نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

العمل على طبق الأقوى كشفا.

ومن الواضح أن الكاشف المتقيّد بعدمه البناء العملي على اتباع الظاهر ليس الكاشف بوجوده الواقعي حتى يجدي عدمه الواقعي من باب عدم المانع ويكون احتماله احتمال المانع ليقال بأن بناء العقلاء عند احتمال وجوده على عدمه.

بل حيث إن الاقتضاء من الطرفين في مرحلة التأثير في نفوس العقلاء من حيث البناء العملي على اتباع الظاهر وعدمه ، فلا محالة لا تأثير من الطرفين ثبوتا إلا بلحاظ وجودهما الواصل لا وجودهما الواقعي ، فتأثير وجوده الواقعي في قبال تأثير الظاهر الواصل مستحيل جدا.

وأما تأثير احتمال وجوده في قبال الظاهر الواصل ، فهو خلف ، إذ المفروض أن الظاهر حجة مع احتمال وجود كاشف أقوى فلا يعقل اعتبار مانعيّته مع بناء العقلاء على اتباع الظاهر حتى مع احتمال كاشف أقوى ولو ببناءين لكونهما متنافيين ، وليس كمانعية وجوده الواقعي القابل للبناء على عدمه عند احتماله.

مع أن تأثير وجود الكاشف احتمالا في قبال وجود كاشف آخر قطعا بعيد جدا.

مع أن مقتضى مانعيّة وجوده الاحتمالي هو بناء العقلاء على عدم مانعية وجوده الاحتمالي لا البناء على عدم المحتمل ، لأن وجوده الواقعي لا أثر له حتى يبنى على عدمه ، بل وجوده الاحتمالي له الأثر ، فلا بد من البناء على عدم مانعيته لا على عدمه.

فاتضح من جميع ما ذكرنا أن المانع عن اتباع الظهور ثبوتا عند العقلاء هو الكاشف الأقوى الواصل ، فمع عدم وصوله الوجداني لا مانع قطعا ، فلا مقتضى في مقام الإثبات لحجية الكاشف الأقوى جزما حيث لا بناء عملي منهم

١٨١

إلا على اتباع الكاشف الواصل على خلاف الظاهر.

فمع احتمال القرينة إنما لا يعتني به لا لبناء من العقلاء على عدمها كما هو معنى أصل عدم القرينة ، بل لعدم البناء منهم على اتباعها حيث إن مورد بنائهم وجودها الواصل ، فلا يعقل مانعية وجودها الواقعي عن اتباع الظاهر ليحتاج دفعها إلى البناء على عدمها.

وعليه فالظاهر الذي يحتمل وجود قرينة على خلافه إنما يتبع لوجود الحجة على اتباع الظاهر ، وعدم الحجة على القرينة لا للحجة على عدمها.

لكنك قد عرفت أن عدم الحجة على اتباعها من باب السلب المقابل للإيجاب لا العدم في قبال الملكة لما مر من عدم معقولية مانعية وجودها الواقعي ثبوتا حتى يعقل بناء من العقلاء على اتباعها في قبال الظاهر إثباتا.

نعم قد أشرنا إلى أن الحجة حيث إنها لا بد من أن تكون مناسبة لمورد المحاجّة : فتارة يحتج بالظاهر ، وأخرى بغيره.

فمع القطع بعدم نصب القرينة واحتمال استناد عدم نصبها إلى حكمة أو إلى غفلة ، فالحجة ليست إلا ظهور كلام المولى ، إذ ليست غفلة المولى حجة على عبده ليصح الاحتجاج بها من المولى على عبده حتى يستند العبد إلى أصالة عدم الغفلة. وكذا ليست الحكمة الداعية حجة للمولى على عبده حتى يستند العبد إلى أصالة عدمها ، بل يحتج المولى بارادته الواقعية ويحتج العبد بظهور كلامه على خلاف مرامه.

وأما مع احتمال نصب القرينة : فتارة يعترض المولى على عبده في إتيانه للحيوان المفترس ، فحجة العبد ظهور لفظ الأسد فيه.

وأخرى يعترض عليه في عدم إتيانه للرجل الشجاع مع نصب القرينة عليه واقعا ، فالمناسب حينئذ الاحتجاج عليه بعدم الحجة على القرينة ، لا بالحجة على عدمها لما مر ، ولا بظهور كلامه في خلاف مرامه ، حيث إنه لا يحتج عليه

١٨٢

بمرامه الواقعي ، بل بنصب القرينة على ما يوافق مرامه.

ثم اعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين احتمال القرينة المنفصلة والمتصلة ، فإن الكلام وإن استقر ظهوره في الأول دون الثاني ، لكنه حيث إن بناء العقلاء في كلا الاحتمالين على العمل بالمقدار الواصل من الكلام يعلم منه أن مدار العمل ليس على الظهور الفعلي.

إذ ليس أيضا بناءان من العقلاء ، أحدهما على اتباع الظهور الفعلي ، والآخر على اتباع الظهور الوضعي ، بل بناء واحد على الأعم من الظهور الفعلي بحيث يكون فعليته وعدمها على حد سواء.

إذ من الواضح أن بناءهم على عدم القرينة لا يوجب فعلية الظهور والبناء على عدم المانع إنما يجدي مع وجود المقتضي ، فلو كان المقتضى هو الظهور الفعلي ، فمع عدمه لا فرق بين وجود المانع وعدمه ، فانه لا يعقل الحكم بثبوت مقتضاه.

بل موضوع بناء العرف والعقلاء هو الظهور الوضعي الذاتي بضميمة هذه المقدمة ، وهي أن مقتضى الجري على قانون الوضع عدم التفهيم بنفس اللفظ إلا نفس معناه الموضوع له بحيث لو أراد تفهيم غيره به لكان بمعونة غيره.

وهذا غير دعوى أن مقتضى طبع اللفظ استعماله فيما وضع له ليورد عليها مخالفة هذا الطبع كثيرا ، بل ربما يكون استعمال اللفظ في معناه المجازي اكثر من معناه الحقيقي ، فانا لا ندعي أن تفهيم المقاصد لا بد من أن يكون بالحقايق.

بل ندعي أن الجري على قانون الوضع يقتضي أن لا يفهم بنفس اللفظ إلا نفس معناه ، فلا ينافي كثرة تفهيم غيره ، به بمعونة غيره ، ولم تظفر إلى الآن بمخالفة هذه الطريقة ممن يجري على قانون الوضع.

وعلى هذا فالكلام الواصل وإن لم يعلم قالبيّته لما وضع له لاحتمال قرينة

١٨٣

تساعد على تفهيم غيره به. إلا أن الكلام الواصل يمكن أن يكون آلة لتفهيم نفس معناه ، ووجود القرينة واقعا لا يكون صالحا لتفهيم غيره به ، فهذا المقتضي الواصل يؤثر في نفوس العقلاء من حيث بنائهم على استكشاف المراد به ، ووجود القرينة واقعا لا يصلح للصارفية ، ونفس الاحتمال ليس صارفا حيث إنه ليس مفهما لغيره.

وأما مع احتفاف الكلام بما يحتمل قرينيّته فالموجود وإن لم يكن مفهما لغيره ، إلا أن الكلام المحفوف به أيضا لا يصلح بالفعل لتفهيم نفس معناه وإن كان ظهوره الوضعي محفوظا ، لأن الذي يصلح لتفهيم معناه به هو اللفظ المجرد من غيره لا المحفوف بغيره ، وهذا معنى كون المجمل العرضي كالمجمل الذاتي.

نعم إن كان مدار عمل العقلاء على اتباع الظهور الذاتي لا لما ذكرنا ، بل لوجه آخر لا طريق لنا إليه أمكن حجية هذا الظاهر المحفوف وهذا معنى التعبد حيث إنه لم يعلم وجه العمل كما في التعبد الحقيقي.

٨٤ ـ قوله « قده » : بناء على حجية أصالة الحقيقة ... الخ (١).

غرضه « قدس سره » أنه بناء على حجية الظاهر من باب الكشف النوعي لا شبهة في عدم حجيته ، إذ مع هذا الاحتفاف لا كشف أصلا.

وكذا بناء على اتباع الظاهر من باب أصالة عدم القرينة ، إذ لا شك في وجودها هنا ، بل في قرينية الموجود.

وأما بناء على حجيته تعبدا من العقلاء ، ففيه الإشكال لامكان تعبدهم في مثله أيضا على اتباع الظهور الذاتي وجعل الموجود كالمعدوم.

إلا أن الظاهر أن العقلاء يعاملون معه معاملة المجمل ، فيعلم أن بناءهم على اتباع الظاهر وإن لم يكن لحيثية ظهوره ، إلا أن موضوع حكمهم الظاهر

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٦.

١٨٤

المحض الذي لم يعرضه الإجمال ، وهذا الظاهر عندهم بمنزلة المجمل ذاتا.

في الإجماع المنقول

٨٥ ـ قوله « قده » : كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن مدارك الحكم الشرعي منحصرة في غير الضروريات وما أشبهها من المسلمات في أربعة وهي الكتاب والسنة والاجماع والدليل العقلي الذي يتوصل به إلى الحكم الشرعي.

وحيث إن الكلام في نفس الاجماع ، فما يستند إليه المجعول لا محالة غيره من المدارك الثلاثة الأخر.

ومن الواضح أن المدرك لهم ليس هو الكتاب ، وعلى فرض استظهارهم من آية خفيت علينا جهة الدلالة لم يكن فهمهم حجة علينا.

وكذا ليس مدركهم الدليل العقلي ، إذ لا يتصور قضيّة عقلية يتوصل بها إلى الحكم الشرعي كانت مستورة عنّا ، فينحصر المدرك في السّنة.

وحيث لا يقطع بل ولا يظن بسماعهم لقول الامام عليه السلام ، أو برؤيتهم لفعله عليه السلام أو لتقريره عليه السلام ، بل ربما لا يحتمل ذلك في زمان الغيبة إلا من الأوحدي ، فلا محالة ينحصر المدرك في الخبر الحاكي لقوله عليه السلام أو فعله عليه السلام أو تقريره.

وفيه المحذور من حيث السند والدلالة : أما من حيث السند ، فبان المجمعين لو كانوا مختلفي المشرب من حيث حجية الخبر الصحيح عند بعضهم والخبر الموثق عند بعضهم الآخر والخبر الحسن عند آخرين لدل اتفاقهم على الحكم على أن المستند في غاية الصحة.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٨.

١٨٥

وأما لو كانوا متفقي المسلك بأن كانوا يعتقدون حجية الخبر الموثق فمن لا يعتقد إلا بالخبر الصحيح لا مجال له في الاستناد إلى هذا الاجماع فضلا عما إذا كانوا يعتقدون حجية الخبر الحسن ، فإن الغالب لا يمكن استنادهم إليه.

وأما من حيث الدلالة ، فان الخبر المفروض : إن كان نصا في مدلوله صح الاستناد إليه منا أيضا إلا أنه نادر واحتماله غير مانع ، لأنه لا يتعين أن يكون نصا في مدلوله لحجية الظاهر أيضا.

وإن كان ظاهرا في مدلوله فلا يجدي أيضا ، إذ ظهور دليل عند طائفة لا يستلزم الظهور عند آخرين وفهمهم ليس حجة علينا ، بل قد وجدنا المشهور من المتقدمين على استفادة النجاسة من أخبار البئر مع أن الأمر عند المتأخرين بالعكس ، فلعل الخبر إذا نقل إلينا لم يكن ظاهرا عندنا.

مع أنهم لو عثروا على هذه الأخبار الصحاح الظاهرة الدلالة في موارد اجماعهم ، فلم لم يتعرّضوا لها لا في مجاميع الأخبار ولا في الكتب الاستدلالية.

٨٦ ـ قوله « قده » : وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حسّ ... الخ (١).

الفارق بين ما إذا كان السبب تاما في نظر المنقول إليه ، وما لم يكن كذلك مع الاشتراك في الإخبار عن المسبب بالالتزام وعن السبب بالمطابقة وجوه :

أحدها ما عن شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » في الرسائل (٢) أن مقتضى الفرق بين العادل والفاسق في آية النّبأ ـ التي هي عمدة الآيات من حيث الدلالة على حجية الخبر ومقتضى التعليل بقيام احتمال الندم مع عدم التبيّن عن خبر الفاسق ـ هو عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه ، لا وجوب البناء على اصابته في حدسه.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٩.

(٢) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٧٩.

١٨٦

فانه ليس غرضه « قدس سره » اختصاص احتمال تعمد الكذب بالخبر الحسي دون الحدسي ، ضرورة أن الانسان كما يمكن أن يخبر عما لم يحسّ كذلك يمكن أن يخبر عمّا لم يحدس ، بل غرضه أن واقعيّة المخبر به بعدم تعمّد الكذب وعدم الخطأ والآية متكفّلة لنفي احتمال تعمد الكذب وأصالة عدم الخطأ لنفي احتمال الخطأ.

وحيث إن بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الحس دون الخطأ في الحدس ، فالآية بضميمة أصالة عدم الخطأ في الحس دليل الحجّية في الخبر الحسي.

وحيث إن هذه الضميمة غير متحققة في الخبر الحدسي ، فالآية وإن كانت نافية لاحتمال تعمد الكذب ، لكنه لا أثر بالفعل لنفي احتمال تعمد الكذب إلا مع نفي احتمال الخطأ ، فلا تعم الآية التي هي دليل الحجية بالفعل لما لا أثر له بالفعل وهو الخبر الحدسي ، فهي وإن كانت بحسب الاقتضاء قابلة لشموله ، لكنها لا تعمه بالفعل.

ثانيها أن كون المخبر صادقا في خبره غير كونه صائبا في نظره ، والدليل متكفل لتصديق الخبر لا لتصويب النظر.

بيانه أن دليل التصديق وإن لم يكن ناظرا إلى خصوص التصديق المخبري كما أفاده الشيخ الأعظم « رحمه الله » بل كان ناظرا إلى التصديق الخبري والحكم بواقعية المخبر به لا إلى مجرّد نفي احتمال تعمد كذبه.

إلا أن تصديقه في حسّه واقعا تصديقه فيما أحسّ به ، وليس تصديقه في حدسه واقعا تصديقه فيما حدس به ، فان القطع بسماعه لقول الامام عليه السلام إنه يجب صلاة الجمعة يستلزم القطع بصدور هذا القول من الامام عليه السلام ، ولكن لا يستلزم القطع بحدسه لرأي الامام عليه السلام القطع برأيه.

فتصديقه في سماعه وأنه أخبر عما له واقعيّة يستلزم تصديقه في واقعيّة

١٨٧

المسموع ، ولكن ليس تصديقه في خبره عن حدسه مستلزما لتصديقه فيما حدس به ، بل يترتب على تصويبه في حدسه.

وبالجملة فواقعيّة السماع يستلزم واقعيّة المسموع بخلاف واقعيّة الحدس ، فانه لا يستلزم واقعيّة ما حدس به ، فتأمل جيدا.

ثالثها أن بناء العقلاء على حجية الخبر لكونه كاشفا نوعيّا فعلا إذا صدر ممن يوثق بقوله ولم يكن فيه آفة في حاسّته ، فهذه الكاشفية النوعيّة الفعلية عن الواقع هو المقتضى ثبوتا لبناء العقلاء على اتباع الخبر.

ومن الواضح أن خطأه الواقعي في احساسه لخروجه عن الطبع أحيانا لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثير المقتضى ومزاحما له لما عرفت في مسألة (١) حجية الظاهر ، فاحتماله ليس من احتمال المانع حتى يتوقف الحكم بالمقتضى على بناء العقلاء على دفع المانع ، ونفس الاحتمال غير مانع على الفرض ، بل المستبعد جدا أن يزاحم الاحتمال الكاشف النوعي الفعلي.

ومنه تبيّن عدم الحاجة إلى أصالة عدم الخطأ ، بل عدم الاعتناء باحتماله لعدم البناء على وجوده ، لا للبناء على عدمه. هذا في الخبر الحسى أو ما هو كالحسى.

وأما الخبر عن حدس محض ، فمجرد كون الشخص ممن يوثق بقوله وعدم كونه ذا آفة في حاسّته لا يوجب الكاشفية الفعليّة لخبره ، بل يتوقف على تصويب حدسه ونظره.

فإذا كان الخبر حجة ببناء العقلاء فالمقتضى لبنائهم هو الكشف النوعي الفعلي المختص بالخبر الحسي أو ما هو كالحسي. ولعله لذلك حكم في آية النبأ على أن العمل بخبر الفاسق من دون تبين عنه إصابة للقوم بجهالة ، حيث لا

__________________

(١) في التعليقة ٨٣.

١٨٨

كاشفية فعلا نوعا مع كون المخبر ممن لا يوثق به.

ومنه يظهر أن خبر العادل عن حدس إذا كان عما لا سببيّة له عادة كان مستندا إلى ما لا طريقية له عادة إلى الواقع ، فالعادل والفاسق حينئذ على حد سواء من كون الاعتماد على خبرهما اعتمادا على الجهل المحض.

وهذا وجه انصراف آية النبأ إلى الخبر عن حس أو ما هو كالحس لا من حيث إن النبأ عن حدس غير معمول به عند العقلاء فلا يكون رافعا للجهالة كما توهم ، بل من حيث استناده إلى ما هو في نفسه لا سببية له للوصول إلى الواقع ، فكيف يكون الخبر المستند إليه كاشفا فعلا عن الواقع حتى يبني عليه العقلاء أو يتعبد به الشارع ، فافهم جيدا.

٨٧ ـ قوله « قده » : وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم ... الخ (١).

قد عرفت أن مقتضى بناء العقلاء هو الكشف النوعي الفعلي عن الواقع ، فمع كونه ممن يوثق بقوله ولم يكن آفة بحاسّته وعدم استناد العاقل بحسب المتعارف إلا إلى سبب عادي متعارف لا ريب في كاشفية خبره نوعا عن الواقع.

وأما إذا اختل هذا الظهور الأخير ، ـ وهو ظهور حال العاقل في دعوى الجزم بشيء أنه مستند إلى سبب عادي متعارف ، بحيث وجدنا غالب المدعين للإجماع مستندين إلى سبب غير عادي أو وجدنا خصوص هذا المدعي يستند إلى سبب غير متعارف ، ـ فلا كاشفية ، نوعية لخبره ، وإن احتمل استناده في خصوص هذه الدعوى إلى سبب متعارف ، كما إذا احتملنا أنه مع فرض غلبة كذبه يكون صادقا في خبره الشخصي أو مع وجود الآفة بحاسته ما اخطأ في خصوص هذا المورد ، فكما لا يفيد هذا الاحتمال في تحقق الكشف النوعي كذلك ذلك الاحتمال.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٨٩.

١٨٩

٨٨ ـ قوله « قده » : وأما من جهة نقل السبب فهو في الاعتبار ... الخ (١).

يمكن أن يناقش فيه بأن تنزيل شيء منزلة شيء لا يعقل إلا بلحاظ ما لذلك الشيء من الأثر شرعا ، لا بلحاظ ما لغيره من الأثر وإن كان ملزومه أو ملازمه ، بداهة أن وجه الشبه لا بد من أن يلاحظ بين المشبه به والمشبه دون ما هو أجنبي عنهما ، وهو من القضايا التي قياساتها معها.

وهذا لا ربط له بحجية الأمارة في الشيء بأطرافه من لازمه وملزومه وملازمه ، بداهة أن مرجعه إلى حجيتها في مداليلها المطابقيّة والتضمنيّة والالتزامية ومصحح التعبد بكل واحد نفس أثرها الشرعي ، لا أن الخبر حجة في مدلوله المطابقي بلحاظ ملزومه أو ملازمه.

وعليه ، فلا وجه لحجية الخبر في مضمونه الذي هو فتوى جماعة بكذا بلحاظ ملازمه وهو رأي الامام عليه السلام في نظر المنقول إليه لما عرفت. ولا أثر شرعي لفتوى الجماعة بكذا واقعا كي ينزل الإخبار عنها منزلتها فيه.

وكونه سببا للقطع برأي الامام عليه السلام وملازما له واقعا في نظر المنقول إليه ليس بشرعي حتّى يصح التعبّد بلحاظه.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين ما تتضمنه الأخبار من الأسئلة التي تعرف منها أجوبتها والأقوال والأفعال التي تعرف منها تقرير الإمام عليه السلام لها ، فانها مشتملة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها وخصوصياتها الموجبة لضيقها وسعتها ، والتعبد بها بلحاظ ما لها من الأحكام مما لا ينبغي الريب فيها.

وكذا كون السائل مدنيّا مثلا فالرطل المذكور في كلامه مدني أيضا ، فان له دخلا في الموضوع سعة وضيقا ، إذ لو لا كونه مدنيّا لم يرتب حكمه عليه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٠.

١٩٠

السلام على الرطل المدني ، فهو أيضا بهذا الاعتبار دخيل في الحكم الشرعي.

بخلاف فتوى الجماعة ، فانها لا دخل لها في رأي الامام عليه السلام حكما وموضوعا سعة وضيقا.

فليس الاشكال في الفتاوى المنقولة أنها أمر غير معلوم عن غير معصوم حتى ينتقض بما ذكره الشيخ المحقق التستري (١) « قدس سره » وأشرنا إليه آنفا.

بل المحذور عدم كونها موضوعا لحكم ولا جزء الموضوع ولا قيده بخلاف المذكورات آنفا.

وهذا المحذور وإن لم يكن له أثر عملي في صورة نقل السبب التام ، لأنه يلازم الخبر عن رأي الامام عليه السلام ، لكنه له الأثر في نقل جزء السبب ، فإنه لا حكاية عن رأي الامام عليه السلام بالالتزام حتى يتعبّد به وينضم إليه البقيّة.

نعم يمكن دفع المحذور عن حجية نقل السبب بأن اللازم كون المنزل ذا أثر شرعي دون المنزل عليه.

وحيث إن الفتاوى المحصلة سبب عادي للقطع المنجز لرأي الامام عليه السلام عقلا ، والتّنجّز قابل للجعل عن الشارع بجعل نقل الفتاوى منجزا اعتبارا للفتاوى المنتهية إلى رأي الإمام عليه السلام ، فيكون كالخبر القائم على خبر متعلق بحكم من الأحكام.

فكما أن الخبر منجز للخبر المنجز للحكم ، والكل في حكم منجز واحد للحكم ، كذلك نقل الفتاوى منجز للفتاوى المنجزة لرأي الامام عليه السلام ، لكونها سببا للقطع المنجز ، فهي منجزة أيضا بالعرض.

ولا يضر هذا المقدار من الفرق من حيث كون الحجية في المنزل عليه

__________________

(١) كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع / ٢ ـ ٤٠١.

١٩١

بالعرض ، وفي المنزل بالذات بالتنزيل ، نظير ما إذا نزل الخبر الواحد منزلة الخبر المتواتر في الحجية ، فان الحجة بالذات في المتواتر هو القطع الحاصل منه ، ويتصف المتواتر بالحجية بالعرض ، ومع ذلك يصح بلحاظ أصل الأثر تنزيل الخبر الواحد منزلة المتواتر.

وفيه أنه إنما لا يضر إذا كان الواسطة واسطة في الثبوت ، لا فيما إذا كان واسطة في العروض ، فإنه لا أثر لذي الواسطة حقيقة بل بالعناية والمجاز بل بالحقيقة ولو تبعا.

ومن الواضح أن اتصاف الفتاوى الواقعية بالمنجزية من جهة اتصاف معلولها وهو القطع برأي الامام عليه السلام بالمنجزية ، فالقطع هو المنجز حقيقة والسبب له منجز بالعناية لا بالتبع ، فلا أثر لها حقيقة حتى يكون المنقول كالمحصل فيما له من الأثر ، فافهم جيدا.

٨٩ ـ قوله « قده » : فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب ... الخ (١).

لأنهما خبران بالالتزام من حكمين متباينين من الامام عليه السلام ، لكنه مبني على حصر وجه الحجية في الاستلزام العادي لرأي الامام عليه السلام.

وأما إذا كان أحد وجهي الحجية الكشف عن وجود حجة معتبرة ، فلا تعارض في النقل لإمكان صدق النقلين ، لإمكان استناد كل طائفة إلى حجة معتبرة.

والتعارض إنما بين الحجتين بحسب مدلولهما لا بين النقلين لحجّتين ذاتيّتين.

إلا أن هذا المقدار من الفرق غير فارق ، لاشتراك النقلين في عدم تعمد

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩١.

١٩٢

الكذب ، كما أنهما مشتركان في عدم إمكان واقعية الحكمين الواقعيين في الأول ، وعدم إمكان واقعية الحكمين المماثلين الفعليين في الثاني ، وتمامية المقتضى في مقام الإثبات بالإضافة إلى الحجتين لا تنافي التعارض ، كما في الخبرين الذين يعمّهما دليل الحجية في نفسه ، فتدبر جيدا.

٩٠ ـ قوله « قده » : لكن نقل الفتاوى على الإجمال ... الخ (١).

ليس الوجه في عدم الصلاحية لكونهما سببا أو جزء سبب كونهما متعارضين بالعرض فلا أثر لهما ، فإنه غير مختص بما إذا نقلت الفتاوى على الإجمال ، بل إذا نقلت على التفصيل لا يعقل ذلك ، كما إذا نقلت فتاوى جماعة يستلزم عادة القطع برأي الإمام عليه السلام ، ونقلت فتاوى جماعة آخرين كذلك ، فانهما متنافيان من حيث السببية للقطع برأي الإمام عليه السلام ، بل الظاهر أن نقلي الفتاوى على الإجمال على طرفي النقيض في نفسهما متنافيان ، فان الظاهر من الإجماع اتفاق الكل على الحكمين [ وهو ] (٢) خلاف الواقع ، فأحدهما كاذب بحسب الواقع ، فلا يصلح لأن يكون كاشفا عن رأي الامام عليه السلام أو عن حجة معتبرة ، ولا يمكن أن يكون الكاذب جزء السبب أيضا.

نعم إذا كان الاتفاق المنقول مفصلا أمكن أن يكون ذا خصوصية في نظر المنقول إليه ، لجلالة المفتين وعلوّ قدرهم علما وعملا بالإضافة إلى الآخرين المنقولة فتاويهم مفصلة في نقل آخر.

وأما مع الإجمال وعدم تعيّن الأشخاص ، فلا سبيل إلى إحراز هذه المزيّة.

ويمكن أن يقال : إن موارد اطلاق الإجماع مختلفة ، فاذا كان في مقام تحرير الوفاق والخلاف في المسألة ، فدعوى الإجماع ظاهرة في الاتفاق التام الذي

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩١.

(٢) بين المعقوفين زيادة منّا تقتضيها العبارة.

١٩٣

لا خلاف فيه ، فيكون النقلان متعارضين ، وإذا كان في مقام الاستدلال ، فلا يراد من الإجماع إلا المقدار الكاشف عن حجة معتبرة ، وصدقهما من حيث وجود الكاشف في الطرفين بمكان من الإمكان.

في حجية خبر الواحد

٩١ ـ قوله « قده » : أن الملاك في الأصولية صحة وقوع ... الخ (١).

لكن لا يخفى عليك أنا وإن جعلنا الموضوع أعم من الأدلة الأربعة إلا أنه يجدي في صيرورة المسألة أصولية بهذا المعنى ، إذ الثابت بأدلة الاعتبار إما حكم مستنبط أو لا ينتهي إلى حكم مستنبط أصلا ، فإن معنى حجية الخبر إما إنشاء حكم مماثل على طبق المخبر به كما هو المشهور ، أو جعل الخبر بحيث ينجز الواقع على تقدير المصادفة كما هو التحقيق فلا بد من جعل الغرض أعم مما يقع في طريق الاستنباط أو ينتهي إليه أمر الفقيه في مقام العمل.

وقد أسمعناك في تعليقتنا (٢) على أوائل الجزء الأول من الكتاب أنه لا مناص من التعميم ، وإلا لزم كون جل المباحث الأصولية استطراديا.

أما المباحث المتعلقة بالأدلة الغير العلمية ، فلما سمعت آنفا لوحدة الملاك.

وأما المباحث اللفظية ، فلأنها وإن لم تكن مربوطة في بدو الأمر بهذا المحذور ، إلا أنها لا تقع في طريق الاستنباط إلا بضميمة حجية الظواهر فيجيء المحذور المزبور ، مع وضوح أن حجية الظاهر على الوجه الثاني وهو ظاهر.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٣.

(٢) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٣.

١٩٤

وربما يتوهم عدم لزوم التعميم بالنسبة إلى ما يكون حجة شرعا بمعنى المنجزة للواقع نظرا إلى الإلزام العقلي على طبقه ، فيكون مجعولا بجعل الحجية شرعا ، وحاله حينئذ حال الجزئية المجعولة بجعل منشأ انتزاعها ، فيكون الحجّية واقعة في طريق استنباط المجعول التبعي وهو الإلزام العقلي.

بل هكذا الأمر فيما يكون حجة ببناء العقلاء كالظواهر أو كالخبر بناء على حجيته ببناء العقلاء ، فانه لا بد من إمضائها شرعا ، وليس إمضاء الاعتبارات العقلائية إلا باعتبار الشارع لها على حد اعتبار العقلاء إياها ، فيكون الإلزام العقلي مجعولا بتبع جعل الحجية ابتداء أو إمضاء.

لكنه توهم فاسد : أما أولا فبأن الالزام العقلي لا يعقل ، إذ لا بعث ولا زجر من القوة العاقلة ، بل شأنها التعقل ، وليس الحكم العقلي العملي إلا ادراك ما ينبغي أن يؤتى ، به أو لا ينبغي أن يؤتى به ، والأحكام العقلائية في باب التحسين والتقبيح ليست إلا بناء العقلاء على مدح فاعل بعض الأفعال وذم فاعل بعضها الآخر.

وأما ثانيا ، فبأن الحكم العقلائي المزبور نسبته إلى الحجية نسبة الحكم إلى موضوعه ، لا نسبة الأمر الانتزاعي إلى منشأ انتزاعه حتى يكون مجعولا بجعله تبعا ، كيف وهو مجعول من العقلاء ، غاية الأمر أنه مرتب على موضوعه المجعول شرعا.

وأما ثالثا ، فبأن الوجوب المتعلق بالكل حيث إنه مستنبط من الدليل المتكفل له ، فكذلك الجزئية مستنبطة منه بتبع استنباط منشأ انتزاعها.

بخلاف الإلزام العقلي أو الحكم العقلائي ، فانه وإن كان لازما للحجية المستنبطة من دليلها ، إلا أنه غير مستنبط من هذا الدليل بالتبع ، وليس مجرد ملازمة شيء لشيء ملاك الاستنباط.

ولا ينتقض بما سيجيء من استلزام وجوب تصديق العادل لوجوب صلاة

١٩٥

الجمعة حيث نكتفى به في مرحلة الاستنباط ، لأن الخبر القائم على وجوب صلاة الجمعة لا يستنبط منه الوجوب ، إلا بواسطة حجية الخبر الملازمة لجعل الحكم المماثل بلسان أن المؤدى هو الواقع ، فحيث إنه يجعل المؤدى واقعا.

يقال باستنباط الحكم الواقعي من الخبر بضميمة دليل الحجيّة ، وأين هذا من مجرد الملازمة بين حكم العقلاء والحجية الشرعية.

ويمكن الاشكال على التّعميم من حيث الوقوع في طريق الاستنباط ومن حيث انتهاء أمر الفقيه إليه في مقام العمل بوجهين :

أحدهما لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين لئلا يكون فن الأصول علمين ، لأن المفروض ترتب كل غرض على طائفة من المسائل ، والمفروض أيضا على مسلكه « قدس سره » أن ملاك وحدة العلم وتعدده وحدة الغرض وتعدده.

وثانيهما أن القواعد التي ينتهي إليها أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل هي الأصول العمليّة في الشبهات الحكمية ، فانها المرجع بعد الفحص واليأس عن العلم والعلمي ، دون الأمارات التي تكون حجة شرعا ابتداء أو إمضاء ، فانها الأدلة على حكم العمل من دون تقييدها باليأس عن العلم.

وأجبنا (١) عنه في أوائل الحاشية على الجزء الأول من الكتاب بوجهين :

الأول أن دليل الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل كوجوب تصديق العادل ليس عين وجوب صلاة الجمعة ، بل إيجاب صلاة الجمعة بلسان إيجاب تصديق العادل فان لازم فعل صلاة الجمعة تصديق العادل بمعنى إظهار صدقه بعمله على طبقه ، فإيجاب تصديق العادل لازم إيجاب صلاة الجمعة بعنوان الكناية ، فالمبحوث عنه في علم الأصول هو الإيجاب الكنائي لإثبات ملزومه في الفقه ، وهو حكم العمل حقيقة.

__________________

(١) التعليقة ١٣ فراجع.

١٩٦

وحيث إن إيجاب التصديق بلسان أن المؤدى هو الواقع ، فلا محالة الخبر المتكفل لوجوب صلاة الجمعة واقعا يستنبط منه الحكم حقيقة بضميمة دليل الحجية كما مر آنفا.

وهذا المقدار من التوسيط كاف في وقوع نتيجة البحث في طريق استنباط الحكم.

وعليه ينبغي تنزيل ما أفاده شيخنا الأستاد « قدس سره » في أول (١) الاستصحاب من أن البحث عن الحجية بحث أصولي حيث لا تعلق لها بحكم العمل بلا واسطة ، فان الغرض منه أنه حكم كنائي للانتقال إلى حكم حقيقي للعمل.

وإلا فلو أريد منه الحكم الحقيقي للعمل بواسطة انطباق عنوان فهو مع أنه يوجب التطبيق المحض دون الاستنباط ـ إن لم يكن لذات المعنون حكم يبحث عنه في الفقه ، واجتماع الحكمين إن كان لذات المعنون حكم يبحث عنه في الفقه ـ لا يخرج مع ذلك عن كون البحث فقهيا ، إذ لا فرق في الحكم المبحوث عنه في الفقه بين أن يترتب على العمل بلا واسطة كوجوب الصلاة ، أو بواسطة عنوان كعنوان الوفاء بالنذر ونحوه ، وعنوان تصديق العادل كذلك. هذا بناء على انطباق عنوان التصديق على العمل.

وأما بناء على كونه متولدا من العمل فهو حكم شرعي لفعل توليدي ، ولا فرق في الحكم المبحوث عنه في الفعل بين أن يتعلق بفعل توليدي أو غير توليدي ، فالغرض منه ما ذكرناه.

وأحسن من هذا التقريب أن الحجية ليست بمعنى جعل الحكم المماثل ولا بمعنى جعل المنجزية ، بل بمعنى الوساطة في الإثبات أو التنجز ، فالحكم

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٨٥.

١٩٧

المماثل مصحح الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، فوساطة الخبر لإثبات الواقع عنوانا هو معنى حجيته ، فالمبحوث عنه في الأصول وساطة الخبر في الإثبات ، والمبحوث عنه في الفقه ثبوت الحكم عنوانا أو اعتبارا.

وهذا الوجه يجدي فيما كان حجيته بمعنى جعل الحكم المماثل بلسان وجوب تصديق العادل أو حرمة نقض اليقين بالشك.

وأما ما كان بمعنى تنجيز الواقع كحجية الظواهر فلا.

الثاني أن الاستنباط لا يختص بتحصيل العلم الحقيقي بالحكم الشرعي ليحتاج إلى جعل الحكم المماثل ، بل الاستنباط والاجتهاد تحصيل الحجة على الحكم ، فالبحث عن منجزية الأمارات يفيد في تحصيل الحجة على الحكم في علم الفقه.

وعليه فعلم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم ، الشرعي ، بل قد ذكرنا في أول مبحث الاجتهاد والتقليد شيوع إطلاق العلم على مجرد الحجة القاطعة للعذر.

وعليه ، فجميع مباحث الأمارات سواء كانت حجيتها بمعنى جعل الحكم المماثل أو تنجيز الواقع داخل في علم الأصول.

وهكذا الاستصحاب سواء كان مفاد دليل حجّيته جعل الحكم المماثل أو تنجيز الواقع يدخل البحث عنه في علم الأصول.

نعم ما كان مفاده ابتداء هو الحكم الشرعي كقاعدة الحل وشبهها من دون جعل الملزوم بجعل اللازم ولا إثبات المعذر عن الواقع ، فهو بحث فقهي ولا بأس بالاستطراد في مثله.

٩٢ ـ قوله « قده » : بل عن حجية الخبر الحاكي عنها ... الخ (١)

هذا إذا كانت الحجية ، بمعنى تنجيز الواقع.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٣.

١٩٨

وأما إذا كانت بمعنى التعبد بالواقع وإنشاء الحكم على طبقه ، فيمكن أن يجعل الموضوع نفس السنة بوجودها الأعم من الحقيقي والحكائي ، فان وجودها في الحكاية وجودها بالعناية ، فيرجع البحث إلى أن السنة المحكيّة هل وقع التعبد بها أم لا.

٩٣ ـ قوله « قده » : فان التعبد بثبوتها مع الشك فيها ... الخ (١).

لم يتعرّض « قدس سره » للثبوت الواقعي كما تعرض له في أول الكتاب (٢) لوضوح عدم إرادة المجيب له.

مضافا إلى وضوح بطلانه لا لما أفاده « قدس سره » في غير مقام من رجوعه إلى البحث عن ثبوت الموضوع وهو لا بد من الفراغ عنه في كل علم ، لما مر (٣) في أول التعليقة من أن البحث عن ثبوت شيء بشيء غير البحث عن ثبوت الشيء ، فالبحث في الحقيقة عن وساطة الخبر ، ووساطته ثبوتا أو إثباتا لا يوجب رجوع البحث إلى ثبوت الموضوع.

أما وساطة الخبر ثبوتا فلوضوح أن البحث عن كون الشيء ذا مبدأ بحث عن عوارضه ، ألا ترى أن الموضوع في فن الحكمة هو الوجود أو الموجود ، والبحث عن كونه ذا مبدأ من أعظم مسائله وأهم مطالبه.

وأما وساطة الخبر إثباتا ، فلأن التصديق بثبوت السنة بالخبر مرجعه إلى التصديق بانكشافها به ، كانكشافها بالتواتر وبالقرينة ، وانكشاف الشيء من عوارضه.

بل الوجه في بطلانه أن وساطة الخبر بما هو خبر ثبوتا وإثباتا محال ، بداهة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٣.

(٢) كفاية الأصول / ٨.

(٣) نهاية الدراية ١ : التعليقة ٧.

١٩٩

أن الخبر ليس واقعا في سلسلة علل السنة بل يستحيل وقوعها ، لتأخر رتبة الحكاية عن المحكي ، كما أن الخبر بما هو محتمل للصدق والكذب ، فلا يعقل كونه بما هو سببا لانكشافها واقعا ، فتدبر جيدا.

٩٤ ـ قوله « قده » : ليس من عوارضها بل من عوارض مشكوكها ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إن السنة المشكوكة أو المحكية ثبوتها بما هي مشكوكة أو محكية واقعي حقيقي لا تعبدي تنزيلي.

وكذا الحكم المماثل ، فإنه أيضا له ثبوت حقيقي كنفس السنة الواقعية ، وكونه عين التعبد لا يقتضي كون ثبوته تعبديا ، إذ التعبد ثبوته حقيقي لا تعبدي تنزيلي ، بل هو مصحح لتنزيل المؤدى منزلة السنة الواقعية ، وإنما الثابت تعبدا وتنزيلا نفس السنة الحقيقة ، فانها التي تنسب إليه الثبوت تارة تحقيقا ، وأخرى تعبّدا وتنزيلا.

توضيحه أن إيجاب تصديق العادل حيث إنه بعنوان أن المؤدى هو الواقع كما هو مقتضى عنوان التصديق ، فلا محالة يكون المؤدى وجودا عنوانيا للواقع ، والواقع موجود عنوانا به.

فاذا كان موضوع المسألة هي السنة صح البحث عن عارضها ، وهو ثبوتها العنواني بالخبر.

كما أن الموضوع للمسألة إذا كان هو الخبر صح البحث عن عارضه وهو كونه ثبوتا عنوانيا للسنة ، فان الثبوت العنواني له نسبة إلى الطرفين.

إلا أن ما ذكرنا يصحّح إمكان جعل المسألة باحثة عما ينطبق على عوارض السنة ، وإلا فالبحث المتداول في الأصول هو البحث عن عارض الخبر ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٣.

٢٠٠