نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

وحيث إن اعتقاد الصدق الخبري ملازم لاعتقاد الواقع ، فالأمر بالتصديق الجناني يمكن أن يكون كناية عن الأمر بلازمه وهو الاعتقاد بالحكم.

وهذا الأمر كما يمكن أن يكون حقيقة لجعل الداعي إلى تحصيل العلم بالفحص عن الخبر ويمكن أن يكون أمرا بترتيب الأثر المرتب على الاعتقاد فيما إذا كان له أثر عملي ، كذلك يمكن أن يكون هذا الأمر بداعي إظهار معلومية الواقع في المؤدى ليترتب عليه أثره وهو التنجز ، ضرورة أن الاعتقاد بواقعية المؤدى يلازم معلوميّة المؤدى ، فهذا تنجيز للواقع إثباتا لا ثبوتا ، فإنه متكفل لإظهار تنجز الواقع.

وأما تنجيز الواقع ثبوتا فيما (١) يمكن جعله متنجزا من جعل الحجية أو جعل العقاب أو جعل الحكم المماثل الذي لا يلزم منه محذور كما سلكناه سابقا في مقام دفع الاشكال.

ولا يخفى أن هذا البيان لا يجري في التصديق العملي فإن إظهار الصدق وظهور الصدق بالعمل ناش من العمل ، وليس من ظهور الحكم الذي يترتب عليه تنجز الحكم الموجب للحركة نحو العمل ، فلا تغفل.

وقد عرفت مما تقدم أن الأمر الطريقي بوجه آخر وهو جعل الحكم المماثل بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر معقول.

لكنه غير مراد من العبارة لأن ظاهرها أن الحكم الطريقي حيث إنه ليس جعلا للداعي لا يكون فردا مماثلا للحكم الواقعي فلا يراد منه إلا الإنشاء بداعي تنجيز الواقع.

في وجه آخر للجمع بين الحكمين

ثم إن هنا تقريبا آخر في رفع التماثل والتضاد بحمل الأمر الظاهري على

__________________

(١) والصحيح : ففيما.

١٤١

الإرشاد حكاه بعض أجلة (١) العصر عن استاده « قدس سره » وهو أن الأمر بالعمل بالطريق في صورة انفتاح باب العلم الموافق للواقع إنما يعقل فيما إذا كان في تحصيل العلم بالواقعيات مفسدة غالبة على مصلحة ما لا يؤدى إليه الطريق ، فيجب على الحكيم مراعاة ، ما هو أقوى ، وصرف المكلف عن تحصيل العلم بالأمر بالعمل بالطريق.

وحيث إن بعض الطرق أقرب إلى الواقع من غيره ، فللمولى إرشاد العبد إلى كون الخبر أقرب إلى الواقع من غيره ، فالأمر بتصديق العادل ليس حكما مولويا وجعلا للحكم المماثل حقيقة ، بل إرشاد إلى أن قول العادل أقرب إلى الواقع.

وفيه أولا : أن البعث الإنشائي إلى شيء لا بد من أن يكون إرشادا إلى ما في متعلقه من الأثر المترقّب منه المرشد إليه ، فالأقربية صفة في الخبر لا في تصديق العادل ، والمفروض تعلق الأمر الإرشادي بتصديق العادل لا بنفس قول العادل وإخباره.

وثانيا : سلمنا أن معنى الإرشاد هنا هو أن العمل بالخبر عمل بالأقرب وهو عنوان للعمل يرشد إليه.

لكنه ليس كل بعث إنشائي إرشادا إلى أي شيء ، مثلا إذا قيل اعمل بالخبر دون غيره أمكن أن يكون إرشادا إلى أقربية الخبر من غيره.

وأما مجرد الأمر بالعمل بالخبر ابتداء فلا يكون إرشادا بمدلوله إلى كون الخبر أقرب من غيره ، وتخصيص الأمر بالعمل بخصوص الخبر وإن كان يدل بدلالة الاقتضاء وأن التخصيص بلا مخصص محال على أنه أقرب إلى الواقع من غيره ، لكنه لا دخل له بالإرشاد إلى الأقربيّة بنفس البعث.

وثالثا : سلمنا كونه إرشادا إلى الأقربيّة لكنه غير متكفّل لحجّية الخبر لا

__________________

(١) درر الفوائد / ٣٥٤.

١٤٢

جعلا ولا كشفا ، إذ المفروض عدم كونه بصدد جعل الحجية ولا بداعي إظهار تنجز الواقع ، بل بداعي الإرشاد إلى الأقربيّة.

وكون الخبر واقعا أقرب من غيره لا يقتضي عدم تحصيل العلم واستحقاق العقاب على عدم العمل بالخبر إلا بدلالة الاقتضاء وهو أنه لو لم يكن للخبر الأقرب إلى الواقع شأن وأثر لم يكن معنى لقيامه مقام الإرشاد إلى الأقربية لكونه لغوا.

لكنه غير مفيد لأن الكلام في الدليل المتكفل لحجية الظن ورفع التماثل والتضاد عنه مع كونه كذلك.

والأولى بعد فرض الإرشاد جعل الإنشاء بداعي الإرشاد إلى ما في تصديق العادل والأخذ به واستماع قوله من الخروج من تبعة رده وعدم العمل على طبقه ، فيكشف بدلالة الاقتضاء عن حجّيته.

إلا أن الكلام بعد في أن الحجية في مقام الثبوت بأي معنى حتى لا يلزم منه اجتماع المثلين أو الضدين ، فمجرد حمل الإنشاءات على الإرشادية لا يجدي شيئا ، فتدبّر جيّدا.

في دفع التنافي في خصوص الأمارات.

٥٩ ـ قوله « قده » : لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه ... الخ (١)

في قبال المصلحة في المؤدى.

ولا يخفى عليك أن الطريقيّة متقوّمة بعدم مصلحة ما وراء مصلحة الواقع في متعلقه لا بكون نفسه ذا مصلحة ، وإلا فالإنشاء مطلقا يكون الغرض منه قائما به ، وهو : تارة جعل الداعي ، وأخرى جعل المنجز مثلا.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٤٣

وهو غير الغرض من الواجب وهي المصلحة القائمة بذات الواجب.

وحيث إنه ليس في مورد الأمر الطريقي مصلحة زائدة على مصلحة الواقع ، فلا يعقل أن يكون في مورده إرادة تشريعيّة أخرى ، فلا يعقل أن يكون في مورده بعث آخر ، فلا محالة يكون الإنشاء بداعي تنجيز الواقع ، لا بداعي البعث مثلا. وحيث إن البعث الطريقي بداعي تنجيز الواقع وإيقاع المكلف في كلفة الواقع ، فلا دعوة لنفسه بما هو ، ولذا ليس لهذا الأمر الطريقي بما هو مخالفة أو موافقة ، لأن الغرض منه جعل الخبر منجزا للواقع لا جعل الداعي إلى العمل.

نعم هو موجب لدعوة الأمر الواقعي ، وكونه منجزا له بلحاظ أن مخالفة التكليف الذي قام عليه طريق منصوب من قبل المولى ـ بحيث جعله الشارع محققا لدعوة تكليفه الواقعي ـ كمخالفة التكليف الواصل بالحقيقة خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبوديّة ، فيكون ظلما على المولى ، وموجبا لاستحقاق الذم والعقاب.

نعم يمكن تصور الأمر الطريقي كما تقدم بوجه آخر ، وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي لكنه بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر ، فلا مصلحة إلا مصلحة الواقع ولا إرادة تشريعيّة إلا الإرادة الواقعيّة ، ولا بعث حقيقي في قبال البعث الواقعي ، ويترتب عليه تنجز الواقع بهذا العنوان الواصل.

لكن خروجه عن المماثلة المستحيلة مع الإنشاء الواقعي مبني على دخل الوصول في فعليّة الباعثيّة كما قدمناه في أول (١) البحث ، فمجرد عدم تعدد المصلحة وعدم تعدد الإرادة لا يجدي ، بل لا بد من فرض عدم تعدد البعث بالحمل الشائع أيضا.

وحيث إن المصنف العلامة « قدس سره » بصدد إثبات أمر غير مماثل

__________________

(١) التعليقة ٥٥.

١٤٤

للبعث فلا محالة لا ينطبق على ما أفاده هذا التقريب بل التقريب المتقدم.

٦٠ ـ قوله « قده » : وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ ... الخ (١).

ظاهر العبارة وإن كان عدم ثبوت الإرادة والكراهة مطلقا حتى في الحكم الحقيقي في المبدأ الأعلى إلا أن غرضه « قدس سره » كما يكشف عنه آخر كلامه وما تقدم منه في مبحث الطلب والإرادة ، وصرح به في مباحث أخر أن حقيقة الإرادة والكراهة ليست إلا العلم بالمصلحة والمفسدة : فان كانتا بلحاظ نظام الكل كانت الإرادة والكراهة تكوينيّتين. وإن كانتا بلحاظ خصوص أفعال المكلفين كانت الإرادة والكراهة تشريعيّتين ، فليس للإرادة والكراهة مطلقا مصداق فيه تعالى ، إلا العلم بالمصلحة والمفسدة.

وقد نبهنا على ما فيه في مبحث الطلب والإرادة مفصلا (٢). ومجمله أن المفاهيم متخالفة لا مترادفة ، والرجوع الواجب في صفات الواجب هو الرجوع من حيث المصداق ، ومرجع جميع الصفات ذاته الأقدس تعالى وتقدس.

وكما أن حقيقة العلم نحو من الحضور ، وهو تعالى حاضر ذاته لذاته وبتبع حضور ذاته لذاته يعلم مصنوعاته ، كذلك هو عزّ اسمه وجود صرف والوجود المحض محض الخير والخير المحض محض الرضا والابتهاج والمحبة ، ومن أحب شيئا أحب آثاره (٣)

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

(٢) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥١.

(٣) فإن المراد بالذات في مرتبة الذات نفس الذات ولا يعقل أن يكون شيء مرادا بالعرض إلا ما يوجد في دار الوجود بتبع الذات فما يكون مأمورا به إنما يكون مرادا بالإرادة الذاتية إذا كان مما يوجد في الخارج لدخله في النظام التام وهو حينئذ مراد بالإرادة التكوينيّة.

وأما ما لا يوجد في الخارج وإن كان مأمورا به فهو لا يعقل أن يكون مرادا بتبع مرادية

١٤٥

ومنه يعرف الخبير أنه لا أثر للإرادة التشريعية في صفاته تعالى ، ثم إنزال الكتب وإرسال الرسل والبعث والزجر من جملة النظام التام الذي لا أتم منه نظام ، فتكون مرادة بالإرادة التكوينية ، كما في غيره تعالى على ما عرفت سابقا ، فافهم أو ذره في سنبله ، فكل موفق لما خلق له.

٦١ ـ قوله « قده » : فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة ... الخ (١).

قد عرفت سابقا أن الإرادة التشريعية تمتاز عن التكوينية بتعلقها بفعل الغير ، وذلك إنما يعقل إذا كان للفعل المراد فائدة عائدة إلى المريد.

بداهة أن الشوق النفساني إلى شيء بنفسه لا يعقل ، إلا عن فائدة عائدة إلى ذات الفاعل أو قوة ، من قواه ، وهو غير ثابت في الأحكام الشرعية ، فإن مصالح متعلقاتها تعود إلى المكلفين دون الشارع.

نعم إرادة البعث والزجر معقولة حتّى في المبدأ الأعلى وهي إرادة تكوينيّة كما عرفت.

وأما ما أفاده « قدس سره » من أن الحكم الموحى به حكم شأني فلا معنى لظاهره ، إلا الحكم الثابت بثبوت المصلحة نحو ثبوت المقتضى ، بثبوت المقتضي ، فيرجع الأمر إلى أن الموحى به نفس المصلحة الباعثة على الحكم.

وليس الحكم الموحى به كليّة كذلك ، ولا خصوصية في المقام تقتضي ذلك وإن امكن ذلك أحيانا بتفويض الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وفي نعوته صلّى الله عليه وآله المفوّض إليه دين الله ، وإلا فالكتاب الالهي مملو من الأحكام الإنشائية.

__________________

الذات إذ ليس من آثاره ومعاليله ومجعولاته حتى ينبعث من الذات وابتهاجه الذاتي ارادة وابتهاج بما له التخصّص في مرتبة الذات كي يعقل أن يكون الابتهاج الذاتي ابتهاجا به بالعرض وبالتبع ، فافهم جيدا فإنه دقيق. منه عفي عنه.

(١) كفاية الأصول / ٢٧٧.

١٤٦

نعم يمكن أن يراد بالحكم الشأني ما يقابل الفعلي وهو الحكم الانشائي وحينئذ يراد من قوله الموجبة لإنشائه بعثا وزجرا البعث منه صلّى الله عليه وآله فعلا على طبق الإنشاء الموحى به والأمر سهل.

٦٢ ـ قوله « قده » : ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ... الخ (١).

إذ لم يجتمع فردان مما هو تحريك وبعث بالحمل الشائع أو بعث وزجر كذلك بالإضافة إلى فعل المكلف وإن اتفقا فيما هو بعث أو زجر بالحمل الأولي ولا تماثل ولا تضاد إلا بين الشيئين بنحو وجودهما الحقيقي الذي يترتب عليه أثر (٢) المرغوب منه.

٦٣ ـ قوله « قده » : إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ... الخ (٣).

لا يقال : حمل المكلف على خلاف ما هو المراد منه جدا محال ، ولا شبهة أن البعث وإن كان طريقيا يوجب اتصاف الخبر بصفة موجبة لحمل المكلف على الفعل.

فمع المخالفة للحكم الواقعي يوجب حمل المكلف ولو بالواسطة على خلاف ما هو المراد منه جدا.

لأنّا نقول : الداعي إلى الفعل والحامل عليه نفس التكليف الواقعي الواصل بتوسط الحجة الشرعية.

ومع مخالفة الأمارة للواقع لا تكليف في موردها كي يكون داعيا ، واحتمال ثبوت التكليف بواسطة قيام ما ينجّزه على تقدير ثبوته وإن كان حاملا له على الفعل ، إلا أنه لا حامل ولو بالواسطة من الشارع للعبد على خلاف ما هو المراد

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٨.

(٢) كذا في النسخة المخطوطة بغير خطه قده ، والصحيح : الاثر.

(٣) كفاية الأصول / ٢٧٨.

١٤٧

منه جدا ولعلّه « قدس سره » أشار إلى ذلك بقوله فافهم.

٦٤ ـ قوله « قده » : فلا محيض في مثله إلا ... الخ (١).

الإباحة إنما تنافي الإرادة والكراهة النفسانيّتين بالعرض لا بالذات ، إذ لا مقابلة بينهما ، بل الإرادة حيث إنها ملزومة للبعث ، وهو مناف بالذات للترخيص فينافي ملزومه بالعرض.

وكذا تنافيها من حيث المبدأ ، فان الإرادة منبعثة عن كمال الملاءمة للطبع ، والكراهة عن كمال المنافرة للطبع ، والإباحة تنبعث غالبا عن عدم كون المباح ملائما ومنافرا ، وبين الملاءمة وعدمها والمنافرة وعدمها منافاة بالذات ، وبين لازمهما بالعرض.

نعم حيث إن الإباحة هنا منبعثة عن مصلحة موجبة لها لا عن عدم المصلحة والمفسدة في الفعل ، وإلا لم يعقل مزاحمة بين الاّ اقتضاء والمقتضي ، فلذا ينحصر وجه المنافاة في الجهة الأولى ، فلو أمكن انفكاك الإرادة عن البعث الفعلي لم يكن الإباحة هنا منافية للإرادة أو الكراهة الواقعيّة بوجه لا ذاتا ولا عرضا بمعنى أنه لو لم يكن هناك تكليف فعلي من جميع الجهات والمفروض أنه المنافي للإباحة فلا منافاة للإباحة مع الإرادة حتى لا تنقدح بسببها ، فتدبّر جيّدا.

ثم إنه « قدس سره » لم يتعرض لسائر الأصول كالاستصحاب مثلا ، فإنه لا يتعين فيه جعل الحكم التكليفي حتى يرد فيه محذور المماثلة والمضادة ، بل يمكن أن يكون بعنوان اعتبار بقاء الكاشف التام ، أو جعل المنجز في السابق منجزا في اللاحق ، فيكون كالحكم الطريقي في الأمارات.

وربما يقال (٢) : بكون مثل الاستصحاب برزخا بين الأمارات ومثل أصل

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٨.

(٢) القائل هو المحقق النائيني قده. أجود التقريرات ٢ : ٧٨.

١٤٨

البراءة بتقريب أن المرتبة التي يكون بها تلك الصفة النفسانيّة علما لها حيثيتان :

إحداهما حيثيّة الإضافة إلى ما في الخارج ، وبهذا الاعتبار يكون وصولا وانكشافا لما في الخارج.

وثانيتهما حيثية الجري العملي على وفق اليقين بمقتضى الطبع والعادة.

والمجعول اعتبارا في باب الأمارات هي الحيثية الأولى من العلم.

والمجعول اعتبارا في باب الاستصحاب مثلا هي الحيثيّة الثانية منه من دون جعل حكم تكليفي في البابين ، فلا يلزم اجتماع المثلين والضدين.

وانت خبير بأن مرجع اعتبار العلم بما له من الحيثيّة اعتبار تلك الحيثيّة للأمارة أو لمورد الأصل كما هو واضح بملاحظة اعتبار العلم من حيث الانكشاف والوصول ، فان مرجعه إلى اعتبار الانكشاف والوصول التام ، فإن الوصول والانكشاف الأعم من الحقيقي والاعتباري هو الموضوع الذي يترتب عليه حكم العقل بتنجّز الواقع.

مع أن اعتبار العلم بالحيثية الثانية لا معنى له ، إذ الجري العملي عنوان العمل ، وليس موضوعا لأثر عقلا ولا شرعا حتى يكون اعتبار الجري العملي تحقيقا لموضوع ذلك الأثر ، بل قابل لتعلق التكليف به كالتصديق العملي في باب الخبر.

وإن أريد اعتبار المتحيّث بما هو متحيّث ومرجعه إلى اعتبار الكاشفيّة والموصليّة في باب الأمارات واعتبار المحركيّة والسببيّة للجري عملا في الاستصحاب.

ففيه أن اعتبار الكاشفية تحقيق لما به يتنجّز الواقع ، فيكون تحقيقا لموضوع الحكم العقلي.

بخلاف اعتبار المحركيّة والاقتضاء للجري عملا ، فإنه ليس تحقيقا لموضوع ذي أثر عقلا ولا شرعا.

١٤٩

أما شرعا فواضح.

وأما عقلا ، فلأن تنجّز الواقع أثر الوصول والانكشاف ، لا أثر وجود المحرك بما هو حتى يكون اعتباره تحقيقا للموضوع ، بل هو في الحقيقة تحقيق للتحريك الاعتباري نحو العمل وفيه نتيجة محذور اجتماع المثلين مثلا ، فان اجتماع بعثين وتحريكين نحو فعل واحد إذا كان محالا لم يكن فرق بين أنحاء التحريك الاعتباري.

ومنه يعلم أيضا أن تخصيص كل من الأمارة والاستصحاب بحيثيّة من الحيثيّتين يوجب عدم تنجّز الواقع بالاستصحاب ، حيث لم يعتبر فيه الانكشاف ، واعتباره مع اعتبار المحركية فيه يوجب أن يكون الاستصحاب أقوى من الأمارة ، لمكان اشتماله على ما في الأمارة وزيادة.

٦٥ ـ قوله « قده » : بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف ... الخ (١).

قد عرفت سابقا أنه : لو أريد من ذلك الفعليّة من جهة لا من جميع الجهات.

ففيه أن الفاقد لبعض جهات الفعليّة باق على الشأنيّة ، والشيء ما لم ينسد جميع أبواب عدمه لم يوجد ، فهو حكم غير فعلي.

ولو أريد من ذلك كون الفعلية ذات مراتب فالفعلي من مرتبة لا ينافي الفعلي من مرتبة أخرى.

ففيه أن الشدة والضعيف في الطبيعة لا يرفع تماثل فردين من طبيعة واحدة ولا تضاد فردين من طبيعتين متقابلتين ، كما يظهر لمن أمعن النظر في اجتماع سواد ضعيف مع سواد قوي أو سواد ضعيف مع بياض قوي في موضوع واحد.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٨.

١٥٠

وأما إذا أريد من الحكم الفعلي من جهة الحكم بداعي إظهار الشوق المطلق لا بداع البعث والتحريك فهو فعلي من قبل هذه المقدمة.

ففيه ما تقدم سابقا أن الشوق إذا بلغ حدا ينبعث منه جعل الداعي كانت إرادة تشريعيّة ، وهي منافية لإرادة أخرى على خلافها أو الاذن في خلافها ، وإذا لم يبلغ هذا الحد ، فلا يكون القطع به موجبا للامتثال ولا مثل الإنشاء بداعي إظهار الشوق المطلق جعلا للداعي ، إذ لا ينقلب الشيء عما هو عليه كما مر مرارا.

نعم ما أفاده « قدس سره » يتجه على ما اخترناه في حقيقة الحكم الفعلي من أنه الإنشاء بداعي جعل الداعي في قبال سائر الدواعي وما يكون أمره بيد المولى هو هذا المعنى.

إلا أن هذا الإنشاء لا يعقل أن يكون باعثا وداعيا أو زاجرا وناهيا ، إلا إذا وصل إلى العبد كما مر غير مرة.

فإن أريد من الفعلية تمام ما بيد المولى في مقام تحريك العبد كان ما أفاده « قدس سره » وجيها.

والفعليّة الحقيقيّة الموجبة لاتصاف الشيء بالباعثيّة موجها بجهة الإمكان إنما تكون بالوصول إلى العبد.

وعليه ، فمرتبة الفعليّة والتنجّز في جميع الأحكام واحدة ، وحينئذ فالحكم على خلاف الحكم الواقعي على طبق القاعدة ، لا من جهة اللابدّية والجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

٦٦ ـ قوله « قده » : ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ... الخ (١).

هذا ـ بناء على كون الحكم الواقعي إنشائيا محضا لا بداعي البعث

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٨.

١٥١

والتحريك كما بنى « قدس سره » عليه في غير مورد من تعليقته الأنيقة على رسائل شيخه العلامة الأنصاري « قدس سره » ـ في غاية الوضوح.

إلا أن الإنشاء المحض بلا داع هو في نفسه محال ، لاستحالة صدور الفعل الاختياري بلا إرادة ، والإرادة بلا داع.

والانشاء بداع غير داعي جعل الداعي لا يترقب منه فعليّة البعث والزجر ، فلا يكون فعليّته إلا فعليّة الإرشاد أو الامتحان أو جعل القانون ونحوها ، فلا تصل النوبة على أي تقدير إلى هذا المحذور.

وأما الإنشاء بداعي البعث أو الزجر مع عدم كونهما بعثا وزجرا بالحمل الشائع ، إلا بعد الوصول بنحو من أنحائه إلى العبد ، فلا يرد عليه هذا المحذور ، إذ عدم الفعليّة لعدم الوصول ، ومعه فهو حكم بعثي أو زجري.

وحيث إن الفرض فرض الوصول فلا محالة يستحق على مخالفته العقوبة.

وكما أن الوصول بالعلم الذي هو الوصول بلا عناية يوجب إمكان الدعوة ، كذلك الوصول بالخبر الذي اعتبر له وصف الحجية بنحو من الأنحاء المتقدمة يوجب إمكان الدعوة ، ويستحق بمخالفته العقوبة.

نعم بناء على المشهور من إنشاء أحكام مماثلة على طبق ما تضمنه الخبر يكون الداعي نفس هذا الحكم المماثل ، وهو على الفرض واصل.

وكونه هو الحكم الواقعي تعبّدا لا يقتضي عدم الفعليّة ، لما عرفت من أن عدم الفعليّة ليس لأجل خلل فيما يكون أمره بيد الآمر بل لاعتبار الوصول عقلا في إمكان الدعوة ووصول الحكم الظاهري ليس بالتعبد بل بالحقيقة.

٦٧ ـ قوله « قده » : فإنه يقال لا يكاد يحرز ... الخ (١).

بيانه أن الأمارة : إذا كانت مبلغة للحكم الإنشائي إلى مرتبة الفعليّة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٨.

١٥٢

ودلت الأمارة على حكم أدت الأمارة إليه بهذا العنوان ، فلا محالة يكون عنوان الأمارة الحكاية عن حكم فعلي بحسب العنوان.

ومقتضى الحجية جعل الحكم المماثل على طبق المحكي بها والمماثل لحكم فعلي عنوانا حكم فعلي تعبدا ، فيترتب عليه آثار وصول الحكم الفعلي تعبدا.

وأما إذا اختلت إحدى المقدمتين ، فلا موجب للالتزام بجعل الحكم الفعلي تعبدا.

ومن البين أن المقدمة الأولى محل المنع ، حيث لا دليل على كون الأمارة مبلغة للحكم الإنشائي إلى مرتبة الفعلية ، ومجرد الاحتمال والإمكان غير مجد.

والمقدمة الثانية باطلة وجدانا ، إذ الأمارة لا تحكي إلا عن الواقع ، لا الواقع الذي أدت إليه الأمارة ، بل يستحيل إذا كان المراد تأدية شخص تلك الأمارة الحاكية.

لا يقال : لم لا تكون من قبيل الموضوعات المركبة التي أحرز أحد جزأيها بالوجدان والآخر بالتعبد ، وقيام الأمارة وجداني ، والحكم الإنشائي تعبدي ، فيكون مصداقا للبعث الفعلي بحسب الفرض لا بالتعبد بحكم فعلي.

لأنا نقول : لا مساس للأمارة بالحكم التعبدي بل يحكي عن حكم واقعي محض ولا تعبد بكون الواقع مؤدى هذه الأمارة بل مجرد ثبوت الواقع تعبدا بسبب قيام الأمارة على نفس الواقع.

٦٨ ـ قوله « قده » : وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق ... الخ (١).

توضيحه أن حمل الأحكام الواقعية على الإنشاءات الغير الفعلية للفرار عن اشكال القطع بثبوت المتنافين في صورة الموافقة والمخالفة معا.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٩.

١٥٣

وهذا إنما يجدي مع عدم احتمال أحكام بعثية أو زجرية في موارد الأصول ، والأمارات ، وإلا فلا يجدي ، ضرورة أن احتمال ثبوت المتنافيين كالقطع بثبوت المتنافيين في الاستحالة.

فلا مناص لمن يوفق بين الواقعي والظاهري ، إلا إنكار هذا الاحتمال رأسا ولا مجال لإنكاره في نفسه إلا ممن لا يمكنه التوفيق إلا بذلك.

وأما مع حمل الحكم الواقعي على الفعلي من وجه والظاهري على الفعلي بقول مطلق فلا يضره هذا الاحتمال كما أنه لا يرد عليه اشكال عدم لزوم الامتثال.

٦٩ ـ قوله « قده » : بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ... الخ (١).

بداهة تقدم الحكم الواقعي كالمصلحة المقتضية له طبعا على الجهل به والجهل به مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري المتقدم عليه طبعا فهو متأخر عن الحكم الواقعي طبعا بمرتبتين إنما الكلام في ارتفاع المنافاة بالتقدم والتأخر الطبعيّين.

وربما يوجه ذلك بأن اشتمال الفعل المجهول حكمه الواقعي على مصلحة مقتضية للحكم على خلافه أمر ممكن.

وحيث إن هذا المقتضي مرتب على الجهل بالحكم الواقعي الثابت بحيث لولاه لم يكن اقتضاء ، فلا محالة لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثير المقتضي للحكم الواقعي ، إذ المرتب على شيء إما أن يوجد مترتبا فقد أثر المقتضي في كليهما أثره وإما أن لا يوجد فلا مانعيّة ، إذ المانعيّة بعد الوجود.

وأما المقتضي للحكم الواقعي ، فهو أيضا لا يمنع عن تأثير المصلحة المقتضية للحكم الظاهري ، لأن المصلحة المزبورة لا تقتضي في مرتبة الجهل شيئا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٧٩.

١٥٤

ينافي مقتضى المصلحة المقتضية للحكم الظاهري والمانعية تنشأ من التنافي ، إذ المفروض ترتب اقتضاء المصلحة للحكم الظاهري على الحكم الواقعي ، فلم يكن من قبل الحكم الظاهري مانعية حتى يقتضي المصلحة الواقعية خلاف مقتضى المصلحة الظاهرية فيتنافيان ويتمانعان.

ولا تقتضي المصلحة الواقعية في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي شيئا حتى تكون المانعية مختصة بها ، إذ : كما أن موضوع الحكم الواقعي لا يعقل أن يتقيّد بالجهل بالحكم ولا بالعلم به ولا بالأعمّ منهما ، إذ كل ذلك من عوارض عارض الموضوع ، فيلزم عروض الشيء لنفسه.

كذلك المصلحة المقتضية للحكم الواقعي لا يعقل أن يتقيد (١) بشيء من عوارض مقتضاه (٢) للزوم توقف اقتضاء الشيء على اقتضائه ، فالمصلحة الواقعية لا تقتضي في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي شيئا أبدا حتى يعقل التنافي والمانعية.

ولا يخفى عليك أن المصلحة المقتضية للحكم الظاهري كما أفيد لا يعقل أن تكون مانعة ، إذ المانعية بعد الوجود وفرض وجود مقتضاها وتماميتها في الاقتضاء التزام باجتماعهما.

لكنها لا يعقل تمامية اقتضائها لمكان مانعية المصلحة المقتضية للحكم الواقعي عنها لعدم توقف مانعيتها على اقتضائها شيئا في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي.

بيانه أن معنى التقدم والتأخر في المرتبة هو التقدّم والتأخر بالطبع وملاك التقدم بالطبع كما أشرنا إليه في بعضى الحواشي السابقة أن للمسمى بالمتقدم إمكان الوجود ولا وجود للمتأخر بخلاف المتأخر ، فإنه ليس يمكن أن يوجد إلا

__________________

(١) والصحيح : أن تتقيّد ، بالتأنيث.

(٢) والصحيح : مقتضاها.

١٥٥

والمتقدم موجود كالواحد ، فإنه متقدم على الاثنين بالطبع حيث لا يوجد الاثنان إلا والواحد موجود بخلاف الواحد فإن له إمكان الوجود ولا وجود للاثنين ، وهكذا كل علة ناقصة بالإضافة إلى معلولها فإنها متقدمة عليه بهذا النحو من التّقدم.

ومن البديهي أن هذا المعنى من التقدم والتأخر لا ينافي المعية في الوجود الخارجي ، فقولهم المصلحة المقتضية للحكم الواقعي لا تقتضي في مرتبة الجهل شيئا غايته عدم اقتضائها حكما له المعية بالطبع مع الحكم الظاهري لاستحالته كما تقدم ، وذلك لا ينافي اقتضائها حكما له المعية في الوجود الخارجي مع الحكم الظاهري كما هو كذلك قطعا.

فحينئذ يتمحض البحث في أن الاجتماع المستحيل في المتضادين يكفي فيه المعية في الوجود الخارجي ، أو لا بد فيه من المعية بالطبع ، أو عدم كون أحدهما متقدما على الآخر تقدما طبعيّا.

ومن راجع فطرته السليمة يقطع بأن المعية الوجوديّة الزمانيّة كافية في الاجتماع المستحيل إذ المعاندة والمطاردة بين الضدين وغيرهما من أنحاء المتقابلين إنما يكون بحسب الوجود ، وليس مرتبة الطبع من المراتب الوجودية الخارجية كي يقال : إنه لا مزاحم للموجود في هذه المرتبة ، كيف وربما يكون المتقدم والمتأخر بالطبع متساويين في نيل الوجود الخارجي الزماني؟

ويمكن تقريب هذا الوجه بنحو آخر لا يتوقف على لزوم المعية بالطبع في التضاد وملخصه أن كل مقتضيين لم يكن بينهما تمانع في التأثير ، فلا محالة يؤثّر كل منهما.

وهنا كذلك ، لأن مقتضي الحكم الظاهري لإناطته بثبوت الحكم الواقعي والجهل به لا يعقل أن يمنع عما يتوقف عليه.

ومقتضي الحكم الواقعي إنما يمنع عما يزاحمه في التأثير ، وحيث فرض عدم

١٥٦

مزاحمته في التأثير ، فكيف يعقل أن يمنع عما لا يزاحمه؟

ويندفع بأن إناطة مقتضى الحكم الظاهري بما ذكرنا تارة يكون بنحو الشرط المتقدم وأخرى يكون بنحو الشرط المقارن.

أما على الأول ، فالفرض المذكور يقتضي عدم المزاحمة في التأثير ، لكنه يقتضي تأثير مقتضي الحكم الواقعي ، حيث إنه بلا مانع ، وبعد تأثيره أثره لا يعقل تأثير مقتضي الحكم الظاهري لا لوجود المزاحم في التأثير ، إذ لا يترقب من مقتضي الحكم الواقعي تأثير آخر بعد تأثيره ، بل لعدم قابلية المحل للحكم الظاهري لاشتغاله بضده ، والمانع من الاجتماع غير منحصر في تزاحم السببين.

وأما على الثاني ، فمقتضاه المقارنة الزمانيّة بين الشرط والمشروط فيكون تأثير كل منهما مقارنا لتأثير الآخر ، فيقع المزاحمة بين المؤثّرين ، إذ كما أن التقدم الطبعي لا يرفع التضاد بين الحكمين كذلك لا يرفع التزاحم بين السببين وعليه فأصل الإناطة محال : فتدبره فإنه حقيق به.

في بيان وجه آخر للجمع بين الحكمين :

وهنا تقريب آخر لا من حيث ترتب الحكمين ولا من حيث ترتب السببين بل من حيث تعدد موضوع الحكم الواقعي والحكم الظاهري حكي عن بعض الأجلة (١) « قدس سره » ملخصه أن الأحكام لا تتعلق بالموجودات الخارجية حتى يتوهم أن الشرب الخارجي المجهول حكمه مجمع لموضوع الحكم الواقعي وموضوع الحكم الظاهري ، فيلزم اجتماع المتضادين مثلا في موضوع واحد ، بل تتعلق بالموجودات الذهنيّة من حيث إنها حاكية عن الخارج ، والعنوان المتعلق للحكم الواقعي مع العنوان المتعلق للحكم الظاهري لا يجتمعان في الوجود الذهني حتى يكون هناك مجمع عنواني لموضوعي الحكمين ، وذلك لأن

__________________

(١) وهو السيد المحقق الفشاركي الاصفهاني قدس سره حكاه عنه تلميذه المحقق الحائري قدس سره. درر الفوائد : ٢ ـ ٣٥١.

١٥٧

موضوع الحكم الواقعي نفس الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه والشك فيه ، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصف كونه مشكوك الحكم ، فكيف يجتمع لحاظ التجرد ، ولحاظ الاتصاف؟

وبعبارة أخرى موضوع الحكم الواقعي الفعل من حيث نفسه ، وموضوع الحكم الظاهري الفعل بملاحظة ثبوت الحكم له ولحاظه من حيث نفسه ولحاظه من حيث ثبوت الحكم له متنافيان.

وهذا بخلاف الصلاة والغصب فان مجمعهما عنوان الصلاة في الغصب وليس أحدهما ملحوظا بنحو لا يجتمع مع الآخر.

والجواب عنه يتوقف على تمهيد مقدمة وهي أن الماهية : تارة تلاحظ بنفسها بحيث يكون النظر مقصورا ذاتا على ذاتها وذاتياتها من دون إضافتها وقياسها إلى الخارج عن ذاتها ، وهي في هذه الملاحظة ليست إلاّ هي غير واجدة بوجدان ماهوي إلا لذاتها وذاتياتها ، وفي هذه الملاحظة لا تصلح إلا للحكم عليها بذاتها وذاتياتها لا بالخارج عنها ، فإنه خلف ، إذ المفروض عدم مقايستها وإضافتها إلى الخارج عن ذاتها.

وأخرى تلاحظ مقيسة ومضافة إلى الخارج عن ذاتها وهي في هذه الملاحظة لها اعتبارات ثلاثة.

أحدها : ملاحظتها واعتبارها مع ذلك الشيء ومقترنة به كالكتابة مثلا ويسمى بالماهية بشرط الشيء.

ثانيها : اعتبارها مع عدم الكتابة وتسمّى بالماهية بشرط لا.

ثالثها : اعتبارها بحيث لا تكون مقترنة بالكتابة ولا مقترنة بعدمها وتسمى بالماهية اللابشرط القسمي. فاللابشرط المقسمي إنما يكون لا بشرط بالإضافة إلى هذه الاعتبارات الثلاثة دون غيرها ، ولا تعين للماهية إلا أحد هذه التعينات الثلاثة وإلا لم يكن مقسما ، إذ المقسم لا يكون منحازا عن أقسامه ، وإلا لزم

١٥٨

الخلف.

واللابشرط القسمي هو اللابشرط من حيث القيد الذي تكون الماهية باعتباره بشرط شيء تارة وبشرط لا أخرى.

فاتضح أن الماهية من حيث هي والماهية المهملة غير اللابشرط المقسمي ، وأن اللابشرط المقسمي غير اللابشرط القسمي ، وأن اللابشرط من حيث قيد الكتابة والضحك وأشباههما وجودا وعدما هو اللابشرط القسمي دون المقسمي.

وعليه ، فموضوع كل محمول خارج عن مقام ذات الماهية وإن كان لازم ذاتها لا بد من أن يكون له أحد التعينات الثلاثة.

فشرب التتن مثلا لا يعقل أن يتقيد بالعلم بحرمته عند الحكم عليه بتلك الحرمة ، للزوم الخلف على التحقيق.

وكذا لا يعقل أن يتقيّد بعدم العلم بحرمته للزوم الخلف ، مضافا إلى أنه لا يعقل أن يعلم بها مع الالتفات إليها لكون العلم بها طاردا لموضوع الحرمة فكيف يعقل العلم بحكمه؟

ومنه يعلم أن تجرد الموضوع عن العلم بمعنى كونه بشرط لا من حيث العلم غير معقول.

ولا يعقل أيضا أن يكون شرب التتن مهملا من حيث العلم وعدمه ، لما عرفت أن الماهية المهملة ومن حيث هي لا اعتبار لها إذا قيست إلى الخارج من ذاتها كما في المقام ، فإنه مقام الحكم عليها بالحرمة مثلا.

ولا يعقل أيضا أن يكون اعتباره اعتبار اللابشرط المقسمي لما عرفت أن اللابشرط المقسمي لا تعين له إلا أحد التعينات الثلاثة ، فلا محالة يكون تعينه تعين اللابشرط القسمي أي ملاحظة شرب التتن بحيث لا يكون مقترنا بالعلم بحكمه ولا بعدمه ، وحيث إنه كذلك يكون الموضوع محفوظا عند العلم بحكمه وعند عدمه.

١٥٩

فان قلت : المعروف أن ما يستحيل التقييد به يكون الإطلاق مستحيلا من جهته لتقابل الإطلاق مع التقييد تقابل العدم بالإضافة إلى الملكة ، فالإطلاق عدم التقييد بما من شأنه التقييد به ، ومع استحالة التقييد به يستحيل عدم ما من شأنه التقييد.

قلت : القيد إذا كان مما يمكن التقييد به كالإيمان في الرقبة كان عدمه عدم الملكة ، وإذا لم يمكن التقييد به كان عدمه من باب السلب المقابل للإيجاب ، فإن ما يمتنع التقييد به يجب عدمه ، لا أنه يستحيل عدمه ، ولا موجب لكون الإطلاق دائما بالإضافة إلى التقييد من باب العدم بالنسبة إلى الملكة حتى إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق.

فان قلت : إذا كانت الرقبة مطلقة من حيث الإيمان والكفر ، فالرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة كلتاهما محكوم (١) بالحكم ، وليس الأمر كذلك في الشرب المطلق من حيث العلم بحكمه وعدمه ، فإنه يستحيل عروض الحكم على معلوم الحكم وعدمه.

قلت : ليس الإطلاق جمعا بين القيود بل لدفع قيدية الإيمان والكفر ، فذات الرقبة هي المحكومة بالحكم والإيمان والكفر لازم الموضوع لا مقوم الموضوع وإلا لزم الخلف ، فكذا شرب التتن محكوم بالحرمة ، ولازم الموضوع تارة العلم بحكمه وأخرى عدمه لا أنهما مقومان للموضوع حتى يمتنع عروض الحكم.

ولا يخفى عليك أنه لا فرق في الإطلاق بنحو اللابشرط القسمي بين ما إذا كان الإطلاق بلحاظ لوازم الموضوع وعوارضه أو بالإضافة إلى نفس محموله.

فكما أن الرقبة مطلقة من حيث الإيمان والكفر في ترتب وجوب العتق عليه ، كذلك مطلق من حيث وجوب العتق وعدمه ، فإن ما يجب عتقه لا يجب

__________________

(١) هكذا في المطبوع ، لكن الصحيح محكومتان.

١٦٠