نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

زجر حقيقيّ عنه ، وحيث إن الظن ليس وصولا حقيقيّا فلا مانع من البعث الحقيقي على وفاقه أو الزجر على خلافه.

ويندفع الثاني بما سيأتي إن شاء الله تعالى في محله من أن الحكم العقلي في الظن تعليقيّ دون القطع.

كما أن الإشكال على اجتماع المثلين في البعثين بأن البعث الثاني يوجب التّأكّد فلا يلزم اجتماع المثلين ولا محذور اللّغوية.

مدفوع : بأن الغرض : إن كان الانشاء بداعي التأكيد فهو خلف فان المفروض كون الانشاء الثاني كالأول بداعي جعل الداعي مستقلا.

وإن كان خروج البعث الأول من حد الضعف إلى حد الشدّة ، ففيه أنه معقول في مثل الإرادة القابلة للاشتداد.

لكن خروجها عن الضعف إلى الشدّة بوجود ملاك آخر في المراد ، لا بحدوث إرادة أخرى ، فإنه غير معقول حتى يؤثّر في الاشتداد.

وأما البعث الاعتباري ، فلا يجري فيه الحركة والاشتداد لاختصاصه بالمقولات لا بالاعتباريات.

مع أن المفروض حدوث بعث آخر في الموضوع فلا يعقل حدوثه حتى يؤثّر في التّأكّد.

ثم إنّ هذا كله في الانشاء بداعي جعل الداعي.

وأما إذا كان بداعي تنجيز الواقع بالقطع ، فليس فيه شيء من المحاذير كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

٧ ـ قوله « مد ظلّه » : وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به ... الخ (١).

أي تأثير القطع في تنجّز التّكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته.

وذلك لما سيجيء إن شاء الله تعالى أن استحقاق العقاب مترتب على

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٥٨.

٢١

مخالفة المولى حيث إنها هتك لحرمته ، فالسبب للاستحقاق هي مخالفة التكليف.

إلاّ أن مخالفة التكليف المجهول لمّا لم تكن موجبة لاستحقاق العقاب فالقطع به وانكشافه له دخل بنحو الشرطيّة في تأثير المخالفة في استحقاق العقاب.

ولكن ليعلم أن استحقاق العقاب ليس من الآثار القهريّة واللوازم الذاتيّة لمخالفة التكليف المعلوم قطعا ، بل من اللوازم الجعليّة من العقلاء ، لما سيأتي عمّا قريب إن شاء الله تعالى أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان ، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته وهو ظلم عليه والظلم قبيح أي مما يوجب الذم والعقاب عند العقلاء ، فدخل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظّلم بنحو الشرطيّة جعلي عقلائيّ لا ذاتيّ قهريّ كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة.

ومنه ينقدح ما في البرهان الآتي من أن الجعل التأليفي لا يكون بين الشيء ولوازمه ، فإنه في المتلازمين واقعا لا جعلا ولو عقلا (١).

ولا يرد كل ذلك على ما سلكناه في الحاشية المتقدّمة من البحث عن الطريقيّة وأنها في القطع حيث كانت ذاتية فلذا لا يعقل الجعل كما تقدم تفصيله.

وحيث عرفت أن الحجّية بمعنى المنجّزيّة من اللوازم الجعليّة العقلائيّة ، فبناء على أن جعل العقاب من الشارع يصح القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعا من دون لزوم محذور.

وتوهم لزوم التسلسل نظرا إلى أن الأمر بمتابعة القطع لا يوجب التّنجّز

__________________

(١) عقلا ، هكذا ورد في المخطوطة بغير خط المصنف قده لكن الصحيح : عقلاء.

٢٢

بوجوده الواقعي بل لا بد فيه من العلم وهو أيضا كالسابق يحتاج في تنجّزه إلى الأمر باتباعه.

مدفوع : بأن الأمر الثاني أمر بداعي تنجّز الواقع المقطوع به ، فهو لا تنجّز له ، فوصوله وإن كان مما لا بد منه في صيرورة الأمر الواقعي المعلوم منجزا ، لكنه مفروض الحصول وليس لهذا الواصل تنجّز في نفسه حتى يحتاج إلى الأمر بداعي تنجّزه بالعلم به.

مضافا إلى أنه لو فرضت القضيّة طبيعيّة لعمت نفسها أيضا من دون لزوم التسلسل.

ومما ذكرنا من دخل القطع جعلا في التنجّز يظهر صحة إطلاق الحجّة عليه بالمعنى المتعارف في عرف أهل الميزان ، لكونه واسطة في التنجز في القياس المطلوب منه تنجّز الحكم بالقطع ، كما يظهر صحة إطلاق الحجّة عليه في باب الأدلة إن أريد منها ما ينجّز الواقع.

نعم إن أريد منها ما يثبت الحكم الفعلي بعنوان أنه الواقع فلا يطلق عليه الحجة ، إذ القطع بالحكم عين ثبوت الواقع لدى القاطع ، فلا يكون علّة لثبوت الواقع وللتّصديق به.

ومنه يظهر أن القطع ليس حجة في باب الأدلّة أيضا بهذا المعنى ، إذ لا حكم على طبق الواقع فعلا أصلا فضلا من أن يكون بعنوان أنه الواقع.

بخلاف الأمارة المعتبرة ، فإنها بضميمة دليل اعتبارها مفيدة للحكم المماثل بعنوان أنه الواقع ، فيقع وسطا في القياس المطلوب منه ثبوت الحكم الفعلي وفي القياس المطلوب منه ثبوت الواقع عنوانا.

وأما القطع الموضوعي فلا يطلق عليه الحجّة إلاّ بالمعنى المتداول في الميزان لا في باب الأدلّة فتدبّر جيّدا.

في مراتب الحكم.

٢٣

٨ ـ قوله « مد ظلّه » : أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ... الخ (١).

لا بأس بتوضيح ما للحكم من المراتب عنده « دام ظله » فنقول : مراتب الحكم عنده « دام ظله » أربع :

إحداها : مرتبة الاقتضاء ، وربما يعبّر عنها بمرتبة الشأنيّة.

وجعل هذه المرتبة من مراتب ثبوت الحكم لعلّه بملاحظة : أن المقتضى له ثبوت في مرتبة ذات المقتضي ثبوتا مناسبا لمقام العلّة لا لدرجة المعلول.

أو لأن المقبول له ثبوت في مرحلة ذات القابل بما هو قابل ثبوتا مناسبا لمرتبة القابل لا المقبول.

إلا أن هذا المعنى من شئون المقتضي بمعنى العلّة الفاعليّة لا المقتضي بمعنى الغاية الداعية إلى الحكم.

كما أن القابل الذي يوصف بأنه نحو من وجود المقبول ما كان كالنطفة إلى الإنسان (٢) ، حيث إنها في صراط الماديّة والتّلبّس بالصورة الانسانيّة لا المصلحة ولا الطبيعة القابلة للوجوب ، فإن الفعل كالمصلحة ليسا في سبيل المادّية والترقّي إلى الصورة الحكميّة ، كما لا يخفى كل ذلك على العارف بمواقع الكلام.

نعم استعداد الطبيعة بملاحظة اقتضاء ما يترتب عليها من الفائدة للوجوب مثلا وصيرورتها واجبا فعليّا لا ينبغي انكاره ، والاستعدادات الماهويّة لا دخل لها بالاستعدادات المادّية.

والطبيعة في مرتبة نفسها حيث إنها ذات مصلحة مستعدّة باستعداد ماهوي للوجوب.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٥٨.

(٢) هكذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده لكن الصحيح : كالنطفة بالإضافة إلى الإنسان.

٢٤

وحيث إن المانع موجود فهو واجب شأنيّ وواجب اقتضائي.

وليس هذا معنى ثبوت الحكم في هذه المرتبة ، إذ لا ثبوت بالذات للمصلحة حتى يكون للحكم ثبوت بالعرض بل له شأنيّة الثبوت.

وعبارته مد ظلّه في مبحث الظن من تعليقته (١) الأنيقة أنسب حيث عبّر عن هذه المرتبة بشأنيّة الثبوت بخلاف عبارته « دام ظلّه » في مبحث العلم الإجمالي من فوائده (٢) حيث عبّر عنها بثبوته بثبوت مقتضيه ، ولعلّه يراد به ما ذكره في التعليقة ، والأمر سهل بعد وضوح المقصود فافهم جيّدا.

ثانيتها : مرتبة انشائه وقد بيّنا حقيقة الإنشاء في حواشينا على الطلب والارادة (٣).

وملخّصه أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ إيجادا لفظيّا بحيث ينسب الوجود الواحد إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض ، لا إليهما بالذات ، فانها غير معقول ، كما أن وجود المعنى حقيقة منفصلا عن اللفظ بآليّته غير معقول كما حقق في محلّه.

وعليه ينبغي تنزيل ما قيل : من أن الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر ، وإنّما قيّد بنفس الأمر مع أن وجود اللفظ خارجي وهو المنسوب إلى المعنى بالعرض ، لأن المعنى بعد الوضع كانه ثابت في مرتبة ذات اللفظ فيوجد بوجوده في جميع المراحل. وبقيّة الكلام تطلب من غير المقام.

ثالثتها : مرتبة الفعليّة وفي هذه المرحلة يبلغ الحكم درجة حقيقة الحكميّة ويكون حكما حقيقيّا وبعثا وزجرا جدّيا بالحمل الشائع الصناعي ، وإلاّ فمجرّد الخطاب من دون تحريم وإيجاب إنشاء محض ، وبين الوجود الإنشائي الذي هو

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ٣٦.

(٢) آخر التعليقة / ٣٢١.

(٣) نهاية الدراية ١ : التعليقة : ١٥٠.

٢٥

نحو استعمال اللفظ في المعنى وبين الوجود الحقيقي مباينة تباين الشيء بالحمل الأولى وبالحمل الشائع.

ومن الواضح أن الوجود لا يكون فردا ومصداقا لطبيعة من الطبائع إلاّ إذا حملت عليه حملا شائعا صناعيّا.

وإذا بلغ الإنشاء بهذه المرتبة تمّ الأمر من قبل المولى ، فيبقى الحكم وما يقتضيه عقلا من استحقاق العقاب على مخالفته « تارة » وعدمه « أخرى ».

وما لم يبلغ هذه المرتبة لم يعقل تنجّزه واستحقاق العقاب على مخالفته وإن قطع به ، لا لقصور في القطع وفيما يترتّب عليه عقلا ، بل لقصور في المقطوع ، حيث لا إنشاء بداعي البعث وجعل الداعي حتى يكون القطع به مصحّحا لاستحقاق العقاب على مخالفته.

رابعتها : مرتبة التّنجّز وبلوغه إلى حيث يستحق على مخالفته العقوبة.

وجعلها من درجات الحكم ومراتبه مع أن الحكم على ما هو عليه من درجة التّحصّل ومرتبة التّحقق بلا ترقّ إلى درجة أخرى من الوجود إنما هو بملاحظة أنّ ما تمّ أمره من قبل المولى واستوفى حظّه الوجودي منه لم يكن بحيث ينتزع عنه أنه منجز ، ولم يكن من حقيقة التكليف الموجب لوقوع المكلف في كلفة البعث والزّجر.

وبلوغه إلى حيث ينتزع عنه هذا العنوان نشأة من نشآت ثبوته ، وإلاّ فربما يتم الأمر فيه من قبل المولى قبل بلوغه مرتبة البعث الجدي ، كما إذا أنشأ بداعي البعث الجدّي وكان فعليّة البعث موقوفة على شرط ، فإن الإنشاء الصادر من قبل المولى قد تمّ أمره من قبله واستكمل نصيبه من الوجود ، لكنه ليس حينئذ بحيث ينتزع عنه عنوان البعث الحقيقي.

فكما أن بلوغه بهذه المرتبة مع عدم الانقلاب عما هو عليه نحو من الترقّي ، فكذلك بلوغه لمرتبة التّنجّز. هذا على مختاره « دام ظلّه » في مراتب الحكم.

٢٦

وسيجيء (١) إن شاء الله تعالى ما عندنا من أن المراد بالفعلي ما هو الفعلي من قبل المولى لا الفعلي بقول مطلق ، فمثله ينفكّ عن المرتبة الرابعة لكنه عين مرتبة الإنشاء حيث إن الإنشاء بلا داع محال وبداع آخر غير جعل الداعي ليس من مراتب الحكم الحقيقي ، وبداعي جعل الداعي عين الفعلي من قبل المولى ، وإن أريد من الفعلي ما هو فعليّ بقول مطلق ، فهو متقوّم بالوصول وهو مساوق للتّنجّز ، فالمراتب على أي حال ثلاث.

٩ ـ قوله « مد ظله » : وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق الثواب ... الخ (٢).

إن كان الفرق بين الثواب والعقاب بلحاظ خصوص الحكم الفعلي فقط فالثواب كالعقاب ، إذ كما لا بعث ولا زجر فليست المخالفة عصيانا ، كذلك لا جعل للدّاعي من المولى بالفعل كي يدعوا العبد بالفعل ليستحق الثواب على الفعل من حيث صدوره عن أمر المولى.

فكما لا يستحق العقاب على مخالفة الحكم الفعلي حيث لا حكم فعليّ ، كذلك لا يستحق الثواب على موافقة الحكم الفعلي لعدمه فعلا.

وإن كان الفرق لا بلحاظ الحكم الفعلي بل كلّية بمعنى أنه يمكن التفكيك بين العقاب والثواب ، فلا يترتب العقاب إلا على مخالفة الحكم الفعلي ، دون الثواب فانه يمكن ترتّبه على الفعل ولو لم يكن هناك حكم فعلي ، كما إذا أتى به بداعي المصلحة التامة الموافقة لغرض المولى أو بداعي حب المولى ونحوه.

ففيه أن العقاب كالثواب فلا يدور مدار خصوص مخالفة الحكم الفعلي ، بل يترتّب على ترك تحصيل المصلحة التامّة الملزمة مع عدم البعث لمانع عنه

__________________

(١) في التعليقة ٣٠ و ٤٢.

(٢) كفاية الأصول / ٢٥٨.

٢٧

بالخصوص ، كغفلة المولى أو اعتقاد عجز العبد عن امتثاله.

وتفصيله أن المصلحة : قد تكون قاصرة عن اقتضاء اللزوم والبعث ، فالعلم بها لا يوجب تحصيلها في نظر العقلاء.

وقد تكون تامة الاقتضاء ولكن لها مانع عن التأثير في البعث ، وهو على قسمين : فقد يكون المانع اشتمال البعث على مفسدة ، فمثل هذه المصلحة غير ملزمة لأنها على الفرض مغلوبة ، لأن كون العبد ملزما بتحصيل المصلحة ذا مفسدة غالبة ، فكيف يعقل أن يكون مثل هذه المصلحة ملزمة في نظر العقلاء.

وقد يكون المانع نظير غفلة المولى أو اعتقاد عجز العبد عن الامتثال فمثل هذه المصلحة ملزمة على حدّ ذاتها لا مغلوبة غير ملزمة ، فالعلم بها يوجب استحقاق العقوبة على ترك تحصيلها.

في التجرّي.

١٠ ـ قوله « مد ظله » : الحق أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ... الخ (١).

تفصيل ذلك أن استحقاق العقاب على معصية حكم المولى إمّا بجعل الشارع أو بحكم العقل :

فان كان بجعل الشارع كما هو أحد طرقه في محلّه على ما أفاده الشيخ الرئيس في الاشارات (٢) وغيره في غيرها ، فحينئذ لا مقتضى لاستحقاق العقاب حيث إن الشارع لم يجعل العقاب إلاّ على المعصية الحقيقيّة لحكمه ، وحيث لا حكم في المورد فلا عقاب ولم يرد من الشارع جعل العقاب على مجرّد التّجرّي.

وببيان أو فى جعل العقاب ـ على فعل طائفة من الأفعال وترك جملة منها من جهة ردع النفوس عن فعل ما فيه المفسدة وترك ما فيه المصلحة ـ واجب

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٥٩.

(٢) شرح الاشارات للمحقق الطوسي : ٣ / ٣٧١.

٢٨

بقاعدة اللطف ، وما فيه المفسدة ذات شرب الخمر ، لا هو بعنوان كونه مخالفة لنهي المولى.

فاذا وصل هذا الجعل الواقعي صار فعليّا وإلاّ فلا ، إذ كما أنّ مقتضى قاعدة اللطف جعل العقاب كذلك مقتضاها إيصاله وتبيينه للمكلف ، والمفروض أن ما فعله المتجري لم يشتمل بذاته على مفسدة واقعا ، فلا عقاب عليه من الشارع وإن اعتقده من جهة اعتقاد الحرمة.

وإن كان الاستحقاق بحكم العقل كما هو ظاهر المشهور ، فحينئذ لا ينبغي الشبهة في استحقاق العقاب على التجرّي لاتحاد الملاك فيه مع المعصية الواقعيّة.

بيانه أن العقاب على المعصية الواقعيّة ليس لأجل ذات المخالفة مع الأمر والنهي ، ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفة وتفويت ، ولا لكونه ارتكابا لمبغوض المولى بما هو لوجود الكل في صورة الجهل (١).

بل لكونه هتكا لحرمة المولى وجرأة عليه ، إذ مقتضى رسوم العبوديّة اعظام المولى وعدم الخروج معه عن زيّ الرقيّة ، فالاقدام على ما أحرز أنه مبغوض المولى خلاف مقتضى العبوديّة ومناف لزيّ الرقيّة وهو هتك لحرمته وظلم عليه.

وهذا الحكم العقلي من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس ، وأمثال هذه القضايا ممّا

__________________

(١) لا يقال : يمكن أن يكون المخالفة مقتضية لاستحقاق العقاب والعلم شرطا نظير الكذب فانه مقتض للقبح.

لانا نقول : لا اقتضاء للعناوين بالإضافة إلى أحكامها إذ لا معنى للتّأثير والتّأثر فيها ومعنى كون الكذب مقتضيا أنّه لو خلّى ونفسه يندرج تحت عنوان قبيح بالذات وليست المخالفة كذلك بل لا بدّ من العلم في اندراجها تحت قبيح بالذات. منه عفى عنه.

٢٩

تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها.

وأما عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم بمعنى كونه بحيث يستحق عليه المدح أو الذم من القضايا البرهانيّة ، فالوجه (١) فيه أن مواد البرهانيّات منحصرة في الضروريات الستّ ، فإنها : إما أوّليّات ، ككون الكل أعظم من الجزء وكون النفي والإثبات لا يجتمعان.

أو حسّيات سواء كانت بالحواس الظاهرة المسماة بالمشاهدات ، ككون هذا الجسم أبيض أو هذا الشيء حلوا أو مرّا ، أو بالحواس الباطنة المسماة بالوجدانيّات وهي الأمور الحاضرة بنفسها للنفس ، كحكمنا بأن لنا علما وشوقا وشجاعة.

أو فطريّات وهي القضايا التي قياساتها معها ، ككون الأربعة زوجا لأنها منقسمة بالمتساويين ، وكل منقسم بالمتساويين زوج.

أو تجربيات وهي الحاصلة بتكرر المشاهدة ، كحكمنا بأن سقمونيا مسهل.

أو متواترات كحكمنا بوجود مكة لإخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة.

أو حدسيّات موجبة لليقين ، كحكمنا بأن نور القمر مستفاد من الشمس للتّشكّلات البدريّة والهلاليّة واشباه ذلك.

ومن الواضح أن استحقاق المدح والذم بالإضافة إلى العدل والظلم ليس من الأوليات بحيث يكفي تصوّر الطرفين في الحكم بثبوت النسبة ، كيف وقد وقع النّزع فيه من العقلاء؟.

وكذا ليس من الحسّيات بمعنييها كما هو واضح ، لعدم كون الاستحقاق مشاهدا ولا بنفسه من الكيفيات النفسانيّة الحاضرة بنفسها للنفس.

وكذا ليس من الفطريات ، إذ ليس لازمها قياس يدل على ثبوت النسبة.

__________________

(١) وسيجيء إن شاء الله تعالى في دليل الانسداد تفصيل ذلك بوجه برهاني أيضا. منه عفي عنه.

٣٠

وأما عدم كونه من التّجربيّات والمتواترات والحدسيّات ، ففي غاية الوضوح. فثبت أن أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانيّة بل من القضايا المشهورة.

وأما حديث كون حسن العدل وقبح الظلم ذاتيا : فليس المراد من الذاتي ما هو المصطلح عليه في كتاب الكلّيات ، لوضوح أن استحقاق المدح والذم ليس جنسا ولا فصلا للعدل والظلم.

وليس المراد منه ما هو المصطلح عليه في كتاب البرهان ، لأن الذاتي هناك ما يكفي وضع نفس الشيء في صحة انتزاعه منه ، كالإمكان بالإضافة إلى الانسان مثلا وإلاّ لكان الإنسان في حد ذاته إمّا واجبا أو ممتنعا.

ومن الواضح بالتأمل أن الاستحقاق المزبور ليس كذلك ، لأن سلب مال الغير مثلا مقولة خاصة بحسب أنحاء التصرف : وبالإضافة إلى كراهة المالك الخارجة عن مقام ذات التصرف ينتزع منه أنه غصب. وبالإضافة إلى ترتّب اختلال النظام عليه بنوعه وهو أيضا خارج عن مقام ذاته ينتزع منه أنه مخل بالنظام وذو مفسدة عامّة ، فكيف ينتزع الاستحقاق المتفرع على كونه غصبا وكونه مخلا بالنظام عن مقام ذات التصرف في مال الغير؟

بل المراد بذاتية الحسن والقبح كون الحكمين عرضا ذاتيّا ، بمعنى أن العدل بعنوانه والظلم بعنوانه يحكم عليهما باستحقاق المدح والذم من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر.

بخلاف سائر العناوين ، فانها ربما تكون مع حفظها معروضا لغير ما يترتب عليه لو خلى ونفسه كالصدق والكذب ، فانهما مع حفظ عنوانهما في الصدق المهلك للمؤمن والكذب المنجي للمؤمن يترتب استحقاق الذم على الأول بلحاظ اندراجه تحت الظلم على المؤمن ، ويترتب استحقاق المدح على الثاني لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلى المؤمن ، وإن كان لو خلى الصدق والكذب ونفسهما

٣١

يندرج الأول تحت عنوان العدل في القول والثاني تحت عنوان الجور فضلا عن سائر الأفعال التي في نفسها لا تندرج تحت عنوان ممدوح أو مذموم.

ثم إن استحقاق العقوبة هل هو على الفعل أو على مقدماته كالعزم والإرادة ، وهذا الترديد جار في المعصية الواقعيّة لوحدة الملاك على الفرض.

والتحقيق هو الأول ، لأن العزم على الظلم من دون تحقق الظلم ليس بظلم ، إذ ليس مخلا بالنظام ولا ذا مفسدة نوعيّة يوجب تطابق آراء العقلاء على قبحه.

وبالجملة العبد بفعل ما احرز انّه مبغوض المولى يخرج عن رسم العبوديّة وزيّ الرقية ، لا بمجرّد عزمه على الفعل.

ويؤيده أن الهتك أمر قصدي وإلا لم يستحق عليه العقاب ولم يتصف بالقبح ، لأنه من صفات الأفعال الاختياريّة ، فلو انطبق الهتك على مجرد العزم والقصد لزم إما عدم كون الهتك قصديّا أو كون القصد قصديّا ، وإمكان كونه كذلك وكفايته في ذلك كما (١) نبهنا على ذلك في أوائل الكتاب لا يوجب الوقوع دائما.

مع أنه يستحق العقاب على هتكه في جميع موارد التجري.

وأما الإشكال (٢) على المصنف بأن عنوان الهتك والجرأة على المولى كما يصدق على القصد والعزم كذلك على الفعل.

فغير وجيه ، إذ بعد فرض صدقه على القصد يستلزم ترتّب عقابين ، لتحقق الملاك في كل من القصد والفعل وهما مقولتان متباينتان ليس بينهما اتصال على حد اتصال الأمور التّدريجيّة ليكون الكل هتكا واحدا ، بل هناك على الفرض معنونان بهذا العنوان وكل من الفعلين فيهما ملاك استحقاق العقوبة فالصحيح

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٧١.

(٢) كما عن المحقق العراقي قده. نهاية الأفكار : ٣ / ٣٨.

٣٢

منع انطباق العنوان الموجب للاستحقاق إلا على الفعل الاختياري.

فان قلت : ما ذكرت من انطباق عنوان الهتك على الفعل المتجري به إنما يستتبع استحقاق العقوبة إذا صدر عن اختيار ، حيث إن الحسن والقبح العقليّين من صفات الأفعال الاختياريّة ، مع أن المتجري إنما قصد هتك مولاه بشرب الخمر الواقعي والمفروض عدم حصوله ، فلم يصدر منه هتك اختياري.

بل سيأتي (١) إن شاء الله من الأستاد العلاّمة « أدام الله أيّامه » موافقا لما في تعليقته (٢) المباركة أنه لم يصدر منه فعل اختياري أصلا ، إذ ما تصوّره وهاجت رغبته إليه واشتاقه وهو شرب الخمر لم يصدر منه ، وما صدر منه وهو شرب الماء فلم يتصوّره ولم يمل إليه ولم يقصده ، فكيف يكون اختياريّا مع عدم مبادي الاختيار؟

قلت : الحركة لا تخلو عن كونها إمّا بقسر القاسر أو بالطبع أو بالإرادة وشرب هذا المائع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسيّة ليس معلولا لقسر القاسر ولا للطبع قطعا بل معلول للإرادة.

غاية الأمر أنّ تعلّق الإرادة الشخصيّة بهذا المائع الحسّي بواسطة اعتقاد أنّه الخمر وتخلّفه لا يوجب كون هذا الشّرب الشخصي بلا إرادة.

وبالجملة الشوق الكلي إلى شرب الخمر يتخصّص بشرب هذا المائع الخاص بواسطة اعتقاد أنه الخمر ، والخطأ في التطبيق لا يخرج هذا الشرب عن كونه إراديّا.

فهذا هو الوجه في كون هذه الحركة إراديّة لا بواسطة أن العام بتبع إرادة الخاص إراديّ حتى يشكل بأن الحصة التي كانت في ضمن الخاص وإن كانت إراديّة لكنها لم توجد والحصة الأخرى في ضمن غير ذلك الخاص لا وجه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٠.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ١٣.

٣٣

لإراديّتها ، فان ما بالتّبع لا بد من أن ينتهي إلى ما بالأصالة.

ولا إرادة في الخاص الآخر حتى تكون الحصة المتحققة في ضمنه إراديّة تبعا ، كما أن العام بما هو لم يتعلّق به إرادة بالأصالة.

وأما توهم (١) أن الجامع اختياري لمجرّد كونه ملتفتا إليه والقدرة على فعله وتركه وإن لم يكن محط الإرادة الأصلية نظير ما إذا شرب الخمر لأجل كونه مائعا باردا لا لأجل كونه خمرا ، فإنه يستحق عقاب شرب الخمر مع أن شرب الخمر ليس محط الإرادة الأصليّة ، فكذا فيما نحن فيه فان الجامع وإن لم يكن محط الإرادة الأصليّة لكنه يكفي في اختياريّته الالتفات إليه والقدرة على تركه.

فمدفوع : بأنه كلام مجمل فإنه : إن أريد كفاية الالتفات والقدرة في اختياريّة الفعل ، ففيه أن الفعل الاختياري ما صدر عن شعور وقدرة وإرادة ، لا مجرّد الشعور والقدرة فقط.

وإن أريد أن الجامع مراد بالعرض أو بالتّبع قياسا للجامع هنا بالخصوصيّة في المثال المزبور ، ففيه أن الإرادة التّبعيّة لا توجد إلاّ في فعلين مترتّبين كالمقدمة وذيها لا كالجامع وخصوصيّته ، والإرادة العرضيّة وإن كانت توجد في الجامع وخصوصيّته إلا أن ما بالعرض لا بد من أن ينتهي إلى ما بالذات.

والمفروض أن الخصوصيّة التي أريدت فنسبت إلى الحصّة المتحققة بها تلك الإرادة بالعرض لم توجد من رأس ، والخصوصية الأخرى لم يتعلق بها الإرادة حتى تنسب إلى الحصّة الموجودة في ضمنها ، والمفروض أيضا عدم إرادة الجامع بما هو.

وأما الوجه في اختياريّة المثال المذكور ، فهو أن الشوق المتعلّق بالتبريد بالمائع قد انبعث عنه شوق إلى مقدّمة التّبريد ، فشرب الخمر مراد بتبع إرادة التبريد ، والحرام لا يتفاوت اختياريّته بتفاوت الأغراض الداعية ، لا أن شرب

__________________

(١) كما في درر الفوائد / ٣٣٦.

٣٤

المائع البارد متعلّق الإرادة ومجرد الالتفات إلى خمريّته والقدرة على تركه مصحح اختياريّة شرب الخمر ، ولا أن الإرادة المتعلّقة بالجامع منسوبة إلى الخصوصيّة الغير المتخلفة عنه بالعرض ، فإن الإرادة العرضيّة لا تصحح التكليف ، فانّها في الحقيقة ليست إرادة مستقلّة في جنب إرادة الجامع ، بل إرادة متعلّقة بالجامع ومنسوبة بالعرض والمجاز إلى الخصوصيّة نظير العرض الذاتي والغريب بل هو هو بالدّقة بل النسبة بين التبريد بالمائع وشرب الخمر نسبة المسبب إلى سببه والفعل التوليدي بالإضافة إلى ما يتولّد منه ، فالتّبريد مشتاق إليه بالأصالة وشرب الخمر المبرّد بالتّبع.

فان قلت : إذا شرب الخمر ملتفتا إلى خمريّته مشتاقا إلى ميعانه فهو مريد للجامع وهو المائع ، والخمريّة غير مرادة وإنما هي ملتفت إليها ، ولا إرادة تبعيّة لمكان الاتحاد وإن كان الخاص والفرد مجرى الفيض بالإضافة إلى العام والكلّي ، والإرادة العرضيّة غير مصحّحة للتكليف.

قلت : تخصّص الشوق إلى المائع بما هو مائع بخصوص الحصّة المتخصّصة بالخمريّة لا يكون إلا عن شوق بهذه الحصّة بما هي حصة ، ولا نعني بالخمر إلا هذه الحصة من المائع.

وقد عرفت أن اختلاف الأغراض لا يوجب التفاوت في إراديّة ما يترتب عليه الغرض.

هذا كله في إراديّة أصل الفعل.

وأما الهتك فلا واقع له إلا الفعل الذي أحرز أنّه مبغوض المولى ، فيتوجّه القصد إليه بتوسط الإحراز المخالف للواقع ، ولا واقع للعنوان القصدي إلا ما يتقوّم بالقصد.

ومن الواضح أن هتك حرمة المولى بشرب ما اعتقده خمرا أمر معقول وهو واقع الهتك الاختياري.

٣٥

وتوهم (١) أن عنوان هتك حرمة المولى والظلم عليه لا يتحقق إلا في فرض وصول التكليف ، فمخالفة التكليف الواصل مصداق الهتك والظلم ، ولا علم هنا بالتكليف بل هو جهل مركّب ، ولا موجب لتسرية حكم العلم إلى الجهل.

مدفوع : بأن التكليف بوجوده الواقعي كما لا يمكن أن يكون مناط الهتك والظلم ، إذ ليس من رسوم العبوديّة أن لا يخالف التكليف الواقعي ، كذلك لا يمكن أن يكون بوجوده الواقعي دخيلا في تحقق الهتك والظلم ، بل الموضوع لحكم العقل ما هو الحاضر عنده في وعاء وجدانه ، فنفس الحركة على خلاف ما أحرز أنّه مبغوض مولاه بما هو محرز في موطن الوجدان هو الموضوع لحكم العقل فتدبّر جيدا.

١١ ـ قوله « مد ظله » : مع بقاء الفعل المتجري به ... الخ (٢).

قد عرفت حال الفعل من حيث عنوان هتك الحرمة ونحوه.

وأما من حيث وقوع التّزاحم بين الجهة الواقعيّة والجهة الطارئة كما عليه في الفصول (٣) ، فتحقيق القول فيه : أنّ التزاحم بين الجهتين تارة من حيث إنهما ملاكان لحكمين مولويّين.

وأخرى من حيث إنهما ملاكان للحسن والقبح العقليّين بمعنى استحقاق المدح والذم.

وأما إذا كان إحداهما ملاكا للحكم المولوي والأخرى للمدح والذّم ، فلا تزاحم بينهما : حيث لا منافاة بين الوجوب الواقعي واستحقاق الذم على فعله لدخوله تحت عنوان قبيح بالذات.

ولا بين الحرمة الواقعيّة واستحقاق المدح على فعله لدخوله تحت عنوان

__________________

(١) كما في أجود التقريرات ٢ / ٣٠.

(٢) كفاية الأصول / ٢٥٩.

(٣) الفصول في الأصول / ٤٢٦.

٣٦

حسن بالذات.

ولا تكون ملاكات الحسن والقبح بهذا المعنى مناطات للأحكام المولويّة حتى يتحقّق التزاحم بالواسطة ، وذلك لأن الحكم المولوي لا يصلح للدّعوة ، إلاّ باعتبار ما يترتب على موافقته ومخالفته من المثوبة والعقوبة عقلا.

ومع حكم العقل ، باستحقاق المدح والثواب أو الذم والعقاب لا يبقى مجال لاعمال المولويّة بالبعث والزجر.

ومنه تعرف عدم المزاحمة بين جهة التجري التي هي ملاك استحقاق العقاب والجهة التي هي مناط الوجوب المولوي.

وأما إذا فرض الملاكان من سنخ واحد : فإن كانا ملاكين للمدح والذم ، فمن البيّن أن ملاك التجرّي والانقياد إنما يؤثر لعدم صلاحيّة الجهة الواقعيّة للتأثير في خلافه ، لأن الحسن والقبح من صفات الأفعال الاختياريّة ، فما لم يصدر بعنوانه المؤثر في حسنه أو قبحه بالاختيار لا يتصف بالحسن والقبح فعلا.

وإن كانا ملاكين للحكم المولوي ، فهو لا يتصور في مثل عنوان التجرّي ونحوه كما عرفت ، بل في مثل عنوان مقطوع الوجوب والحرمة إمّا بنفسهما أو من حيث ملازمتهما لعنوانين واقعيّين هما ملاكان للحكم المولوي.

فإن كان نفس عنواني مقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة ملاكا ، فهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى. حيث إنه عنوان محض ، لا أنّه غرض من المأمور به أو المنهي عنه فلا محالة يجب أن يصدر بعنوانه بالاختيار حتى يتحقق الإطاعة والعصيان وسيجيء إن شاء الله أنه ليس كذلك دائما بل أحيانا.

وإن كان العنوان الملازم ملاكا : فان كان أيضا عنوانا محضا ، فهو أيضا غير قابل للتأثير فضلا عن المزاحمة للجهل به فضلا عن صدوره بالاختيار.

وإن كان غرضا فهو قابل للتأثير ، إذ لا يشترط في الأغراض الواقعيّة التي هي ملاكات الأحكام المولويّة أن تكون معلومة وأن تصدر بالاختيار ، بل

٣٧

يكفي في اختياريّة الفعل المتعلق للحكم صدوره بنفسه بالاختيار.

لكن حيث إن العنوان الطاري الملازم لعنوان المقطوع كالعنوان الواقعي المؤثّر بذاته في الحكم المولوي مجهول ، فلا يمكن إحراز الغالب والمغلوب منهما ، فتصور عنوان واقعي مجهول لا يكاد يجدي شيئا إلا في امكان الحكم المولوي ، لا في مقام تحقق التزاحم والحكم بغلبة أحدهما على الآخر.

ومن جميع ما ذكرنا تبيّن أن ما أفاده ـ شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » (١) في هذا المقام أن قبح التجرّي ذاتي بمعنى العلّة التامة أو بمعنى الاقتضاء من دون مانع عن تأثيره لعدم صلاحيّة العنوان الواقعي المجهول للتأثير حيث لم يصدر بعنوانه بالاختيار ـ إنما يصح فيما إذا كان التزاحم بين ملاكين للحسن والقبح العقليين ، وأما في غيره فالصحيح ما ذكرنا.

وأما توهم (٢) أن جهة التجري غير منتزعة عن مقام ذات الفعل بل من حيث المخالفة للأمر والنهي وهي في طول الجهة الواقعيّة المنتزعة عن ذات الفعل فتؤثّر كل واحدة منهما أثرها لتعدّد منشأ الانتزاع.

فمدفوع بأن الغرض : إن كان عدم التّضاد بين الأثرين لتعدد الموضوع ، ففيه أنّ بناء الامتناع على أن وحدة الهويّة المعنونة بعنوانين يوجب التضاد سواء كان العنوانان طوليّين أو عرضيّين.

وإن كان عدم التزاحم لأن الجهة السابقة لا مزاحم (٣) في مرتبتها فتؤثر أثرها ولا تصل النوبة إلى تأثير الجهة اللاحقة.

ففيه ما مر مرارا في مباحث الألفاظ وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ ملاك التمانع في التأثير هي المعيّة الوجوديّة ، والمانع هو التقدم والتأخر في الوجود.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ / ١٧ ـ ٢٠.

(٢) كما في نهاية الأفكار ٣ / ٣٣.

(٣) هكذا وردت في النسخة المطبوعة ولكن الصحيح : لا مزاحم لها.

٣٨

وأما التقدم والتأخر بالطبع والذات فلا يعقل أن يجدي شيئا بعد كون المتقدم والمتأخر بالطبع لهما المعيّة في الوجود الحقيقي.

١٢ ـ قوله « مد ظله » : ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات ... الخ (١).

اما عدم كونه من الوجوه المحسّنة أو المقبّحة عقلا فواضح إذ لا واقع للحسن والقبح عقلا ولا لكون شيء وجها موجبا لهما إلا في ظرف وجدان العقل.

وعدم كون عنوان مقطوع الوجوب والحرمة من العناوين الحسنة والقبيحة بالذات كالعدل والظلم مما لا شبهة فيه.

وكذا عدم كونهما من العناوين العرضيّة المنتهية إلى العناوين الذاتيّة كالصّدق والكذب ، لعدم كونهما ذا مصلحة ومفسدة في نظر العقل ، لا بنحو العلّية التامة كما في الأولى ، ولا بنحو الاقتضاء كما في الثّانية.

لكنك قد عرفت آنفا أنّ عنوان هتك الحرمة من عناوين الفعل ووجوهه ، فلا حاجة إلى إحراز عنوانيّة مقطوع الحرمة مثلا للفعل لإثبات استحقاق العقاب على الفعل المتجرّي به.

وأما عدم كونه ملاكا للمحبوبيّة والمبغوضيّة الشرعيّة : فان أريد كونه ملاكا في نظر العقل فيكون ملاكا في نظر الشارع ، لأن الحكم الشرعي تابع للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، لا للأغراض النفسانيّة والاقتراحات الغير العقلائيّة.

ففيه أنّه قد تبيّن عدم كونه من العناوين ذوات المصلحة والمفسدة بقسميها في نظر العقل ، فلا ملاك من هذه الجهة في نظر الشارع كي يحكم على طبقه.

وإن أريد كونه ملاكا في نظر الشارع وإن لم يدركه العقل لقصوره عن

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٠.

٣٩

الإحاطة بجميع الخصوصيات.

ففيه أنّ الفعل إذا كان ملاكه معلوما وكان الملاك مثل عنوان المقطوع عنوانا محضا لا غرضا خارجيّا قائما بذات الفعل كما هو المفروض ، فلا بد أن يصدر بماله من الملاك المعنون به الفعل عن اختيار.

والقطع حيث إنه في مرحلة الامتثال ملحوظ آليّ لا استقلاليّ ، فلا يكاد يصدر الفعل بما هو مقطوع الوجوب أو الحرمة بالاختيار ، فلا يتصف بالحسن والقبح عقلا ، كما لا يتصف بالوجوب والحرمة شرعا.

ودعوى أن القطع صفة حاضرة بنفسها ، فلا حاجة في حضورها إلى الالتفات إليها استقلالا ، وإلا لزم سد باب القطع الموضوعي.

مدفوعة بأن عنوان مقطوع الوجوب والحرمة إذا كان عنوانا للفعل وموردا للتكليف ، فلا بد من أن يصدر

بعنوانه بالاختيار ، ولا يجدي مجرد وجوده ، ولا يقاس بالقطع الموضوعي ، فانه عنوان للموضوع لا لمتعلق التكليف ، فلا يلزم منه سد باب القطع الموضوعي.

نعم احتمال ملازمة هذا العنوان لملاك واقعي قائم ، وصدوره بماله من العنوان عن قصد غير لازم ، كيف والأحكام الشرعية الغير المستندة إلى الأحكام العقليّة لها ملاكات واقعيّة ، وهي غالبا مجهولة ، وموضوعاتها اختياريّة بنفسها ، لا بعناوينها المنتزعة عن ملاكاتها؟

ولا دافع لهذا الاحتمال ، إلا عدم معقوليّة البعث بعد البعث ، إذ الغرض من البعث جعل الداعي للعبد وبعد القطع به ولو كان مخالفا للواقع لا مجال لجعل الداعي ، فإنه تحصيل للحاصل.

مضافا إلى لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع وإن لم يلزم في الواقع ، فيلزم لغويّة الحكم حيث لا يتمكّن من تصديقه ، إلا على وجه الخلف بانعدام الحكم المقطوع به.

إلاّ أنه يجدي بالإضافة إلى البعث والزّجر ، لا بالنسبة إلى الإرادة

٤٠