نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

في نتيجة دليل الانسداد من حيث الإهمال والتعيّن

١٤٧ ـ قوله « قده » : وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا ... الخ (١).

تقرير الحكومة تارة من باب حكومة العقل في مرحلة التّبعيض في الاحتياط.

وأخرى في مرحلة حجّية الظن والتّنزل عن الإطاعة العلميّة إلى الإطاعة الظنّية.

أما الأولى ، فمورد التّعميم والتّخصيص هي الظنون النافية للتكليف فانها التي يرفع اليد فيها عن الاحتياط اللازم بحكم العقل ، دون الظنون المثبتة الموافقة للاحتياط ، فاذا فرض (٢) أن العسر يرتفع برفع اليد فيها عن الاحتياط اللازم بحكم العقل دون الظنون المثبتة الموافقة للاحتياط.

وإذا فرض أن العسر يرتفع برفع اليد عن الاحتياط في طائفة من الظنون المقابلة للاحتياط : فإن كانت متساوية غير متفاوتة موردا ومرتبة وسببا ، فتعيّن بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

وإن كانت متفاوتة من إحدى الجهات ، فلا محالة يتعيّن تلك الطائفة الراجحة من حيث المرتبة والمورد والسبب لرفع اليد عن الاحتياط في موردها بنفس قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح التي هي من جملة المقدمات

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٢.

(٢) كذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قدس سره ، لكن الصحيح : وإذا فرض ، كما أثبتناه ، وجواب إذا الشرطية الأولى محذوف ، فلا بدّ من تقدير ( فهو ) قبل قوله ( وإذا ) بناء على التصحيح المزبور ، كما أنه يجب زيادة ( يرتفع ) بعد قوله ( أن العسر ).

٣٦١

المؤدّية إلى التبعيض في الاحتياط.

فنقول : أما الترجيح من حيث المرتبة ، فلأن احتمال الواقع في ضمن الظنون القويّة لعدم التكليف حيث إنه أضعف من احتماله في غيرها ، فهو أولى برفع اليد عن الاحتياط في غيره وإلاّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح.

وأما التّرجيح من حيث المورد ، فلأن موارد الدماء والفروج ، وشبهها حيث إنه علم اهتمام الشارع بها أزيد من غيرها ، فرفع اليد عن الاحتياط في غيرها أولى ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح.

وأما التّرجيح من حيث الأسباب ، فلأن الظن بالاعتبار وإن لم يستلزم قوّة في مقام الاثبات كما في الأول ولا قوّة في مقام الثبوت كما في الثاني ، لكنه يمكن التّرجيح به نظرا إلى أن الظن بحجّية الظن بعدم التكليف مقتضاه الظن بعدم فعليّة التكليف وإن كان ثابتا في الواقع.

بخلاف الظن بعدم التكليف فقط فانه لا ظن بعدم فعليّته على تقدير ثبوته واقعا.

فما يظن بعدمه وبعدم فعليّته على تقدير ثبوته أولى برفع اليد عن الاحتياط فيه مما ليس كذلك.

هذا ما يقتضيه حكومة العقل في مرحلة التبعيض في الاحتياط.

وأما الثانية وهي حكومة العقل في مرحلة حجيّة الظن بمعنى لزوم التنزل من الاطاعة العلميّة إلى الاطاعة الظنّية دون الشكيّة والوهميّة ، فنقول : إن مورد التعميم والتخصيص هنا هي الظنون المثبتة للتكليف لا غير فان ما له إطاعة علميّة تارة وإطاعة ظنّية أخرى هي الواجبات والمحرمات المتنجّزة بالعلم الإجمالي أو بإيجاب الاحتياط الطريقي دون عدمها (١) الذي لا تنجّز له ولا

__________________

(١) هكذا في المطبوعة ، وفي المخطوطة بغير خط المصنف قدس سره : دون عدمهما ، لكن الصحيح : دون غيرهما.

٣٦٢

إطاعة له أصلا.

ولا يخفى عليك أن وجه لزوم التّرجيح مع وجود الرجحان لبعض الظنون على بعض : إمّا وفاء الظنون الراجحة بالمعلوم بالإجمال فلا مانع من جريان الأصول المورديّة في غيرها.

وإمّا وفاء الظّنون الراجحة بمعظم الفقه فلا تتمّ المقدّمة القائلة بعدم جواز إجراء الأصل في معظم الفقه لكونه خلاف الضرورة وخروجا عن الدين.

وكلاهما غير صحيح : أما الأول ، فلأنه مبني على إمكان زيادة الظنون المثبتة التي هي طرق إلى التّكاليف المعلومة بالإجمال المتنجزة بسبب العلم الإجمالي عليها.

مع أنه محال لأن العلم الإجمالي بمائة تكليف لا يجامع الظن التفصيلي بأن تلك التكاليف مائة وخمسون.

وإذا فرض عدم زيادة الظنون المثبتة على مقدار المعلوم بالإجمال ، فلا موقع للتّرجيح وإن كان بعض الظنون أرجح من بعض.

سلمنا إمكان زيادة المظنونات على مقدار المعلوم لكنه تجب الإطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة بالنسبة إلى التكاليف المظنونة جميعا لا بمقدار المعلوم بالإجمال إذ كما تجب الاطاعة العلمية في أطراف العلم لا بمقدار المعلوم ، كذلك يجب التنزّل إلى الاطاعة الظّنّية في أطراف الظن لا بمقدار المعلوم بالإجمال وإلاّ لم يحصل منه إطاعة ظنّية للمعلوم بالإجمال ، وما لم يرتفع أثر العلم الإجمالي بإتيان ما يستقل العقل به لا مجال لإجراء الأصول المورديّة.

والتحقيق : أنه إذا فرض تعلق العلم الإجمالي بمائة تكليف والعلم بعدم الزيادة واقعا ، فلا محالة يستحيل الظن التفصيلي بأزيد من مائة تكليف ، وحيث لا يزيد المظنون تفصيلا على المعلوم بالإجمال فلا مجال للترجيح.

وإذا فرض تعلق العلم الإجمالي بمائة تكليف مع احتمال مائة أخرى ،

٣٦٣

فحينئذ لا تعيّن للمعلوم بالإجمال في نظر المكلف ، كما لا تعيّن له واقعا إذا كان التكاليف الواقعيّة مائتين ، فهو من المبهم لا من المجهول.

ولا أثر لهذا العلم إلاّ وقوع المكلّف في مائة عقاب إذا ترك المحتملات ، ولا يقطع بسقوط مائة عقاب إلاّ بإتيان تمام المحتملات من حيث إن مائة تكليف منجّز لا على التعيين فيها.

وحينئذ يعقل فرض زيادة الظنون على مقدار المعلوم بالإجمال ، لكنه لا يعقل الظن بمائة وخمسين تكليف منجّز لا على التعيين.

وليس المورد من موارد الجهل والاشتباه حتى يجب رعاية جميع الظنون لاشتباه المنجّز بغيره لفرض الإبهام وعدم التعيين واقعا.

وحينئذ لا يقتضي التنزل من الاطاعة العلميّة إلى الاطاعة الظنّية رعاية جميع المظنونات ، بل اللازم رعاية مائة منها ، فيظن معه بسقوط عقاب مائة تكليف على تقدير المصادفة.

وعليه فيمكن فرض الترجيح موضوعا كما يجب عقلا فتدبّر جيدا.

وأما الثاني : فلأن حديث الوفاء بمعظم الفقه أجنبي عن مسألة التنزل من الاطاعة العلميّة إلى الاطاعة الظنّية وإنّما هو على الكشف بالمعنى الذي نقول به كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، وشأن المقدمة المزبورة ليس إلاّ بيان أن عدم الاطاعة العلميّة لا يقتضي عدم الاطاعة رأسا ، بل لا بد من رعاية العلم الإجمالي عقلا بنحو من أنحاء الاطاعة إما ظنّية أو شكّية أو وهميّة.

وقد عرفت أن التنزل إلى الاطاعة الظنّية عقلا يقتضي إطاعة المعلوم بالإجمال ظنا من دون اختصاص بمعظم الفقه. فعند (١) تحقق بما ذكرنا أنه بناء على حجية الظن من باب حكومة العقل لا مجال إلاّ للتّعميم سواء كانت الظنون

__________________

(١) كذا في النسخة المخطوطة بغير خطه قده والمطبوعة ، ولعله تصحيف : فقد.

٣٦٤

متفاوتة أو لا.

ومما ذكرنا في تقريب الحكومة بناء على التبعيض وبناء على حجية الظن تعرف أن ما أفاده أستادنا العلامة « رفع الله مقامه » في المتن من الترجيح من حيث المورد والمرتبة يناسب الحكومة في مرحلة التبعيض لا في مرحلة الظن ، كما أن بعض كلمات الشيخ الأعظم « قدس سره » في الرسائل كذلك ، فراجع.

ثم إنه على فرض التنزل ودوران الأمر عقلا بين العمل ببعض الظنون ، فالترجيح من حيث المرتبة والمورد وجيه.

أما من حيث المرتبة فانه بعد انتهاء الأمر إلى العمل بالظن من حيث رجحان الاحتمال فيه وقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فكذا أرجح الظنين لاستحالة تأثير الأضعف دون الأقوى ، فيتعيّن الظن الأرجح بنفس الملاك الذي يتعيّن به عقلا أصل الظن في قبال غيره.

وأما من حيث المورد ، فلاشتراك المهمّ وغيره في المظنونيّة وزيادة الأول على الثاني بالأهميّة ، فيختص الأول بالاطاعة الظنّية ويعمل في الثاني بالأصول المورديّة.

وأما الترجيح بالأسباب ، فظاهر شيخنا « قدس سره » هنا عدم الترجيح ، كما صرح به الشيخ الأعظم « قدس سره » مرارا ، إلا أن صريح شيخنا « قدس سره » في تعليقته (١) المباركة على الرسائل إمكان الترجيح بخصوص التفاوت بالظن بالاعتبار.

وما يمكن أن يقال : في وجه الترجيح به بناء على الموضوعيّة والطريقيّة في ما ظنّ اعتباره شرعا. أنه على الأولى يظن بمصلحة بدليّة فيه زيادة على مصلحة الواقع المظنونة في كل ظن بالواقع.

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ٩٥ و ٩٦ و ٩٩.

٣٦٥

وعلى الثاني يظن بمبرئيّته ومعذّريّته شرعا دون ما لم يظن باعتباره.

فالعبرة إن كانت بالغرض المظنون المولوي ، فلمظنون الاعتبار رجحان على غيره في الأولى.

وإن كانت بتفريغ الذمة وسقوط تبعة الواقع ، فلمظنون الاعتبار رجحان على غيره في الثانية فالمرجّح ثابت على أي تقدير.

ولا يخفى عليك أن الأمر على الموضوعيّة على ما مر ، إلاّ أن المبني غير مسلم.

وأما على الطريقية المحضة ، فقد مر مرارا أن المبرئيّة والمعذّريّة الواقعيّة الجعليّة بوجودها الواقعي لا أثر لها ، فالظن بها ظن بما لا أثر له ، فوجوده كعدمه.

نعم إذا فرض القطع بنصب الطريق المبرئ والمعذّر وظنّ تفصيلا بالتطبيق ، فهو ظن باستحقاق العقاب على مخالفته ، فاذا دار الأمر بين ترك مظنون العقاب ومحتمله كان اتّباع مظنون العقاب أولى.

إلا أن التحقيق أنه غير مفيد أيضا ، فانه إنما يفيد إذا كانت الحجّية بحكم العقل بمعنى استقلال العقل بمنجّزية الظن ، فحينئذ يصح أن يقال : إنّ مظنون الاعتبار في مثل الفرض المتقدم مظنون العقاب في نفسه فيقدّم على محتمله.

وأمّا اذا كانت الحجّية بمعنى لزوم الاطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة وأن الأحكام الواقعيّة متنجّزة بالعلم الإجمالي ، وأنه بعد إبطال الاحتياط كليّة يدور الأمر بين حصر الأحكام المنجّزة في دائرة المظنونات أو غيرها من المشكوكات والموهومات بالتنزل إلى الاطاعة الظنّية أو إلى الاطاعة الشكّية والوهميّة ، فاستحقاق العقاب في دائرة المظنونات بسبب تنجّز الأحكام في نفسها بالعلم الإجمالي مفروض ، فلا يوجب الظن باعتبار الظن شرعا تبعة أخرى للواقع حتى يوجب رجحان مظنون الاعتبار على غيره فتدبّر جيّدا.

٣٦٦

١٤٨ ـ قوله « قده » : وأما على تقرير الكشف فلو قيل ... الخ (١).

اعلم أن الكشف يقرّر على وجهين : أحدهما على الوجه الذي سلكناه وشيّدنا أركانه وهو جعل المقدمات كاشفة عن نصب الشارع للظن بمعنى جعله منجّزا لواقعيّاته التي فرض عدم رفع اليد عنها لئلا يلزم نقض الغرض من عدم نصب الطريق ، وحيث إن الطريق بوجوده الواقعي لا يعقل أن يكون منجّزا ، فلا بد من وصول ما يعتبر منجّزا للواقع ، وليس الواصل بذاته المتعيّن في نفسه في وجدان العقل إلاّ الاحتمال الراجح أو المساوي أو المرجوح ، وحيث لا يعقل تأثير الأضعف أو المساوي دون الأقوى ، فلا محالة يؤثّر الاحتمال الراجح في تنجيز الواقع.

فبهذا البيان ذكرنا أن أصل الظن هو المتعين للمنجّزية شرعا في نظر العقل وهذا البيان بعينه جار في خصوصيّاته ، فما كانت متعيّنة في نظر العقل أمكن دخلها في المنجّزية شرعا في نظر العقل لوصولها بنفسها ، وما لم تكن متعيّنة في نظر العقل وإن احتمل دخلها بملاك آخر غير هذه المقدّمات في منجّزية الظن لا يصح اعتبارها في المنجّزية لعدم الوصول المعتبر في المنجّز بخصوصيّاته.

فان قلت : المعتبر مطلق الوصول سواء أكان بهذه المقدمات لحجّية أصل الظن أو مقدمات انسداد أخرى ، فيكفى في الوصول وصولها ولو بطريقها لا بنفسها.

قلت : حيث إن أصل الخصوصيّة بملاك آخر غير هذه المقدمات غير معلوم فلا يجري فيها دليل الانسداد ، ومن مقدماته العلم بأصل الخصوصيّة حتى يجب تعيينها تفصيلا بالظن ، ووجودها الواقعي لا اثر له حتى يكون احتماله مؤثّرا ، فلزوم التعيين بإجراء مقدمات أخرى فرع التّعيين.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٢.

٣٦٧

ومما ذكر يظهر أن الكشف بهذا المعنى يساوق الحكومة في إلغاء الخصوصيات التي لا تعيّن لها في وجدان العقل ، وأنّ مقتضاه التعميم من هذه الجهة.

نعم يفترق الكشف عن الحكومة في الخصوصيّات المتعيّنة في نظر العقل بحيث تكون موجبة لرجحان بعض الظنون على بعض في مقام الدوران ، لما مرّ من عدم الدوران على الحكومة للزوم التنزل إلى الاطاعة الظنّية بقول مطلق.

بخلاف تقرير الكشف على هذا الوجه ، فإن مقتضاه ليس لزوم التنزل إلى الاطاعة الظنّية شرعا بعد فرض تنجز الأحكام الواقعيّة ، بل مقتضاه جعل الظن شرعا منجّزا للواقعيّات فلا موجب للنّصب إلا بمقدار لا يلزم من جراء الأصول الموردية فيما عداه خلاف الضّرورة من الدين ، فاذا فرض وفاء الظنون القويّة بمعظم الفقه لم يكن موجب بمقتضى هذه المقدمات لجعل ما عداها منجّزا للباقي.

ومنه تعرف أنّ حديث جعل الظّن حجة بمقدار يفي بمعظم الفقه إنما يناسب الكشف بهذا التقرير لا الكشف بتقرير آخر فضلا عن الحكومة كما أشرنا إليه.

ثانيهما الكشف على الوجه الذي سلكه القوم وهو الكشف عن جعل الشارع للاطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة للواجبات والمحرمات المنجّزة بسبب العلم الإجمالي أو بإيجاب الاحتياط الطريقي.

فان كان الكشف بملاك هذه المقدّمات فقط ، فلا محالة يساوق الكشف للحكومة تعميما وتخصيصا ، لأن الكشف بهذا الوجه من باب الكشف اللّمي وهو كشف العلة عن المعلول لاستحالة التلازم في مرحلة الكشف من دون تلازم بين المنكشفين.

ومن الواضح أن سعة المعلول وضيقه وعمومه وخصوصه تابعة للعلة سعة

٣٦٨

وضيقا عموما وخصوصا.

وقد مرّ أن الصحيح هو التعميم على الحكومة فكذا على الكشف ، وحيث إن التعميم بحكم العقل النظري باقتضاء نفس هذه المقدمات فلا يكون مؤكّدا للإهمال.

نعم لو كان بحكم العقل العملي المأخوذ من مقدمات أخرى غير مقدمات الانسداد لكان مؤكّدا للإهمال والوجه واضح.

وإن كان الكشف بملاك أعم من هذا الملاك نظرا إلى أنه لا ملزم بالالتزام بنصب الظن بهذا الملاك بل اللازم تأثير هذه المقدمات بضميمة قبح نقض الغرض في نصب طبيعة الظن ، ولا ينافي اقتضاء ملاك آخر لأخذ خصوصيّة معه سببا وموردا ومرتبة.

فنقول حيث إن الخصوصيّة بملاك آخر غير هذه المقدمات فاللازم حجّية الظن الواصل ولو بطريقه لاستحالة وصوله بنفسه مع عدم اقتضاء هذه المقدمات لوصول الظن بخصوصيّته الغير المتعينة بحكم العقل النظري.

وحيث عرفت سابقا أن مبنى الكشف على مسلك القوم على جعل الشارع للاطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة للأحكام الواقعيّة المتنجزة ، فالمقتضي لجعل مطلق الاطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة ثابت ، والاقتصار على نوع خاص من الاطاعة الظنّية كاشف عن رفع اليد عن الأحكام الواقعيّة في ضمن غير ذلك النوع.

فما لم يقم دليل على رفع اليد عنها في غير ذلك النوع يتعيّن الاطاعة الظنّية لنصبها مطلقا بدلا عن الاطاعة العلميّة.

وإجراء مقدمات دليل انسداد أخرى في تعيين الخصوصيّة وإن كان كاشفا عن رفع اليد عن غير ذلك النوع الخاص من الاطاعة ، إلا أنه لا ملزم بإجرائها إلا بعد العلم باعتبار خصوصيّة غير متعينة في نظر العقل والمفروض

٣٦٩

عدم العلم بأصل اعتبارها واحتمال رفع اليد مع وجود المقتضى للاطاعة الظنيّة لا يجدي شيئا.

ومنه يتضح أن مقتضى الكشف على هذا الوجه أيضا هو التّعميم دون التّخصيص ولو بإجراء مقدمات انسداد أخرى.

وقد عرفت أن حديث الوفاء بمعظم الفقه واقتضائه الاقتصار على حجّية الظنون الخاصّة الوافية أجنبي عن الكشف المساوق للحكومة فراجع. وسيأتي إن شاء الله تعالى موارد الاختلاف بين ما سلكناه وما سلكه شيخنا العلامة « قدس سره ».

١٤٩ ـ قوله « قده » : هو نصب الطريق الواصل بنفسه ... الخ (١)

لا بد أولا من بيان مبني اعتبار الوصول وعدمه واعتبار الوصول بنفسه وكفاية الوصول ولو بطريقه ، ثم بيان ملاك الوصول بنفسه والوصول ولو بطريقه ، ثم بيان ملاك الإهمال وعدمه حتى يتضح ما أفاده « قدس سره » من أحكام الوجوه الثلاثة.

فنقول : أما من يقول بعدم اعتبار الوصول أصلا وكفاية نصب الطريق واقعا ، فنظره إلى أن إيجاب العمل بالظّن كسائر الأحكام الواقعيّة له مراتب من الإنشائيّة والفعليّة والتّنجّز ، فكما أن إيجاب الصلاة فعليّ في حدّ وجوده الواقعي وبالعلم يتنجّز كذلك إيجاب العمل بالظن.

ووجه اعتبار الوصول على مسلك القوم أن الأحكام الطريقيّة وظائف مجعول لرفع تحيّر المكلف في امتثال الواقعيّات المجهولة ، فلا معنى لجعل حكم طريقي واقعي مثلها في بقاء التّحير على حاله.

وعلى ما بيناه مرارا إن جعل الطريق سواء كان بمعنى جعله منجّزا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٢.

٣٧٠

للواقعيات عند الإصابة ومعذّرا عنها عند عدم الإصابة ، أو كان بمعنى جعل الحكم المماثل بداعي التحفظ على الأغراض الواقعيّة بايصالها بعنوان آخر كالعمل بالخبر ونحوه ، فلا محالة يتقوّم بالوصول ، إذ لا منجّزيّة ولا معذّريّة إلا بالوصول ، كما أنه لا تصل الواقعيّات بعنوان آخر إلا بوصول الحكم المماثل ليكون وصوله بالحقيقة وصول الواقع بالعرض.

وإلا فلو كان الحكم الطريقي بوجوده الواقعي قابلا للمنجّزيّة والمعذّريّة أو قابلا لأن تنحفظ به الأغراض الواقعيّة لكان نفس الحكم الواقعي قابلا له فيلغو الجعل الآخر.

وهكذا الأمر إذا كانت حجّية الظن شرعا بمعنى جعل الاطاعة الظنّية بدلا عن الاطاعة العلميّة إجمالا ، فان مرجعه إلى تضييق دائرة الأحكام المنجّزة بسبب العلم الإجمالي وحصرها في دائرة المظنونات ، فان الغرض إذا كان حصرها في طائفة خاصّة من المظنونات ، فلا بد من وصول تلك الطائفة ليتضيّق به دائرة الأحكام المنجّزة فيها ، وإلاّ لما حصل هذا الغرض ، وكان اللازم عليه عقلا الاحتياط في أوسع من تلك الدائرة.

نعم إذا كان الغرض دفع كلفة الاحتياط اللازم من الإطاعة العلميّة بتعيين مرتبة من الإطاعة التي لا يلزم من الاحتياط في أطرافها عسر لم يكن مانع من عدم وصوله.

وأما من يقول بكفاية الوصول ولو بطريقه ، فلعلّ نظره إلى أن رفع التحيّر وتنجيز الواقع وتضييق دائرة الأحكام المنجّزة لا يدور مدار الوصول بنفسه بحيث لا يحتاج إلى إعمال طريق آخر ، بل له تنجيز الواقع بطريقين إلى ذات الظن بالمقدمات المزبورة وإلى خصوصيّته بمقدّمة أخرى ، فالالتزام بخصوص الواصل بنفسه بلا ملزم وتخصيص بلا مخصص.

وأما من يقول باعتبار الوصول بنفسه ، فلعلّه لا ينكر إمكان نصب طريق

٣٧١

خاصّ بطريقين إلى ذاته وخصوصيته بنحو الكليّة ، بل ينكره في خصوص المقام من حيث إن لزوم التعيين بإجراء مقدمات انسداد أخرى فرع التعيّن ، وإذا فرض عدم التعيّن لعدم العلم بأصل الخصوصيّة فلا يجب التعيين.

بخلاف المتعيّن في نظر العقل أو بالاجماع على الملازمة فانه لا بأس به.

ومجرد احتمال خصوصيّة لا يوجب جريان مقدّمات الانسداد الصغير في مرحلة التعيين إلا بتوهم أن احتمال الحجّة الواقعيّة بحيث لو تفحص عنها لظفر بها منجّز للحجّة الواقعيّة ومانع عن إجراء الأصول المورديّة. وهو فاسد لان مورده ما إذا تفحّص عنها لظفر بها وهنا ليس كذلك إذ ليس هناك طرق واقعيّة قائمة على حجّية الظن الخاص واعتبار الخصوصيّة في الظن على تقدير حجّيته بدليل الانسداد حتى إذا تفحص عنها ظفر بها ، فاحتمال الخصوصيّة التي لا طريق إليها لا يكون منجّزا حتى يمكن تشكيل مقدمات الانسداد بلحاظ تنجز الخصوصيّات الواقعيّة ليجب تعيينها بالظن.

فالصحيح من هذه الشقوق الثلاثة في خصوص المقام هو حجّية الظن الواصل بنفسه.

وأما ميزان الوصول بنفسه والوصول ولو بطريقه على ما يستفاد من مجموع كلماته في الكتاب وفي تعليقته الأنيقة (١) على الرسائل ، فهو أن نفس طبيعة الظن واصلة بنفسها إنما الكلام في خصوصيّاته بنظر الشارع ، فما لا يحتاج في تعيينه إلى إجراء مقدمات انسداد أخرى سواء كان متعيّنا في نظر العقل كقوة الظن وكونه مظنون الاعتبار أو كان قدرا متيقنا من نتيجة دليل الانسداد كالخبر الصحيح الأعلائي بسبب الإجماع على التلازم بين حجيته شرعا وحجيّة الظن في الجملة بدليل الانسداد فهو داخل في الواصل بنفسه ، فالخصوصيّة

__________________

(١) التعليقة على الرسائل / ٩٢ و ٩٣.

٣٧٢

المتعيّنة بأحد أنحاء التعين واصلة بنفسها ، والخصوصيّة التي يجب تعيينها بإجراء مقدمات انسداد أخرى ، فهي واصلة بطريقها.

والسر في ذلك بحيث لا يؤول الأمر إلى مجرد التّسمية والاصطلاح ـ أن دليل الانسداد بلحاظ الاستلزام العقلي بين مقدّماته وحجّية الظن شرعا ـ دليل عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي.

فكل خصوصيّة يكون دليل الانسداد بالأخرة دليلا على حجّية المتخصّص بها : إمّا لمكان ما هو كالقرينة الحافّة بالكلام بحيث يصح للمولى الاتّكال عليه كالمتعيّن في نظر العقل الحاكم باستلزام المقدمات لحجّية الظن شرعا كقوة الظن ، فدليل الانسداد بلحاظ ما هو كالقرينة التي يصح الاتكال عليها ـ دليل على حجّية الظن المتخصص بتلك الخصوصيّة المتعيّنة في نظر العقل.

وإمّا لمكان التلازم المستفاد من الاجماع خارجا ، فانه وإن لم يكن كالقرينة الحافّة بالكلام لكنه حيث إن دليل الملزوم عنده « قدس سره » كما سيجيء إن شاء الله تعالى دليل على اللازم ، فدليل الانسداد دليل بالأخرة على حجّية هذا الظن المتخصّص بالخصوصيّة المتيقّنة من نتيجة دليل الانسداد.

وأمّا ما كان غير متعين في نظر العقل الحاكم بالاستلزام ولا لازما لحجّية الظّن في الجملة الثابت بدليل الانسداد ، فلا محالة يكون الدليل عليه غير هذا الدليل العقلي ، فلا يكون واصلا بنفسه بل بطريق آخر. هذا ما يقتضيه التدبّر في مجموع كلماته « قدس سره » وسيجيء إن شاء الله تعالى ما عندنا.

وأما ميزان الإهمال وعدمه عنده قدس سره فنقول : الإهمال بمعنى عدم التّعيين تارة يلاحظ من حيث الخصوص وأخرى من حيث العموم ، فالنتيجة تارة متعيّنة من حيث كونها عامّة ، وأخرى من حيث كونها خاصّة ، وفي قبالهما الغير المتعيّنة من إحدى الجهتين ، وملاك التعيّن من حيث الخصوص عدم لزوم نقض

٣٧٣

الغرض من إرادته وملاك التعيّن من حيث العموم لزوم الخلف من عدم إرادته.

توضيحه إن قلنا : بأن الحجّة واقعا هو الظن الواصل بنفسه بماله من الخصوصيّة فكل خصوصيّة كانت متعيّنة في نظر العقل أو كالمتعيّن من حيث الملازمة التي مرّ ذكرها حيث إنها واصلة ، فيمكن دخلها واقعا وللشارع الاتكال على وصولها عقلا في دخلها شرعا.

وإن لم يكن الخصوصيّة المتعيّنة متعيّنة عقلا ، فلا محالة يكون النّتيجة عامّة عقلا وإلا لزم الخلف من إرادتها إذ المفروض تعلق الغرض بنصب الواصل بنفسه.

وإن قلنا : بأن الحجّة هو الظّن الواصل ولو بطريقه فيزيد هذا الشق على الشق السابق بصحّة دخل الظن بالاعتبار الممكن إثباته بإجراء دليل انسداد صغير في تعيين الخصوصيّة المحتملة التي لا تعيّن لها بنفسها عقلا ، حيث لم يلزم من إرادتها نقض الغرض ، لتعلق الغرض بوصولها الأعم من وصولها بنفسها أو بطريقها والمفروض وصولها بطريقها.

نعم إذا كان الخصوصيّة المحتملة لا تتعيّن حتى بدليل انسداد آخر كانت النتيجة عامّة وإلا لزم الخلف.

هذا كلّه في العموم والخصوص من حيث الأسباب والموارد على الوجهين.

وأما من حيث المرتبة ، فالنتيجة خاصّة دائما ، إذ فرض المرتبة فرض التّفاوت بالقوة والضعف ، دون فرض الأسباب والموارد فانه يجامع التعيّن من حيث العموم والخصوص معا. فهذا معنى الإهمال أي عدم التعيّن من حيث العموم.

وأما ما أفاده « قدس سره » هنا من اتّحاد الحكم في المراتب بين الواصل بنفسه والواصل ولو بطريقه ، فهو بحسب الظاهر مناف لما سيجيء إن شاء الله تعالى منه « قدس سره » من ابتناء الترجيح بالقوّة على حجّية الواصل بنفسه

٣٧٤

وابتناء المنع على حجّية الواصل ولو بطريقه ولو لم (١) يصل أصلا.

ويمكن دفع المنافاة بأن ما ذكره « قدس سره » هنا حكم طبعي للظن القوي بالنسبة إلى الضعيف أي الظن القوي بما هو قويّ يتعين في قبال الضعيف ، وما سيأتي إن شاء الله تعالى منه « قدس سره » مبنيّ على التّرجيح بملاحظة جميع العوارض فانه ربما يكون الظن الضعيف مظنون الاعتبار مثلا.

فعلى القول بحجّية الواصل ولو بطريقه يمكن إجراء دليل انسداد آخر لتعيينه ، وتعيّن القوي من حيث صحّة اتّكال الشارع عليه بعدم نصب الدال على خلافه ، فمع نصب الدال على خلافه لوصوله بطريقه لا مجال للتعيّن الفعلي ، فانه دليل حيث لا دليل على خلافه ، فتدبر جيّدا.

نعم إذا كان الظّن الضعيف مظنون الاعتبار شرعا وقلنا : بأن مظنون الاعتبار أيضا متعيّن في نظر العقل في قبال مشكوك الاعتبار ، فلكل من القويّ والضعيف جهة تعيّن في نظر العقل ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر عقلا ، فلا يتعيّن شيء منهما شرعا ، ومقتضى حجّية الواصل بنفسه حجّية الكل لعدم التّعين وللزوم الخلف من عدم الحجّية.

وما ذكره رحمه الله في حكم الظن القوي وما سيذكره في حكم مظنون الاعتبار حكم طبعي بلحاظ نفسهما لا بلحاظ تعارض الجهتين أيضا.

هذا كلّه في حكم النّتيجة بناء على اعتبار الوصول بأحد الوجهين.

وأما بناء على القول بحجّية الظن ولو لم تصل خصوصيّته ، فقد عرفت إهمالها خصوصا وعموما ، فلا بد من الاحتياط في أطراف ما يحتمل اعتباره بعد العلم الإجمالي بنصب ما لا طريق إلى إثباته ولا إلى نفيه.

__________________

(١) هكذا وردت العبارة في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قدس سره ، والصحيح قوله ( ولو بطريقه ) أو : الطريق ولو لم يصل أصلا ، كما في عبارة الكفاية.

٣٧٥

ومع لزوم العسر يجب التّنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال ، وليحمل كلامه « قدس سره » على إرادة حكومة العقل في باب تعيين المنصوب شرعا لا حكومته في باب الحجّية رأسا لئلاّ يورد عليه كما عن بعض أجلّة العصر (١) بأن القائل : بالكشف لا يرى الحكومة للعقل ، وإلا لما التزم بلزوم نصب الظن شرعا ، بل غرضه ره حكومة العقل في باب التعين بالأخرة كما أفاد نظيره في الواصل بنفسه في تعليقته الأنيقة (٢) حيث ذكر أن العقل هو الحاكم بالتعيين.

وأما ما ذكره المورد من لزوم إجراء مقدمات الانسداد أيضا في تعيين الطريق المنصوب الواقعي.

فلعله غفلة عن مبني القول بحجية الطريق ولو لم يصل ، فإنه عليه لم يتعلق غرض بوصوله ، ولذا لا مانع من بقائه على إهماله وإجماله.

فمجرّد انسداد باب العلم وإبطال الاحتياط لا ينتج حجّية الظن في مرحلة التعيين ما لم ينضم إليه قبح نقض الغرض من عدم حجّية الظن في مرحلة التّعيين وإلاّ لا موجب لنصبه.

وحيث إن المفروض عدم تعلّق الغرض بوصوله وإلاّ لكان داخلا في نصب الواصل ولو بطريقه وهو خلف ، فلا مجال حينئذ لإجراء مقدّمات انسداد أخرى لحجية الظّن من باب الكشف.

هذا ما ينبغي بيانه في توضيح مرامه زيد في علوّ مقامه.

وفيه مواقع للنظر : منها أن كاشفيّة المقدمات عن نصب الظن شرعا من باب الكشف اللّمي ، وهو كشف العلّة عن المعلول لاستحالة كشف شيء عن شيء حقيقة إلاّ بسبب الملازمة بينهما بالعليّة والمعلولية أو المعلولية لثالث ، وليس هنا إلاّ لاقتضاء هذه المقدمات لنصب الشارع على القول بصحّة التقرير على

__________________

(١) هو المحقق الحائري ، درر الفوائد / ٤١٧ و ٤١٨.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ٩٠ و ٩١.

٣٧٦

وجه الكشف كما هو المفروض هنا.

ومن الواضح أنه لا إهمال في العلّة ، فلا إهمال في المعلول لعدم تعقل الإهمال في الواقعيات فيتبع المعلول سعة وضيقا لعلّته.

فاذا كانت المقدمات علّة لحكم العقل بحجّية الظن ، فحيث إنه لا مجال لاحتمال ملاك آخر لإضافة خصوصيّة من الخصوصيات التي لا تقتضيها طبع تلك المقدمات وإلاّ لانضم إلى المقدمات ، فلا محالة يستقل العقل بحجّية الظّن عموما أو خصوصا.

وإذ كانت المقدمات علّة لنصب الشارع للظن ، فنفس تعيّن الظّن للنصب دون غيره من الشك والوهم هي نتيجة المقدمات.

وأما إضافة خصوصيّة إليه بملاك آخر في نظر الشارع ، فهو أمر يعقل احتماله لكنها أجنبيّة عن المقدمات وعن مقتضاها.

فالمقدمات بالإضافة إلى نتيجتها ومقتضاها غير قابلة للاهمال ، بل هي تقتضي تعيّن كل ظن بالإضافة إلى كل شك ووهم بما هما شك ووهم للنصب شرعا ، وبالإضافة إلى خصوصيّة أخرى بملاك آخر أجنبي عن المقدمات لا اقتضاء لاستحالة كشفها عن تعيّن الظن بخصوصيّة واقعيّة مجهولة ، لعدم الملازمة بينها وبين الظّن المتخصّص بخصوصيّة مجهولة ، لاستحالة العلّية لأمر مهمل.

بل قد عرفت تعيّن العلّة للعلّية والمعلول للمعلوليّة في نظر الحاكم بالعلّية والمعلوليّة لأن النتيجة وإن كانت شرعيّة ، إلا أن الحاكم باستلزام هذه المقدمات لحجّية الظن شرعا هو العقل.

ولا فرق في عقلية الدليل بعقليّة استلزام المقدم للتالي بين الحكومة والكشف كما تقدم (١) في أوّل دليل الانسداد.

__________________

(١) التعليقة ١٢٥.

٣٧٧

فلا كاشفيّة للمقدمات عن حجّية الظّن المتخصّص بخصوصيّة واقعيّة حتى يتصور الإهمال بل بالإضافة إلى مقتضاها متعيّن عموما أو خصوصا ، وبالإضافة إلى غيره لا مقدميّة ولا كاشفيّة حتى يتصوّر الإهمال.

ومنه يظهر أن حجّية الطريق وإن كانت تنقسم إلى الأقسام الثلاثة : في نفسها ، إلا أن نتيجة دليل الانسداد لا تجري فيها الشقوق المتقدمة ، لأن الوصول بنفسه وبطريقه وعدمه مطلقا إنما يتصور هنا في الخصوصيّات المنضمّة إلى الظن بملاك آخر.

وقد عرفت أن المقدمات أجنبيّة عن خصوصيّات الظن بملاك آخر ، ونتيجتها بنفسها تعيّن نفس الظن في قبال الشك والوهم للنّصب شرعا ، وهو أمر مفروض الوصول ولا طريق إلى سعة الغرض من النصب وضيقه إلا هذه المقدمات ، وهي كما مرّ كاشفة لمّا من نصب الظّن بما هو ظنّ في قبال الشك والوهم بما هما شك ووهم من دون إهمال لا في طرف العلّة ولا في طرف المعلول ، فتدبّره فإنّه حقيق به.

ومنها : سلّمنا أن معنى الإهمال لا اقتضائيّة المقدمات عن اعتبار الخصوصيّات إلا أنها مهملة بهذا المعنى عن اقتضاء الخصوصيّة وعن اقتضاء عدمها ، فكما أن إثبات الخصوصيّة إما بما هو كالقرينة الحافة بالكلام ، أو بالإجماع على الملازمة أو بإجراء دليل الانسداد ثانيا وثالثا ، فكذلك نفى تلك الخصوصيّة وإثبات التّعميم بعدم خصوصيّة محتملة ، أو بعدم وصولها بنفسها ، أو بعدم وصولها بطريقها فان كل ذلك بضميمة البرهان ، وهو لزوم الخلف عن اعتبارها ، فيحكم بالتّعميم لا باقتضاء نفس المقدمات للتّعميم.

ومنها : أن لزوم الاقتصار على الظن الاطمئناني الوافي بمعظم الفقه لإمكان اتّكال الشارع على تعيّنه في نظر العقل إنّما يصح على الكشف بالوجه الذي ذكرناه ، وهو جعل الظن منجرا للواقعيات التي لم يرفع الشارع يده عنها

٣٧٨

لكونه مخالفا للضّرورة من الدين كما قدّمنا بيانه.

وأما على الكشف بمعنى جعل الاطاعة الظنّية للأحكام المنجّزة بدلا عن الاطاعة العلميّة ، فلا يصحّ ، وذلك لأن المتعيّن في نظر العقل الاطاعة الظنّية بعد التنزل عن الاطاعة العلميّة ، فكما لا يجدي في الاطاعة العلميّة كونها بمقدار يفي بمعظم الفقه كذلك في الاطاعة الظنّية ، ومجرد كون الملاك في الظن القوي أقوى من الظن الضعيف لا يوجب الاقتصار في مقام الاطاعة عليه ، بل أقوائيّة الملاك إنما تجدي في مقام الدّوران ولا دوران في نظر العقل في مقام الاطاعة حتى يتعين في نظر العقل لكي يتّكل عليه الشارع فتدبّره جيّدا.

١٥٠ ـ قوله « قده » : ولا بحسب الموارد ... الخ (١).

لا يقال : ما الفرق بين الحكومة والكشف حيث حكم « قدس سره » بتفاوت الموارد في نظر العقل على الأول دون الثاني.

مع أن تعيّنه في نظر العقل يكفى في وصوله بنفسه كما في الظن القوي.

لأنا نقول : مورد التفاوت هناك الظنون النافية في قبال رفع اليد عن الاحتياط في الموارد الغير المهمّة.

والكلام هنا في الظنون المثبتة للتكليف ، ولا موجب لتعيّن مورد دون مورد للتنزل إلى الاطاعة الظنّية في قبال الاطاعة الشكّية والوهميّة فلا تغفل.

١٥١ ـ قوله « قده » : لكنك غفلت عن أنّ المراد ما إذا كان اليقين ... الخ (٢).

لا يخفى عليك أن الإشكال في المتيقّن من وجهين.

أحدهما أن كونه متيقّنا بسبب الإجماع على الملازمة بين حجّية الظن في

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٢.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢٣.

٣٧٩

الجملة وحجية الخبر الصحيح الأعلائي يوجب دعوى الإجماع بالأخرة على حجّية الخبر المزبور ، فالدّليل على حجّية الظن الخبري شرعي لا عقلي.

ثانيهما أن فرض كون المتيقّن الاعتبار موجودا ينافي فرض انسداد باب العلم والعلمي ، وهو الإشكال الذي تعرّض له شيخنا « قدس سره » هنا تبعا للشيخ (١) العلامة الأنصاري رحمه الله ، والأول أيضا اشكال تعرّض له (٢) الشيخ الأعظم رحمه الله في طي ما أورده على تقرير الكشف.

وما أجاب به شيخنا الأستاد « قدس سره » يفي بدفع الإشكالين ، فان التّيقن حيث إنه بلحاظ دليل الانسداد ، فلا يعقل أن يكون الدليل مبنيّا عليه ومانعا عن جريانه. وحيث إن دليل التّلازم وهو الإجماع ليس دليلا على اللازم لبداهة أن صدق الشرطية يجامع كذب طرفيها ، فكيف يكون دليلا على أحدهما ، بل دليل الملزوم دليل اللاّزم ، فدليل الانسداد دليل المتيقّن ، فلا يلزم أن يكون الدليل شرعيّا بل عقلي.

والتحقيق أن الأمر كما أفيد بالنسبة إلى دفع الإشكال الثاني لأن حجّية الخبر معلّقة على حجّية الظن بدليل الانسداد ، فلا يعقل أن يكون ممّا يتوقّف على عدمه الدّليل.

إلا أنّ ما قيل : في عقليّة الدليل من أن دليل الملزوم دليل اللازم غير وجيه لأن مناط عقليّة الدليل كما مر (٣) في أول دليل الانسداد كون الدليل على الكبرى الكلّية أو ما بمنزلتها عقليّا ، والنتيجة من أفراد الكبرى الكليّة فتتبعها في العقليّة والشرعيّة ، فالمناط في كون الاستلزام عقليّا أو شرعيّا بالدليل على

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ / ١٩٥.

(٢) فرائد الأصول المحشى ١ / ١٩٣.

(٣) التعليقة ١٢٥.

٣٨٠