه » ولذا حكم بأن الحكم بتفريغ الذمة عقلي إرشادي وهو كما أفاده.

إلاّ أنه بعد تسليم المولوية أيضا لا مجال للتسوية بين الظنين بدعوى أن هذا الحكم لازم التكليف الحقيقي والطريقي ، بتقريب أنه لا فرق في نظر الشارع من حيث إطاعة أمره الواقعي وأمره الظاهري ، فاذا كان له حكم مولوي بالتفريغ كان له في المقامين ، وإلاّ فلا.

والوجه في عدم التسوية أنه ليس الحكم بالتفريغ اللازم للأمر بالطريق الحكم بامتثال هذا الأمر الظاهري لئلا يكون فرق بين الأمرين.

بل هو الحكم بتفريغ الذمة عن الواقع بموافقة الطريق ، فالأمر بالعمل بالطريق بالمطابقة أمر بالالتزام بتفريغ الذمة عن الواقع بسلوك الطريق وهذا غير الأمر بامتثال التكاليف ليكون إرشاديّا أو لازما لكل أمر واقعيّا كان أو

__________________

(١) وهو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين قدس سره.

٣٢٣

ظاهريّا.

والتحقيق أن الظن بالطريق وإن كان يختص بالظن بالفراغ في حكم الشارع بكل واحد من محتملات الحكم بالفراغ ، فهو : من حيث جعل الحجّية ظن بالمعذّريّة ، والخروج عن عهدة الواقع بموافقة الطريق.

ومن حيث انطباق عنوان التفريغ المأمور به شرعا يكون العمل به مفرّغا شرعا.

ومن حيث كون الطريق المنصوب مؤدّيا إلى الواقع في نظر الشارع يكون سلوكه مفرغا للذمة في نظر الشارع.

إلاّ أن هذا الفرق غير فارق ، وهذا الاختصاص غير مخصّص للحجية الفعلية بالظن بالطّريق دون الظن بالواقع.

أما بناء على الوجه الأول وهو كون الظن بالحجّية ظنّا بالمعذّريّة والمبرئيّة ، فقد مرّ في الحاشية السابقة (١) أن الطريق بوجوده الواقعي لا يكون منجّزا ولا معذّرا ، والحجة الواقعية ما لم تكن واصلة لا تتّصف بفعليّة المنجّزيّة والمعذّريّة ، فالظن بالحجّيّة ليس ظنّا بالمنجّزيّة والمعذّرية فعلا حتى يكون ظنا بالمفرّغيّة شرعا.

فمجرد كون متعلق أحد الظنين مفرّغا جعليّا مع عدم كونه فعليّا لا يجدي ، إذ الحكم الطريقي كالحكم الواقعي غير فعلي مع عدم الوصول.

ومع العلم الإجمالي بوجود طرق وافية واصلة بأطرافها كما ادّعاه صاحب الفصول ، وإن كان الظن بها ظنا بالمفرّغ بالحمل الشائع. إلاّ أن الكلام في بقائه على حاله بعدم انحلاله وإلا لعاد المحذور ، كما أنه إنما يمتاز عن الظن بالحكم

__________________

(١) حيث قال في التعليقة ١٤١ إذ الطريق المنصوب لو لم يصل ولو بالعلم الإجمالي لا أثر له في جعل الحكم الواقعي فعليّا.

٣٢٤

الواقعي إذا انحل العلم الإجمالي الكبير وإلا لكان الظن بالتكاليف الواقعيّة ظنّا بالتكاليف الفعليّة المنجّزة.

وبالجملة مع عدم فرض العلم الإجمالي بالطرق الوافية بأيدينا لا أثر للمفرّغيّة الجعليّة ، ومع فرضه يكون حاله حال ما أفاده صاحب الفصول نقضا وإبراما ، فراجع.

وأما بناء على الوجه الثاني وهو كون الظن بالطريق ظنا بالأمر بتفريغ الذمة عن الواقع بموافقة الطريق ، فهو لا يوجب إلا كون العلم بالطريق معنونا بعنوان التفريغ المأمور به شرعا دون العلم بالظن بالواقع ، فانه غير معنون بعنوان التفريغ المأمور به شرعا.

ومن الواضح أن هذا العنوان إذا لم يكن متمّما لاقتضاء الحكم الواقعي من قبل الشارع لا يجدي شيئا ، إذ لو كان متمّما لاقتضاء الحكم لكان الظن به ظنا بالحكم الفعلي دون الظن بالواقع لفرض توقف تماميّة اقتضائه على قيام الطريق الموجب لتمامية اقتضائه.

لكنه خلف لفرض فعليّة الحكم من قبل الشارع ، وبعد فرض فعليّة الحكم وعدم دخل هذا العنوان فيها فوجود هذا العنوان وعدمه على حد سواء ، لأنه إنما يتوهم الفرق بين وجوده وعدمه فيما لو كان العمل بالطريق معنونا حقيقة بالتفريغ لا عنوانا.

وقد عرفت أن تحقق التفريغ موقوف على وصول المفرّغ حقيقة وأن وجوده الواقعي الغير الواصل سواء لوحظ عنوانا للعمل أم لا غير مفيد أصلا.

مضافا إلى أن وجوده العنواني إذا كان مجديا فوجوده العنواني غير متقوّم بأمره ، لأن المفروض الأمر بالتفريغ ، لا الأمر بالتفريغ المأمور به ، والعمل بالطريق واسطة في التفريغ ، لا حيثيّة تقييدية له ، لأن الغاية المقصودة تفريغ الذمة عن الواقع الذي قد اشتغلت به الذمة ، وعنوان التفريغ منطبق على إتيان

٣٢٥

الواقع أيضا ، وإن لم يكن على الفرض مأمورا به بهذا الأمر الذي هو لازم الأمر بالطريق.

ومنه تبين الجواب بناء على الوجه الثالث وهو كون العمل بالطريق تفريغا للذمة عن الواقع في نظر الشارع ، فان العمل بالظن بالواقع وإن لم يكن تفريغا للذمة في نظر الشارع بالخصوص ، لعدم العلم بطريقيّته ولا الظن بها في نظر الشارع إلا أن الواقع متساوي النسبة إلى الشارع وغيره ، فاتيانه يوجب الظن بالفراغ في نظر الشارع وغيره ، دون العمل بما ظن طريقيّته ، فانه يوجب الظن بالفراغ في نظر الشارع فقط ، وهذا لا يوجب الاختصاص.

تنبيه ذكر بعض الأجلة (١) « رحمه الله » في شرح كلام والده المحقق « قدس سره » أن غرضه حجّية الظن بالطريق الفعلي دون الطريق الواقعي وأن الحجة هو الظن بالبراءة الظاهرية دون الواقعية بتقريب أن الظن بالبراءة الفعليّة الظاهريّة لا يكون إلاّ إذا كانت جميع مقدماته ظنّية أو بعضها قطعيّة ، دون ما إذا كان بعضها غير ظنّية أو مقطوعة العدم ، فان النتيجة تابعة لأخسّ المقدمات.

فالظن بالواقع أو بالطريق الواقعي الذي لا دليل ظني على اعتبارهما أو كان الدليل على عدم اعتبارهما كالحاصل من القياس خارجان موضوعا وإن حصل منهما الظن بالبراءة الواقعيّة أو بالطريقيّة والحجّية الواقعيّة.

بخلاف الطريق الذي قام دليل ظني على اعتباره ، فانه يوجب الظن بالبراءة الفعليّة الظاهريّة ، ولا يعقل أن يجامع الشك في الحجّية الظاهريّة فضلا عن القطع بعدمها.

__________________

(١) وهو المحقق الشيخ محمد باقر ابن المصنف صاحب الحاشية على المعالم وقد ذكره في شرح مبحث الانسداد من كتاب والده هداية المسترشدين وهو مطبوع منضما على الكتاب المزبور في بعض طبعاته.

٣٢٦

وفيه أن الغرض : إن كان حجّية الظن المظنون الاعتبار ، وتقديمه مع وفائه بمعظم الفقه على الظن المشكوك الاعتبار ، فهو صحيح.

إلا أنّه تفصيل بين أنحاء الظن بالواقع وبالطريق ، لا تفصيل بين نوعين من الظن وهما الظن بالواقع والظن بالطريق ، مع أنه خلاف ظاهر كلام والده العلامة « قدس سره » في جملة من الموارد ، حيث ذكر أن الظن بالطريق حجة سواء أفاد الظن بالواقع أم لا.

وإن كان الغرض حجّية الطريق المظنون الاعتبار في قبال الظن بالواقع الذي هو تارة مشكوك الاعتبار وأخرى مقطوع العدم.

ففيه أن نتيجة دليل الانسداد حجية الظن الفعلي دون المفيد له نوعا. فالطريق المظنون الاعتبار بلحاظ نفسه غير داخل في نتيجة دليل الانسداد ، فلا دوران بين الطريق المظنون الاعتبار والظن بالواقع ليقدم الأول على الثاني ، فتدبر.

وإن كان الغرض حجية الظن بالاعتبار في قبال الظن بالواقع ، فهو عين ما فهمه الجماعة من كلام المحقق « قدس سره » وبسطنا القول فيه ، وليس الظن بالاعتبار بنفسه مظنون الاعتبار ليقدم على الظن بالواقع.

وما أفاده من أن الظن بالاعتبار الفعلي لا يجامع الشك في الاعتبار بل لا بد من أن ينتهي إلى مقدمات ظنية أو بعضها قطعية صحيح.

إلا أن المناط لو كان ذلك لما تحقق له موضوع أصلا لاستحالة انتهائه إلى الظن بالاعتبار ، بل لا بد من أن ينتهي إلى القطع بالاعتبار أو الشك فيه ، إذ ليس على كل أمارة أمارة أخرى مظنونة الاعتبار ، بل الغرض من الدليل المفيد للظن بالاعتبار في قبال الشك فيه ما كان بلحاظ نفسه مفيدا للظن باعتباره واقعا ، وإن كان بنفسه مشكوك الاعتبار.

٣٢٧

١٤٣ ـ قوله « قده » : قلت : الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ ... الخ (١).

هكذا في النسخة المصححة بخطه الشريف « قدس سره » اللطيف بيانه أن الظن الفعلي بالفراغ لا يجامع القطع الفعلي بعدمه ولكنّه يجامع القطع بعدمه على تقدير التخلف ، وليس معنى عدم الحجّية عدم الإصابة واقعا ، بل عدم المعذّريّة عند الخطأ.

نعم هذا الجواب بناء على مسلك المحقق غير وجيه ، فان الظن القياسي ظنّ بالفراغ واقعا لا بالفراغ في حكمه بجميع محتملاته.

بل الوجه في رده أنه لا يجب تحصيل الظن بالفراغ في حكمه ، وإلاّ فمن الواضح أن الظن بالواقع من القياس ليس ظنا بالمعذر الجعلي ، ولا بالمعذر في نظر الشارع بما هو ، وإن كان ظنا بالفراغ عن الواقع الذي يتساوى نسبته إلى الشارع وغيره كما عرفت مفصلا.

وأما كون موافقة الظن القياسي تجرّيا ، فبملاحظة أن مخالفة النهي الطريقي كمخالفة الأمر الطريقي معنونة بعنوان التجرّي ، وإن أصاب الظن في الأول وأخطأ في الثاني.

١٤٤ـ قوله « قده » : لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد ... الخ (٢).

قد ذكرنا في ذيل المقدمة الخامسة بعض ما يتعلّق بالمقام ونزيدك هنا أن العلم الإجمالي بالأحكام إن كان منجّزا لها أو كان إيجاب الاحتياط الطريقي الذي هو بداعي تنجيز الواقعيات ـ بمقدار لا يتحقق معه مخالفة قطعية ـ منجّزا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٠.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢١.

٣٢٨

لها بذلك المقدار ، فبقيّة المقدمات يوجب تضييق دائرة الأحكام المنجّزة إلى أن تنحصر في المظنونات ، فحينئذ لا يبقى مجال للتصرف المولوي من قبل الشارع ، فإنه إما يتصرف بجعل الداعي بعثا أو زجرا أو بالإنشاء بداعي تنجيز واقعيّاته. والمفروض بلوغ واقعيّاته بسبب العلم الإجمالي أو بايجاب الاحتياط الطريقي مرتبة الباعثية والزاجرية والتنجز. فجعل الداعي وجعل المنجز مع فرض حصول الداعي والتنجز تحصيل الحاصل ، وجعل داعيين لموضوع واحد أو منجّزين لموضوع واحد من قبيل اجتماع المثلين ، وهو مستحيل على المشهور.

وحينئذ لم يبق إلا حكم العقل بلزوم الإطاعة الظنّية ، ومرجعه كما في الإطاعة العلميّة إلى الإذعان باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المنجّز.

وليس للشارع تصرف مولوي هنا لا من حيث الأمر والنهي ، ولا من حيث جعل العقاب :

أما الأول ، فواضح ، إذ المؤاخذة واستحقاق العقاب في نفسهما غير قابلين لتعلق الأمر والنهي ، فان الثاني ليس من الأفعال ، والأول فعل الشارع ، وكلاهما مما لا يعقل تعلق التكليف به.

وأما الثاني ، فلما تسالموا عليه من أن الحكم باستحقاق العقاب من العقل ، كما مر الكلام فيه وسيجيء إن شاء الله تعالى.

وعلى فرض كون استحقاق العقاب بجعل الشارع ، فهو غير مختص بالمقام ليكون فارقا بين الكشف والحكومة.

بل مخالفة التكليف الذي قامت عليه حجة شرعية أو عقلية توجب استحقاق العقاب شرعا.

هذا كله إن قلنا : بمنجزية العلم الإجمالي أو إيجاب الاحتياط الطريقي وتضييق دائرة الواقعيّات المنجّزة وحصرها في المظنونات.

وحينئذ فالفرق بين تبعيض الاحتياط في خصوص المظنونات ، وحجية

٣٢٩

الظن على الحكومة بالاعتبار ، فان القائل بالتبعيض يعمل بالظن رعاية للاحتياط اللازم بهذا المقدار ، والقائل بحجية الظن يعمل به من باب كفاية الامتثال الظني بعد التنزل عن الامتثال العلمي للواقعيات المنجّزة ، وإن كان لازم كلا القولين سقوط الواقعيّات عن التنجّز في غير دائرة المظنونات.

وأما إن قلنا : بسقوط العلم الإجمالي عن التأثير كلّية ـ بعد عدم رعاية الموافقة القطعيّة ، لما مر مرارا من عدم إمكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة بسبب العلم الإجمالي المؤثّر ، ووجوب الموافقة القطعيّة ، وقلنا : بعدم إمكان إيجاب الاحتياط الطريقي بداعي تنجيز الواقع لعين ذلك المحذور ، كما قدمناه (١) ـ فلا محالة لا منجز للواقعيّات المعلومة بالإجمال بالعلم الغير المنجز لها على الفرض.

والعلم بعدم جواز ترك امتثال الأحكام بالمرة المعلوم بالإجماع والضرورة غير صالح في نفسه لتنجيزها فان هذا العلم كالعلم الإجمالي وايجاب الاحتياط الطريقي من حيث لزوم المحذور من تنجيزه للواقعيات مطلقا ، أو بمقدار المخالفة القطعيّة ، وليس متعلقا بأحكام أخر غير تلك الأحكام على الفرض.

ولا معنى للعلم بعدم جواز ترك الامتثال بمعنى استحقاق العقاب على مخالفتها من دون مبلغ لها إلى مرتبة البعث والزجر والتّنجّز.

نعم هو صالح للكشف عن تنجّزها بمنجّز شرعي أو عقلي في مقدار منها.

ولذا ذكرنا سابقا أن معنى المقدمة الثالثة المتكفلة لعدم جواز ترك الامتثال بالمرة هو العلم بالجهة الجامعة المنتزعة من وجوب الاحتياط كليّة ، ومن العمل على طبق الأصول الموردية ، ومن العمل على طبق المشكوكات والموهومات ، ومن العمل على طبق المظنونات ، بمعنى أن الشارع جعل أحكامه

__________________

(١) في التعليقة ١٢٧

٣٣٠

فعلية منجزة بأحد الوجوه ، فأبطلنا الأول والثاني بمقتضى المقدمة الرابعة ، وأبطلنا الثالث بمقتضى المقدمة الخامسة ، فبقي الرابع ، فهو الحجة شرعا.

فيعلم أن الشارع جعل الاحتمال الراجح مبلّغا لأحكامه الواقعية إلى مرتبة الباعثيّة والزاجريّة والتنجز ، لما عرفت في ذيل المقدمة الخامسة أن الظن حيث لا يعقل أن يكون منجزا عقلا ـ إذ لا شأن للعقل إلاّ التعقّل ، ولا يكون منجّزا عند العقلاء مطلقا وهو واضح ولا في فرض الانسداد إذ الفرض غير واقع عند العقلاء ليكون لهم بناء عملي على اتباعه حتى يكون تقرير من الشارع ليدل على إمضائه.

وقد مر أن العقلاء ليس لهم حكم كبروي بنحو القضايا الحقيقية حتى يتحقق منهم حكم.

مع أنه على فرضه غير مفيد ، إذ لا تقرير إلاّ للعمل لا للإنشاء الكلي الصادر من العقلاء ـ فلا محالة يكون الاحتمال الراجح منجزا شرعا ، فتكون مقدمات الانسداد على هذا المبنى كاشفة عن كون الظن منجّزا للواقعيّات التي يتعلّق بها شرعا.

ومما ذكرنا تبيّن أنه ليس هنا أمر واحد يقبل الكشف والحكومة إذ القابل لهما كون الظن منجزا عقلا أو شرعا ، والمفروض على الحكومة ليس كون الظن منجّزا عقلا ليقال : بجواز اجتزاء الشارع في مقام تنجيز واقعيّاته بالظن بحكم العقل بمنجّزيّته ، لما عرفت أن الواقعيات منجزة بسبب العلم الإجمالي أو إيجاب الاحتياط الطريقي ، وأنه لم يبق إلا حكم العقل بلزوم الامتثال أي استحقاق العقاب على مخالفة الواقع المنجّز في المظنونات ، ومثله غير قابل للتصرف الشرعي حتى يستكشف بالمقدمات ، فالحجّية بمعنى المنجّزيّة ليست بحكم

٣٣١

العقل ، وأثر الحجّية وهو استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المنجز لا مدخل للشارع فيه.

ومنه يظهر ما في تعبيره « قدس سره » لجواز اجتزائه بما استقل به العقل ، فتدبر.

١٤٥ ـ قوله « قده » : لقاعدة الملازمة ضرورة أنها ... الخ (١).

قد عرفت الوجه فيه.

وأما ما اشتهر من أن الأمر بالإطاعة لو كان مولويا للزم التسلسل أو التخصيص من غير مخصص.

فإنه مندفع بأن الأمر بالإطاعة لو كان بنحو القضيّة الطبيعيّة لأمكن أن يعمّ نفسه.

مع أنه لا محذور هنا من وجود أوامر غير متناهية ، لأن محذور التسلسل حقيقة لا يتحقق إلاّ إذا كان بين الأمور الغير المتناهية ترتب علي ومعلوليّ ، وليس كذلك لا بين الأوامر ولا بين الاطاعات والموافقات الغير المتناهية.

أما الثانية ، فلأن عنوان الموافقة وإن كان ينتزع من الصلاة الخارجيّة بالنسبة إلى الصلاة العنوانيّة التي تعلّق بها الأمر بلحاظ موافقة العنوان والمعنون ، فكذلك من الموافق بالحمل الشائع ينتزع عنوان الموافقة لعنوانه ، لموافقة أيّ عنوان كان لمعنونه ، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

لكنه تسلسل في الأمور الاعتباريّة وينقطع بانقطاع الاعتبار.

وأما الأولى ، فلأن الأوامر وإن كانت خارجيّة ، لكنه ليس شيء منها معلولا للآخر بنحو من أنحاء العليّة ، وإن كان بين عنوان الأمر ومعنون أمر آخر ترتب طبعي لكون عنوان موافقة الأمر موضوعا للحكم لكنه ليس بين

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢١.

٣٣٢

الخارجيّات منها ترتب علي ومعلوليّ.

وذهاب الأوامر إلى غير النهاية مع صدورها ممن هو غير متناه في القوة والقدرة غير ضائر ، وليست مقتضية لامتثالات غير متناهية ، لأن الاطاعات والموافقات كلها منتزعة من فعل واحد وهي الصلاة الخارجيّة ، فالاستناد إلى التسلسل أو إلى ذهاب الأمر إلى غير النهاية لا وجه له.

ثم إنه لا بأس بعطف عنان القلم إلى بيان حقيقة الأحكام العقليّة المتداولة في الكتب الكلاميّة والأصوليّة.

فنقول : ومن الله التوفيق ـ : إن القوة العاقلة كما مر مرارا شأنها التعقّل ، وفعليّتها فعليّة العاقليّة كما في سائر القوى الظاهرة والباطنة ، وليس لها ولا لشيء من القوى إلا فعلية ما كانت القوة واجدة له بالقوة ، وأنه ليس للعاقلة بعث وزجر وإثبات شيء لشيء.

بل شأنها تعقّل ما هو ثابت من ناحية غير الجوهر العاقل ، وأن تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات ، من حيث إن المدرك مما ينبغي أن يعلم ، أو مما ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به فمن المدركات العقلية الداخلة في الأحكام العقليّة العمليّة المأخوذة من بادئ الرأي المشترك بين العقلاء المسماة تارة بالقضايا المشهورة وأخرى بالآراء المحمودة قضيّة حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان.

وقد بينا في مبحث التّجرّي (١) من مباحث القطع في كلام مبسوط برهاني أن أمثال هذه القضايا ليست من القضايا البرهانية في نفسها ، وأنها في قبالها.

ونزيدك هنا : أن المعتبر عند أهل الميزان في الموادّ الأوليّة للقضايا البرهانيّة المنحصرة تلك المواد في الضّروريّات الستّ مطابقتها للواقع ونفس الأمر.

__________________

(١) في التعليقة ١٠.

٣٣٣

والمعتبر في القضايا المشهورة والآراء المحمودة مطابقتها لما عليه آراء العقلاء ، حيث لا واقع لها غير توافق الآراء عليها.

قال : الشيخ الرئيس في الإشارات (١) ومنها الآراء المسماة بالمحمودة ، وربما خصصناها باسم المشهورة ، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة ، وهي آراء لو خلى الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ـ ، ولم يؤدّب بقبول قضاياها والاعتراف بها ، ولم يمل الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيّات ، ولم يستدع إليها ما في طبيعة الإنسان من الرحمة والخجل والأنفة والحميّة وغير ذلك ـ لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه ، مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان قبيح ، وأن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه إلى آخر كلامه.

وعبّر عنها أخيرا بأنها من التأديبات الصلاحيّة ، وجعل منها ما تطابق عليه الشرائع الإلهيّة ، ومنها الناشئة عن الخلقيات والانفعالات.

وقال العلامة (٢) الطوسي « قدس سره » في شرح كلامه ومنها أي المشهورات كونه مشتملا على مصلحة شاملة للعموم ، كقولنا العدل حسن وقد يسمى بعضها بالشرائع الغير المكتوبة ، فان المكتوبة منها ربما يعم الاعتراف بها ، وإلى ذلك أشار الشيخ بقوله وما تطابق عليه الشرائع الإلهيّة.

ومنها كون بعض الأخلاق والانفعالات مقتضية لها ، كقولنا الذب عن الحرم واجب ، وإيذاء الحيوان لا لغرض قبيح إلى أن قال « رحمه الله » والآراء المحمودة هي ما يقتضيه المصلحة العامة أو الاخلاق الفاضلة إلى آخره.

وسلك هذا المسلك العلامة قطب الدين صاحب المحاكمات فذكر (٣)

__________________

(١) شرح الإشارات للمحقق الطوسي ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) شرح الإشارات ١ / ٢٢١

(٣) شرح الإشارات ١ / ٢٢٠

٣٣٤

أيضا أن هذا القسم من المشهورات من التأديبات التي يكون الصلاح فيها ، كقولنا العدل حسن ، والظلم قبيح ، وما يتطابق عليه الشرائع كقولنا الطاعة واجبة ، وإما خلقيات وانفعاليات كقولنا كشف العورة قبيح ، ومراعاة الضعفاء محمودة إلى آخره.

وتوضيح ذلك بحيث يكون كالبرهان على صحة ما ذكروه هو أن كون العدل والإحسان مشتملا على مصلحة عامة ينحفظ بها النظام وكون الظلم والعدوان مشتملا على مفسدة عامة يختل بها النظام ـ ولدا عم الاعتراف بهما من الجميع ـ أمر مدرك بحسب تفاوت أفراد الإحسان والاساءة من حيث تعلقهما بما يناسب قوة من القوى. وكذا كون كل عاقل محبا لنفسه ولما يرجع إليه وجداني يجده كل إنسان من نفسه. وكذا كون كل مصلحة ملائمة للشخص ، وكل مفسدة منافرة له أيضا وجداني يجده كل إنسان عند مساس المصلحة والمفسدة ، فلا محالة يحب الإحسان ويكره الاساءة. وهذا كلّه من الواقعيّات ، ولا نزاع لأحد فيها.

إنما النزاع في حسن العدل وقبح الظلم بمعنى صحة المدح على الأول وصحة الذم على الثاني ، والمدعى ثبوتهما بتوافق آراء العقلاء ، لا ثبوتهما في الفعل على حد اشتماله على المصلحة والمفسدة.

ومن الواضح أن اقتضاء الفعل المحبوب والفعل المكروه للمدح والذم على أحد نحوين إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبّبه والمقتضي لمقتضاه ، أو بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

فالأول فيما إذا أساء إنسان إلى غيره ، فانه بمقتضى ورود ما ينافره عليه وتألمه منه ينقح في نفسه الداعي إلى الانتقام منه والتشفّي من الغيظ الحاصل بسببه بذمّه وعقوبته ، فالسببية للذم هنا واقعيّة وسلسلة العلل والمعلولات مترتبة واقعا.

والثاني فيما إذا كان الغرض من الحكم بالمدح والذم حفظ النظام وبقاء

٣٣٥

النوع بلحاظ اشتمال العدل والإحسان على المصلحة العامة ، والظلم والعدوان على المفسدة العامة.

فتلك المصلحة العامة تدعو إلى الحكم بمدح فاعل ما يشتمل عليها ، وتلك المفسدة تدعو إلى الحكم بذم فاعل ما يشتمل عليها ، فيكون هذا التحسين والتقبيح من العقلاء موجبا لانحفاظ النظام ورادعا عن الإخلال به.

وما يناسب الحكم العقلائي الذي يصح نسبته إلى الشارع بما هو رئيس العقلاء هو القسم الثاني ، دون الأول الذي لا يناسب الشارع ، بل لا يناسب العقلاء بما هم عقلاء ، وهو الذي يصح التعبير عنه بالتأديبات الصلاحيّة ، فان الحكم بالمدح والذم على العدل والظلم موجب لما فيه صلاح العامة ، دون المدح والذم المترتب عليهما لداع حيواني ، فانهما لا يترتب عليهما مصلحة عامة ، ولا يندفع بهما مفسدة عامة.

فالاقتضاء بهذا المعنى ليس محل الكلام وثبوته وجداني.

والاقتضاء بالمعنى الثاني هو محل الكلام بين الأشاعرة وغيرهم ، وثبوته منحصر في الوجه المشار إليه مرارا من أن حفظ النظام وبقاء النوع المشترك بين الجميع محبوب للجميع ، وخلافه مكروه للجميع ، وهو يدعو العقلاء إلى الحكم بمدح فاعل ما فيه المصلحة العامّة وذم فاعل ما فيه المفسدة العامّة.

وعلى ما ذكرنا فالمراد بأن العدل يستحق عليه المدح والظلم يستحق عليه الذم هو أنهما كذلك عند العقلاء وبحسب تطابق آرائهم ، لا في نفس الأمر كما صرح به المحقق الطوسي « قدس سره » حيث قال إن المعتبر في الضروريات (١)

__________________

(١) شرح الإشارات ١ / ٢٢١ لكن بتغيير يسير بين العبارتين فان التي في الشرح كما تلي كما أن المعتبر في الواجب قبولها لكونها مطابقة لما عليه الوجود فالمعتبر في المشهورات كون الآراء عليها مطابقة ولم نعثر على عبارة غيرها في الشرح فراجع.

٣٣٦

مطابقتها لما عليه الوجود والمعتبر في هذا القسم من المشهورات كون الآراء عليها مطابقة وقال (١) في مورد آخر وذلك لأن الحكم إما أن يعتبر فيه المطابقة للخارج أولا ، فان أعتبر وكان مطابقا قطعا ، فهو الواجب قبولها ، وإلا فهو الوهميات.

وإن لا يعتبر فهو المشهورات إلى آخره.

وعليه ، فمن الغريب ما عن المحقق الحكيم السبزواري في شرح الأسماء من دخول هذه القضايا في الضروريات (٢) ، وأنها بديهيّة ، وأن الحكم ببداهتها أيضا بديهي ، وأن جعل الحكماء إياها من المقبولات العامة التي هي مادة الجدل لا ينافي ذلك ، لأن الغرض منه التمثيل للمصلحة أو المفسدة العامتين المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصين ، وهذا غير مناف لبداهتها ، إذ القضيّة الواحدة يمكن دخولها في اليقينيّات والمقبولات من جهتين ، فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين بهذه الأحكام من العقل النظري بإعانة من العقل العملي كما لا يضر إعانة الحس في حكم العقل النظري ببداهة المحسوسات.

هذا وقد سبقه إلى كل ذلك بعينه المحقق اللاهجي في بعض رسائله الفارسية.

لكنك قد عرفت صراحة كلام الشيخ الرئيس (٣) والمحقق الطوسي والعلامة قطب الدين صاحب المحاكمات في خلاف ما ذكره ، وأنه ليس الغرض مجرد التمثيل.

وأما دخول القضية الواحدة في الضروريات والمشهورات ، فهو صحيح ،

__________________

(١) شرح الاشارات ١ / ٢١٣.

(٢) شرح الأسماء الحسنى ١٠٧.

(٣) قبيل هذا فراجع.

٣٣٧

لكنه لا في مثل ما نحن فيه.

بل مثاله كالأوليات التي يحكم بها العقل النظري ، ويعترف بها الجميع ، فمن حيث الأوليّة يقينيّة برهانيّة ، ومن حيث عموم الاعتراف بها مشهورة بالمعنى الأعم.

قال الشيخ الرئيس في الإشارات (١) فأما المشهورات فمنها أيضا هذه الأوليّات ونحوها مما يجب قبولها لا من حيث إنه يجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها ثم ذكر بعده المشهورات بالمعنى الأخص وقد ذكرنا عين عبارته سابقا.

وأما تنظير إعانة حكم العقل العملي لحكم العقل النظري بإعانة الحس له.

فالجواب عنه إن أريد بالعقل العملي نفس القوة المدركة ، فليس شأنها إلا الإدراك ، وثبوت المدرك ليس من ناحية الجوهر العاقل.

وقد عرفت نحو ثبوت (٢) الحسن والقبح فلا يقاس بثبوت المحسوس في الخارج.

وإن أريد بالعقل العملي نفس المعقولات أي الآراء المحمودة والمقدمات المقبولة ، فاطلاق العقل عليها في كتب الكلام شايع ، حيث يقولون هذا ما يوجبه العقل أو يردّه العقل أي تلك الآراء والمقدمات.

فحينئذ لا شهادة له على شيء ، لما عرفت من نحو ثبوت هذه الأمور المعقولة ، وأنها ليست من الضروريات بل من غيرها.

ولا يخفى عليك أن عدم كون هذا القسم من المشهورات من الضروريّات

__________________

(١) شرح الإشارات للمحقق الطوسي ١ / ٢١٩.

(٢) في نفس هذه التعليقة.

٣٣٨

لا يوجب دخولها في المظنونات كيف والمظنونات يقابلها في التقسيم.

بل الفرق بين هذه المشهورات المتوافقة عليها آراء العقلاء والبرهانيّات الضروريّة أنها أي الضروريات تفيد تصديقا جازما مع المطابقة لما في الواقع ، وهو المعبر عنه بالحق واليقين. بخلاف هذا القسم من المشهورات ، فانها تفيد تصديقا جازما ولا يعتبر مطابقتها لما في الواقع ، بل يعتبر مطابقتها لتوافق آراء العقلاء عليها فافهم ولا تغفل.

ومما ذكرنا في تحرير محل النزاع تعرف أن ثبوت العلاقة اللزومية بين الأفعال الحسنة والأعمال القبيحة والصور الملاءمة والمنافرة في الآخرة كما يكشف عنها الكشف الصحيح والنص الصريح خارج عن محل النزاع ، فان الكلام في التحسين والتقبيح بمعنى استحقاق المدح والذم عند العقلاء المشترك بين مولى الموالي وسائر الموالي.

فالإيراد على الأشاعرة بثبوت العلاقة اللزومية على النهج المزبور عن المحقق (١) المذكور خارج عن محل الكلام ومورد النقض والإبرام ، وإن كان صحيحا في باب إجراء الثواب والعقاب ، بل في باب الاستحقاق والاقتضاء بالتأمل أيضا ، لكنه بمعنى آخر من الاستحقاق.

وأما ما عن شيخنا العلامة (٢) « رفع الله مقامه » في فوائده في تقريب عقلية الحسن والقبح من أن الأفعال بذواتها أو بخصوصيّاتها متفاوتة سعة وضيقا ، كمالا ونقصانا بالإضافة إلى القوى ومنها القوة العاقلة ، فانه يلائمها بعض الأفعال فيعجبها أو منافرة لها فيغربها ، وأن انبساطها وانقباضها أمر وجداني ، وهما بالضرورة يوجبان صحة المدح والقدح في الفاعل إذا كان مختارا على تفصيل

__________________

(١) شرح الأسماء / ١٠٦.

(٢) التعليقة على الرسائل / ٣٣٩.

٣٣٩

ذكره « قدس سره ».

فمورد المناقشة من وجهين :

أحدهما ما أفاده « قدس سره » من الالتذاذ والتألم والاستعجاب والاستغراب للقوة العاقلة على حد سائر القوى كيف وهي رئيسها.

وذلك لما مر منا من أن القوة العاقلة لا شأن لها إلا إدراك المعاني الكلّية.

والتذاذ كل قوة وتألّمها إنما يكون بإدراك ما يناسب المدرك أو يضاده.

مثلا التذاذ الحواس الظاهرة بتكيّف الحاسة بالكيفيّة الملموسة الشهيّة أو الحلاوة أو الرائحة الطيّبة أو النغمة المطربة.

وتألمها بعكس ذلك.

كما أن التذاذ القوة المتخيّلة بتخيل اللذات الحاصلة أو المرجوّة الحصول.

وتألّمها بتخيّل أضدادها.

والتذاذ القوة المتوهمة بإدراك الآمال المطلوبة والأماني المرغوبة.

وتألمها بإدراك أضدادها.

وأما لذة العاقلة بما هي عاقلة ، فبأن يتمثّل لها ما يجب تحصيله من الكمالات من أنواع المعارف والمطالب الكليّة النافعة في نظام أمور دينه ودنياه ، وآخرته.

وتألّمها بفقدها مع القدرة على تحصيلها وإهمالها ، فان فقد ما هو كمال للقوة العاقلة يؤلمها دون ما هو أجنبي عنها ، وإدراك الظلم الكلي والعدل الكلي بتجريدهما عن الخصوصيات ودخولهما في المعقولات المرسلة إن لم يكن كمالا للقوة العاقلة لم يكن نقصا لها حتى يؤلمها.

وبالجملة أفراد الإحسان أو الاساءة خارجا كل منهما له مساس بقوة من القوى وعند نيله خارجا يحصل لتلك القوة انبساط من نيل الإحسان خارجا أو انقباض من نيل الاساءة ، سواء كان مستحقا لذلك الإحسان أو لتلك الاساءة

٣٤٠