نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الإنشاء واحدا ، لكن الموضوع حيث إنه لبّا متعدد ، فلا محالة يكون الحكم لبّا متعددا ، بتقريب أن البعث الانشائي المضاف إلى كل واحد واحد من الكثرات المجموعة في اللحاظ مصداق للبعث الحقيقي فهو بعث حقيقي بالإضافة إلى كل واحد من أفراد العام.

وقد بينا في محله كيفيّة إفادة المتكثر بالذات بمثل كل عالم الذي هو مفهوم وحداني الموجب لتوهم وحدة الموضوع وحكمه حقيقة ، وهو أن العالم له مفهوم واحد ، ومطابقه من حيث إنه مطابقه واحد ، وأداة العموم مثل لفظة كل لا يوجب تغيير مفهوم العالم عما هو عليه من الوحدة ولا جعله فانيا في مطابقه وفي غير ما هو مطابقه من المفرّدات والمميّزات ، بل شأن أداة العموم التوسعة في ذات المطابق.

فالمتكلم يفيد المطابق بما هو مطابق للمفهوم بجعل العالم بمفهومه فانيا فيه ، ويفيد تعدده وتكثره الحاصل له بسبب المميزات والخصوصيات بأداة العموم ، فتدبره فانه حقيق به.

ولا يخفى أن دفع الاشكال بجعل القضية طبيعيّة وأن الحكم وصف لازم للموضوع وإن كان مما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري (١) « قدس سره » والأستاد العلامة « قدس سره » هنا ، بل اشتهر الجواب به في أمثال المقام.

لكنه لا يخلو عن شوب الإشكال والإبهام : بيانه أن حكم العقل بترتيب شخص هذا الحكم على موضوعه من حيث كونه فردا لطبيعة الأثر المحكوم بترتيبه على الخبر لا يكون إلا باقتضاء من نفس هذا الحكم المرتب على طبيعة الأثر ، لا من حيث عدم الفرق في نظر العقل بين هذا الأثر وسائر الآثار أو هذا الخبر وسائر الأخبار ، فانه راجع إلى تنقيح المناط ، وهو جواب آخر في هذا

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ١١٣.

٢٢١

الباب.

واقتضاء هذا الحكم المرتب على الطبيعة لترتيب نفسه الذي هو فرد من الطبيعة غير معقول ، للزوم الخلف من عدم لحاظ الأشخاص لا تفصيلا ولا إجمالا.

بل لا محالة بتحليل من العقل للحكم وموضوعه ، إذ الحكم المرتب على الطبيعة لا بد من أن يكون موافقا لها سعة وضيقا ، فالحكم المرتب على الوجود السعي من الطبيعة وجود سعي من الحكم.

فكما يعقل إيجاد شخص البعث الحقيقي بالإنشاء بداعي جعل الداعي بأن يلاحظ إيجاد شخص من الداعي بإيجاد منشأ انتزاعه ، كذلك يعقل إيجاد سنخ البعث المسانخ لسنخ الموضوع بالإنشاء بداعي جعل الداعي سنخا ونوعا ليتوافق الحكم مع موضوعه ، فعند التحليل يكون كل فرد من سنخ الحكم بإزاء فرد من سنخ الموضوع.

فإذا فرض أن من أفراد طبيعة الموضوع هذا الحكم ، فيستحيل أن ينحل هذا الحكم إلى فرد يكون من أفراد الموضوع تحليلا ، لأن هذا الفرد التحليلي من الحكم بعينه الفرد التحليلي من الموضوع ، فانه وإن لم يلزم بحسب الفرض اتحاد الحكم مع موضوعه ولا عروض الشيء لنفسه ، لكنه يلزم منه بحسب التحليل اقتضاء الشيء لنفسه ، وعلية الشيء لنفسه ، حيث إن الحكم البعثي علة لايجاد موضوعه في الخارج ، ويستحيل أن يكون الأمر بترتيب الأثر أمرا بترتيب نفسه.

والتحقيق أن الأمر بتصديق نفس الأمر به من حيث إنه أمر بما له تعلق بنفسه لا محذور فيه : لا من حيث الدور ، لما مر مرارا من اتحاد الحكم وموضوعه في الوجود ، ولا تعدد في الوجود ليلزم الدور.

ولا من حيث الخلف لما مر أيضا من أن الحكم إذا لوحظ في الموضوع بوجوده العنواني لم يكن المتقدّم عين المتأخر ، لأن المتأخّر هو الحكم بنحو وجوده

٢٢٢

الحقيقي دون المتقدّم.

ولا من حيث علّية الشيء لعليّة نفسه كما في باب قصد القربة ، فان أخذ الاتيان بداع الأمر في موضوع الأمر وإن لم يلزم منه دور ولا خلف لكون الأمر بوجوده العلمي داعيا وبوجوده الحقيقي مرتبا على موضوعه.

لكن الأمر إنما هو لجعل الداعي إلى متعلقه ، فاذا أخذ جعله داعيا في متعلقه كان الأمر به جعلا للداعي إلى جعل نفسه داعيا ، وهو معنى علية الشيء لعلية نفسه أي بحسب مقام الدعوة.

وهذا المحذور أيضا غير وارد هنا ، إذ الأمر تعلق بتصديق نفسه لا بجعل الأمر بالتصديق داعيا إلى الأمر بتصديق نفسه بل داعيا إلى تصديق نفسه ، نظير ما إذا قال : المولى لعبده أخبر الناس عن أمري هذا بالإخبار ، فإن الأمر متعلق بالإخبار عن نفسه وليس فيه شيء من المحاذير.

نعم الأمر بتصديق نفس هذا الأمر لا يعقل لوجه آخر ، وهو أن التصديق الجناني وهو اعتقاد صدقه وتحققه حاصل بنفس وصوله المفروض ، فالبعث نحو تصديقه طلب الحاصل.

وأما التصديق العملي وهو اظهار صدق العادل بعمله ، فلا يعقل إلا بالإضافة إلى أمر آخر حتى يكون هناك عمل بالأمر الآخر بعنوان اظهار صدق المخبر عنه.

وأما نفس الأمر بالتصديق العملي ، فلا تصديق عملي له.

لا يقال : مع تعدد التنزيل في الخبر مع الواسطة كيف يعقل الأمر بالتصديق متعددا.

لأنا نقول : حيث إن الأمر بالتصديق أمر لبّا بصلاة الجمعة فيكون حكم الخبر بلا واسطة ايجاب صلاة الجمعة تنزيلا ، فيتحقق له تصديق عملي في الخبر مع الواسطة ، وهو أيضا بالإضافة إلى ما بعده إيجاب تنزيلي لصلاة الجمعة ، وهكذا

٢٢٣

إلى آخر السلسلة.

وحيث إنه هنا لا أمر آخر ، فلا معنى للتصديق العملي ولا للإيجاب التنزيلي ، إذ لا يعقل أن يكون مصحح التنزيل نفس المنزل عليه ، حيث إن وجود الأمر بالتصديق تحقيقي لا أنه محتمل ليقبل التعبدية ، والتنزيل هنا بحسب الحقيقة.

وأما بحسب العناية ، فحيث إن الأمر بالتصديق إيجاب للفعل بهذا العنوان فيكون وصوله وصول الواقع ، وفعليّته فعليّة الواقع ، وباعثيّته باعثيّة الواقع ، فإذا فرض وحدة المنزل عليه والمصحح للتنزيل كان وصوله وصولا بالعرض لنفسه وباعثيّته باعثيّة بالعرض لنفسه ، فيرجع الأمر إلى كون الأمر بالتصديق بالعناية باعثا لباعثيّة نفسه وداعيا لدعوة نفسه فيكون بالعناية علّة لعليّة نفسه.

هذا كله في بيان الجواب بالقضية الطبيعية والإشكال عليه.

في دفع الإشكال بوجه آخر

وعن بعض أجلّة العصر (١) دفع الإشكال بما محصله أنه بين الخبر من حيث إنه مفيد للظن نوعا والمخبر به ملازمة نوعية واقعية ، والطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر ، فالخبر مع الواسطة كما أنه طريق إلى الخبر بلا واسطة كذلك طريق إلى لازمه وهو الأثر الشرعي أو الموضوع المرتب عليه الأثر.

فيكون حال الخبر مع الواسطة من حيث الكشف عن الحكم الشرعي

__________________

(١) وهو المحقق الحائري اليزدي قده. درر الفوائد / ٣٨٨.

٢٢٤

الذي هو لازم واقعي نوعي للخبر بلا واسطة ، كالخبر بلا واسطة من حيث الكشف المزبور.

والشارع جعل هذه الملازمة النوعية بمنزلة الملازمة القطعية ، لا أنه جعل أصل الملازمة ليكون دليل التعبّد مثبتا لهذه الملازمة بل حال هذا الملازمة النوعية حال الملازمة العقلية والعادية من حيث عدم النظر لدليل التعبد إليها وإنما شأن دليل التعبّد تنزيل هذه الملازمة النوعية منزلة القطعية وجعل الطريق الظني إلى الأثر الشرعي بمنزلة الطريق القطعي. هذا ملخص ما أفاده بتوضيح مني.

والجواب أن التلازم بين شيئين لا يكون إلا بعليّة ومعلوليّة أو المعلوليّة لثالث.

ومن البديهي أن الخبر ليس من مبادئ وجود المخبر به ، ولا المخبر به من مبادئ وجود الخبر ، ولا هما معلولان لعلّة واحدة ، بل لكل منهما علّة مباينة لعلة الآخر ، فلا ملازمة واقعية بين الخبر والمخبر به.

وقد اعترف أيضا في أثناء كلامه بعدم الملازمة العقليّة والعاديّة بينهما ، وإنما ادعى الملازمة النوعية الواقعية بينهما.

وليست هذه الملازمة إلا باعتبار إفادة الخبر للظن نوعا بثبوت المخبر به ، فيكون المخبر به ثابتا عند ثبوت الخبر نوعا ظنا.

مع أنه لا ملازمة في مرتبة الكاشف إلا مع الملازمة في المنكشف.

ولا يقاس ذلك بكشف اللفظ عن المعنى ، لمكان الملازمة الجعلية الوضعيّة بين اللفظ والمعنى ، فلذا يكون حضور اللفظ في الذهن ملازما لحضور المعنى فيه.

وأما ثبوت الحكم في مرتبة ثبوت الظن ، فهو قطعي لتقوّم الظن به ، فلا حاجة إلى التعبد والتنزيل.

وتنزيله منزلة ثبوته في مرتبة القطع لا أثر له ، إذ لا أثر لثبوته العنواني قطعا ، بل لثبوته واقعا ، فتدبره جيدا.

٢٢٥

والملازمة الجعلية هنا بين الخبر وثبوت المخبر به ليس إلا التعبّد بالمخبر به إما بمعنى جعل الحكم المماثل على طبقه أو جعله منجزا للواقع.

والمفروض دعوى التلازم مع قطع النظر عن دليل التعبّد حتى يكون الطريق إلى الطريق طريقا حقيقة إلى ذي الطريق حتى يجدي تعبد واحد.

والتحقيق أن الخبر بما هو خبر لا يكون له كشف تصديقي قطعي ولا ظني عن ثبوت المخبر به بالذات ، ولذا اشتهر أن الخبر يحتمل الصدق والكذب ، فالكشف التصديقي له بالعرض ، وما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات.

ولا يعقل كشف شيء عن شيء آخر بالذات إلا مع التلازم بينهما ، نحو كشف العلة عن المعلول وبالعكس وشبههما ، فلا محالة إذا كان للخبر في مورد كشف تصديقي قطعي أو ظنّي فمن أجل ثبوت الملازمة العقليّة أو العاديّة هناك.

فنقول : إذا فرض في المخبر عصمة أو ملكة رادعة فعليّة تكون تلك العصمة أو الملكة علّة لعدم التعمّد بالكذب.

وربما تكون فيه حالة مقتضية لعدم تعمد الكذب مع قبول المانع ، فاذا فرض عدم المانع وجد المعلول حقيقة ، وإلا فاقتضاء ، فالملازمة الفعلية بين تلك الحالة مع فرض عدم المانع وبين عدم تعمد الكذب موجودة ، وإلاّ فالملازمة الاقتضائية ثابتة بينهما.

وعليه فالخبر الصادق ـ الموجود بوجود علّته وهي الإرادة لأصل الخبر وتلك الصفة المانعة عن الكذب لجهة صدقه ـ يكشف ـ من باب تضايف المضمون المطابق مع ما في اعتقاد المخبر ـ عن ثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر.

وهذا هو الصدق المخبري ، وبضميمة عدم الخطأ الموجود بوجود علّته ينكشف مطابقة معتقد المخبر لما في متن الواقع وهو الصدق المخبري.

ومنه تعرف أن الملازمة في مرتبة الكشف لأجل الملازمة الواقعيّة الحقيقيّة في مرتبة المنكشف وأن الخبر بأيّة ملاحظة يتصف بالكشف عن ثبوت المخبر به

٢٢٦

في اعتقاد المخبر.

فاذا قطع بالخبر الصادق للقطع بوجود علّته فلا محالة يقطع من باب التضايف بثبوت المخبر به في اعتقاد المخبر.

وإذا ظنّ بوجود العلّة للخبر الصادق سواء كانت العلّة بجميع أجزائها مظنونة أو ببعضها ، فلا محالة يظن بالمعلول ، فيظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر.

وعليه ، فاذا ظن من خبر محقّق بصدور خبر متكفّل للحكم مع إحراز الحالة المقتضية لعدم الكذب وظن بعدم المانع ، فلا محالة يظن بثبوت الحكم في اعتقاد المخبر.

فهذا الخبر المحقّق حيث إنه مفيد للظن بثبوت الحكم لمكان الظن بعلته يعمه دليل التعبد من دون حاجة إلى شموله للواسطة فإنه كنفس الواسطة مفيد للظن بالحكم.

غاية الأمر أن الحكم هناك مطابق المدلول المطابقي وهنا مدلول التزامي.

هذه غاية التقريب للجواب المزبور.

والجواب أن لزوم قول الإمام عليه السلام لخبر زرارة عنه عليه السلام غير مفروض في خبر محمد بن مسلم عن إخبار زرارة بقول الإمام عليه السلام ، إذ خبر زرارة غير محقق وجدانا ، وهو واضح ، ولا تعبدا ، إذ المفروض عدم ترتب وجوب التصديق إلا على الخبر بالالتزام عن قول الإمام عليه السلام.

وأصالة عدم الخطأ في خبر زرارة فرع تحققه ، ففي الحقيقة ليس خبر محمد ابن مسلم خبرا عن قول الإمام عليه السلام إلا على تقدير ، فانه خبر عن لازم أمر غير مفروض الثبوت ، لا وجدانا ، ولا تعبدا ، ولا معنى لوجوب تصديق الخبر تحقيقا عن لازم على تقدير.

ثم إن التحقيق في الجواب عن الإشكال أنه مبني على وحدة وجوب التصديق وحدة شخصية ، فانه المستلزم لوحدة الحكم والموضوع أو المحاذير

٢٢٧

الأخر المتقدمة.

وأما إذا قلنا بأنه وإن كان واحدا إنشاء ودليلا لكنه متعدد لبّا وحقيقة كما لا مناص عن تعدده لبّا بالإضافة إلى الآثار الشرعية العرضيّة ، فلا يلزم محذور ، لإمكان الالتزام بجعل إيجابات للتصديق طولا كما كانت كذلك عرضا.

فيكون الخبر عن الإمام عليه السلام محكوما بوجوب التصديق ، والخبر عن الخبر المحكوم بذلك الحكم محكوما بوجوب تصديق آخر إلى أن ينتهي إلى الخبر بلا واسطة في مبدأ السلسلة المتصلة بالمكلف ، فبعدد الأخبار الواقعة إيجابات تنزيلية بجعل واحد والمحذور المتصور فيه أمور :

منها أن إيجاب التصديق ليس إلا بلحاظ أثر شرعي ما عدا نفسه كما في الآثار العرضية.

وأما وجوب التصديق فهو (١) سواء كان واحدا أو متعددا فهو بهذا الجعل المتكفل له دليل واحد ، فمع قطع النظر عنه لا أثر أصلا ، فكيف يكون ناظرا إلى نفسها ولو بعضها إلى بعض.

والجواب أن موضوع الحكم وهو الخبر عن الحكم سواء كان وجوب صلاة الجمعة أو وجوب التصديق موضوع للحكم بوجوده العنواني لا بوجوده الحقيقي حتى يقال إنه لا حكم حقيقي مع قطع النظر عن هذا الجعل.

ولذا قلنا : بأن جعل الحكم الظاهري قبل الواقعي معقول ، لأن مشكوك الحرمة لم يؤخذ بوجوده الحقيقي موضوعا للحكم الظاهري.

بداهة أن العلم والظن والشك في الحكم قائم بالمكلف والحكم قائم

__________________

(١) في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف وأما وجوب التصديق فهو سواء كان واحدا أو متعددا لكن الصحيح وأما وجوب التصديق سواء كان واحدا أو متعددا فهو بهذا الجعل الخ بدون قوله فهو الأول.

٢٢٨

بالحاكم ، فكيف يعقل أن يكون مقوّما للحكم في مرتبة نفس الحاكم.

مضافا إلى البراهين القاطعة المذكورة في محلها وقد أشرنا إليها فيما نقدم ، فالمولى يتصور الخبر المحتمل كونه واجب التصديق ويجعل له حكما ، فلا حاجة إلى جعل وجوب التصديق قبل هذا الجعل بل نفس هذا الجعل متكفل لأحكام طوليّة تنزيليّة لما تصوره من الأخبار.

ومنها أن الواحد وإن انحل إلى المتعدد ، إلا أنه دفعي الوجود ، فكيف يعقل أن ينحل إلى أمور مرتبة في الوجود.

والجواب أن ترتب هذه الأحكام التنزيلية في أصل جعلها طبعيّة لا خارجيّة. وقد مر مرارا أن المتقدّم والمتأخّر بالطبع يمكن أن يكون لهما المعية في الوجود الخارجي ، بل لا يأبى عن الاتحاد في الوجود كالعلم والمعلوم بالذات والإرادة والمراد بالذات وأشباهها.

فالآثار المترتّبة طبعا من حيث الموضوعيّة والحكميّة متقارنات في الوجود لا ترتب لبعضها على بعض في الوجود ، فهي من حيث كون الحكم للخبر المتصل بالإمام عليه السلام موضوعا للحكم في الخبر الثاني متقدم عليه طبعا ، لكنه من حيث الفعلية بالعكس ، فان الخبر الأخير يكون حكمه من حيث كون موضوعه محتمل الحكم فعليّا ، وبتبعه يكون الحكم المحتمل فعليّا إلى أن ينتهي إلى حكم الخبر المتصل بالإمام عليه السلام ، والحكم المنقول عنه عليه السلام على النحو الذي بيناه في مسألة جعل الطريق.

ومنها أن التعبد حيث إنه بلسان إيجاب التصديق : فان كان التصديق جنانيا أمكن تعدده بعدد الأخبار.

وأما إن كان عمليا ، فليس القابل للتصديق العملي إلا الخبر المتصل بالإمام عليه السلام ، فان وجوب صلاة الجمعة إذا أخبر عنه له تصديق عملي بفعل صلاة الجمعة ، بخلاف نفس وجوب التصديق ، فانه سنخ حكم ليس له

٢٢٩

تصديق عملي ، بل تصديق جناني فقط.

ولذا ربما يتوهم أن الخبر الأخير المتصل بالمكلف ليس له من حيث مدلوله المطابقي تصديق عملي ، بل من حيث مدلوله الالتزامي فقط ، وهو الخبر عن حكم الإمام عليه السلام كما أشرنا إليه فيما تقدم.

والجواب عنه أن إيجاب التصديق لسانا إيجاب فعل صلاة الجمعة لبّا ، فخبر زرارة محكوم لبّا بوجوب صلاة الجمعة تنزيلا ، فالخبر الحاكي عن هذا الخبر يحكي عن وجوب صلاة الجمعة تنزيلا ، فله تصديق عملي إلى آخر السلسلة ، فكلها إيجابات تنزيليّة لفعل صلاة الجمعة ، والفعلي منها هو الإيجاب الواصل بالذات ، والباقي فعلي بالعرض لوصولها بالعرض ، لاستحالة فعليات حقيقيّة ، كما في الخبر بلا واسطة أيضا.

١٠٣ ـ قوله « قده » : بلا محذور لزوم اتحاد الحكم ... الخ (١).

لا يقال : الطبيعي متحد مع فرده ، فيلزم اتحاد الموضوع مع حكمه.

لأنا نقول : الممنوع اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة موضوعيته ، فانه المنافي لتأخر الحكم عن موضوعه طبعا.

وأما صيرورة الحكم بعد تعلقه بموضوعه فردا لموضوعه فلا محذور فيه.

١٠٤ ـ قوله « قده » : ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر ... الخ (٢).

حيث إن المفروض قصور العبارة عن شمول الخبر مع الواسطة حيث لا أثر له إلا ما لا يمكن لحاظه في هذا الجعل ، فلا محالة يجب تنقيح المناط من جهة الخبر ، كما يجب تنقيحه من جهة الأثر ، وإلا فالتوسعة من جهة الأثر لا ربط له

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٧.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٧.

٢٣٠

بالتوسعة من جهة الخبر.

وأما بناء على جعل الأثر طبيعة الأثر ، فلا حاجة إلى جعل الخبر طبيعة الخبر ، إلا إذا كان كل شخص من أشخاص طبيعة الأثر بإزاء شخص من أشخاص طبيعة الخبر ، فإن لحاظ الطبيعة في الأثر تنافي لحاظ الشخص في الخبر ، لكنه من باب لزوم ما لا يلزم ، فتدبر جيدا.

١٠٥ ـ قوله « قده » : بأنه لا يكاد يكون خبرا تعبدا ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن الموضوع لكل حكم تنزيلي هو الواقع المحتمل لا الموضوع التعبّدي التنزيلي ، فإن المائع الذي قامت البيّنة على خمريّته إنما يكون خمرا تعبّديّا بلحاظ حكم البيّنة لا بلحاظ نفسه ، وإنما هو مائع محتمل الخمرية.

فكذلك ما قام الخبر على خبريته إنما يجب أن يكون محتمل الخبرية ، فيكون خبرا تعبديّا بقيام الخبر على خبريّته بلحاظ أنه موضوع واقعي له حكم واقعي ، وكون الحكم الواقعي والتّنزيلي ثابتين بجعل واحد هو الإشكال السابق وقد عرفت جوابه.

في آية النفر

١٠٦ ـ قوله « قده » : وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي ... الخ (٢).

قد أسمعناك (٣) في الجزء الأول من التعليقة أن الأغراض المترتبة على إنشاء الترجي والاستفهام ونحوهما باعتبار كشف إنشاءاتها عن ثبوتها لا بلحاظ

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٨.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٨.

(٣) نهاية الدراية التعليقة : ١٥٠.

٢٣١

نفس وجوداتها الإنشائية الّتي ليست إلاّ نحوا من استعمال اللفظ في المعنى ، والمحال في حقه تعالى ثبوت الترجّي والاستفهام واقعا لا إظهار ثبوتهما ، وما هو شأن الإنشاء إظهار المعنى باللفظ ، لا إظهار الحقيقة باللفظ المستعمل في معناه ، ولا يلزم الكذب ، فإن إظهار الثبوت ليس بداع الإعلام بالثبوت ، بل بداع التلطف أو الترغيب أو غيرهما ، فلا تغفل.

كما أنه يمكن أن يقال : إن كلمة لعل لجعل مدخولها واقعا موقع الرجاء وموردا لتوقّع الخير مثلا ، وهو بالإضافة إليه تعالى لا يقتضى انبعاثه عن ترجّيه تعالى ليقال : باستحالته بل جعله تعالى معرضا لتوقّع الخير ترغيبا وتحريصا على فعله.

ويمكن أن يقال : بأن ثبوت الترجي في مقام ذاته تعالى غير معقول ، لأنه لا يكون إلا مع الجهل بالحصول المستحيل في حقه تعالى ، إلا أنه بالإضافة إلى المرتبة الأخيرة من مراتب فعله تعالى أمر معقول ، كالعلم المنطبق على الموجود الخارجي ، فإنه من مراتب علمه الفعلي ، فكذا كون الفعل مرجوّ الحصول بلحاظ تأدية الأسباب المنتهية إلى مسبّب الأسباب له نحو من الانتساب إليه تعالى كما في البداء والتردّد المنسوبين إليه تعالى في الآيات والرّوايات ، فافهم ذلك إن كنت أهلا لذلك.

ثم إن الظاهر وإن كان مخالفا للجمهور عدم كون كلمة لعل للترجي لوضوح استعمالها كثيرا فيما لا يلائم الترجي كقوله تعالى : ( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ) (١) ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ) (٢) وكقوله عليه السلام : « لعلك وجدتني في مقام الكذابين وفي مجالس الباطلين » (٣) أو لعل زيدا يموت بهذا المرض

__________________

(١) هود : ١٢.

(٢) الكهف : ٦.

(٣) أو : لعلك رأيتنى الف مجالس البطالين ، مفاتيح الجنان : ١٩١.

٢٣٢

وغيرها من الموارد الكثيرة التي لا شك في عدم التجوز فيها ، وعدم ملائمة إظهار الرجاء في مثل هذه الأمور المنافرة للنفس في غاية الظهور.

وربما يتفصّى من ذلك بدعوى أن الرجاء ليس بمعنى يساوق الأمل وتوقّع المحبوب فقط ، بل يكون للاشفاق وتوقّع المخوف أيضا كما نقل عن بعض أئمة اللغة وعليه حمل قوله تعالى : ( لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ) (١) أي لا يخافون وقوله تعالى : ( لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) (٢) أي لا يخافون.

والعجب أن الفراء مع مكانته في اللغة والأدب ينكر هذه الكلية ويقول لا يقال : رجوتك اي خفتك. وإنما يكون بمعنى الخوف في مورد النفي كما فيما سمعت من الآيات.

مع أنه لا معنى لتغير مادة اللفظ معنى بتفاوت الإثبات والنفي وأظنّ أنّ كل ذلك من عدم التمكن من تطبيق موارد الاستعمالات على معنى جامع ربما يجامع توقع المحبوب وربما يجامع توقع المخوف والمكروه من دون دخل للمحبوبيّة والمخوّفية والعلية التي قال بها بعضهم في المعنى الموضوع له.

والظاهر أن هذه الكلمة إنما يقال فيما كان الشيء في معرض احتمال الوقوع سواء كان مرجوا أم لا كما لا يخفى على المنصف.

وفي صحاح الجوهري : لعل كلمة الشك فيوافق ما استظهرناه ويؤكده أن مرادف هذه الكلمة في الفارسية كلمة ( شايد ) لا كلمة ( اميد ) فتدبر ، وحينئذ يسقط الوجه الأول عن الدلالة على المقصود.

__________________

(١) يونس ٧ و ١١ و ١٥.

(٢) الجاثية / ١٤.

٢٣٣

١٠٧ ـ قوله « قده » : بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع ... الخ (١).

تقريبه أن التحذر وإن كان مستندا إلى الإنذار ، والإندار وإن كان بما تفقّه فيه ، إلا أنهما إنما يناسبان الواجب والحرام بملاحظة ما يترتب عليهما من الأمور التي يخاف ترتبها على الفعل والترك.

وهي كما يمكن أن تكون العقوبة على المخالفة ، كذلك يمكن أن يكون فوت المصلحة والوقوع في المفسدة.

فكما يصح الإنذار بملاحظة العقوبة ، فيدل على وجوب التحذر ، كذلك يصح الإنذار بملاحظة فوت المصلحة والوقوع في المفسدة ، فيحسن التحذر.

إلاّ أن الإنصاف أن الإنذار والتّحذّر بملاحظة ترتب العقوبة أنسب ، إذ المتعارف من الإنذار من المبلغين للأحكام في مقام الحث على العمل بها بيان ما يترتب على الفعل أو الترك من العقوبات الأخروية دون المصالح والمفاسد ، فيكون التّحذر المنبعث عنه تحذّرا من العقوبة.

وأما توهم أن جعل التحذر باعتبار فوت المصلحة والوقوع في المفسدة يوجب الاختلال في تمام أنحاء الاستدلال ولا يختص بالوجه الأول كما هو ظاهر المتن لأن التحذر بهذا المعنى على أي حال مستحسن عقلا لا معنى للكشف عن الحجّية بسببه مطلقا.

فمدفوع بأن الوجه الأول حيث كان مبنيّا على دلالة كلمة لعل على محبوبية التحذر من دون النظر إلى صدر الآية ، فلذا اختص بهذا الإيراد.

بخلاف الوجهين الأخيرين ، فانهما يتمان ولو لم تدل كلمة لعل على المحبوبية ، بل ولو لم يكن في الآية عنوان التحذر أيضا ، فان الوجه الثاني بملاحظة وجوب الإنذار ، فيكون التحذر به بدلالة الاقتضاء واجبا ، وإلا لزم

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٨.

٢٣٤

اللغوية ، والوجه الثالث أيضا مع الفراغ عن وجوب الإنذار ، فغايته واجبة ، لأن غاية الواجب واجبة ، فيكون وجوب الإنذار على كلا الوجهين كاشفا عن وجوب التحذر ، فيكون المراد منه التحذر عن العقوبة دون غيرها.

ولا يخفى أنه بناء على ما استظهرناه من عدم كون كلمة لعل للترجي وأنها كلمة الشك كما في الصحاح ، فشأنها جعل مدخولها واقعا موقع الاحتمال ، فيكون نفس جعل التحذر واقعا موقع الاحتمال كاشفا عن حجية الإنذار ، إذ يستحيل مع وجود قاعدة قبح العقاب بلا بيان أن يكون مجرد الإخبار بالتكليف أو بملازمه وهو العقاب المجعول موجبا لحدوث الخوف ، فجعله موجبا لحدوث الخوف بنحو الاقتضاء دليل على فعلية العقاب المجعول بمجرد الإخبار عنه ، فيكون الخبر منجّزا للعقاب المجعول ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام.

١٠٨ ـ قوله « قده » : لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق ... الخ (١).

التّحذر وإن لم يكن له في نفسه إطلاق ، نظرا إلى أن الآية غير مسوقة لبيان غايتيّة الحذر ليستدل بإطلاقه ، بل لإيجاب النفر للتفقه.

إلا أن إطلاقه يستكشف بإطلاق وجوب الإنذار ، ضرورة أن الإنذار واجب مطلقا من كل متفقّه سواء أفاد العلم للمنذر أم لا ، فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذر كان التحذر واجبا مطلقا ، وإلاّ لزم اللغوية أحيانا.

كما أن التحذر إذا كان هي الغاية للإنذار فوجوب الإنذار مقدّميا إذا كان مطلقا يكشف عن إطلاق وجوب ذي المقدمة ، لاستحالة إطلاق أحدهما واشتراط الآخر ، وتبعيّة وجوب المقدمة لوجوب ذيها أصلا وإطلاقا وتقييدا بحسب مقام الثبوت لا ينافي تبعية وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدمة بحسب

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٩.

٢٣٥

مقام الإثبات ، كما في كل علّة ومعلول ثبوتا وإثباتا.

نعم هنا وجهان لمنع إطلاق وجوب الإنذار حقيقة ولبّا :

أحدهما ما عن بعض أجلّة العصر (١) من أن الإنذار الواجب من باب المقدمة هو الإنذار المفيد للعلم ، فيكون الوجوب في المقدّمة وذيها مقيدا.

إلا أن ذلك الإنذار الخاص حيث لا تميز له من بين سائر الإنذارات أوجب المولى كل إنذار مطلقا للتوصل إلى مقصوده الأصلي ، وهو الإنذار الخاص الذي هو المقدّمة للتّحذر الخاص.

ففي الحقيقة لا إطلاق لما هو الواجب المقدمي تبعا لذي المقدمة ، وإن كان الإنذار المطلق واجبا لغرض التّوصل إلى ما هو المقدمة واقعا.

والجواب أن ما عد الإنذار الخاص ليس فيه ملاك المقدمية ولا ملاك نفسي على الفرض فعدم التميّز سواء كان بالإضافة إلى المكلف بالإنذار أو إلى المكلف بالتحذر لا يمنع ، إلا عن العلم بتلك المقدّمة الخاصة.

فإيجاب الإنذارات من مكلف واحد راجع إلى إيجاب المقدمة العلميّة وهو وجوب عقلي إرشاديّ ، لا إيجاب مولوي شرعي.

كما أن إيجاب الإنذارات على المكلفين ـ لحصول العلم للمكلف بالتحذر بما هو مكلف به من التحذر العلمي ، نظرا إلى عدم تمييزه للإنذار المفيد للعلم عن غيره من الإنذارات ، بل بعد تحققها جميعا يعلم بحصول التحذر العلمي من أحدها ـ يرجع إلى إيجاب المقدّمة العلميّة بالتكليف النفسي ، وهو التّحذر عن علم.

وكلاهما خلاف ظاهر وجوب الإنذار شرعا مولويّا.

وأما إيجاب الإنذارات من المكلفين لعدم تمييز المولى ما فيه ملاك المقدمية

__________________

(١) هو المحقق الحائري ، درر الفوائد ٣٩٠.

٢٣٦

عن غيره ، فخطأ في حق الشارع.

ثانيهما ما عن شيخنا الاستاد « رحمه الله » هنا وفي تعليقته (١) الأنيقة على الرسائل من منع الإطلاق تارة بأن النفر الواجب حيث كان لأجل التفقّه والعلم بمعالم الدين وأحكام الله الواقعيّة ، وقضيّة ذلك التّحذر بالإنذار بما أحرز أنه من معالم الدين ، فالقرينة على التقييد موجود (٢) في الطرفين.

وأخرى بأن الفائدة غير منحصرة في التحذر ، بل لإفشاء الحق وظهوره بكثرة إنذار المنذرين ، فالغاية قهرا يلازم العلم بما أنذروا به ، فالتحذر بما علم غاية لظهور الحق وإفشائه ، وهو غاية لإنذار المنذرين بحيث يكون إنذار جملة من المكلفين علة لحصولها وإنذار كل واحد مقدمة لحصول العلّة التامة لظهور الحق ، فلا ينافي وجوب كل واحد من باب المقدمية هذا مع توضيح مني.

والجواب عن الأول أن كون الإنذار بما علم لا يقتضي أن يكون الإنذار مفيدا للعلم ليتقيّد به الإنذار فيتقيّد به التّحذّر.

وعدم إحراز كون الإنذار إنذارا بما علم ليجب قبوله.

مدفوع بإطلاق وجوب الإنذار من حيث إفادة العلم ، فيكشف عن كون الموضوع لوجوب التحذر مجرد حكاية العقاب المجعول بالمطابقة أو الالتزام ، ومطابقته للواقع تعبّدا يعلم من وجوب القبول ، فالذي يجب إحرازه في مرحلة فعليّة وجوب القبول نفس ذلك الوجوب الحكائي.

ولا يخفى عليك أنه لا بد في صحة هذا الجواب من الالتزام بإطلاق وجوب الإنذار لإفادة العلم وعدمها ، وإلاّ فللخصم أن يدّعي أنّ الآية ليست في مقام جعل الحجة وإيجاب التحذر مولويّا حتى يكتفي في موضوعه بوجوده الحكائي ، بل في مقام إيجاب الإنذار العلمي ليترتب عليه التّحذر قهرا ، فتدبره فانه حقيق به.

__________________

(١) التعليقة على الرسائل ص ٦٧.

(٢) هكذا في النسخة المخطوطة بغير خطه قده ، لكن الصحيح : موجودة.

٢٣٧

وعن الثاني بأن ظاهر الآية أن الغاية المترتبة على الإنذار والفائدة المترقّبة منه هو التّحذر لا إفشاء الحق وظهوره.

فالمراد والله أعلم لعلهم يحذرون بالإنذار ، لا بافشاء الحق بالإنذار.

كما أن ظاهرها التحذّر بما أنذروا ، لا بالعلم بما أنذروا به ، بل نقول : إن نفس وجوب الإنذار كاشف عن أن الإخبار بالعقاب المجعول إنذار ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان حجة ، وإلا فالإخبار المحض لا يحدث الخوف ولو اقتضاء حتى يكون مصداقا للإنذار حتى يجب شرعا.

ومنه ظهر أن التحذر لو كان نتيجة إفشاء الحق بكثرة إخبار المخبرين عن العقاب المجعول كان المجموع إنذارا واحدا ، لأن المجموع هو المقتضى للعلم المقتضى للخوف.

مع أن كل واحد مكلف بالإنذار الذي لا يصدق على إخباره بالعقوبة إلاّ مع فرض حجّيته.

ومن غريب الكلام ما عن بعضهم (١) من قصر التفقه في الدين على العلم بدقائق الدين مما يتعلّق بأسرار المبدأ والمعاد وتبليغ الدعوة والنبوة وأشباه ذلك مما يطلب فيه العلم دون الأحكام الشرعيّة العملية. وفي أخبار الأئمة عليهم السلام شواهد كثيرة على صدق التّفقه على تعلم الحلال والحرام ، فليراجع.

مع أن صريح الآية إنذار النافرين للمتخلفين أو بالعكس ، لا تبليغ الدعوة إلى عامة الناس ونشر أعلام الهداية في البلاد النائية ، كما توهمه هذا المتوهم ، فافهم واستقم.

بقي هنا أمران ، أحدهما : قد تكرر في كلماتهم أن وجوب الإنذار مقدمي ، ولذا جعل في الإطلاق والاشتراط تابعا لوجوب التحذر.

__________________

(١) محجّة العلماء ١ : ٢٦١.

٢٣٨

لكنا قد ذكرنا في المبحث عن مقدمة (١) الواجب أن الواجب النفسي ما وجب لا لواجب آخر وأن الواجب الغيري ما وجب لواجب آخر ، فما كان وجوبه منبعثا عن وجوب غيره كان واجبا غيريّا مقدميّا ، وإلاّ فهو واجب نفسي.

وبه أجبنا عن شبهة كون الواجبات النفسيّة واجبات غيرية ، لانبعاث وجوبها عن غرض ، فهو الواجب ومحصّله واجب مقدمي ، فينحصر الواجب في مثل المعرفة الواجبة بذاتها.

فان ملاك الواجب النفسي ليس عدم انبعاثها عن غرض زائد على ذاته ، بل عدم انبعاث وجوبه عن وجوب آخر.

وعليه فالإنذار من مكلف والتّحذر من مكلف آخر ليس وجوب أحدهما منبعثا عن وجوب آخر ، فالإنذار مراد من المتفقّه لا لمراد آخر منه حتى يكون واجبا مقدّميا ، وإن كان الغرض منه راجعا إلى الآخر ، فافهم وتدبّر.

نعم مسألة التبعيّة في الإطلاق والتقييد جارية بلحاظ مقام الغرض ، فان الغرض لو كان قائما بالتحذّر عن علم لا يعقل أن يكون الإنذار بقول مطلق واجبا لغرض التحذر الخاص.

ثانيهما : أن الآية هل هي متكفّلة لجعل الحجّية أو مبنيّة على الحجّية : فان كان التحذر غاية شرعية كان الدليل متكفلا للحجية.

وإن كان غاية عاديّة واقعيّة كان الدليل مبنيّا على الحجّية.

والتحقيق أن كلمة لعل : إن كانت للترجي المراد منه تعالى (٢) فيه مجرد

__________________

(١) لم نعثر على العبارة المزبورة في مبحث مقدمة الواجب وإنما الذي وجدناه فيه هو قوله فالواجب النفسي بناء عليه هو المراد من المكلف لا لأجل مراد آخر منه والواجب الغيري هو المراد منه لأجل مراد آخر منه. نهاية الدراية ١ : التعليقة ٣٧٢.

(٢) هكذا وردت العبارة في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير الخط المصنف قده ، لكن الصحيح : المراد منه فيه تعالى.

٢٣٩

المحبوبيّة فالغاية تعبّدية ، إذ حاصل المعنى حينئذ أنه يجب الإنذار على المتفقهين إرادة أن يحذروا.

وحيث إن الإرادة ليست تكوينية وإلا لما تخلف عنها التحذر فيه تعالى ، فلا محالة تكون تشريعية ، فيفيد وجوب التحذر ، وهو كناية عن وجوب لازمه ، وهو العمل.

وإن كانت كلمة لعل لجعل مدخولها واقعا موقع الاحتمال كما هو الأظهر على ما مر ، فالغاية عادية واقعية ، فالحاصل من الآية حينئذ إيجاب الإنذار لاحتمال تأثيره في التحذر ، فإن الإنذار مقتض عادة للتّحذر فالآية حينئذ مبنيّة على حجية الخبر ، إذ لولاها يقطع بعدم العقاب كما تقدّم.

١٠٩ ـ قوله « قده » : على الوجهين في تفسير الآية ... الخ (١).

توضيح المقام أن ظاهر سياق الآية من حيث ورودها في ضمن آيات الجهاد وظاهر صدرها وهو قوله تعالى.

( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (٢) وظاهر بعض التفاسير أن المراد النفر إلى الجهاد ، وأن التفقّه وظيفة المتخلّفين عند النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فمرجع الضمير حينئذ في قوله تعالى ( لِيَتَفَقَّهُوا ) هي الفرقة دون الطائفة.

وظاهر جملة من الأخبار أن المراد النّفر للتّفقه كما يساعده ظاهر نفس الآية ، حيث إن مقتضى لو لا التحضيضيّة الحث على النفر للتفقّه لا الحث على التخلّف للتفقّه وإن كان نفر طائفة ملازما لتخلّف الباقين.

والاستدلال لوجوب الإنذار بوجوب النفر الواقع في تلو لو لا التحضيضيّة يتوقف على إثبات هذا المعنى.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٩.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٢٤٠