نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

يطلب من الحجّية اليقين بها بل الجري على وفقها.

كما أنه ظهر مما ذكرنا أن هذا الوجه مختص بما إذا كان المورد من العمليات دون الاعتقاديات.

فتصحيح ما صدر عن بعض المتكلمين من التمسك بأصالة الامكان لتصديق ما ورد في المعاد الجسماني وأشباهه بمثل ما ذكرنا غير صحيح ، إذ المطلوب فيه الاعتقاد واليقين دون العمل كي يكون الظهور حجة فيه وكي لا يمنع عن حجّيته احتمال الاستحالة.

مع أن ما ذكرنا مرجعه إلى أصالة الظهور ونحوه ، والمرجع في كلامهم ومرامهم إلى أصالة الامكان استنادا إلى القاعدة الموروثة من الحكماء.

في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

٥٥ ـ قوله « قده » : والجواب أن ما أدعى لزومه إما غير لازم ... الخ (١).

تحقيق الجواب أن حقيقة الحكم خصوصا في الأحكام الشرعيّة عبارة عن البعث والزجر أعني الانشاء بداعي جعل الداعي من دون لزوم ارادة أو كراهة بالنسبة إلى فعل المكلف في المبدأ الأعلى ، ولا في سائر المبادي العالية ، بل في مطلق من كان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغير.

بداهة أن الشوق النفساني لا يكون إلا لأجل فائدة عائدة إلى جوهر ذات الفاعل أو إلى قوة من قواه ، وإلا فحصول الشوق الأكيد بالاضافة إلى الفعل على حد المعلول بلا علة ، وإنما يتصور الشوق الأكيد إلى فعل الغير إذا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٢١

كان ذا فائدة عائدة إلى المريد إياه.

وحيث إن أفعال المكلفين لا يعود صلاحها وفسادها إلا إليهم ، فلذا لا معنى لانقداح الارادة في النفس النبويّة والولوية فضلا عن المبدأ الأعلى.

مع اختصاصه تعالى بعدم الارادة التشريعية من جهة أخرى تعرضنا لها (١) في مبحث الطلب والارادة مستوفى ، ولعلنا نشير إليها عما قريب إن شاء الله تعالى.

وأما الارادة المتعلقة بنفس البعث والزجر ، فهي ارادة تكوينية لتعلقها بفعل المريد لا بفعل المراد منه ، ولا ترد على ما ورد عليه البعث كما لا يخفى.

وعليه فليس بالنسبة إلى فعل المكلف إرادة أصلا فضلا عن الارادتين ، بل لو فرضنا انبعاث الارادة التشريعية عن فائدة عائدة إلى المراد منه لم يلزم ثبوت ارادتين تشريعيتين ، لما مر مرارا من أن الشوق ما لم يصل إلى حد ينبعث عنه العضلات أو ينبعث منه البعث الحقيقي لا يكاد يكون مصداقا للارادة التكوينية أو التشريعيّة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى عدم مصداقية الانشاء الواقعي للبعث الحقيقي ، فكما لا بعث حقيقي واقعا لا ارادة تشريعية واقعا.

وأما الكلام في اجتماع المثلين أو الضدين من حيث الحكم المجعول واقعا وظاهرا ، فاعلم أن البعث والزجر ليسا جعل ما يدعو إلى الفعل أو الترك بالضرورة ، بداهة دخالة ارادة العبد واختياره في حصول أحدهما ، بل المعقول كما نبهنا ، عليه سابقا جعل ما يدعو بالامكان.

وقد عرفت أن الانشاء بداعي جعل الداعي الذي هو تمام ما بيد المولى لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة إمكانا ، إلا بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول ، ضرورة أن الأمر الواقعي وإن بلغ ما بلغ من الشدة والقوة لا يعقل

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥١.

١٢٢

أن يتصف بصفة الدعوة ويوجب انقداح الداعي في نفس العبد وإن كان في مقام الانقياد ما لم يصل إليه.

فلا يعقل أن يكون الانشاء بالداعي المزبور داعيا بالامكان إلا بعد وصوله حتى يكون بحيث يترتب على مخالفته العقاب ليكون محققا للدعوة على أي تقدير ، فمجرد الالتفات والاحتمال لا يصحح الدعوة على أي تقدير ، ويخرج من الامكان إلى الوجوب إذا خلا العبد عن منافيات العبودية.

ومن الواضح أن التضاد والتماثل بين البعثين والزجرين والبعث والزجر فان استحالة داعيين متماثلين أو متضادين إنما هي مع وجود الموجب لهما ، والمفروض أن الأمر الواقعي الغير الواصل لا يوجب الدعوة ، فلا منافي للبعث والزجر الحقيقين على طبق الأمارة المتضمنة للتكليف أو الترخيص على خلاف الحكم الواقعي ، فالأمر في الأحكام الظاهرية من قبيل المقتضى وفي الواقعية من قبيل اللاّاقتضاء.

وينطبق هذا التوجيه على ما هو المشهور من كون الأحكام الظاهرية مطلقا أحكاما حقيقية بخلاف بعض التوجيهات الآتية ، والفرق بينه وبين حمل الحكم الظاهري على الفعلي والواقعي على الانشائي المحض لا يكاد يخفى ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.

٥٦ ـ قوله « قده » : والحجية المجعولة غير مستتبعة لانشاء ... الخ (١)

توضيح المقام أن الحجية بمعنى الوساطة في الإثبات تارة تلاحظ بالإضافة إلى الواقع وأخرى بالإضافة إلى أثر الواقع ، وحيث إن اثبات الواقع حقيقة غير معقول فلا محالة يراد اثبات الواقع عنوانا.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٢٣

والوساطة بكل من الوجهين إمّا مجعولة بالاستقلال ، فيكون (١) وساطة اعتبارية وإما مجعولة بتبع جعل حكم طلبي ، فتكون وساطة انتزاعية ، فقوله الخبر حجة مثلا اظهار لاعتبار وساطته ، وقوله صدق العادل مثلا جعل للحكم على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع ، فالخبر واسطة في اثبات الواقع العنواني ومصحح انتزاع هذه الوساطة ذلك الحكم المزبور بالعنوان المذكور.

كما أن الحجية بمعنى الوساطة في تنجز الواقع تارة تثبت اعتبارا بقوله الخبر حجة ، وأخرى تثبت انتزاعا بقوله صدق إذا أنشأ بداعي تنجيز الواقع.

فنقول أما الحجية المجعولة بالاستقلال اعتبارا ، فهي : إما اعتبار المنجّزيّة للواقع كما لا يأبى عنه عبارة الكتاب.

وإما اعتبار وصول الواقع بالخبر ومحرزية الخبر.

وإما اعتبار نفس مفهوم الحجية وهو كون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به.

أما الأول : فإن أريد جعل الخبر موجبا للعقوبة على مخالفة الواقع المخبر به فهو كجعل العقاب ابتداء على مخالفة ما قام عليه الخبر ، فإنه أيضا يصحح انتزاع الحجية بمعنى المنجّزية والموجبية للعقاب.

وكلاهما غير معقول ، إذ لا عقاب على مخالفة الواقع مع عدم الحجة عليه عقلا أو شرعا ، فجعل الحجية بنفس جعل العقاب المتوقف على وجود الحجية دوريّ.

وإن أريد من المنجزية جعل حيثية يترتب عليها تنجز الواقع ، فالكلام في تلك الحيثية.

إلا أن التعبير بالمنجّزية لا يأبى عن جعل حيثية يترتب عليها الوقوع في تبعة المخالفة ، فان التنجيز ليس إلا إتمام العمل وجعل الواقع على حد يترتب

__________________

(١) هكذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، والصحيح : فتكون ، كما في العبارة الآتية.

١٢٤

على مخالفته العقوبة.

وأما الثاني وهو اعتبار الوصول والإحراز ونحوهما ، فقد مر بعض الكلام فيه في بحث القطع الموضوعي والطريقي (١)

وملخص القول فيه أن اعتبار الوصول : إمّا بعنوان تنزيل الوصول الظني منزلة الوصول القطعي.

وإما بعنوان تحقيق الموضوع لأثر الوصول.

فإن كان المراد هو التنزيل فمقتضاه جعل أثر المنزل عليه للمنزل ، وهو إما جعل الحكم المماثل ، أو جعل التنجيز الذي لا يقول بشيء منهما من يقول باعتبار الوصول كما مرّ سابقا (٢).

وإن كان المراد هو تحقيق الموضوع فمقتضاه أن يكون الأثر العقلي مرتبا على الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري.

مع أنه ليس ترتب الأثر على الوصول من باب ترتب الحكم الكلي على الموضوع الكلي بنحو القضايا الحقيقية حتى يكون القطع من أفرادها المحققة الوجود والظن مثلا من أفرادها المقدرة الوجود التي يحققها الشارع باعتباره وصولا.

بل هذا الأثر إنما أستفيد من بناء العقلاء عملا على المؤاخذة على التكليف الواصل قطعا أو الواصل بخبر الثقة.

ففي ما لا بناء عملي لهم على اتباعه لا معنى لتحقيق الموضوع.

وفيما كان لهم بناء عملي كخبر الثقة لا حاجة إلى اعتباره لترتيب ذلك الأثر إلا بعنوان الإمضاء.

ولا معنى لإمضاء الاعتبارات إلا باعتبار يماثل ذلك الاعتبار وترتيب أثر

__________________

(١) التعليقة ٢١.

(٢) في التعليقة ٢١.

١٢٥

يوافق ذلك الأثر ، وإلا فترتب الأثر العقلائي لا يتوقف إلا على بناءهم واعتبارهم لا على اعتبار الشارع ، فتدبره جيدا ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تتمة الكلام.

وأما الثالث وهو اعتبار نفس معنى الحجية ، فتوضيح القول فيه أن الحجية مفهوما ليست إلا كون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به.

وهذه الحيثية : تارة تكون ذاتية غير جعلية كما في القطع ، فإنه في نفسه بحيث يصح به الاحتجاج للمولى على عبده.

وأخرى تكون جعلية إما انتزاعيّة كحجّية الظاهر عند العرف وحجّية خبر الثقة عند العقلاء ، فإنه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر وخبر الثقة والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثيّة من الظاهر والخبر.

وأمّا اعتباريّة كقوله عليه السلام هم حجّتي عليكم وأنا حجة الله فإنه جعل الحجية بالاعتبار.

والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه ـ مع موافقته لمفهوم الحجّية فلا داعي إلى اعتبار أمر آخر غير هذا المفهوم ـ هو أن المولى إذا كانت له أغراض واقعيّة وعلى طبقها أحكام مولوية ، وكان إيكال الأمر إلى علوم العبيد موجبا لفوات أغراضه الواقعيّة ، إما لقلّة علومهم ، أو لكثرة خطئهم ، وكان إيجاب الاحتياط تصعيبا للأمر منافيا للحكمة وكان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به.

وكل تكليف قام عليه ما يصح الاحتجاج به اعتبارا من المولى كان مخالفته خروجا عن زيّ الرقيّة ورسم العبوديّة وهو ظلم على المولى والظلم مما يذم عليه فاعله.

١٢٦

ولا حاجة بعد تلك المقدمات إلى اعتبار الخبر وصولا وإحرازا : إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد اعتبار الوصول ، إذ كل اعتبار لا بد من أن ينتهي إلى حقيقة تقتضي ذلك الاعتبار.

وإذا كانت هذه المقدمات كفى اعتبار الخبر بحيث يحتج به من دون لزوم توسط اعتبار آخر.

وكفى بهذا شاهدا ملاحظة حجية الظاهر وخبر الثقة عند العرف والعقلاء ، فإن تلك المقدمات تبعثهم على العمل بالظاهر والخبر ، لا أنها تقتضي اعتبار الوصول والإحراز منهم جزافا للعمل بالظاهر والخبر. هذا كله في الحجية المجعولة بالاستقلال.

وأما المجعولة بالتبع ، فتارة يراد بها الوساطة في اثبات الواقع عنوانا ، وأخرى الوساطة في اثبات الواقع بعنوان آخر ، وثالثة الوساطة في تنجز الواقع :

فنقول : أما الوساطة في اثبات الواقع عنوانا ، فهي بجعل الحكم على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع كما هو مقتضى ظاهر التصديق وأنه الواقع ، فهو حكم مماثل للواقع الذي قام عليه الخبر ، لكنه لا بما هو هو بل بما هو الواقع ، فوصوله بالذات وصول الواقع عنوانا وعرضا.

وأما الوساطة في إثبات الواقع بعنوان آخر ، فهي بجعل الحكم المماثل بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر بمعنى أن وجوب صلاة الجمعة وإن لم يصل بعنوانه ، لكنه وصل بعنوان كونه مما قام عليه الخبر ، نظير ما إذا قيل أكرم زيدا وحيث لم يعرفه يقال : له أيضا بداعي جعل الداعي أكرم جارك ، فالغرض من جعل الداعي إيصال الجعل الأول بعنوان آخر.

وأما الوساطة في تنجز الواقع ، فهي كما إذا قال صدق العادل بداعي تنجيز الواقع بالخبر ، فالأولان إنشاء بداعي جعل الداعي ، والثالث إنشاء

١٢٧

بداعي تنجيز الواقع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الاشكال في الثالث.

وأما الأولان ، فربما (١) يشكل بأن الحجية إذا كانت منتزعة من جعل الحكم التكليفي نظير الجزئية والشرطية المنتزعة من تعلق الحكم بالمركب والمقيد لزم دوران الحجية مدار بقاء الحكم التكليفي كما هو شأن الأمر الانتزاعي ومنشأ انتزاعه ، مع أن الحكم التكليفي يسقط بالعصيان والخبر لا يسقط عن الحجية ، كما أن الجزئية بمعنى كون الشيء بعض المطلوب يدور مدار بقاء المطلوبية ، فإذا سقط الطلب ليس ذات الجزء موصوفا بالجزئية للمطلوب فعلا.

ويندفع بأنه : إن لوحظ الدليل المتكفل للحكم الكلي المرتب على الموضوع الكلي فهو باق ما لم ينسخ كما هو شأن القضايا الحقيقية ، فالحجية المنتزعة من هذا الجعل الكلي الذي لا يزول بالعصيان كذلك.

وان لوحظ الحكم الفعلي بفعلية موضوعه فهو وإن كان يسقط بالعصيان إلا أن الاشكال لا يختص بالحجية المنتزعة من الحكم التكليفي بل الحجية الفعلية بمعنى الوصول الاعتباري كذلك ، إذ مع سقوط الحكم على أي حال لا معنى لفعلية اعتبار وصول الواقع ، كما لا معنى لاعتبار منجزية الخبر فعلا.

نعم ما لا يسقط أصلا سواء لوحظ الحكم الكلي أو الفعلي هي الحجية بمعنى كونه مما يحتج به المولى ، فان مورد الاحتجاج فعلا هو في وعاء العصيان ، فالخبر ، من أول قيامه على الحكم مما يصح الاحتجاج به عند المخالفة ولا يسقط عن هذا الشأن ، وهذا من الشواهد على أن الحجية بهذا المعنى الصالح للبقاء ، فتدبر جيدا.

إذا عرفت ما ذكرناه في معنى الحجية الاعتبارية والانتزاعية ، فاعلم أن

__________________

(١) المستشكل هو المحقق النائيني قده. أجود التقريرات : ٢ : ٧٦.

١٢٨

الحجية المجعولة بالاعتبار حيث إنها أمر وضعي ليس بينه وبين الحكم الواقعي تماثل ولا تضاد.

وأما الحجية المجعولة بجعل الانشاء الطلبي ، فالإنشاء بداعي تنجيز الواقع على فرض معقوليته أيضا ليس مماثلا ولا مضادا للحكم الحقيقي أي البعث والزجر بالحمل الشائع وإن اشتركا في مفهوم البعث النسبي الانشائي ، إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع والآخر تنجيز بالحمل الشائع.

وأما الانشاء بداعي جعل الداعي سواء كان على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع أو على طبق المؤدى بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر ، فنفى المماثلة والمضادة مبني على ما قدمناه في الحاشية المتقدمة من عدم اتصاف الحكم الواقعي بكونه بعثا وزجرا بالحمل الشائع إلا بعد وصوله ، ولا تماثل ولا تضاد إلا بين البعثين بالحمل الشائع أو بين بعث وزجر بالحمل الشائع لا بينهما بالوجود الإنشائي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام.

٥٧ ـ قوله « قده » : وأما تفويت مصلحة الواقع أو إلقاء (١) ... الخ (٢).

وذلك لأنهما ليسا من العناوين القبيحة بالذات بل من العناوين المقتضية ، فاذا وجد فيهما جهة أقوى كان الحسن أو القبح تابعا لتلك الجهة.

ولزوم التدارك من الخارج غير مجد في ارتفاع صفة القبح ، إذ التدارك من الخارج لا يكون من جهات التعبد بالأمارة ، كي ينقلب عما هو عليه من صفة القبح.

واشتمال المؤدى على مصلحة يتدارك بها خلف على فرض الطريقية.

__________________

(١) في المصدر : أو الإلقاء.

(٢) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٢٩

مع أنه غير لازم إلا لاتصاف التعبد بصفة الحسن وهو غير موقوف على وجود ما يتدارك به ، لإمكان جهة أخرى في نفس التعبد ، كما إذا كان في التعبد به صرف العبد عن تحصيل العلم الذي في كلفة ومفسدة غالبة على ما يفوته من المصلحة أو ما يقع فيه من المفسدة.

فجهة الحسن في التعبد الصارف عن تحصيل العلم أقوى من جهة القبح لتفويت مصلحة الواقع أو للإلقاء في المفسدة.

ومما ذكرنا تقدر على دفع شبهة لزوم نقض الغرض من التعبد بالظن.

توضيحه : أن المراد بالغرض إن كان الغرض من الواجب والحرام أي المصلحة والمفسدة ، فمرجع الاشكال إلى لزوم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة وقد عرفت الجواب.

وإن كان المراد الغرض من الإيجاب والتحريم أي البعث والزجر أي جعل الداعي إلى الفعل أو الترك ، فهي شبهة قويّة.

والجواب عنها أن مفاد دليل التعبد : إن كان حكما طريقيا ، فمن الواضح أن تنجيز الواقع يؤكد جعل الداعي ، والتعذير عن مخالفة الواقع ليس منافيا لجعل ما يمكن أن يكون داعيا بالفعل ، لأن جعل المكلف معذورا في المخالفة لا يسقط ما يمكن أن يكون داعيا عن إمكان دعوته حقيقة ، ولذا لو حصل له العلم به من باب الاتفاق لم يكن مانع عن فعليّة دعوته.

وبالجملة كون المكلف معذورا وإن كان يوجب عدم قيامه مقام تحصيل العلم حتى يتحقق فعلية ما يمكن دعوته ، لكنه يمنع عن فعلية الدعوة لا عن إمكان الدعوة ، وما هو شأن البعث جعل ما يمكن أن يكون داعيا لا جعل ما هو داع بالفعل.

وإن كان مفاد الدليل حكما حقيقيا كالحكم الواقعي ، فالاشكال إنما يرد :

١٣٠

إذا كان الغرض من الواجب بحد يوجب قيام المولى مقام جعل الداعي وإيصاله ليتحقق الدعوة بالفعل ولو بالأمر بالاحتياط أو بنصب طريق موافق.

أو إذا كان الغرض بحد بحيث إذا وصل عادة يكون الأمر محركا ، فان جعل الداعي الواصل إلى خلافه سد باب وصوله العادي (١) ، ففي هاتين الصورتين يلزم نقض الغرض.

نعم إذا كان جعل الداعي المخالف في فرض عدم وصول العادي (٢) للحكم الواقعي فلا يلزم نقض الغرض في هذه الصورة.

وأما إذا لم يكن الغرض بذلك الحد بل بحد يوجب قيام المولى مقام جعل الداعي بحيث لو اتفق العلم به لكان محركا فحينئذ لا يمنع مثل هذا الغرض عن جعل الداعي إلى خلافه ، فإن جعل الداعي إلى الخلاف لا يمنع من اتفاق حصول العلم به حتى يكون نقضا للغرض.

وكون الغرض بهذا الحد كما يكون تارة لضعف اقتضائه في ذاته كذلك قد يكون لابتلائه بمزاحم أقوى ، فانه إذا كان في تحصيل العلم مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الذي اخطأ عنه الطريق ، فلا محالة لا يكون البعث المنبعث عن مثل هذه المصلحة المزاحمة لغرض جعل الداعي بنحو يجب على المولى إيصاله ، ولا بنحو مرهون بوصوله العادي ، بل بنحو مخصوص بوصوله من باب الاتفاق ، فإنه الذي لا كلفة فيه ولا مفسدة فيه ، فتدبر جيدا.

هذا كله بناء على الطريقية المحضة.

وأما على الموضوعية والسببية ، فلا يلزم تفويت المصلحة ، إلا أن الكلام في الالتزام بالمصلحة على نحو لا يلزم منه التصويب ، والشيخ الأعظم « قدس سره »

__________________

(١) في النسخة المطبوعة : وصول العادي والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : عدم الوصول العادي.

١٣١

في فرائده جعل السببية على وجوه ثلاثة وحكم بأن لازم وجهين منها هو التصويب الباطل ، ولا يلزم في الوجه الثالث تصويب (١).

وقبل الشروع فيما أفاده « قدس سره » ينبغي التنبيه على مقدمة وهي أن الواجب الواقعي إن كان هي الظهر مثلا وقامت الأمارة على وجوب الجمعة والتزمنا بسببية الأمارة والمصلحة في مؤداها فالمصلحتان إما متغايرتان وجودا فقط وإما متضادتان وجودا وإما متسانختان.

فإن كانتا متغايرتين فقط من دون مضادة ، فحيث إن المفروض وحدة الفريضة في الوقت وأنه لا يجب فعلا فريضتان في وقت واحد ، فلا محالة يقع التزاحم بين الملاكين.

وحيث إن المفروض فعليّة وجوب الجمعة بقيام الأمارة عليه فيعلم منه أن مصلحتها أقوى تأثيرا من مصلحة الواقع ، فيزول الحكم الواقعي وهو التصويب ، لأن لازمه دوران بقاء الحكم الواقعي وتأثير مصلحته فيه مدار عدم قيام الأمارة المخالفة على حد التصويب اللازم من دوران الحكم الواقعي مدار قيام الأمارة عليه.

غاية الأمر أن الحكم لا ثبوت له حتى بثبوت المقتضى في هذا الشق دون الشق المتقدم ، فإن مجرد المزاحمة في التأثير لا يقتضي سقوط الملاك بنفسه بل سقوطه عن التأثير فقط.

إلا أن التحقيق أن فرض التزاحم فرض أمر غير معقول ، لأن تزاحم الملاكين المقتضيين لجعل الحكم فرع تنافي مقتضاهما ، ومقتضاهما غير متنافيين إلا بملاحظة انتهاء الجعلين إلى حكمين فعليين ، مع أن أحد الحكمين بنفسه وبملاكه مرتب على عدم وصول الحكم الواقعي.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٥١.

١٣٢

فلنا دعويان : إحداهما ترتّب الحكم وملاكه على عدم وصول الحكم الآخر.

ثانيهما عدم فعلية الحكم الواقعي إلا بفعلية موضوعه وبوصوله لا بفعلية موضوعه كما قيل (١).

أما الأولى ، فمن البين أن حجية الأمارة سواء قلنا بالطريقية أو بالموضوعية منوطة بكون المورد مورد التعبد بها ، وليس مورد التعبد إلا في صورة الجهل بالواقع وعدم وصوله ، ولا محالة يكون هذا الحكم عن ملاك يقتضي مثل هذا التعبد ، فمصلحة الجمعة متقيدة قهرا بعدم وصول وجوب الظهر.

وأما الثانية ، فقد مرّ منا مرارا أن فعليّة الموضوع دخيلة في فعليّة حكمه المجعول عليه بنحو القضية الحقيقيّة لا أن فعليّتها تمام العلة في فعليّة الحكم ، إذ يستحيل أن يكون الإنشاء الواقعي المتعلق بالمكلف الذي هو تمام الموضوع لهذا الحكم المجعول مصداقا لجعل الداعي وموصوفا بالباعثيّة حقيقة.

وما لم يصل الإنشاء إلى حد الباعثية لا يضاد الزجر ولا يماثل بعثا آخر ، ليلزم اجتماع الضدين أو اجتماع المثلين ، ومجرد تعلق الحكم المجعول برقبة المكلف بفعلية موضوعه لا يضاد حكما حقيقيّا آخر متعلّقا برقبته بعد عدم مصداقيّته للباعثيّة فعلا.

ولا يلغو هذا الانشاء الذي هو بداعي جعل الداعي بسبب عدم فعليّته بعدم وصوله ، لإمكان وصوله ، وتفاوت أفراد المكلفين في الوصول وعدمه.

وإناطة الفعليّة بالوصول عقليّة لا شرعيّة ليكون تماميّة الموضوع وفعليّته منافيا لعدم فعليّة الحكم ، بل فعليّة الموضوع يخرج الحكم المجعول على كلي المكلف عن حد القضيّة الحقيقيّة ويكون كالقضيّة الخارجيّة.

إلا أن مجرد تعلق ذلك الحكم الكلي بهذا الموضوع لا يجعله مصداقا

__________________

(١) القائل هو المحقق النائيني قده. فوائد الأصول ١ و ٢ : ١٧٥.

١٣٣

للباعث وما لم يكن كذلك لا يجري حديث التنافي بالتضاد والتماثل مثلا. هذا كله إن كانت المصلحتان متغايرتين فقط.

وإن كانتا متضادتين وجودا بحيث لا يمكن قيام المصلحة خارجا بالظهر الواجب واقعا مع القيام المصلحة بالجمعة التي أدى الخبر إلى وجوبها ، فمع فرض أقوائيّة مصلحة الجمعة تؤثر في وجوبها ، ولا يعقل ترتب المصلحة على الظهر حتى تقتضي وجوبها واقعا.

فيلزم منه التصويب أيضا وإن كان يستلزم الإجزاء بمعنى عدم وجوب الإعادة بعد كشف الخلاف ، حيث إن الأمر بها لتحصيل ملاكها وهو الغرض ممتنع الحصول.

إلا أن التحقيق عدم لزوم التصويب ، لأن جعل الحكمين مع تضاد المصلحتين إنما يكون مستحيلا إذا لزم منه التسبيب إلى إيجاد المتضادتين ولا تسبيب جدا إلا بلحاظ انتهاء الإنشاءين إلى الفعليّة معا.

وحيث عرفت أن أحد البعثين في طول الآخر بحيث لا ينتهي الأمر دائما إلا إلى فعلية بعث واحد تعرف أنه لا يستلزم إيجاد المتضادين تسبيبا.

فالإنشاء الواقعي بنحو القضايا الحقيقيّة موجود في الطرفين.

وأما عدم فعليّة الحكم الواقعي حتى مع وصوله بعد موافقة الأمارة ، فهو لا يستلزم التصويب ، لأن سقوط الحكم بعد ثبوته إلى حال حصول ملاكه أو إلى حال امتناع ملاكه بوجود ضده أجنبي عن التصويب ، بمعنى عدم الحكم المشترك بين العالم والجاهل.

وليس جعل الحكم لغوا لاحتمال وصوله قبل موافقة الحكم الظاهري ولو بالإضافة إلى بعض أفراد المكلفين.

وإن كانتا متسانختين ، فلا محالة تقوم مصلحة موافقة الأمارة مقام مصلحة الواقع من دون تصويب ، لأنه من باب سقوط الأمر بحصول ملاكه.

١٣٤

ولا يجب التخيير لما مر من ترتب أحد البعثين على الآخر وعدم انتهاء الأمر إلى فعليتهما في عرض واحد حتى يجب التخيير بينهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن للشيخ الأعظم العلامة الأنصاري « قدس سره » في فرائده طورا آخر من الكلام يناسب ذكره للمقام قال : « قدس سره » في مسألة التعبد بالأمارة على الموضوعية واشتمال المؤدى على مصلحة وراء مصلحة الواقع إنه يتصور على وجوه :

أحدها : أن الحكم الواقعي مطلقا تابع لقيام الأمارة بحيث لا يكون مع قطع النظر عن قيام الأمارة حكم أصلا حتى يشترك فيه العالم والجاهل ، وذكر أن هذا القسم هو التصويب الباطل الذي قام الاجماع على بطلانه وتواتر الأخبار به (١).

ثانيها : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لقيام الأمارة الموافقة ، بمعنى ثبوت الحكم المشترك بين العالم والجاهل لو لا قيام أمارة على الخلاف ، بتقريب أن مصلحة العمل بالأمارة غالبة على مصلحة الواقع والحكم الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه وشأني في حقه بمعنى المقتضى لذلك الحكم.

ومقتضى تصريحه هنا أن ثبوت الحكم المشترك بمعنى ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه لا الثبوت المضاف إلى نفسه ولو إنشاء.

وعليه فالفرق بين هذين الوجهين أن الأول لا ثبوت للحكم فيه حتى بثبوت المقتضي بخلاف الثاني ، فانه له هذه النحو من الثبوت العرضي ، فهو بملاحظة عدم ثبوت الحكم المجعول يشارك الأول وهو التصويب الباطل.

وربما يتخيل (٢) أنه تصويب بقاء لا حدوثا بمعنى أن قيام الأمارة المخالفة موجب لسقوط الحكم المجعول لمزاحمته لملاكه من حيث البقاء.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ : ٤٨.

(٢) كما في أجود التقريرات ٢ : ٦٧.

١٣٥

ويندفع بأن جعل الأحكام : إن كان بنحو القضايا الخارجيّة أمكن دعوى أنه لا مانع عن تأثير ملاك الحكم الواقعي إلا عند قيام الأمارة المخالفة الموجب لصيرورة العمل على طبقها ذا مصلحة غالبة.

وأما إن كان بنحو القضايا الحقيقيّة ، فمن حين جعل الحكم الواقعي لا يعقل تأثير ملاكه إلا في الحكم في غير صورة قيام الأمارة المخالفة وظاهر كلام الشيخ أيضا ذلك ، حيث قال « رحمه الله » إن الصفة (١) المزاحمة بصفة لا تصير منشأ الحكم إلى آخره.

إلا أنك قد عرفت في المقدمة أن المصلحتين بأي وجه كانت لا تزاحم بينهما في التأثير حتى يخلو الواقع عن الحكم وفرض تقييد مصلحة الواقع في نفسها بعدم قيام الأمارة المخالفة خلف وخلاف ظاهر كلامه « قدس سره ».

ثالثها أن تكون المصلحة في سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها لا أن قيامها تحدث مصلحة في الفعل. بيانه أن التدبر التام فيما أفاده « قدس سره » في هذا المقام بملاحظة صدر كلامه وختامه يقضي بأن الفارق بين الوجه الثاني والثالث هو أن الأمارة على الثاني سبب لحدوث مصلحة في ذات الفعل فلا محالة يقع الكسر والانكسار بين الملاكين القائمين بذات الفعل من حيث التأثير.

وأما على الثالث فالفعل على ما هو عليه واقعا من الملاك القائم به ، وإنما الملاك الآخر في أمر آخر وهو سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها ولعل نظره الشريف « قدس سره اللطيف » إلى أن المصلحة الأخرى على الثاني حيث إنها في نفس الفعل ، فالحكم المنبعث عنها حكم واقعي لذات الفعل وهو مختص بمن قامت عنده الأمارة فلا حكم واقعي مشترك بين الكل بخلاف الوجه الثالث ، فان المصلحة في سلوك الأمارة الحاكية عن الحكم الواقعي ، وفي تطبيق العمل عليها من حيث إن مدلولها حكم واقعي ، فعنوانها مقتض لثبوت الحكم الواقعي

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ : ٤٨.

١٣٦

لا مناف له ، ولذا قال (١) « رحمه الله » في أواخر كلامه إن هذا من وجوه الرد على المصوبة لا أنه تصويب.

والتحقيق أن الفارق إن كان مجرد ثبوت الحكم الواقعي عنوانا على الوجه الثالث حيث إن الأمر بتطبيق العمل على الأمارة بملاحظة كون مدلولها حكم الله ، دون الوجه الثاني الذي لا شأن للامارة إلا الوساطة في ثبوت مصلحة في ذات الفعل كسائر الأسباب.

ففيه أن ثبوت الحكم عنوانا مع عدم ثبوته الواقعي إنشاء وفعلا غير مجد ، لخلو الواقع حقيقة عن الحكم بمرتبة إنشائه وفعليته.

وإن كان الفارق قيام المصلحة على الوجه الثاني بذات الفعل وعلى الثالث بعنوان آخر فلا تزاحم.

ففيه أن ذلك العنوان إن كان منطبقا على الفعل فلا فرق في باب التزاحم بين الملاكين بين ما إذا كانا قائمين بذات الفعل أو بذات الفعل وبعنوانه المتحد معه وجودا.

وأما تخيل (٢) أن المصلحة في الاستناد إلى الأمارة وهو ليس من عناوين الفعل.

فمدفوع بأن المراد : إن كان قيام المصلحة بالعمل المستند إلى الأمارة ، فهو غير مجد ، إذ الفعل بذاته له ملاك ، وبما هو متحيث بحيثيته له ملاك آخر ، لكنه لا يجوز اجتماع الحكمين أيضا ، فان الحكمين في المتحيث بذاته وبعنوانه.

وإن كان المراد قيام الملاك بنفس الاستناد فهو فعل قلبي لا يجب في غير التعبديّات المحقق لدعوة الأمر فيها.

مع أن قيام المصلحة بشيء يدعو إلى البعث نحوه لا إلى غيره وإن كان

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ : ٥١.

(٢) كما في أجود التقريرات ٢ : ٧٠

١٣٧

ملزوما له فمن أين وجوب فعل الجمعة ظاهرا مثلا.

ومنه تبين أن ما في بعض نسخ فرائد الشيخ الأجل « قدس سره » من فرض المصلحة في الأمر غير صحيح.

أما أولا ، فلأن مصلحة الأمر غير استيفائية للمكلف حتى يدعو إلى البعث ويكون موجبة لتدارك ما فات من مصلحة الواقع.

وأما ثانيا ، فلأن متعلق الأمر إذا لم يكن فيه بنفسه مصلحة يستحيل أن يتعلق به بعث ، فإن البعث إيجاد تسبيبي من المولى لفعل المكلف المحصل للملاك الموافق لغرض الآمر ، والغرض متعلق بحيثية صدوره عن المكلف لا بحيثيّة صدوره من المولى وبقية الكلام في محله.

٥٨ ـ قوله « قده » : نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للأحكام التكليفيّة ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن استتباع الحجية للحكم التكليفي إما بنحو استتباع الموضوع لحكمه ، وإما بنحو استتباع منشأ الانتزاع للأمر الانتزاعي ، وكلاهما محل الاشكال :

أما الأول ، فلأن الحجيّة ليست كالملكيّة ذات آثار شرعيّة ولم يرتب على الحجيّة شرعا وجوب العمل على طبقها حقيقة ، بل لا يعقل ترتبه عليها ، سواء كان الحكم المرتب حقيقيّا أو طريقيّا ، إذ بعد جعل الحجية اعتبارا بأحد الوجوه المتصورة لا يبقى مجال لجعل الداعي ، ولا للإنشاء بداعي تنجيز الواقع ، إذ كفى بالحجّة الشرعيّة حاملا للمكلف على ما قامت عليه ، وكفى بها منجزا للواقع.

وبعد حصول الغرض من الحكم بأي معنى كان يكون الحكم بلا ملاك ، وهو على حد المعلول بلا علة.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٣٨

وأما الثاني ، فلأن الحكم الوضعي وإن كان يصح انتزاعه بلحاظ حكم تكليفي كالجزئية والشرطية بلحاظ التكليف بالمركب والمقيد لكونه في نفسه أمرا انتزاعيا.

إلا أن الحكم التكليفي لا يصح جعله إلا بالإنشاء بداعي جعل الداعي.

واعتبار أمر وضعي لا يعقل أن ينشأ منه إنشاء بداعي جعل الداعي حتى يستتبع الأمر الوضعي حكما تكليفيّا ، وترتب الدعوة والباعثيّة عليه غير استتباعه لمقولة الحكم التكليفي.

وأما الاستتباع في مقام الإثبات بطور استتباع المعنى الكنائي للمعنى المكنى عنه ، فهو مع أنه غير مناسب لجعل الحجيّة حقيقة واستتباعها للحكم التكليفي.

يرد عليه أن الاستتباع في مقام الاثبات يتوقف على اللزوم في مقام الثبوت ، وقد عرفت عدم اللزوم ثبوتا.

نعم جعل الحجية عنوانا للانتقال من اللازم إلى ملزومه وهو الحكم الطلبي المصحح لانتزاع الحجية معقول فنقول : الخبر حجّة للانتقال إلى ملزوم الحجية وهو الحكم التكليفي المصحح للحجية الحقيقية لا من باب الانتقال من الملزوم إلى لازمه ، وهو مع منافاته للمقام مخالف لظاهر الاستتباع ، فانه أخص من الاستلزام.

ثم إن الجواب الذي أجاب به شيخنا الاستاد « قدس سره » فيما يأتي مبني على أن مجرد كون الانشاء بعثا مفهوميا انشائيا لا يلازم اجتماع المثلين والضدين بل فيما إذا كان كالحكم الواقعي بداعي جعل الداعي.

وأما إذا كان بداع آخر من الدواعي ، فهو ليس مصداقا لجعل الداعي حقيقة ، ولا تماثل إلا بين فردين من طبيعة واحدة لا بين فرد من الارشاد مثلا وفرد من جعل الداعي ، وكذلك التضاد ، فإنه ليس بين كل طبيعتين متغايرتين بل

١٣٩

بين طبيعتين لا يمكن اجتماعهما في وجود واحد لبعد الخلاف بينهما.

وما تصوره « قدس سره » هنا هو الحكم الطريقي أي الإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا بداعي البعث الجدي.

وفي تصور هذا السّنخ من الإنشاء بهذا الداعي إشكال.

محصّله أن الإنشاء كما مر مرارا بأي داع كان هو مصداق لذلك الداعي ، مثلا الإنشاء بداعي جعل الداعي مصداق لجعل الداعي ، وبداعي الإرشاد إرشاد ، وبداع الاختبار اختبار وهكذا.

ومن الواضح أن مفاد الهيئة وهو البعث النسبي المتحقق بوجود إنشائي يتعلق بمادة مخصوصة ، فهو تعجيز بالإضافة إلى تلك المادة ، أو إرشاد بالإضافة إليها أو تحريك بالنسبة إليها.

فالإنشاء بداعي التنجيز مصداق لتنجيز الواقع ، وجعله بحيث يستحق العقوبة على مخالفته.

والبعث الإنشائي الذي هو مصداق التنجيز لا يعقل وروده إلا على مادة قابلة للتّنجيز والتّنجّز والقابل للتّنجيز مثلا هو الخبر وللتنجّز هو الحكم الواقعي المخبر به ، وهما لا يعقل تعلق البعث الانشائي بهما.

وما تعلق به البعث الإنشائي كالصلاة أو كتصديق العادل الذي هو منطبق عليها أو لازمها ، وشيء منهما غير قابل للتنجّز ولا للتنجيز ، إذ القابل للتنجز حكم الصلاة لا نفسها ، والقابل للتنجيز الحاكي عن حكمها لا نفسها ولا لازم نفسها ، إذ لا معنى لتنجّز اظهار الصدق ولا لتنجيزه.

وبهذا البرهان تعرف أن الإنشاء بداع التنجيز بحيث يكون مصداقا له غير معقول.

نعم استفادة تنجز الواقع من مثل صدق العادل معقولة بوجه آخر ، وهو أن المراد من التصديق هو التصديق الجناني كما هو ظاهره لا التصديق العملي

١٤٠