نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الاستحالة.

نعم حيث لا حجة على خلاف المجرى ولا على وفقه ولو إجمالا لاتحاد المجرى لا يلزم منه المناقضة بين الصدر والذيل.

لا يقال : حيث إنه لا معارض للأصل ، فينحل العلم الإجمالي إمّا بحجّية الخبر النافي او حجّية غيره للعلم بالحكم الفعلي الاستصحابي ، كما في غير ما نحن فيه.

لأنا نقول : نعم إذا جرى أصل غير معارض في بعض الأطراف ينحل العلم ، لكنه هنا ليس كذلك ، إذ لا أصل غير معارض في الخبر كليّة ، وبالإضافة إلى هذا الخبر الخاص لا يوجب الانحلال ، للقطع بالملازمة في الحجّية بين هذا الخبر وسائر الأخبار.

فالحق أنه كما أفاده « قدس سره » لا مانع من جريان الأصل ثبوتا وإثباتا ، إلاّ بلحاظ المناقضة في مقام الثبوت ، وهو « قدس سره » كالشيخ الأعظم « قدس سره » لا يرى المانع ثبوتا إلاّ الإذن في المخالفة العملية ، وحيث إن الخبر ناف لا يلزم من إجراء الأصل الغير المعارض لوحدة المجرى إذن في المخالفة العملية ، سواء كان الأصل مثبتا أو نافيا.

نعم إذا كان الخبر الراجح مثبتا ، فلا مجرى للأصل النافي حيث يلزم منه الإذن في المخالفة العملية ولو احتمالية ، لا من جهة النقص في أركان الاستصحاب أو من جهة الناقض لليقين.

وعليه تعلم أن المتعارضين إذا كانا فردان من طرفين وكان تعارضهما بالنفي والإثبات أيضا لا يقتضيان عملا ، لتساقطهما وإن كان أحدهما خبرا ، لأن الترجيح للخبر على الخبر والتخيير بين الخبرين.

ومع سقوطهما بالمعارضة لا حجة على خلاف الأصل حتى يلزم منه الإذن في المخالفة العمليّة.

٣٠١

إلا أن يقال : إنّ وجه اعتبار كون المتعارضين فردين من بعض الأطراف سقوطهما على تقدير حجيتهما الذاتية.

بخلاف ما إذا كانا من طرفين يعلم بحجية أحدهما بالذات ، فان المقام ليس من تعارض الحجّتين ليتساقطا بالمعارضة بل من اشتباه الحجّة باللاّحجّة ، وفي مثله ربما يقال : بالاحتياط ، ولازمه الأخذ بالامارة المثبتة المانعة من جريان الأصل ، للزوم الإذن في المخالفة العملية.

بل حيث إن أحدهما حجة واقعا فالأصل غير جار لاحتمال التناقض وهي الحجة ، فالتمسك بعموم لا تنقض في المورد تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية.

والوجه الأول وهو لزوم الاحتياط وإن كان غير صحيح إلاّ فيما إذا كانت الأمارتان متعلقتين بتكليفين متضادّين كوجوب الجمعة والظهر ، لكن الوجه الثاني لا بأس به.

وأما إذا كان الخبران متعادلين : فان قلنا بأن معنى حجية الخبر لزوم الالتزام بمؤدّاه ، فيمكن التخيير بين الخبر المثبت والنافي من حيث التخيير بين اللزومين.

وإن قلنا : بأن معنى الحجية جعل الحكم المماثل على طبق المؤدى : فاذا كان مؤدّى أحد الخبرين وجوب الظّهر ومؤدّى الآخر وجوب الجمعة صح التخيير بمعنى جعل حكمين مماثلين للمؤدّى بنحو التخيير ، فيجب كل منهما فعلا إلى بدل.

وإذا كان مؤدّى : أحدهما وجوب شيء ومؤدّى الآخر عدم وجوبه كما هو المفروض في المقام ، فلا يعقل التخيير حيث لا بدل للواجب حتى يعقل الوجوب التخييري ، فيؤول إلى الخلف ، فان التخيير بين فعل شيء لزوما وتركه لا إلى بدل مناف لجعل طبيعة الوجوب.

٣٠٢

فما عن بعض أجلة العصر (١) من التخيير بين الخبرين المتعادلين في فرض التعارض بين النفي والإثبات لا بد من أن يحمل على الوجه الأول.

إلا أن الوجه الأول في نفسه غير صحيح ، إذ أدلة الحجّية للتحفظ على الأحكام العملية المطلوب منها العمل إمّا بتنجيزها أو بجعل أحكام مماثلة لها ليكون إيصالا لها بعنوان آخر ، وإن وجب الالتزام بها من الخارج عقلا أو نقلا.

وإلا لو فرض أن معنى الحجية هو الأمر بالالتزام فهو التكليف المجعول ، وليس هناك تكليف آخر إلاّ الواقع والالتزام الجدي بالواقع الذي لم يحرز لا حقيقة ولا تعبدا غير معقول ، والواقع غير محرز حقيقة وهو واضح ولا تعبدا ، إذ المفروض عدم جعل الحكم المماثل ، فالأمر بالالتزام الجدي غير معقول.

والمراد من الالتزام لو فرض الأمر به صريحا البناء على ثبوته كناية عن أصل ثبوته ، فهو أمر بالالتزام كناية ، وجعل للحكم المماثل حقيقة. وبقية الكلام في محله.

ومنها ما إذا تعارض فردان من نوعين يعلم بحجية أحدهما ذاتا وكان أحدهما متكفلا للوجوب والآخر للحرمة ، فان الأمارة وإن كانت من حيث نفسها قابلة لاقتضاء الاحتياط لفرض وجود الحجّة الذاتيّة بينهما.

لكن المورد غير قابل للاحتياط بوجه ، لا من حيث الموافقة القطعية ، ولا من حيث الموافقة الاحتمالية : أما من الحيثية الأولى ، فواضح لاستحالة خلو المكلف عن الفعل والترك.

وأما من الحيثية الثانية ، فالموافقة الاحتمالية في كل واقعة حاصلة قهرا ، فلا معنى لالزام العقل بها بالإضافة إلى وقائع متعددة ، وإن كان يتصور المخالفة القطعية تدريجا ، لكنه ليس للوقائع المتعددة تكليف واحد ليتصوّر تنجزه من حيث

__________________

(١) هو المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد / ٤٠٩.

٣٠٣

المخالفة القطعية ، بل تكاليف متعددة لا يعقل تنجزها ، لا من حيث وجوب الموافقة القطعية ، ولا من حيث حرمة المخالفة القطعية وبقية الكلام في محله.

ومما ذكرنا تعرف عدم المانع من جريان الأصول النافية ، حيث لا علم إجمالي بتكليف فعلي ، فلا مانع ثبوتا ولا إثباتا.

ومنها ما إذا كانت أمارات نافية لتكاليف متعددة وكانت في موردها استصحابات مثبتة ، فان الأمارات حيث كانت نافية فلا عمل حتى يلزم من جريان الأصول المثبتة الإذن في المخالفة العملية.

وأما من حيث المانع في مقام الإثبات ، فظاهر شيخنا « قدس سره » هنا عدم جريانها بناء على شمول اليقين في قوله عليه السلام ولكن تنقضه بيقين آخر لليقين الإجمالي أو للحجة المعتبرة إجمالا : إما لأولها إلى الأول نظرا إلى أن مفاد الحجية جعل الحكم المماثل ، فيقطع بسبب قيام الحجة بالحكم على خلاف الحالة السابقة إمّا تفصيلا أو إجمالا.

أو لأن المراد من اليقين مطلق ما ينجز الواقع ويكون قاطعا للعذر ، فيعم الحجة القاطعة للعذر.

وفي تعليقة شيخنا « قدس سره » تفصيل بين العلم بانتقاض الحالة السابقة إجمالا (١) والعلم بقيام الأمارة المعتبرة إجمالا ، بعدم جريان الأصول في الأول ، وجريانها في الثاني تارة ، وعدمه أخرى.

توضيحه أنه مع العلم بانتفاض الحالة السابقة إجمالا وشمول اليقين في الذيل للإجمالي لا يصح التعبد الاستصحابي بوجه ، لأن التعبد بالجميع مناقض لاعتبار ناقضيّة اليقين الإجمالي ، والتعبد بأحدهما المعين تخصيص بلا مخصص ، فانه لا ناقض له بالخصوص لعدم العلم التفصيلي بخلافه ، والتعبد بأحدهما المردد

__________________

(١) التعليقة على الرسائل / ٨٧.

٣٠٤

مفهوما ليس من أفراد العام ، والمردد مصداقا مستلزم لاستعمال اللفظ في المعنيين ، وهو كون لزوم النقض في اليقين التفصيلي تعيينيّا وفي الإجمالي تخييريّا.

واستعماله في الجامع مع أنه خلاف الظاهر مستلزم لعدم دلالة الأخبار على حرمة النقض تعيينا ولا تخييرا فيحتاج إلى دليل آخر على التعيين. هذا كلّه في صورة العلم بانتقاض الحالة السابقة.

وأما في صورة العلم بوجود الحجة المعتبرة إجمالا ، فاعتباره اعتبار العلم بوجود الناقض ، لا اعتبار العلم الناقض كما في الأول : فحينئذ إن علم إجمالا بوجود الحجة المعتبرة إجمالا مع العلم بعدم حجية الباقي ، فللناقض تعيّن واقعي فيسقط الأصل في مورده فقط دون الباقي ، وحيث إنه مردد بين الأمارات التي هي أطراف العلم ، فالتمسك بعموم لا تنقض تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، حيث لا يعلم أن رفع اليد عن اليقين السابق من باب نقض اليقين بالحجة أو بالشك ، وحيث إن هناك في الواقع تكاليف لزومية استصحابية فيجب الاحتياط.

وإن علم إجمالا بوجود الحجة المعتبرة إجمالا مع احتمال حجّية الجميع ، فحيث إنه على فرض حجية الجميع لا تعين لواحد منها لينطبق عليه المعلوم بالإجمال ليكون هو الناقض دون غيره ، فلا محالة يسقط الاستصحاب في الجميع ، إذ فرض اعتبار الناقض الإجمالي يمنع عن ثبوت الاستصحاب في الجميع ، وفرض عدم التميز الواقعي المانع من انطباق المعلوم بالإجمال يمنع عن سقوط الأصل في واحد معين واقعا ، فلا يمكن التعبد الاستصحابي بوجه ، وارتفاع الحالة السابقة في بعضها المعين واقعا مناف لحصر الناقض في اليقين ، بل مناف لأصل التعبد الاستصحابي المتقوّم باليقين والشك. فالفرق بين هذين الوجهين جريان الاستصحاب في ما عدا المعلوم في الأول واقعا ، وعدم جريانه في الجميع في الثاني واقعا هذه غاية توضيح ما أفاده « قدس سره » في تعليقته الأنيقة.

٣٠٥

أقول : أما ما أفاده قدس سره في صورة العلم الإجمالي بالانتقاض.

ففيه أن قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » : إن كان محددا للموضوع لا حكما شرعيا مولويا ، لما مر من البرهان على استحالة جعل الحكم المماثل على طبق اليقين بحكم فلا محالة يرتفع الموضوع بفرض العلم الإجمالي ، لأن الموضوع هو الشك المحض ، لا المقرون بالعلم الإجمالي.

فليس اعتبار اليقين اعتبار الناقض ، بل اعتباره اعتبار تحديد الموضوع ، فعدم التعبد الاستصحابي لا بالبرهان المتقدّم بل بعدم موضوعه ، وهذا هو الصحيح كما مر مفصلا.

وإن لم يكن محددا للموضوع بل كان الموضوع نفس اليقين السابق والشك اللاحق بما هما يقين وشك وكان اعتبار اليقين بالخلاف من باب اعتبار الناقض ، فمعناه اعتبار شيء شرعا يمنع عن فعليّة التعبد الاستصحابي مع تماميّة موضوعه في حد ذاته ، فحرمة النقض في كل واحد تعينه ذاتا.

ولزوم النقض باليقين التفصيلي تعييني بتعيّن موضوعه للناقضيّة لأمر معيّن ، وباليقين الإجمالي لزوم غير تعييني لتردد موضوعه لفرض تعلقه عنده « قدس سره » بالمردد المصداقي ، والأمر لنفس طبيعي الالزام ، والتعيّنيّة وعدمها تستفاد بالبرهان من تعلقه بنحوين من الموضوع.

وإذا كان المقتضي لحرمة النقض ذاتا في كل واحد موجودا والمانع لم يكن مانعا عن الجميع اذ لا يقين على خلاف كل واحد ولا على خلاف واحد معين في الواقع ، إذ بخصوصه ليس طرف العلم ، بل المانع متساوي النسبة إلى المقتضيات ، فمقتضاه ثبوت أحدهما بلا عنوان وسقوط أحدهما بلا عنوان كما هو مسلكه « قدس سره » في أمثال المقام لا سقوط الجميع.

نعم تعلق صفة حقيقة أو اعتبارية عندنا بأحدهما المردد مصداقا غير معقول ، فثبوت أحدهما بلا عنوان وسقوط أحدهما بلا عنوان غير معقول ، كما

٣٠٦

أن سقوط الجميع مع تعلق العلم الإجمالي بأحدهما المردد غير صحيح.

فاعتبار ناقضيّة اليقين الإجمالي غير معقول ، واعتبار تحديده للموضوع معقول بل بناء على التعميم يجب جعله محددا للموضوع بالبرهان المتقدم سابقا.

وأما ما أفاده « قدس سره » من الفرق بين صورتي العلم بوجود الحجة المعتبرة.

ففيه أن الحجة بوجودها الواقعي غير ناقض بل بوجودها الواصل ، فالعلم بها مقوم لناقضيّتها ، فحجية الأمارات واقعا بعضا أو كلا لا أثر لها بل للعلم بها ، وبحسب الوجود العلمي الإجمالي دائما لا تميّز لها ، وتميّزها الواقعي لا يوجب تميّزها من حيث وجودها العلمي حتى يتفاوت الحال من حيث حجّيتها كلا أو بعضا بحسب الواقع ، بل العلم الإجمالي بالحجة والعلم الإجمالي بارتفاع الحالة السابقة على حد سواء ، خصوصا إذا كانت الحجّية بمعنى جعل الحكم المماثل فان العلم بالحجة ليس إلاّ العلم بخلاف المتيقن سابقا.

١٣٩ ـ قوله « قده » : ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه فافهم ... الخ (١).

نعم هو كذلك إلا في الخبر النافي الراجح ، فانه من أطراف العلم بالطريق على خلاف الاستصحاب المثبت ، لكنه حيث لا يلزم من إجراء الأصل إذن في المخالفة العمليّة ، فلا مانع ثبوتا ، وحيث لا حجة ولو إجمالا على خلاف المجرى كما قدمنا بيانه ، فلا مانع منه إثباتا ، ولعلّه أشار ( رحمه الله ) إليه بقوله فافهم.

١٤٠ ـ قوله « قده » : بسبب العلم به ... الخ (٢).

فيه مسامحة ، إذ العلم بالانتقاض لا يكون سببا للعلم به.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٧.

(٢) كفاية الأصول / ٣١٨.

٣٠٧

والصحيح أن يقال للعلم بالانتقاض ، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه.

١٤١ ـ قوله « قده » : وثانيا لو سلم أن قضيّته لزوم التنزل ... الخ (١).

ينبغي تقديم مقدمة نافعة للمقام وهي أن الوجوه المتصوّرة في مقام جعل الأحكام على أقسام :

أحدها : أن لا يكون قبل العلم أو الظن بالحكم حكم مجعول ، وإنما يحدث بالعلم به أو بالظن به بجعل الحكم على طبق العلم به أو الظن به.

والمعروف فيه أنه محال لاستلزامه الدور نظرا إلى توقف العلم أو الظن بالحكم على الحكم وتوقف الحكم على العلم به أو الظن به.

وقد مر في (٢) مباحث القطع أنه لا دور أصلا بل يستلزم الخلف من تأخر المتقدم بالطبع وتقدم المتأخر بالطبع.

وقد ذكرنا هناك عدم لزوم هذا المحذور أيضا ببيان برهاني في الجميع فراجع.

ثانيها : أن لا يكون لكل واقعة حكم مجعول خاص ، بل جعل أحكاما كثيرة قبلا بعدد الظنون والآراء لا مترتبة عليها ، فكلها أحكام واقعية ، وإن كان لو لم تكن تلك الآراء لم يجعل للواقعة حكم ، لكنها لما كانت محفوظة في علمه تعالى جعلت على طبق مؤدياتها أحكام في الواقع ، لا أنها أحكام أخر زيادة على الأحكام الواقعية.

وهذا هو الذي يقال بالإجماع وتواتر الأخبار على خلافه.

والدور المتقدم لو كان صحيحا لجرى في هذا القسم أيضا ، لأن تلك

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٨.

(٢) في التعليقة ٢٧ و ٤٦.

٣٠٨

الأحكام وإن كانت قبل الآراء قبلية بالزّمان ، لكنها بعدها بالطبع وبالعلية ، إذ المفروض أنه لو لا تلك الآراء والظنون لم يجعل تلك الأحكام ، فلتلك الآراء نحو من الشرطية لثبوتها قبلا.

مع أنها لمكان تعليقيّتها متأخرة عن تلك الأحكام ، خصوصا إذا كانت تلك الأحكام المجعولة مترتبة على ظن المجتهد بها نحو القضية الحقيقيّة ، فان محذور توقف الحكم على موضوعه وتوقف الموضوع على حكمه جار فيه أيضا.

بل لا يبقى حينئذ فرق بينه وبين القسم الأول إلا بكون الجعل هنا بنحو القضيّة الحقيقيّة ، والجعل هناك بنحو القضيّة الخارجيّة ، وهو كذلك لفرض عدم الحكم هناك رأسا وحدوثه بالعلم والظن به ، فتوقف الحكم هناك على العلم به توقف المشروط على شرطه ، وتوقفه هنا توقف العارض على معروضه ، فتدبر جيدا.

ثالثها : أن يكون لتلك الأحكام ثبوت واقعي للوقائع من دون توقف لأصلها على العلم والظن بوجه أصلا ، إلاّ أن فعليّتها منوطة بقيام الطريق عليها ، وهو على قسمين : أحدهما أن يكون تلك الأحكام مصروفة إلى مؤديات الطرق بحيث لو قام طريق على خلافه لسقط الحكم الفعلي من أصله.

فالفرق بينه وبين القسم الثاني أن الحكم من الأول لم يجعل على خلاف طريق من الطرق في الأول ، وهنا جعل حكم مخالف لما أدى إليه الطريق ، لكنه سقط من أصله بقيام الطريق على خلافه ، بدعوى أن ما قام عليه الطريق ذو مصلحة غالبة مضادة للمصلحة المقتضية للحكم الواقعي ، وإذا سقطت المصلحة المغلوبة عن التأثير سقط مقتضاها وهو الحكم ، فالأول تصويب حدوثا ، وهذا تصويب بقاء لكنه ليس فيه توهم الدّور.

وهذا أيضا إذا كان جعل الحكم المخالف بنحو القضية الخارجية ، وإلا إذا كان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فلا محالة يتقيّد الحكم الواقعي بما إذا لم يقم على

٣٠٩

خلافه طريق ، فليس لمن قام عنده طريق مخالف حكم من الأول ، فهو تصويب حدوثا لا بقاء فقط ، لفرض عدم المشترك في حقه ليكون مستحيلا.

ثانيهما : الصرف بنحو التقييد بأن يكون الحكم الواقعي الذي أدى إليه الطريق فعليّا بعثيّا أو زجريّا أو منجّزا بناء على انفكاك مرتبة البعث والزجر عن التّنجّز بحيث إذا لم يقم عليه طريق لا يسقط من أصله ، بل لا أثر له عقلا وشرعا من حيث الإطاعة والعصيان ، فلا تصويب حيث لم يسقط الحكم الواقعي ، لكن موضوع الأثر هو الواقع المقيد بقيام الطريق عليه بما هو كذلك لا بما هو واقع.

وعليه فالصّرف المطلق غير الصرف المقيد ، وجامعه مطلق الصرف ، والأول تصويب ولا استحالة فيه ، والثاني يرد عليه ما يرد على الأول من حيث إن إتيان ما تعلق به القطع يجزي بما هو واقع لا بما هو مؤدى القطع ، فقوله « قدس سره » إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقل إلى آخره يراد به الصرف المطلق لا مطلق الصرف ، كما يشهد له مقابلته بالتقيّد (١) بقوله « رحمه الله » ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد إلى آخره.

نعم لا استحالة في الصرف المطلق كما عرفت لوضوح أن الصرف في مرتبة الفعلية بعد جعل الحكم لا بلحاظ أداء الطريق إليه.

ومنه يعلم ما في عبارة المتن من المسامحة حيث قال « قدس سره » إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه إلى آخره ، فان ظاهره أن الصرف المطلق تصويب محال ومع قطع النظر عنه يكفي في بطلانه الإجماع.

__________________

(١) هكذا في النسخة المخطوطة بغير خط المصنف قده ، وفي المطبوعة : التعبد ، تصحيف من ( التقيّد ) لكن الصحيح : بالتقييد.

٣١٠

مع أنه كما عرفت ليس بمحال حتى يقطع النظر عنه ويكتفي في بطلانه بالإجماع على خلافه ، وما هو محال ليس من مقولة الصرف ، فانه لا واقع حتى يصرف إلى الطريق.

نعم لو كان التعبير هكذا إذ الصرف ولو لم يكن محالا لكنه تصويب مجمع على بطلانه لسلم عن هذه الخدشة ، كما أن قوله « قدس سره » ضرورة أن القطع بالواقع إلى آخره وجه آخر لبطلان الصرف ، بل لمطلق الصرف فلا بد في مقام التعليل به من العاطف ، لسبق تعليل بطلان الصرف بقوله إذ الصرف إلى الآخر (١) ، وليس علة للاجماع كما هو واضح حتى يكون علة للعلة والأمر سهل.

ثم إنه تبين مما ذكرنا أن فعليّة الواقع بقيام الطريق على قسمين :

أحدهما : أن يكون قيام الطريق عليه موجبا لفعلية الحكم من قبل الشارع ، بحيث يكون تماميّة اقتضائه من تلقاء الشارع منوطة بقيام الطريق كالواجبات المشروطة بغير قيام الطريق من سائر القيود المعلقة عليها التكاليف ، ومثل هذا القيد لا يعقل أن يقوم مقامه شيء ، والواقع بما هو غير فعلي من قبل المولى حتى يكون الظن به ذا أثر عقلا.

ثانيهما : أن يكون الحكم تام الاقتضاء من قبل الشارع وفعليا من قبله لكن فعليّته البعثية والزجرية منوطة عقلا بنحو من أنحاء الوصول إما عقلا كالقطع أو شرعا كالطرق المنصوبة لبلوغ الحكم إلى مرتبة البعث والزجر ، وهو أيضا على قسمين :

أحدهما : الفعليّة ذاتا بأن يكون اعتبار الحجّية بمعنى الاحتجاج به على التكليف كما إذا أمر بداعي تنجيز الواقع ، فالواقع على تقدير ثبوته يكون بالغا مرتبة البعث والزجر المساوقة لمرتبة التنجز كما مر مرارا.

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قده ، لكن الصحيح : إلى آخره.

٣١١

ثانيهما : الفعلية بالعرض بأن يكون اعتبار الحجّية بمعنى جعل الحكم المماثل على طبق الطريق الموافق ، فالحكم المماثل حيث إنه بنفسه واصل يكون فعليّا حقيقة ، وحيث إنه بلسان أنه الواقع ، فينسب الوصول والفعليّة إلى الواقع ، فيقال : بفعلية الواقع عرضا.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أن غرض القائل بالظن بالطريق كصاحب الفصول رحمه الله من كون المكلف به هو العمل على طبق الطريق وتقييد الواقع به ليس بمعنى الصرف المطلق المستلزم للتصويب ، ولا الفعليّة من تلقاء الشارع بحيث يتمّ اقتضائه من قبل الشارع بقيام الطريق ، كيف وقد فرض في صدر كلامه القطع بأنا مكلفون بأحكام فعلية. بل المراد دخل الطريق في فعلية التكليف بعثا وزجرا ، بحيث يكون له إطاعة وعصيان بأحد الوجهين من الفعلية الذاتية أو العرضيّة ، حيث إن التكليف بالطريق إمّا بمعنى جعل الحكم المماثل أو الانشاء بداعي تنجيز الواقع ، ودوران فعليّة الواقع مدار الثاني واضح ، وكذا مدار الأول ، إذا كان الحكم المماثل بعنوان إيصال الواقع بالعرض ، بحيث لا يكون منبعثا إلا عن مصلحة الواقع.

وعلى هذين التقديرين فوجه دعوى اختصاص حجية الظن بالظن بالطريق هو أن الواقع الذي لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لا أثر له ، فالظن به ظن بما لا أثر له ، بخلاف الظن بالفعلي منه وهو الظن بما قام عليه الطريق المنصوب.

ومنه يتضح الفرق بين قيام الظن بالطريق مقام القطع به وعدم قيام الظن بالواقع مقام القطع به ، إذ الظن والقطع على الأول تعلّقا بالحكم الفعلي ، فيقوم الظن به مقام القطع به ، بخلاف الظن والقطع على الثاني ، فان القطع هو بنفسه موجب لفعليّة الواقع ومحقق لموضوع الأثر ، والظن بالواقع المقطوع به غير معقول ، وبنفس الواقع ظن بما لا أثر له.

٣١٢

والتحقيق أن تقيّد فعليّة الواقع وبلوغه مرتبة البعث والزجر بالحمل الشائع بقيام الطريق عليه وإن كان مما لا بد منه عندنا خلافا لمن يجعل الفعليّة بفعليّة موضوعه فقط ، إلا أن استنتاج هذه النتيجة المهمة متوقف على أمرين.

أحدهما : انحلال العلم الإجمالي الكبير ، وإلا لكانت التكاليف الواقعيّة فعليّة بوصولها بالعلم الإجمالي ، لما مر مرارا أنه لا فرق في الوصول المبلغ للحكم إلى درجة الفعليّة بين العلم التفصيلي والإجمالي.

وحينئذ فالظن بالواقع ظن بالحكم الفعلي ، كما أن الظن بمؤدّى الطريق المنصوب ظن بالحكم الفعلي.

ثانيهما : عدم انحلال العلم الإجمالي الصغير برفع اليد عن الموافقة القطعيّة كما هو المفروض من عدم وجوب الاحتياط في الطرق ، وإلا لو قلنا بانحلاله كما هو مقتضى التحقيق ، لاستحالة الانفكاك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية كان الظن بمؤدى الطريق ظنا بحكم غير فعلي ، فيكون كالظن بالواقع ، لوضوح أن الحكم الطريقي كالحكم الحقيقي لا بد في فعليّته وترتب الأثر المترقب منه من وصوله علما أو علميّا.

ومع فرض انحلال العلم يكون التكليف الطريقي بلا وصول علمي ، فكيف يكون موصلا للواقع ومبلّغا له إلى مرتبة الفعليّة.

أما الأمر الأول ، فهو صحيح ، لأن قيام الحجّة على بعض أطراف العلم الإجمالي بمقدار المعلوم إجمالا يوجب الانحلال كما حقق في محلّه.

ولا فرق في وصول الحجة بين العلم التفصيلي بقيامها على بعض الأطراف والعلم الإجمالي بقيامها ، كما لا فرق في وصول التكليف الواقعي بين العلمين.

وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم في الدليل العقلي على حجية الخبر ، حيث إن العلم الإجمالي بصدور أخبار كثيرة ليس علما إجماليا

٣١٣

بوجود الحجة الشرعية ، بل علم إجمالي بصدور تكاليف واقعيّة من الإمام عليه السلام ونسبة العلم الإجمالي بكليّة التكاليف ونسبة العلم الإجمالي بخصوص هذه التكاليف على حد سواء ، فلا معنى لكون هذا العلم الإجمالي منجزا لها دون العلم الإجمالي الكبير ، فلا يكون العلم الإجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الإجمالي الكبير.

وأما الأمر الثاني ، فهو غير صحيح ، لما مر من استحالة الانفكاك بين وجوب الموافقة وحرمة المخالفة ، فمع عدم وجوب الاحتياط ينحل هذا العلم الإجمالي الصغير ، ولا محالة ينحل العلم الإجمالي الكبير من ناحية العلم الإجمالي الصغير ، وإن كان ينحل بالوجه المشترك بينهما وهو عدم الانفكاك بين وجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

وقد عرفت سابقا انتهاء الأمر إلى حجّية الظن من باب الكشف وسيجيء إن شاء الله تعالى أنّه لا فرق حينئذ بين الظن بالواقع والظن بالطريق من حيث كون كل منهما موجبا لفعلية الحكم الواقعي والحكم الطريقي فتدبر جيدا.

وأما ما أفاده شيخنا الأستاد العلامة « رفع الله مقامه » من وجوه الإيراد ، فلا يخلو من نوع من الانتقاد.

فمنها أن الصرف ولو بنحو التقييد غير سديد ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع ، لما ذكره « قدس سره » سابقا أن القطع لا تناله يد الجعل من الشارع إثباتا ونفيا حتى يكون على طبق المقطوع حكم شرعي ليكون مدار الامتثال والإجزاء على إتيانه بما هو مقطوع به.

والجواب أن مدار الامتثال على البعث والزجر ، والقطع والطريق المنصوب حيثيّة تقييديّة للحكم الواقعي ، وحيثيّة تعليليّة للبعث والزجر ، ولا منافاة بينهما.

٣١٤

فالتقييد في مرتبة لا ينافي إجزاء المأتي به عن المبعوث إليه بما هو مبعوث إليه من دون قيد ، والقطع والطريق المنصوب في هذه المرحلة على حد سواء ، فكل منهما مبلغ للحكم الواقعي الى مرتبة الباعثية والزاجرية ، فالحكم الواقعي الواصل بما هو مصداق البعث لا أن البعث الواصل بما هو بعث واصل مدار الامتثال والإجزاء ، وما هو ضروري هو الثاني دون الأول الذي يقتضي البرهان تقيّد الواقع به في صيرورته بعثا حقيقيّا وزجرا جدّيا.

ومنها أن الالتزام بالتقييد غير مفيد ، فان الظن بالواقع في التكاليف العامة البلوى لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر ، وجه التلازم أن التكاليف العامة البلوى عادة مما قام عليها طريق معتبر من قبل الشارع ، كما أن الطرق المتداولة غالبا تؤدّى إلى الواقع ، وحيث إن الظن بالواقع في أمثال هذه المسائل يستلزم الظن بأنه مؤدّى الطريق المعتبر ، فلا وجه لقصر حجية الظن على الظن بالطريق.

والجواب أن منشأ التلازم هي الغلبة المزبورة ، وهي مفيدة للظن نوعا لا فعلا ، ونتيجة دليل الانسداد حجية الظن الفعلي لا الظن النوعي.

مضافا إلى أن الظن بالطريق أو بكون الواقع مؤدّى الطريق إنما يكون حجة في دائرة العلم الإجمالي ، إذ الطريق المنصوب لو لم يصل حكما وموضوعا ولو بالعلم الإجمالي لا أثر له في جعل الحكم الواقعي فعليا.

وعليه ، فكما إذا ظننا بحجّية طريق حكما فقط من دون الظن بقيامه على شيء لا أثر له ، كذلك إذا ظننا بأن هذا الحكم الواقعي مؤدّى طريق معتبر غير واصل ، إذ مع فرض وصوله موضوعا بقيام خبر أو إجماع منقول أو شهرة مثلا على هذا الحكم المظنون لكان هناك يقين بأنه مؤدّى أحد أطراف الطرق المعلومة بالإجمال ، فلا يتصور الظن بأنه مؤدّى طريق من الطرق المعتبرة إلا بفرض عدم وصوله خارجا في ضمن ما بأيدينا من الطرق ومعه فلا أثر للظن به ، حيث لا أثر

٣١٥

للطريق الغير الواصل موضوعا كغير الواصل حكما ، فتدبر جيدا.

ومنها أن مقتضى التقييد حجّية الظن بأنه مؤدّى الطريق المعتبر وإن لم يظن تفصيلا بحجّية طريق من الطرق ، وأما الظن بحجية الطريق ، فلا يجدي في الظن بالمقيد ، فان ذات المقيد إذا لم يكن مظنونا لا فائدة في الظن بالقيد فقط ، إلا إذا ظن من الطريق المظنون الحجّية بالواقع ليكون القيد والمقيّد مظنونين ، فمجرد الظن بحجية الطريق لا يجدي بناء على التقييد ، دون الظن بأنّه مؤدّى الطريق المعتبر ، والظن بالطريق المتداول وإن كان عادة تؤدّى إلى الواقع ، إلا أن صاحب الفصول لا يفرق بين الظن بالطريق المتداول وغيره.

والجواب أن مقتضى القطع بحجّية الطريق الدخيل في فعليّة الواقع بعثا أو زجرا ليس القطع بالواقع ولا الظن به ، بل الطريق المنجّز ينجز الواقع على تقدير ثبوته ، فالقطع بالحجّية يوجب القطع بفعليّة الواقع على تقدير ثبوته ، والظن بها يوجب الظن بفعليّته على تقدير ثبوته.

ومنه تبين أن التقييد على الوجه الذي ذكرناه ، وهو الوجه المعقول في حمل كلام صاحب الفصول « قدس سره » لا يقتضي الظن بالواقع في صورة القطع بالحجية فضلا عن صورة الظن به ، بل الأمر كذلك بناء على الحجّية بمعنى جعل الحكم المماثل ، فان الحكم المماثل إذا كان مجعولا على أي تقدير ، كما هو الحال بناء على السببية والموضوعية ، فلا محالة يكون القطع بها قطعا بالحكم المماثل ، والظن بها ظنا بالحكم المماثل.

وأما بناء على الطريقية المحضة فلازمه قصر الحكم المماثل على صورة موافقة الطريق للواقع ، فلا محالة يكون حاله حال الإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا قطع ولا ظن بفعلية الواقع عرضا إلا على تقدير ثبوته في الواقع على طبق مؤدّى الطريق.

ومنها أن نصب الطريق وجعل التكليف الفعلي دائرا مدار قيام الطريق

٣١٦

لا يوجب إلا رجوع العلمين إلى علم واحد وانحلال العلم الإجمالي بالتّكاليف الواقعية.

وهذا التقريب أولى مما في المتن من أن نصب الطريق لا يساعد على الصرف والتّقييد ، لما مر من أن الوجه الوجيه في التقييد ما ذكرنا من دوران وصول التكليف الفعلي من قبل المولى مرتبة البعث والزجر ـ الذين عليهما مدار الاطاعة والعصيان ـ مدار قيام الطريق المنصوب.

لكنه لا يجدي إلا في الانحلال ، وهو إنما يوجب الاختصاص للظن بالطريق إذا كانت حجية الظن من ناحية منجزية العلم الإجمالي بعد عدم اقتضائه للاحتياط مطلقا كما هو مسلك القوم.

وأما على ما سلكه شيخنا « قدس سره » من سقوط العلم الإجمالي عن التأثير وأن الموجب لرعاية أطراف العلم هو إيجاب الاحتياط شرعا المستكشف بسبب العلم بالاهتمام ، فلا محالة ينتج حجّية الظن بقول مطلق ، إذ لا اختصاص للعلم بالاهتمام بهذه الطائفة من الأحكام ، بل لاهتمام الشارع بأحكامه نصب الطريق إليها ، لا أن مؤديات الطرق من أحكامه موارد اهتمامه.

لكنك قد عرفت منا أن إيجاب الاحتياط إذا كان طريقيّا بداعي تنجيز الواقع كان حاله حال العلم الإجمالي في محذور التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، وأن مقتضى المقدمة الثالثة وهو عدم جواز إهمال الأحكام هي الجهة الجامعة لوجوب الاحتياط والعمل بالأصول والعمل بالظن أو الشك والوهم ، ولا محالة يكون مورد عدم جواز الإهمال ما تعلق به العلم الإجمالي ، فمع فرض تضييق دائرته بمؤديات الطرق لا بد من الاحتياط فيها ، أو العمل بالظن أو بغيره فيها.

والتحقيق أنّ تقييد التكاليف الواقعية بما قام عليه الطريق لأجل وصولها به ليبلغ درجة الفعليّة ليمتاز الظن بالطريق عن الظن بالواقع من حيث كون

٣١٧

الأول ظنا بالحكم الفعلي دون الثاني ، مع أن الحكم الطريقي كالحكم النفسي لا فعلية له إلاّ بوصوله ، وما هو غير واصل فعلا لا يكون موصلا فعلا.

وبعد فرض سقوط العلم الإجمالي الصغير عن التأثير لم يصل الطريق وصولا صالحا لفعليّة التكاليف الواقعية ، والظن به كالظن بالواقع ، وكما يصلح الظن بالحكم الطريقي لفعلية الواقع باعتباره شرعا من باب الكشف ، كذلك الظن بالحكم النفسي ، فلا موجب للاختصاص بالأول بعد عدم الموجب لتضييق دائرة المعلوم بالإجمال ، فتدبر جيدا.

ثم إنه في قبال ما أفاده شيخنا « قدس سره » من التعميم بلحاظ الانحلال تقريب آخر للتعميم مبنيا على عدم الانحلال عن بعض أجلّة العصر (١). محصّله أن العلم الإجمالي إذا قام على بعض أطرافه طريق معتبر شرعا فأثر الإجمال باق في النفس ، وإنما الشارع نزّل مؤدّى الطريق منزلة الواقع ، فهو بدل عن الواقع شرعا ، فيكون امتثاله بدلا عن امتثال الواقع عقلا ، فلا يسقط عقاب الواقع المنجّز بسبب العلم إلا بإتيان الواقع أو بدله ، وإلا لو سقط العلم عن التأثير وكان الطريق مخالفا للواقع لم يستحق عقابا أصلا إذا خالف الطريق ، إذ الواقع سقط عقابه ، ومؤدّى الطريق لا واقع في ضمنه.

وعليه فحيث إن نصب الطريق ليس إلاّ جعل البدل للواقع ، فالمكلف مخير عقلا بين الإتيان بالواقع أو ببدله علما أو ظنا عند تعذر العلم.

وقد مر في تضاعيف ما قدمناه أن الحجّية سواء كانت بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى تنجيز الواقع لا يعقل أن يكون العلم الإجمالي متعلقا بتكليف فعلي على أيّ تقدير للزوم اجتماع الحكمين الفعليّين في مورد الطريق ، ولا يعقل أن يكون منجزا للحكم على أي تقدير ، لأنه إذا كان في طرف الطريق كان منجزا

__________________

(١) هو المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد / ٤١١.

٣١٨

به ، والمنجّز لا يتنجّز ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي إمّا حقيقة أو بحسب الأثر.

وأما حديث جعل البدل ، فلا يصح إلاّ على الموضوعية.

وأما على الطريقية فلا ، إذ بناء على جعل الحكم المماثل لا حكم حقيقة إلاّ على تقدير موافقة الطريق ، وبناء على التنجيز لا تنجيز إلاّ في صورة الموافقة ، فلا معنى لجعل البدل ولا لتنجز الواقع أصلا أو بدلا ، ومجرد كون لسان الدليل بعنوان أنه الواقع لا يستدعي البدليّة ، كما شرحناه مرارا.

وأما سقوط عقاب الواقع مطلقا أو بشرط الإتيان بمؤدّى الطريق فنقول يمكن القول بعدم السقوط إلاّ بموافقة الطريق ، لكنه لا لأجل البدليّة ، بل لأن الحجّية متقوّمة بالمنجّزيّة على تقدير الموافقة والمعذريّة على تقدير المخالفة للواقع ، فان الحجّة بالاعتبار الأول حجة للمولى على عبده ، وبالاعتبار الثاني حجة للعبد على مولاه.

ومن الواضح أن المنجّزيّة والمعذّريّة وإن كانتا صفتين للطريق ، إلا أن المنجّزيّة بلحاظ استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمعذّريّة بلحاظ موافقة الأمارة ، فالمولى يحتج على عبده بالطريق في مقام معاقبته على مخالفة ما قام عليه الطريق ، والعبد يحتج على مولاه بالطريق في مقام موافقته له وتخلفه عن الواقع ، وإلا فلا معنى لاستناد العبد في دفع العقوبة عن نفسه بتخلّف الأمارة ، لأنه غير معلوم له كي يكون مستندا له في عدم إتيان الواقع ، بل يمكنه الاعتذار بموافقة ما قام عليه الطريق وإن كان في الواقع مخالفا للواقع ، وتمام الكلام في محلّه.

١٤٢ ـ قوله « قده » : ثانيهما ما اختص به بعض المحققين ... الخ (١).

تقريب ما أفاده (٢) « قدس سره » ببيان أمرين :

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٩.

(٢) هداية المسترشدين ، مبحث الإجماع.

٣١٩

أحدهما : أن الذي لا بد منه ولا محيص عنه في مقام امتثال التكاليف الواقعيّة هو تحصيل الفراغ عنها في حكم الشارع دون تحصيل الواقع ، فتحصيل العلم بالواقع وإن كان موجبا لسقوط عقاب الواقع ، إلا أنه ليس بحيث يكون لا بد منه ، بل الذي لا بد منه تحصيل الفراغ عنه في حكم الشارع.

وتوضيحه أن المهم عند العقل أولا إذا كان تحصيل اليقين بفراغ الذمة في نظر ، المولى ، فلا تعيّن حينئذ لتحصيل العلم بأداء الواقع بالخصوص ، كما لا تعيّن لسلوك الطريق المقرّر من الشارع بالخصوص ، بل هما فردان للواجب عقلا ، وهو تحصيل اليقين بالفراغ في نظر الشارع ، فالأول مفرّغ في نظره العمومي المشترك مع غيره ، والثاني مفرّغ في نظره الخصوصي.

ويمكن أن يريد « قدس سره » تعين سلوك الطريق المقرّر بالخصوص كما هو ظاهر تفريغ الذمة في حكمه.

والوجه فيه ما أفاده « قدس سره » من أن تحصيل العلم بالواقع بحيث لا يتطرق إليه بجميع خصوصياته احتمال مدفوع بالأصل نادر الوقوع جدا ، كما إذا سمع التكليف من المعصوم عليه السلام شفاها بنص صريح لا يحتاج في الاستفادة منه إلى إعمال أصالة الظهور ، ولا إلى اعمال أصل في جهة صدوره ، ومثله لا يوصف إلا بالامكان ، ولعله لم يتّفق لأحد ، فمثله لا يكون مناطا للوظيفة العقليّة في مرحلة الامتثال ، بل باب العلم الذي يدّعى انفتاحه في أزمنة حضور النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام باب العلم بهذه التكاليف الفعليّة التي هي مؤدّيات الطريق ، وإلاّ فباب العلم بالواقع بجميع خصوصياته منسدّ على العموم ، بل على الخصوص من أول الأمر.

وعليه فالانسداد الذي هو محل الكلام ما هو بديل ذلك الانفتاح.

ثانيهما : أن قوله « قدس سره » في حكم المكلّف أي الشارع إمّا متعلّق بتفريغ الذمة ، وإمّا متعلق بقوله الواجب أولا ، فعلى الأول يراد أن الوظيفة

٣٢٠