نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الحصة المتقررة في كل واحد من الأمرين فالمعقود عليه بالذات نفس الجهة الجامعة عنوانا ، والمعقود عليه بالعرض ما يطابقها بما هي لا بما لها من الخصوصية ، لاستحالة الاختلاف بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض والمعقود عليه بالذات والمعقود عليه بالعرض بالزيادة والنقصان أو بسائر جهات الاختلاف.

فيدور الأمر حينئذ بين عقد القلب على الجهة الجامعة وهو الاحتياط الناقص ، وعقد القلب على المظنون بخصوصه ، فان الجهة الجامعة وإن كانت منطبقة على المظنون أيضا.

إلا أن الالتزام بالمظنون بخصوصه لا يقتضى الالتزام بالجهة الجامعة حتى يرتفع الدوران ، بل يقتضى الالتزام بالحصة المتخصّصة بالخصوصيّة المظنونة فقط.

بخلاف الالتزام بالجهة الجامعة ابتداء فانها قابلة للانطباق على الحصّة الأخرى في ضمن غير المظنون.

ففي الالتزام بالجهة الجامعة موافقة قطعيّة بمقدار.

بخلاف الالتزام بالمظنون فانه يحتمل معه ترك الالتزام بأصل الواقع.

فيدور الأمر بين رعاية الخصوصيّة ظنّا ورعاية الجامع قطعا والثاني يتعيّن عقلا.

فهذا هو الوجه في عدم التنزّل إلى الامتثال الظني دون ما يتراءى من العبارة من عدم انسداد باب العلم بامتثال الواقع بما هو إجمالا لما عرفت من المحاذير المتقدّمة بل لرجحان الالتزام بالجهة الجامعة المعلومة على الالتزام بالخصوصيّة المظنونة.

ومما ذكرنا تعرف أن الواجب لو كان تحصيل العلم أو العقد على المعلوم لأمكن القول بالاكتفاء بتحصيل العلم بهذا المقدار أو عقد القلب على المعلوم بهذا المقدار من دون خصوصيّة في هذه المرحلة لوجوب عقد القلب على الواقع

٤٠١

فانه القدر الميسور على جميع التّقادير ، فاذا وجب رعايته مع إمكانه وجبت على أي تقدير.

١٦٥ ـ قوله « قده » : من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمّله والانقياد له ... الخ (١).

ظاهره « قدس سره » كصريح تعليقته (٢) المباركة على الرسائل أنه لا بد من عقد القلب زيادة على العلم والمعرفة في مورد وجودهما وأنه مناط الإيمان دون مجرّد العلم واليقين وإلا لزم ايمان الكفّار الموقنين باطنا المعاندين ظاهرا أو القول بأن ملاك الإيمان والكفر مجرّد الاقرار والإنكار لسانا من دون اعتبار الإقرار والإنكار جنانا.

وتوضيح المرام أن الكلام : تارة في بيان حقيقة عقد القلب والإقرار النفساني وما يقابلهما في قبال العلم وما يقابله.

واخرى في أن ملاك الإيمان الحقيقي الموجب للنعيم الدائم والكفر الحقيقي الموجب للعذاب الدائم ما ذا.

أما المقام الأول ، فقد بيّنا في مبحث (٣) الطلب والإرادة من مباحث الجزء الأول من حاشية الكتاب وفي مبحث (٤) الموافقة الالتزاميّة من أوائل حاشية الجزء الثاني ، أن عقد القلب والالتزام النفساني والإقرار والإنكار الباطني وما يشبهها من أفعال القلب ، ولها قيام بها قياما صدوريّا بنحو قيام الفعل بالفاعل لا بنحو قيام العرض بموضوعه بنحو القيام الحلولي والوجود الناعتي ، فليست هي داخلة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٩.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ١٠١.

(٣) نهاية الدارية / ١ التعليقة ١٤٩.

(٤) نهاية الدراية / ٣ التعليقة ٣١.

٤٠٢

في المقولات العرضيّة ليقال : إن المقولة المناسبة لها مقولة الكيف النفساني أو مقولة الفعل.

مع أن نسبة النفس إليها بالتأثير والإيجاد لا بالتّكيّف بها ، فكيف تكون كيفا لها وأنه ليس هنا أمران لهما حالتان تدريجيّتان بالتأثير والتأثّر كالنار والماء من حيث حالتي التسخين والتسخن التدريجيتين ، فلا معنى لأن يكون من مقولة الفعل المقابلة لمقولة الانفعال ، بل هي إيجادات نفسانيّة وهي موجودات نوريّة من موجودات عالم النفس والوجود خارج عن المقولات فان مقسمها الماهية فراجع ما قدّمناه في المبحثين المزبورين.

وعليه فعقد القلب وإن كان ربط الشيء بالقلب بربط وجود نوريّ زيادة على الربط العلمي الذي بلحاظه يطلق الاعتقاد على العلم الانفعالي ، بل هذا علم فعليّ من منشآت النفس ووجوده الواقعي عين وجوده العلمي دون المعلوم بالعلم الانفعالي فان وجوده الواقعي غير وجوده العلمي.

إلا أن الإشكال فيه من حيث إن هذا المعنى من الإقرار النفساني والعقد القلبي لازم دائمي للعلم التصديقي المقابل للتّصور ، فكل علم تصديقي ملزوم لهذا الفعل القلبي ، فما معنى اعتباره زيادة على العلم التصديقي ، وقد بيّنا ملازمته في مبحث الطلب والإرادة.

وتقريبه إجمالا أن العلم المطلق ليس إلاّ حضور ذات المعلوم عند القوة الادراكيّة سواء كان إدراكا تصوريّا أو تصديقيّا.

والتفاوت بينهما ليس بتعلّق الأول بالمفردات وتعلّق الثاني بالنسبة ، لأن فرض ثبوت القيام لزيد خارجا في أفق النفس معقول ، وليس الفرض إلا إحضار النفس فالنّسبة بالحمل الشائع حاضرة عند النفس ، مع أن هذا الحضور ليس إلا مجرد التصور ولا تصديق فيه أصلا ، كما أن كون النسبة الحاضرة ذات مطابق في الخارج أو لا لا يوجب تفاوتا في ناحية الصورة العلميّة الادراكية حتى يكون هناك

٤٠٣

سنخان من العلم بما هو علم ليكون أحدهما تصوّرا والآخر تصديقا.

بل التحقيق كما عليه أهله أن الحضور الساذج المحض تصور والحضور المتخصّص باقرار النفس تصديق ، فان صورة هذا ذاك فقط تصور محض ، ونفس هذا ذاك عند النفس إقرار من النفس وتصديق منها يوجب كون تلك الصورة الادراكيّة الملزومة له علما تصديقيّا.

وعليه فما من علم تصديقيّ إلاّ ومعه إقرار النفس بأن هذا ذاك ، فالالتزام بعقد القلب والالتزام النفساني ـ زيادة على العلم واليقين في باب الإيمان لئلا يلزم محذور الالتزام بإيمان الكفار الموقنين الجاحدين بما استيقنت به أنفسهم كما نطق به القرآن الكريم ـ لا يجدي شيئا ، والالتزام بأن عقد القلب بناء وفرضا على خلاف اليقين الملزوم لإقرار النفس حقيقة ملاك الإيمان والكفر بعيد جدّا ، فان عدم تأثير ذلك الإقرار الحقيقي اللازم لليقين وتأثير هذا الإقرار بالخلاف المبنيّ على الفرض والبناء من باب ترجيح المرجوح على الراجح لكون الأول كالذاتي والثاني كالعرضي. وسيجيء إن شاء الله تعالى حلّ هذه العقدة.

وأما المقام الثاني ، فتحقيق الحال فيه يقتضي بسطا وافيا في المقال ربما يخرج عن وضع التعليقة ، والذي لا بدّ منه على الإجمال هو أن جوهر النفس ما لم يتجوهر بصورة نورانيّة أو هيئة ظلمانيّة باقية في دار البقاء ليسعد بها أو يشقى لا يكون مستحقّا للنّعيم الدائم أو للعذاب كذلك.

فالايمان الموجب للخلود في النعيم والكفر الموجب للخلود في الجحيم هيئة راسخة في النفس إمّا نورانيّة أو ظلمانيّة ، وقد ورد التعبير عنهما بالنور والظلمة في الآيات والروايات والكلمات كما ورد التصريح بأن الإيمان أمر قلبي في الآيات والروايات ، فكذا ما يقابله وهو الكفر ، وإلا فلا تقابل بين فعل القلب وفعل اللسان.

والمحقّق عند أهل التحقيق أن هذا الأمر القلبي هو المعبّر عنه بالعلم

٤٠٤

والمعرفة والاعتقاد والتصديق لما مر من أن الارتباط بالربط العلمي يصحّح صدق عقد القلب عليه ، ولذا شاع التعبير عن العلم بالاعتقاد وكذا قد عرفت أن مقوم العلم الحقيقي هو التّصديق الجديّ القلبي.

وما ورد من أن : أوّل الدين معرفة الله وكمال معرفته التصديق به ، لا يراد منه الكمال في قبال النقص بل الكمال الأول الذي ينتفى ذو الكمال بانتفائه وهو مقوّم الشيء وما به الشيء يكون شيئا.

وما ورد في بعض الأخبار في تفسير الإيمان الذي هو فرض القلب من عطف الرّضا والتّسليم على اليقين والتصديق ، فهو بملاحظة أن الإيمان ينقسم إلى علم وحال وعمل والأوّلان من فرائض القلب والأخير من فرائض الجوارح ، فالعلم والمعرفة واليقين من معارف القلب ، والرضا والتسليم وشبههما المنبعث عن رسوخ العلم والمعرفة من أحوال القلب وملكاته ، لا أن الإيمان بلحاظ المقام الأول متقوّم بالرّضا والتّسليم وأشباه ذلك.

وبالجملة حقيقة الإيمان ـ الذي هو هيئة نورانيّة يتجوهر بها جوهر النفس ـ هو العلم والمعرفة واليقين.

ولهذه الصفة مراتب إحداها العلم التصديقي الحاصل للمقلّد لمكان علمه بصدق مقلّده ، فهو ما لم يشكّك عليه قاطع غير محتمل للخلاف ، إلاّ أنّه غير منشرح الصّدر بنور المعرفة حقيقة لعدم حصول العلم له من طريق البرهان ولا من طريق الشّهود والعيان والمقلّد بما هو مقلّد غير عارف وليس على حد التقليد في الفروع ليكون له قياس برهانيّ يدل على ثبوت الحكم الفعلي في حقه ليقال : بأنّه عالم بهذا الحكم الفعلي حقيقة ، إذ ليس في باب المبدا والمعاد ثبوت تعبّدي ، بل للمعارف ثبوت واقعي تعرف تارة وتجهل أخرى ، وحال المقلّد فيها حال من يعتمد على طبيب حاذق ، فانه من باب القطع بحذاقته وإن كان يعتقد أن ما وصفه له هو دواء دائه ، لكنه غير عارف بمرضه ولا عارف بحقيقة الدواء وإنّما

٤٠٥

يعرف ذلك الطبيب من الطّرق العلميّة النظريّة.

إلاّ أن المقلّد حيث إنه تابع لمقلّده فله سعادة بتبعه ويكون محشورا معه وتحت رايته وفيه نكتة شفاعة العلماء للمتعلمين.

ثانيتهما (١) المعرفة الحاصلة بالبرهان فصاحبها منشرح القلب بنور المعرفة حقيقة ، وله السعادة بالأصالة والاستقلال ، وربما يقال : إنها مستحيلة الزوال لانبعاثها عن البرهان الذي لا يعقل له زوال.

ثالثها (٢) المعرفة الشهوديّة المعبر عنها بعين اليقين المنبعثة عن مكاشفات روحيّة بامداد إلهي وتعريف ربّاني ، وفوق هذه المرتبة مرتبة حق اليقين وهي مرتبة الاستغراق في شهود نور العظمة والكبرياء ومقام الفناء في الله والبقاء به.

إذا عرفت معنى الإيمان فالكفر يقابله تارة بتقابل العدم والملكة وهو الجهل بالله تعالى وبما يجب معرفته وأخرى بتقابل التّضادّ وهو اعتقاد خلاف الحق والواقع المعبّر عنه بالجهل المركّب ، ففي كليهما الاحتجاب عن نور الإيمان بالله وبرسوله إمّا بنفس عدم النور أو بما يضاد ذلك النور والكفر في أصل معناه الستر والاحتجاب.

وأما الشبهة المتقدّمة الباعثة على الالتزام بأمر قلبي آخر في قبال المعرفة الذي قد عرفت أن حقيقته لا يتجاوز الفرض والبناء القلبي باحضار صورة أمر حق أو باطل فتحقيق دفعها أن النفس في بدء فطرتها جوهر قابل لأن يتجلّى فيه صور حقايق الأشياء فهو في ذاته عقل هيولاني وبالتعقل يصير عقلا بالفعل.

لكنها إما بالذات أو بالعرض متفاوتة في غلبة سلطان العقل فيه على سلطان الوهم وبالعكس : فاذا غلب سلطان العقل فيه كان باكتسابه المعقولات

__________________

(١) هكذا وردت في المخطوط بخط المصنف قدس سره لكن الصحيح : ثانيتها ، لأنها المقابل لإحداها.

(٢) والصحيح : ثالثتها.

٤٠٦

الدائمة الفاضلة من العلم بالله وبصفاته وأفعاله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر جوهرا عقلانيّا نورانيّا خارجا عن أفق الإنسان الطبيعي البشري إلى أفق الملأ الأعلى والملائكة المقرّبين.

وإذا غلب عليه سلطان الوهم الذي فعله الشّيطنة والتّمويه والتّلبيس والأغاليط والأكاذيب ودفع الحق بالتّشكيكات الوهميّة ، فلا محالة يكون بتراكم هذه الوهميات ورسوخ الشبهات شيطانا من جملة الشياطين.

ومن البيّن عند كلّ ذي وجدان أنّ غلبة الوهم ربما يزيل أثر اليقين كما في تخلية صاحب الوهم الغالب بالميّت ، فانه مع علمه بأنه لا يعود حيّا عادة ولو فرض لا يكون أقوى منه ولو فرض من جملة أحبّائه وأخلاّئه ، ومع هذا كلّه يخاف منه ولا ينام عنده وحده ، وليس ذلك إلاّ لغلبة سلطان الوهم. فكذا من حصل له العلم بأمر حق من مبدإ أو معاد فإنه إذا غلبت عليه قوّته الوهميّة لرسوخ الملكات الرّذيلة وأعانها حبّ الجاه والرّئاسة فانه تحدث في نفسه شبهات وتمويهات تروّجها قوّة الشيطنة إلى أن يزيل أثر اليقين بل إلى أن يضعّف اليقين بل يزيله فان نور اليقين كنور الباصرة فانه بسبب تراكم الدّخان يزول أثره ، بل يضعف إلى أن يزول ، فكذا بسبب تراكم الشّبهات والتمويهات تزول تلك الهيئة النورانيّة وتقوم مقامها هيئة ظلمانيّة شديدة راسخة ، فان العلم الحاصل من غير البرهان قابل للزوال بالتّشكيكات سواء كانت من الغير أو من القوة الوهميّة المعوّدة على دفع الحق بالأباطيل ، فان عدم احتمال الخلاف في مثل هذا العلم بعدم الالتفات إلى موجبه ومقتضيه لا بالالتفات إليه وعدم الاحتمال لقوّة مقتضى العلم ، فهو علم في حد ذاته وبأدنى التفات إلى مقتضيات التشكيك الحاصلة من الغير أو من القوّة الوهميّة يتشكّك فلا منافاة بين كونه عالما طبعا ومحتملا للخلاف أو معتقدا له بأدنى تصرّف من القوّة الوهميّة أو من الغير.

وهذا البيان في دفع الشبهة أولى من حمل اليقين على اليقين بالاقتضاء

٤٠٧

لتماميّة الحجّة عليهم وإن لم ينظروا فيها ليحصل لهم اليقين الوجداني فعلا ، فانه خلاف الظاهر بل خلاف الواقع أيضا.

ويمكن أن يقال : في دفع الشبهة أيضا بأن المراد من الجحود هو الجحود لسانا لكنه باعتبار انبعاثه عن رذيلة باطنيّة وهي معاندته للحقّ ومعاداته للرّسول ( صلّى الله عليه وآله ) تحفّظا على الجاه واستكبارا على الله وعلى الرسول.

ومن الواضح أن المعاند للحق باطنا والمعادي للرسول قلبا محتجب عن الحق وعن نور الإيمان ، فان الإيمان بالبعض والكفر ببعض كالكفر المطلق.

فكفر الجاحد غير مستند إلى عدم تصديقه جنانا لما مرّ من ملازمته للعلم واليقين.

ولا لعدم عقد القلب فرضا وبناء لعدم الاهتمام بشأنه بعد عقد القلب حقيقة وربطه واقعا بما اعتقد به ، بل لمعاندته قلبا مع الحق ومعاداته باطنا مع الرسول ، وهما موجبان للكفر والاحتجاب عن الحق وعن الرسول.

هذا قليل من كثير مما ينبغي بيانه والله المستعان.

١٦٦ ـ قوله « قده » : من باب وجوب المعرفة لنفسها كمعرفة الواجب تعالى ... الخ (١).

يمكن أن يشكل وجوب المعرفة لنفسها من باب وجوب الشكر بأنّ الشكر إذا كان صرف النّعمة في ما خلقت لأجله فوجوبها مقدّمي لا نفسيّ نظير وجوب معرفة الآمر مقدّمة لامتثال أمره.

والتحقيق كما عليه أهله أنّ الشّكر وساير مقامات الدّين لها مراتب ثلاثة علم وحال وعمل ، فمعرفة المنعم من الأوّل والتّخضع له قلبا من الثاني وصرف النعمة فيما خلقت لأجله باداء ما هو وظيفة السمع والبصر واللسان من الثالث ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٩.

٤٠٨

فمعرفة المنعم من أفضل مراتب شكر النعمة.

ولكنه لا يخفى عليك أن هذه المعرفة ليس مصداقا لهذه المرتبة من الشكر بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته ، لأن الحيثيّة التّعليليّة وهي المنعميّة لوجوب الشكر حيثيّة تقييديّة له كما في جميع الأحكام العقليّة ، فلا تجب معرفة الذات لإنعامه نفسا بل مرجعه إلى وجوب معرفة الذات مقدّمة لمعرفته بالمنعميّة مع أن المقصود إثبات وجوب المعرفة لنفسها.

ثم إنّ اصل وجوب الشكر عقلا بحيث يستحق العقاب على تركه لا يثبت إلا بإدخاله تحت قاعدة التّحسين والتّقبيح العقليّين.

ومن البيّن عند التأمّل أنّ شكر المنعم علما وحالا وعملا وإن كان تعظيما للمنعم وإحسانا إليه ، إلاّ أنّه لا يثبت به إلا مجرّد الحسن واستحقاق المدح على فعله بمراتبه ، وليس ترك كلّ تعظيم وإحسان قبيحا إلا إذا كان ظلما من حيث كونه كفرانا ، وليس ترك كلّ إحسان ولا ترك الإحسان إلى المحسن ظلما عليه.

نعم الاساءة خصوصا إلى المحسن ظلم فيشتدّ قبحه بالإضافة إلى المحسن إليه ، فالجهل بالمنعم أو عدم التّخضّع له قلبا أو عدم القيام خارجا بوظائف المجازاة بالإحسان ليس إلا ترك ما هو حسن بذاته ، إذ ليس من هذه الحيثيّة عقلا فرق بين منعم ومنعم والأمر في غيره تعالى كذلك ففيه تعالى أيضا من هذه الحيثيّة على ما مرّ.

مضافا إلى أن الاستناد في تحصيل المعرفة إلى وجوب شكر المنعم عقلا إنما يجدي بعد الفراغ عن انتهاء النعمة إلى مبدإ موجود ليتحقّق موضوع شكر المنعم ليجب عقلا فهو إنّما يفيد في معرفته من حيث كيفية وجوده وصفاته لا في التصديق بوجوده.

وربما يستند في وجوب شكر المنعم الذي هو الأصل في وجوب المعرفة إلى قاعدة عقليّة أخرى وهي قاعدة دفع الضرر المحتمل لاحتمال الضرر في ترك

٤٠٩

الشكر إمّا لكمال عقل المنعم عليه أو لبلوغ دعوة نبيّ زمانه المقيّد به وجوب الشكر عقلا في كلماتهم.

فاذا احتمل وجوب شكر مخصوص معيّن من قبل المنعم بالإضافة إلى كلّ نعمة بما يناسبها حتّى نعمة القلب بتحليتها بالمعرفة نظرا إلى أن الشكر صرف النعمة فيما خلقت لأجله فلا محالة يحتمل العقاب على ترك تلك الوظيفة المعيّنة من قبل المنعم فيجب دفعه عقلا.

وأما مجرّد زوال النعمة فليس ممّا يتعقّبه عقاب ولا مما يستقلّ العقل بدفعه.

إلا أن نتيجة هذا الاستدلال ليس وجوب الشكر بما هو شكر عقلا ، بل بما هو ترك واجب شرعي كسائر الواجبات المولويّة ، فلا يحتاج الالزام بتحصيل المعرفة إلى الالتزام وجوب الشكر لاحتمال وجوبه مولويّا ، فان نفس هذا الاحتمال كما سيجيء إن شاء الله تعالى متحقّق في نفس وجوب تحصيل المعرفة بعنوانها.

مضافا إلى ما مرّ وسيجيء أيضا أن دفع الضرر المحتمل بل المقطوع به لا الزام به عقلا ولا يندرج تحت قاعدة التحسين والتّقبيح العقليّين ، لما مرّ مرارا من عدم كون الإقدام على محتمل العقاب أو مقطوع العقاب موردا لذم آخر أو لعقاب آخر ، بل العقاب مقطوعا كان أو محتملا مما يفرّ عنه طبعا كل ذي شعور وسيجيء إن شاء الله تعالى بقيّة الكلام.

١٦٧ ـ قوله « قده » : فانّهم وسائط نعمه وآلائه ... الخ (١).

إن أريد لزوم معرفة وسائط النعم في تحقّق شكر المنعم الحقيقي فهو مما لا برهان عليه لعدم التوقف عقلا.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٠.

٤١٠

وإن أريد لزوم معرفتهم لوجوب شكرهم لمكان وساطتهم للفيض فهو مناف بظاهره للتوحيد في الفعل ورؤية وسائط النعمة بمنزلة الآلات وأنّه لا منعم بالحقيقة سواه تعالى فيكون رؤية النعمة منهم وشكرهم على حد شكر المنعم الحقيقي شركا بالمنعم بما هو منعم.

قلت المراد هو الشق الثاني والشبهة سارية في شكر كل إنسان أنعم على غيره ، فمن احتجب بالحق عن الخلق لا يرى النعمة إلا من الحق ، فلا يشكر غير الحق ومن احتجب بالخلق عن الحق فلا يرى النعمة إلا من الخلق فلا يشكر إلاّ الخلق ومن لم يحتجب عن أحدهما بالآخر فيرى الحق والخلق معا فيشكرهما معا.

غاية الأمر أن الحقّ هو منتهى سلسلة النعم ونسبتها إليه بالوجوب وإلى غيره بالإمكان ، فهو المشكور أولا وغيره مشكور ثانيا ، فالنعمة أثر الوجود الذي هو عين إيجاده تعالى.

فكما أنّ وجوده وجوده حقيقة ومع ذلك إيجاده تعالى حقيقة كذلك إنعامه إنعامه حقيقة ومع ذلك فهو إنعامه تعالى حقيقة لانطواء فعله في فعله تعالى بل بهذا النظر شكر الخلق شكر الحق أيضا. هذا هو القول الكلي في شكر كلّ منعم غيره تعالى.

وأما وساطة الأنبياء والأوصياء عليهم أفضل التحيّة والثناء للنعم والآلاء سواء كانت بمعنى فاعل ما به الوجود بأن يكونوا مجاري فيض الوجود أولا وبالذات أو بمعنى العلّة الغائيّة بأن يكونوا الغاية المقصودة من الوجود والإيجاد فليست كعلّية الواجب فطريّة حتى تكون باعثة على شكرهم المقتضى لتحصيل معرفتهم وإن كان بالنظر الدقيق البرهاني كذلك.

فيمكن أن يقال : بلزوم تحصيل معرفتهم من وجه آخر ، وهو أن شكر المنعم على الوجه المعيّن من قبله لا يعلم إلا من قبلهم ، لكونهم على الفرض وسائط

٤١١

التشريع لبعد النفوس البشريّة بما هي عن تلقّي الوحي الإلهي المقتضى لوجود طائفة من الذوات النوريّة والنفوس القدسيّة لذلك ، فلا بدّ من معرفتهم لتحصيل وظائف الشكر بأنحائه على النّعم بأقسامه منهم.

ولعله إليه يرجع الشق الأول ، فان التصديق بوجوده أو بجملة من صفاته وإن كان لا يتوقف على معرفتهم ، إلا أن معرفته تعالى بصفاته العليا حق المعرفة المقدورة للقوّة البشريّة ومعرفة فعله ووظائف النعم لا يتحقّق إلا بهم ، ولذا قالوا عليهم السلام : بنا عرف الله وبنا عبد الله ولولانا ما عرف الله ولا عبد الله.

إلا أنه غير مراد من عبارته « قدس سره » ، فان صريحها أن وساطتهم للنعم هي المقتضية لمعرفتهم ، لا وساطتهم لأداء الشكر لمكان انحصار المبلغ للوظائف التي هي مصاديق الشكر فيهم سلام الله عليهم.

١٦٨ ـ قوله « قده » : ولاحتمال الضرر في تركه ... الخ (١).

إما عطف على قوله رحمه الله لذلك فيكون تعليلا لخصوص معرفة النبي والوصي عليهما السلام كما هو أقرب الوجهين أو عطف على قوله رحمه الله أداء لشكر بعض نعمائه إلى آخره فيكون تعليلا لتحصيل المعرفة مطلقا كما هو أبعد الوجهين وإن كان صريح تعليقته الأنيقة على الرسائل (٢) هو الثاني.

والمراد بالضرر : إن كان زوال النعمة وشبهه كما علل به وجوب الشكر في كلماتهم فهو في حد ذاته لا يستلزم العقاب ، بل غاية الضرر المترقّب منه زوال النعمة وشبهه.

وإن كان المراد من الضرر المحتمل في ترك تحصيل المعرفة هو العقاب فالعقل يستقل بدفعه.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٠.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ١٠٣.

٤١٢

لكنّك عرفت في هذا المبحث وفي المباحث المتقدمة أن لا بعث من العقل نحو تركه ودفعه ، ولا يندرج مثله تحت قاعدة التّحسين والتّقبيح العقليّين.

نعم كل ذي شعور بالجبلّة والطبع لا يقدم على العقاب مقطوعا كان أو محتملا ومثله يكفى في دعوته نحو تحصيل المعرفة.

إلاّ أنّه حيث لا يتم ذلك إلاّ بعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فربما يفترق تحصيل معرفة الله تعالى عن تحصيل معرفة النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام ، فان عدم جريان القاعدة بلحاظ أنّها لا تجري إلاّ بعد الفحص الموجب لحصول المعرفة لوجود أسبابها خارجا المقتضية لحصولها ، وإنما لا تجري قبل الفحص عقلا لما مرّ وسيجيء إن شاء الله تعالى في محلّه (١) من أن الاقتحام في الفعل والترك ـ مع عدم البحث والفحص عن أمر المولى ونهيه اللذين لم يعلما عادة إلاّ بالفحص والبحث عنهما مع علمه بأنه غير مهمل ـ خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبوديّة ، وهو ظلم على المولى ، فيستحق به العقاب.

وهذا في معرفة النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي لا غبار عليه.

وأمّا في معرفته تعالى فمشكل إذ بعد لم يثبت مولويّة لأحد عليه حتى يقال : إنه بعدم الفحص عن معرفته ظالم عليه.

إلا أن يقال : إن احتمال وجود المولى وإعمال المولويّة منه يصحّح احتمال العقاب نظرا إلى أن الحجّة الواقعيّة على ثبوت المولويّة وإعمالها إذا كانت بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها يكفى في تنجيز الواقع واستحقاق العقاب كما هو أحد الطريقين في لزوم الفحص.

نعم فيه محذور آخر ، وهو أن المفروض أنه لا دليل عقلي على وجوب تحصيل المعرفة إلا قاعدة دفع الضرر المحتمل ، وهذه القاعدة متفرعة على وجود

__________________

(١) نهاية الدارية / ٤ التعليقة ١٢٥.

٤١٣

تكليف واقعا يتنجّز بمجرّد احتماله قبل الفحص.

ولا ايجاب في هذا الفرض إلاّ من الشارع مع أنه لا يعقل الإيجاب المولوي الباعث نحو الفعل إذ قبل الوصول المتفرّع على معرفة المولى بالمولويّة لا باعثيّة له ولا محركيّة ، وبعد ثبوت المولى والمولويّة أيضا لا باعثيّة له ولا محرّكية ، لأنه تحصيل الحاصل ، فليس احتماله احتمال تكليف صالح للدّعوة بوصوله حتى يتنجّز باحتماله.

والتحقيق أن منشئيّة الإيمان والمعرفة بالله تعالى للسّعادة الأبديّة والنّعيم الدائم ليست من حيث كونه امتثالا للأمر بتحصيل المعرفة كما في الواجبات العمليّة.

ومنشئيّة الكفر للشّقاوة السرمديّة والعذاب المخلد ليست من جهة مخالفته للنهي عن الكفر كما في المحرّمات العمليّة ، بل الايمان والكفر في قبال الاطاعة والمعصية من حيث اقتضاء النعيم والجحيم.

وعليه فالضرر مترتب على ترك الإيمان بما هو ، فاحتمال ترتّب الضرر على ترك تحصيل المعرفة هو الحامل للعبد على تحصيلها لدفع مثل هذا الضرر لا يوازيه ضرر أبدا من دون توسط إيجاب مولويّ شرعيّ. وهكذا الأمر في معرفة النّبي ، وكذا في ترك النّظر في المعجزة.

فلزوم تحصيل المعرفة عقلا مرجعه إلى الضرورة العقليّة واللابديّة من تحصيل المعرفة للوصول إلى السّعادة الأبديّة والبعد عن الشّقاوة الدائميّة.

ولا يخفى أن احتمال العقاب المحرك بالجبلّة والطبع إلى تحصيل ما يحتمل الضرر في تركه وإن كان كافيا في الدّعوة في غالب النّفوس الغير البالغة درجة تحصيل الحقائق بالبرهان.

إلا أنه لنا طريق برهاني إلى وجوب تحصيل معرفته تعالى ، وهو أن كل عاقل بالفطرة السليمة يعلم بأنّه ممكن حادث معلول لمن لم يكن مثله في الإمكان

٤١٤

والحدوث.

والشرائع الإلهيّة ما جاءت للتّصديق بوجود المبدا والعلة ، بل لنفي الشّرك في المعبود ، ولذا كان أول كلمة أمر بها النّبي صلّى الله عليه وآله شهادة أن لا إله إلا الله وهي أنه لا معبود إلا الله مع اعتراف المشركين بأنّه تعالى خالق السموات والأرضين كما نطق به الكتاب المبين حيث قال عزّ اسمه : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (١) إلى غير ذلك من الآيات.

ومن البيّن بعد التصديق بوجود المبدأ أن النفس في حد ذاتها قوّة محضة على إدراك المعقولات التي هي كمالها ، واشرف الكمالات النّفسانيّة معرفة المبدأ بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار الممكن ، فان شرف كل علم وعقل بشرف معلومه ومعقوله وأفضل موجود وأكمله المبدأ.

فمعرفة المبدأ أشرف كمال وفضيلة للنفس ، وبها نورانيّتها وبها حياتها كما أنه بعدم المعرفة أو بما يضادّها ظلمانيّتها وموتها ، والقرب الحاصل للجوهر النّفساني من المبدأ صيرورته وجودا إضافيّا نوريّا للمبدا خصوصا إذا كان بنحو الشّهود الرّوحي وبالأخص إذا فنى في مقام الاستغراق في الله الموجب لبقائه بالله تعالى.

فهذه المرتبة عين السّعادة والابتهاج بشهود المبدأ ، كما أن عدمه عين البعد عن معدن النّور والتّخلد في عالم الطّبيعة والحرمان عن ينبوع الحياة وبقيّة الكلام في محله.

١٦٩ ـ قوله « قده » : كمعرفة الإمام على وجه آخر ... الخ (٢).

فالإمامة على هذا هي الرئاسة العامة في أمور الدّنيا والدّين بحيث يجب

__________________

(١) لقمان : ٢٥ والزمر : ٣٨.

(٢) كفاية الأصول / ٣٣٠.

٤١٥

على الأمّة تعيين شخص لها فتكون من الأمور المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، وبهذا يدخل أمر الإمامة في الفروع العمليّة.

وأمّا على الوجه المتقدم فهو منصب إلهي يتعيّن من قبله تعالى.

والتحقيق أن الحاجة إلى الإمام عليه السلام : إمّا إلى مجرد تبليغ الأحكام العمليّة والوظائف الشرعيّة.

وإمّا إلى ذلك بإضافة تعريف المعارف الإلهية.

وإمّا إلى ذلك بإضافة الوساطة في الفيض بأن يكون وجوده لازما في نظام التّكوين والتّشريع معا. فان كان الأول : فتارة يراد مجرّد تبليغ الأحكام الشرعيّة ولو كانت تعبديّة ظاهريّة.

وأخرى يراد تبليغ الأحكام الواقعيّة النفس الأمريّة.

فالأولى يكفيها مجرد وجود ثقة يخبر عن الأحكام التعبديّة من دون ملكة عصمة أو غيرها ، حتى أنه لو عرّفه بالصدق حقيقة لم يكن دالا على إمامته بخلاف ما إذا بلّغ عن الله فان معرفته بالصدق معرفته بالنّبوّة ، إذ لا يبلّغ عن الله تعالى إلاّ من كان له نفس قدسيّة يتلقّى الوحي بلا توسّط معلّم بشريّ ، بخلاف المبلّغ عن النّبي صلّى الله عليه وآله فانه لا يجب أن يكون إماما لعدم مثل تلك الخصوصيّة لعدم انحصار التبليغ عنه عليه السلام في شخص خاصّ.

والثانية لا يكفيها مجرّد الوثاقة ، بل لا يكون المبلّغ للأحكام الواقعيّة بحيث يكون الواصل بسببه حكما واقعيّا إلا إذا عرف صدقه وعصمته من الخطأ ، ولا يجب أن يكون المبلّغ صادقا ومعصوما عن الخطأ إلا النبي والإمام عليه السلام.

فالالتزام بوجود من لا بدّ من عصمته تبليغا للأحكام الواقعيّة الحقيقيّة التزام بوجود الإمام عليه السلام دون الالتزام بوجود مجرّد مبلّغ للأحكام وإن كانت تعبّديّة.

٤١٦

ومن البيّن أن اللازم قيامه مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله من كان شأنه شأن النّبي في تبليغ الأحكام الواقعيّة لأن إيصال المصالح الواقعيّة الباعثة على جعل الأحكام على طبقها كما يستدعي إرسال الرسول لتبليغها كذلك يقتضي نصب من يبلّغها بعد الرسول صلّى الله عليه وآله.

ومن الواضح أن من كان له ملكة العصمة بحيث لا بد من أن يكون كذلك ليس إلاّ من كان مؤيّدا من عند الله ، ولا يعرف مثله المتعارف من الناس ، بل لا بد من تعريفه بتنصيص من الله تعالى أو من الرسول أو من إمام مثله.

وإن كان الثاني فالأمر أوضح ، إذ العارف بالمعارف الإلهيّة لا يكون إلا ذا نفس قدسيّة متّصلة بالمبادي العالية ، ولا يعرف مثله إلاّ بالنّص عليه من الله تعالى أو من الرسول أو إمام مثله فيجب نصبه على الله تعالى على لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله.

ومن الواضح أن الغاية المقصودة من خلق الخلق بل من تشريع الشرائع هي معرفة المعارف الربوبيّة والتخلّق بالأخلاق الإلهيّة ، فلا محالة يجب وجود مثل هذا العارف الإلهي المتخلّق بأخلاق الله تعالى ، بل الأعمال أيضا مقدّمة للأحوال وهي مقدّمة للمعارف ، ولذا ورد عنهم عليهم السلام لولانا ما عرف الله ولولانا ما عبد الله.

وإن كان الثالث فالأمر فيه أوضح من السابقين ، إذ ليس مثله إلا من كانت قوّتاه العلاّمة والعمّالة في غاية القوة والكمال ولا يكون ذلك إلا بعنايات إلهيّة وتأييدات ربانيّة وعلوم لدنيّة ومثله خليفة الله في أرضه على عباده.

وأما لزوم وجود مثله في كلّ زمان فلما تقرّر في محلّه من أن نزول فيض الوجود بحسب قاعدة الإمكان الأشرف إلى عالم الجبروت ومنه إلى عالم الملكوت ومنه إلى عالم الناسوت إلى أن ينتهي إلى قوّة القوي والهيولى الأولى لا بد من أن يكون لأجل الصعود لاستحالة طلب العالي للسافل والحركة من

٤١٧

الكمال إلى النقص ، وكما أن النّزول من الأعلى إلى الأدنى فالصّعود من الأدنى إلى الأعلى ، فكلّ نوع دان لأجل نوع عال ، فمن الهيولى إلى الصورة الامتداديّة الجوهريّة الجسميّة ومنها إلى النبات ومنه إلى الحيوان ومنه إلى الإنسان فكذا أفراد النوع الإنساني بسبب تفاوت نفوسه في الاستكمال العقلانى كالأنواع المختلفة فإفاضة الوجود على هذه المختلفات لأجل وجود النوع الكامل منه.

فالإنسان الكامل في كل ساعة وآن هي الغاية القصوى من إفاضة الوجود على جميع الأكوان ومقتضى قاعدة العلّية والمعلوليّة عدم بقاء سائر الأكوان بفرض عدم بقاء الغاية المقصودة من وجودها ولذا ورد في غير واحد من الأخبار أن الأرض لو بقيت بلا إمام لساخت أي لانخسفت. هذا من حيث الوساطة بنحو العلّة الغائيّة.

وأما بنحو العلّة الفاعليّة أي فاعل ما به الوجود لا ما منه الوجود ، فلما تقرّر في محلّه من وساطة العوالم الطّوليّة من الفواعل الجبروتيّة والملكوتيّة لعالم الملك والطّبيعة بمقتضى قاعدة الإمكان الأشرف ، ومن انتهاء كل فاعل عقليّ ونفسي إلى ما يحاذيه في سلسلة الصعود.

فكل فاعل في البدايات له غاية في النهايات ويتّحد ذو الغاية بالغاية عند انتهاء الدّائرة واتّصال قوس الصعود بقوس النزول.

فالإنسان الكامل المحمّدي صلّى الله عليه وآله في هذه الدائرة العظيمة وغيره من النّفوس القدسيّة في سائر الدوائر بلحاظ اتحاده بالفواعل العالية واسطة في الإفاضة بروحانيّتها ونورانيّتها ، فالالتزام بعدم ما ينتهي إليه الدائرة التزام بعدم ما تبتدئ به ، والالتزام بعدمه التزام بعدم فاعل ما به الوجود فيوجب الالتزام بعدم سائر العوالم التي هي في طول هذا العالم. وبقيّة الكلام في محلّه.

ومنه يظهر أن العمدة في وجوب وجود الحجّة عجّل الله فرجه انتظام نظام التكوين بوجوده المقدّس وإن لم ينتفع بعلومه ومعارفه وأخلاقه.

٤١٨

ولعلّه المراد ممّا ورد عنه عجّل الله فرجه من أن الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشّمس مع استتارها بالسحاب عن الحسّ ، فكما أن السحاب لا يمنع إلا عن رؤية جرمها مع ثبوت تأثيرها في السّفليّات ، كذلك شمس فلك الوجود وإن غاب عن الحسّ لكنّه له التأثير في نظام التكوين ، وإلاّ فعدم انتفاع العموم بعلومه بشخصه مما لا ينبغي إنكاره.

ثم إنه لو لم نقل بهذه المرتبة وقلنا بأن نصب الإمام لمجرد تبليغ الأحكام فغيبة الإمام عليه السلام لا تنافي وجوب نصبه على الله تعالى أيضا.

بيانه أن جعل التّكاليف وإرسال الرّسل ونصب الحجج عليهم السلام لإخراج الموادّ المستعدّة للسعادة الدائميّة والشقاوة الأبديّة إلى مرحلة الفعليّة وحقيقة السعادة بالإقبال على الله تعالى بالقيام بوظائف العبوديّة وحقيقة الشقاوة بالإعراض عن الله تعالى بعدم القيام بوظائف العبوديّة وهما معنيان متقومان بالاختيار وانبعاث الفعل والترك عن مقام القلب.

فاللازم في هذا الباب جعل ما يمكن أن يكون داعيا وباعثا أو زاجرا وناهيا بالإمكان الذّاتي والوقوعي وإن لم يحصل الانبعاث أو الانزجار في الخارج بسوء الاختيار ، وكذا بعث الرسول ونصب الإمام أيضا حيث إنه مقدمة لمثل هذا التكليف فهو أيضا بهذه المثابة ، فاللازم بعث من يمكن تعلّم التّكاليف منه وكذا نصب من يكون كذلك.

فسدّ باب التعلّم ووصول الحكم عادة بسوء الاختيار كما لا يبطل حقيقة التكليف إذا كان بمثابة بحيث لو تفحّص عنه لوصل كذلك لا يبطل نبوّة النبيّ وإمامة الإمام عليه السلام.

ومجرّد علمه تعالى بعدم امتثال المكلّف للتكليف أو عدم الانقياد للنبيّ صلّى الله عليه وآله أو للإمام عليه السلام لا يوجب لغويّة الجعل أو البعث أو النصب ، وذلك لأن آثار السّعادة والشقاوة ولوازمها تابعة لفعليّة السعادة والشقاوة

٤١٩

وفعليّتهما تابعة لفعليّة التكليف وفعليّة بعث الرسول صلّى الله عليه وآله ونصب الإمام عليه السلام ، فالعلم بأن المادّة قابلة للسّعادة أو الشّقاوة لا توجب الاستغناء عن التّكليف المبلّغ له إلى السعادة الفعليّة أو الشقاوة الفعليّة.

نعم سدّ باب الانتفاع بالنّبي صلّى الله عليه وآله أو بالإمام عليه السلام لا يوجب الإثم إلاّ على من استند إليه ولا إثم على من لم يستند إليه.

والكلام ليس في ترتّب الإثم على العموم بطغيان الخصوص ، بل في عدم لغويّة نصبه وبعثه مع القطع بحبسه مثلا.

وسدّ باب الانتفاع به كما في التّكليف إمّا بسدّ باب وصوله أو بعدم امتثاله وبقيّة الكلام في علم الكلام.

١٧٠ ـ قوله « قده » : ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر ... الخ (١).

صريح عبارته هنا عدم لزوم تحصيل المعرفة إلاّ بالإضافة إلى معرفة الله وأنبيائه والأئمّة عليهم السلام وأن ما عدا هذه الثلاثة لا يجب إلا شرعا إذا دلّ عليه الدليل.

وظاهر عبارته في تعليقته على الرسائل (٢) أن ما يجب معرفته على أقسام :

أحدها ما يجب معرفته عقلا بما هو هو.

ثانيها ما يجب معرفته كذلك لكونه مما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وأخبر به وإلا لم يعرف له خصوصيّة موجبة للزوم معرفته من بين سائر الأشياء.

ثالثها ما يجب معرفته شرعا. انتهى كلامه رحمه الله.

وجعل من الأول معرفة الله ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم سلام الله عليهم.

وجعل من الثاني المعاد لكونه من ضروريّات الدّين وممّا أخبر به سيّد

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٠.

(٢) التعليقة على الرسائل / ٣ ـ ١٠٢.

٤٢٠