نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

الملازمة.

ولذا قلنا : بأن المقدمات وإن كانت لكل منها كبرى عقليّة أو شرعيّة ، إلا أن المقدمات حيث إنها بنحو القياس الاستثنائي مقدم القضيّة وحجية الظن عقلا أو شرعا بمنزلة التالي فمناط عقليّة الدليل عقليّة استلزام المقدم للتالي ، وهذا لا ربط له باستلزام المقدّمتين للنتيجة حتى يقال : إنه دائما عقلي بل استلزام المقدم للتالي بمنزلة الكبرى الكلّية ، فاذا كان استلزام المقدّم للتالي عقليّا كان ما هو بمنزلة الكبرى الكليّة عقليّا.

ومن الواضح أن وضع المقدم ربما يستند إلى شيء ووضع التالي إلى شيء آخر ، مثلا انخساف القمر مستند إلى الحسّ وحيلولة الأرض بينه وبين الشمس مستند إلى الحدس لدخول هذا الحكم في الحدسيّات اليقينيّة ، وكذا تغيّر العالم مستند إلى الحس والحدوث مستند إلى البرهان.

فدليل ذات الملزوم ليس دليلا على ذات اللازم ، بل دليل الملازمة عند وجود أحد المتلازمين دليل على الآخر ، فان معنى الملازمة ثبوت أحد الأمرين عند ثبوت الآخر ، فبسبب الملازمة يحكم بثبوت أحدهما عند ثبوت الآخر ، وما يرى من التلازم بين العلمين ، فهو من جهة ثبوت الملازمة بين المعلومين ، لا أن العلم بأحدهما علّة للعلم بالآخر ليكون سبب العلم بأحدهما سببا للعلم بالآخر.

لا يقال : ليس بابه باب التلازم ليرد عليه ما ذكر بل بابه باب تعيين ما هو الحجّة بدليل الانسداد بالإجماع مثلا ، فيكون تعيينا لما هو مدلول الدليل.

لأنا نقول : قد عرفت سابقا أن المقدمات عن اعتبار الخصوصيّات لا اقتضاء ، فلا يعقل الدلالة عليه واقعا حتى يكون الإجماع مثلا معيّنا لما هو مقتضى المقدمات ، فتدبّر جيّدا.

٣٨١

١٥٢ ـ قوله « قده » : لا يخفى أن الظن باعتبار ظن بالخصوص ... الخ (١).

قد عرفت سابقا (٢) في بيان مقتضى الدليل على الحكومة عدم تعين مظنون الاعتبار لعدم كون الملاك فيه أقوى ليكون كالظن القوى حتى يكون له تعيّن عقلي ليصح الاتّكال عليه شرعا على الكشف.

ومنه ظهر ما في دعوى القطع بكونه حجة على أي حال فراجع ما تقدم.

١٥٣ ـ قوله « قده » : وكان منع شيخنا العلامة ... الخ (٣).

قد مر (٤) مفصلا منافاته لدعوى مساواة القول بحجّية الواصل بنفسه والواصل ولو بطريقه في الترجيح بالقوة ، وقد مرّ دفع المنافاة بينهما فراجع.

١٥٤ ـ قوله « قده » : إلا فيما إذا كان هناك ناف من جميع ... الخ (٥).

فانه مزيل للشك في المسألة الفرعيّة ، فلا يجب الاحتياط فيها ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فانه لا يجوز رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعيّة بالاحتياط في الأخذ بالظنون النافية.

مع أن الاحتياط فيها لأجل التحفّظ على الواقعيّات المنجّزة بالعلم الإجمالي الموجب لجعل الظن حجة فيها حتى تمتثل امتثالا ظنّيا ، فتدبّر.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٣.

(٢) التعليقة ١٤٧.

(٣) كفاية الأصول / ٣٢٤.

(٤) التعليقة ١٤٩.

(٥) كفاية الأصول / ٣٢٤.

٣٨٢

في المنع عن الظن القياسي

١٥٥ ـ قوله « قده » : وتقريره على ما في الرسائل (١) ... الخ (٢).

تعميم الإشكال لصورة الاحتمال بملاحظة أنه لا ثمرة عمليّة لتوجيهه في خصوص الظن القياسي مع القطع بالمنع ، بخلاف ما إذا عمّمناه لصورة احتمال المنع فانه مناف لاستقلال العقل بحجّية الظن مطلقا.

وتقريب الإشكال أن استلزام المقدمات لحجّية الظن بنحو القياس الاستثنائي من باب استلزام المقدم للتالي عقلي كما مر ، فلو لا علية المقدم للتالي بنحو التمامية لا يتحقق الاستلزام العقلي.

وحيث إن التالي قبح ترك الاطاعة الظنّية ، فمنع الشارع عن الاطاعة الظنّية بالظن القياسي يلزم منه أحد محاذير ثلاثة : إما عدم تماميّة الملاك في الظن بما هو ظن وهو خلف لفرض الاستلزام العقلي ووصول النوبة إلى حجية الظن بما هو.

وإمّا انفكاك المعلول عن علّته التامة وهو محال.

وإمّا ارتكاب الشارع للقبيح بترجيح غير الاطاعة الظنّية على الاطاعة الظنّية ، مع أن المفروض أن الظن بما هو ظن مقدم على الشك والوهم لرجحانه عليهما فتقديمهما عليه ترجيح المرجوح على الراجح.

وحيث يستحيل صدور القبيح من الحكيم تعالى ويستحيل انفكاك المعلول عن علّته التّامّة ، فلا محالة يكون الاختلال في الملاك ، فيكشف عن عدم تماميّة الملاك ، ومع عدم تماميّة الملاك كيف يعقل الاستلزام العقلي بين المقدم

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ١ / ٢١٣.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢٥.

٣٨٣

والتالي.

ولا يخفى أن فرض التخصيص في الدليل العقلي بملاحظة المحذور الثاني دون الأول والثالث ، ففرض عدم قبحه من الشارع تخصيص في الدليل لا فرض عدم تماميّة الملاك ولا فرض صدور القبيح بل الأول خلف والثاني محال آخر لمنافاته لفرض الحكمة المانعة عن اختيار القبيح.

ومنه تعرف أن مجرد الالتزام بوجود ملاك الحجّية لا يستلزم التخصيص في الدليل العقلي ، لإمكان فرض الالتزام بقبحه حتى على الشارع مع الالتزام بصدور القبيح منه ، فعدم الالتزام بقبحه عليه تخصيص لا الالتزام بصدور القبيح منه ، فإنه محال آخر لا ربط له بالتخصيص في الدليل العقلي ، فتدبّر جيّدا.

١٥٦ ـ قوله « قده » : بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم وجود ولا علمي ... الخ (١).

فمع المنع عن الظن القياسي ينفتح فيه باب العلم أو العلمي.

ومن الواضح أن ما كان ثبوته معلقا على عدم شيء لا يعقل أن يكون مانعا عن ثبوته ، إذ لا مانعيّة له إلا في فرض ثبوته ، ولا ثبوت له إلا في فرض عدم الشيء المعلّق عليه ، فكيف يعقل ثبوته في فرض ثبوت ذلك الشيء حتى يمنع عن ثبوته.

فمانعيّة حكم العقل عن المنع عن الظن القياسي ممتنعة.

أن مانعيّة المنع عن الظن القياسي عن استقلال العقل بحجّية الظن مطلقا حتى الظن القياسي ممتنعة إذ لا ثبوت لحكم العقل مطلقا مع فرض ثبوت المنع حتى يمنع عن ثبوته.

والجواب عنه أن فرض التعليق على عدم المنع وإن كان مقتضاه ذلك إلا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٥.

٣٨٤

ان الكلام في صحّة التعليق.

توضيحه : أن ما هو مقدّمات دليل الانسداد (١) هو الانسداد الكلّي في معظم الأحكام الغير المنافي للانفتاح الجزئي ، والظنون إذا كانت متساوية في نظر العقل يكون كلها حجّة وإن زادت على ما يفي بمعظم الأحكام للزوم الترجيح بلا مرجّح والتّعيين بلا معيّن من فرض العمل بما يفي بمعظم الأحكام في ضمن طائفة خاصّة من الظنون.

فالمنع عن الظن القياسي وإن كان يوجب الانفتاح الجزئي الموجب لخروجه عن المعظم الذي فرض انسداد باب العلم فيه.

إلا أن الكلام في صحة المنع الموجب لذلك ، لا من حيث لزوم تفويت المصالح الواقعيّة في صورة الإصابة أو اجتماع الحكمين المتنافيين وأشباه ذلك مما يتصوّر في الأمر بالعمل ببعض الظنون في صورة انفتاح باب العلم حتى يقال : بأنه إشكال برأسه يجرى نظيره في الأمر بالعمل بالظن شرعا أيضا ، بل من حيث إنّ تساوى نسبة الظنون في نظر العقل مع فرض الانسداد الوافي بحجّية الظّن عقلا يمنع عن المنع عن خصوص ظن وإخراجه عن دائرة الظنون المتساوي النسبة ، فإبداء التفاوت بنفس المنع يستلزم الدور ، حيث لا يصح المنع إلا مع التفاوت ، فكيف يحصل التفاوت بالمنع حتى يصح تعليق حجّية الظّن على عدم المنع.

فلا محيص عن إبداء التفاوت الموجب لصحة المنع ولاختصاص الملاك العقلي بغيره.

__________________

(١) كذا وردت في النسخة المطبوعة ، وليس عندنا نسخة مخطوطة من هذا الموضع من التعليقة ولو من غير خط المصنف قدس سره لتكون مقياسا في مقام التصحيح ، لكن الصحيح : ما هو من مقدمات الانسداد.

٣٨٥

فنقول : إن في كل ظن من الظنون حيثيّتين شخصيّة ونوعيّة : الأولى غلبة احتمال ثبوت الواقع على احتمال عدمه ، وهذه الحيثية ذاتيّة للظن لا يعقل تفاوت ظنّ دون ظنّ فيها وإن كان يقوى الاحتمال الغالب ويضعف إلا أن أصل الغلبة على احتمال العدم محفوظ في الجميع.

الثانية غلبة صنف من الظنون من حيث المطابقة للواقع ، لا في نظر الظان على صنف آخر من الظنون ، فيكون صنف من الظن غالب المصادفة مع الواقع واقعا ، وصنف آخر منه غالب المخالفة للواقع واقعا ، وما يستحيل خلافه في نظر الظان هو الأول دون الثاني ، فان من يظن من القياس بثبوت شيء واقعا يظن بإصابته شخصا للواقع ، لا أنه يظن باصابة نوعه للواقع ، بل يقطع بمخالفة نوعه في الواقع وإن كان هذا الشخص في نظره مظنون المصادفة ، لكنه لا عبرة بظن إصابته المتقوم به الظن بالثبوت فانه شخصي لا نوعي.

ومن المعلوم أن حكم العقل بالتنزل من الاطاعة العلميّة إلى الظنّية لا من حيث مطلوبيّة صفة الظن بالاطاعة في نفسه لكيلا تتفاوت فيه أفراد الظنون ، بل لأجل مراعاة الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال ، وإنما يكتفى بالاطاعة الظنّية لأجل غلبة إتيان الواقعيات في ضمن المظنونات لغلبة مصادفتها واقعا.

فاذا فرض أنّ صنفا مخصوصا من الظنّ غالب المخالفة مع الواقع واقعا في نظر العقل ، فلا محالة لا يرى موافقته للأحكام الواقعيّة غالبا حتى يستقل بالتنزل إلى مثل هذه الإطاعة الظنّية ، بل يستقل بالاطاعة الظنّية بالظنون الأخر التي بمقتضى طبعها غالب المصادفة مع الواقع.

وكما أن هذه الخصوصيّة إذا استقلّ بإدراكها العقل يستقلّ بالتنزل إلى الاطاعة الظنّية بغير الصنف المتخصّص بتلك الخصوصيّة كذلك إذا كشف عنها الشارع فما به التفاوت تلك الخصوصيّة المنكشفة بمنع الشارع لا نفس منعه فتمام ملاك الحجّية في نظر العقل غلبة الإصابة شخصا ونوعا لا خصوص الأولى

٣٨٦

المقوّمة لكل ظن.

لا يقال : إذا كان همّ العقل الإتيان بالواقع فحيث يظن بالواقع فهو مع قطعه بأن صنف هذا الظن غالب المخالفة للواقع يظن بأن هذا الظن شخصا من الأفراد النادرة الموافقة للواقع فكيف يرفع اليد عنه.

لأنا نقول : ليس ترك موافقة الواقع في شخص ظن تحفّظا من الوقوع في خلاف الواقع لعدم تميّز الأفراد الغالبة من النادرة أمرا مستنكرا ، بل يرى العقل أنه من اللازم عدم موافقة هذا الصنف من الظن ، فإنه وإن كان بحسب الصورة إطاعة للأحكام ظنا ، لكنه بحسب الواقع إضاعة للأحكام نوعا.

هذا كله فيما إذا كان النهي عن الظن القياسي نهيا طريقيّا لم يلحظ فيه إلا غلبة مخالفته للواقع.

وأما إذا كان نهيا نفسيّا حقيقيّا منبعثا عن مفسدة في العمل بالظن القياسي كالأمر بالعمل بالخبر بناء على الموضوعيّة والسببيّة حيث يكشف عن مصلحة في العمل به بعنوان عرضي وإن لم يكن مؤدّاه ذا مصلحة في حد ذاته فالوجه في خروج الظن القياسي عند العقل كشف النهي عن مفسدة عرضيّة في جميع أفراده.

وحيث إن حكم العقل بالاطاعة الظنّية لتحصيل الواقعيّات المتضمّنة للاغراض المولويّة ، فاذا فرض إدراك العقل ولو بواسطة الشارع تضمن موارد الظنون القياسيّة لأغراض ، مولويّة أخر غالبة على الاغراض المولويّة الذاتيّة ، فلا محالة لا يستقل بموافقة الظنون القياسية المتضمّنة لاغراض مغلوبة لاغراض مولويّة أخر ، بل يحكم بترك موافقتها لزوما.

فما به التفاوت هذه الخصوصيّة المستكشفة بمنع الشارع لا نفسه فالاطاعة الظنّية المتضمّنة نوعا للاحكام الواقعيّة المتضمّنة لاغراض مولوية غير مغلوبة لاغراض مولويّة أخر هي التي يستقل بها العقل عند التنزل من الاطاعة

٣٨٧

العلميّة ، لا كلّ إطاعة ظنّية وإن كانت نوعا غير متضمّنة للأحكام الواقعيّة ، أو كانت متضمّنة لضد تلك الأغراض المولوية.

هذا ما هو التحقيق في صحة المنع وعدم منافاته لحكم العقل بحجيّة الظن.

وأما ما يقال (١) : في وجه عدم المنافاة من أن وجه إلزام العقل بالعمل بما يظن كونه حكما واقعيّا تنجز الأحكام الواقعيّة بسبب العلم الإجمالي فما يظن كونه حكما منجزا مظنون العقاب ، فالعقل يلزم بدفعه ، ومع منع الشارع يقطع بعدم العقاب ، فلا موضوع لحكم العقل.

فيندفع بأن منع الشارع لا يكشف عن عدم كونه مظنون العقاب ليكون كاشفا عن تفاوت الظن القياسي مع غيره في ذاتهما ، بل بنفس المنع يزول الحكم ، فلا يبقى ما يظن بثبوته فعلا ليكون منجّزا معاقبا على مخالفته ، والكلام في صحة المنع المزيل للحكم المظنون فلا يقاس الظن بالعقاب بالخصوصيّة المستكشفة من النهي الطريقي أو النهي الحقيقي.

١٥٧ ـ قوله « قده » : فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا ... الخ (٢).

لا يقال : كيف ويجوز العمل بالظن ولا تجري الأصول المورديّة كما هو مبنى حجّية الظن.

لأنا نقول : عدم جريانها غير مستند إلى حجّية الظن ، بل إلى العلم الإجمالي المانع عن جريان الأصول في أطرافه ، فحجّية الظن معلقة على عدم جريانها لا أنها مانعة عن جريانها.

__________________

(١) القائل هو المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد / ٤١٩.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢٥.

٣٨٨

١٥٨ ـ قوله « قده » : بل هو يستلزمه فيما كان في مورده ... الخ (١).

أي يستلزم فعليّة جريان الأصل المنصوب في مورد الظن المنهى عنه لفرض رفع الاطاعة العلمية والظنّيّة ، فلا مانع من جريان الأصل.

لا يقال : فعليّة جريانه مستندة إلى رفع مانعة وهو تنجّز (٢) العلم الإجمالي فرفع الاطاعة العلميّة يصحح جريان الأصل.

لأنا نقول : قد مر (٣) في مقدمات دليل الانسداد أن نتيجة المقدمات تضييق دائرة الأحكام المنجّزة في المظنونات لا رفع التّنجّز الحاصل بسب العلم الإجمالي وإلا لم يكن مقتض للتنزل إلى الاطاعة الظنّية ، فاذا فرض المنع عن الظن في مورد كان معناه تضييق دائرة المنجزات في غير ذلك المورد فهو الموجب لفعليّة جريان الأصول المورديّة فيه.

١٥٩ ـ قوله « قده » : الا كالأمر بما لا يفيده ... الخ (٤).

فان المانع ليس إلاّ استقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنّية بعد التّنزل عن الاطاعة العلميّة.

فكما أن ترك الاطاعة الظنّية مناف لحكم العقل كذلك لزوم الاطاعة الوهميّة والشكّية بالعمل على طبق ما لا يفيد الظن مناف لحكم العقل بالتّنزل إلى الاطاعة الظنّية دون غيرها.

وكما يجاب عن الثاني بأنه لا حكم للعقل مع نصب الشارع كذلك يجاب عن الأول بأنه لا حكم للعقل مع منع الشارع.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٥.

(٢) كذا في نسخة المصنف ، والصحيح : تنجيز.

(٣) التعليقة ١٣٤ و ١٣٥.

(٤) كفاية الأصول / ٣٢٥.

٣٨٩

ويمكن أن يقال : بالفرق بين المقامين فان مورد استقلال العقل بالاطاعة الظنّية دون الوهميّة والشكّية صورة دوران الأمر في باب إطاعة الواجبات والمحرمات المعلومة إجمالا بعد التّنزل عن الاطاعة العلميّة بالاحتياط في جميع الاطراف بين اطاعة تلك التكاليف في دائرة مظنونات التكليف واطاعة تلك التكاليف في دائرتي الموهومات والمشكوكات من التكاليف ، فيرجح الأولى على الثانية لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وأما الاطاعة الوهميّة أو الشكّية زيادة على العمل بمظنونات التكليف بسبب نصب ما لا يفيد الظن ، فلا ربط له بمورد الدوران الذي يحكم العقل بترجيح الاطاعة الظنّية على غيرها بخلاف ترك اطاعة الظن بالتكليف في مورد فانه مناف لاستقلال العقل بلزومها.

نعم إذا فرض دوران الأمر في مورد بين وجوب القصر ووجوب الإتمام مثلا وكان وجوب القصر مظنونا وكان على وجوب الإتمام أمارة لا تفيد الظن فلا محالة يكون وجوب الإتمام موهوما.

فالأمر بالاطاعة الوهميّة دون الظنّية كالمنع عن الاطاعة الظنّية مناف لاستقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنّية دون غيرها في مورد الدوران.

لكن هذا الإشكال إنّما يتوجّه في مثل هذا المورد بناء على أن معنى حكومة العقل بحجّية الظن جعله منجّزا في هذه الحال كالعلم مطلقا ، فان منجّزيّة الأمارة التي لا تفيد الظن في قبال المفيدة للظن عين ترجيح المرجوح.

بخلاف ما إذا قلنا بأن تنجز التكاليف الواقعيّة بالعلم الإجمالي ، وأن معنى حكومة العقل حكمه بلزوم التّنزل إلى الاطاعة الظنّية في قبال الشكيّة والوهميّة فباب المنجّزيّة شرعا غير باب اطاعة التكاليف المعلومة ظنّا ، إذ مع الحجّة الشرعيّة على طرف يخرج الطرف عن دائرة المعلوم بالإجمال فمنجّزيّة الأمارة في غير دائرة لزوم التّنزّل من الاطاعة العلميّة إلى الاطاعة الظنّية ، فافهم

٣٩٠

وتدبّر.

١٦٠ ـ قوله « قده » : واستلزام إمكان المنع (١) لاحتمال المنع ... الخ (٢).

قد مر مرارا أن الظنون إن لم تكن متفاوتة في نظر العقل يكون الكلّ حجة وإن كان زائدا على ما يفي بمعظم الفقه ، فان تعيين ما يفي بالمعظم من بين الكل بلا معيّن ، فمن باب الترجيح بلا مرجح يحكم العقل بحجّية الكل ، فلا بد حينئذ من الالتزام بمانعيّة احتمال المنع عقلا حتى يتعيّن ما لا يحتمل فيه المنع للاقتصار عليه مع وفائه بالمعظم.

ومن الواضح أنه بناء على مبناه « قدس سره » ـ من توجيه خروج الظن القياسي بانتفاء مقدمة من مقدمات الدليل بالنسبة إليه وهو انسداد باب العلم والعلمي ، فمع المنع عنه شرعا قد انفتح باب العلم والعلمي فيه ، فيخرج عن مورد الاستلزام العقلي ـ لا يصح إلحاق احتمال المنع بالقطع به ، بداهة عدم انفتاح باب العلم والعلمي إلا بوصول المنع لا باحتماله فالمانع عن تماميّة المقدمات هو المنع الواصل دون غير الواصل ، فلا يندرج تحت عنوان عدم الحكم بالمقتضى عند وجود مقتضيه إلا مع إحراز عدم المانع ، فمع احتماله لا يحكم بوجود المقتضى حيث عرفت أن المانع هو المنع الواصل وهو جزما غير حاصل.

وهكذا بناء على ما ذكره « قدس سره » في تعليقته الانيقة (٣) من أن همّ العقل تحصيل الأمن من تبعة الواقعيّات المنجّزة ، ومع منع الشارع لا يحصل الأمن من تبعة الواقع عند الاقتصار على موافقة الظن القياسي.

__________________

(١) في نسخة المصنف : مكان المنع عنه.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢٦.

(٣) التعليقة على فرائد الأصول ٩٧.

٣٩١

فلا يمكن إلحاق الظن بالمنع واحتماله بالقطع به أيضا ، لأن الاطاعة الظنية في حد ذاتها موجبة للظن بالفراغ عن تبعة الواقع.

فاذا قطع بالمنع شرعا كشف عن عدم كفاية الشارع بها في امتثال واقعيّاته المنجّزة ، فلا يستقل العقل بالاقتصار عليها.

بخلاف ما إذا لم يكن كاشف عن عدم كفاية الشارع ، فان الإطاعة الظنّية في محتمل المنع وغيره على حد سواء في نظر العقل ، لأن الملاك في نظر العقل تحصيل الظنّ بالفراغ عن الواقع ، وكل ظنّ بالواقع يستلزم الظن بالفراغ عنه.

واحتمال المنع لا يوجب إلاّ احتمال عدم الفراغ في حكم الشارع ، لاحتمال المنع عنه شرعا ، لا أنه يستلزم عدم الظن بالفراغ عن الواقع الذي يتساوى نسبته إلى الشارع وغيره كما بيّناه (١) مفصلا في مسألة الظن بالطريق.

والتحقيق ما قدمناه (٢) من أن المنع إذا كان طريقيّا يكشف عن غلبة مخالفة الطريق الممنوع عنه شرعا للواقع.

وإذا كان حقيقيّا يكشف عن اشتماله على غرض مناف للغرض الأولى الذّاتي : فبواسطة وصول المنع الطريقي أو الحقيقي ينكشف ما يتفاوت به الظن الممنوع عن غيره ، وما لم يصل سواء ظن بمنعه أو احتمل منعه لا ينكشف ما يتفاوت به ظنّ عن ظنّ في نظر العقل ليجب الاقتصار على ما لم يتطرّق إليه احتمال المنع مع وفائه بمعظم الفقه ، للزوم الترجيح بلا مرجّح في نظر العقل الحاكم بحجّية الظن.

وسيجيء إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في المسألة الآتية فانتظر.

__________________

(١) التعليقة ١٤٢.

(٢) التعليقة ١٥٦.

٣٩٢

١٦١ ـ قوله « قده » : لم خصّصوا الإشكال ... الخ (١).

قد تقدم (٢) ما يمكن أن يكون فارقا بين المقامين إلا أحيانا فراجع مع جوابه.

١٦٢ ـ قوله « قده » : ولا يكاد يجدى صحّته كذلك ... الخ (٣).

صحة الشيء في نفسه وإن لم تكن مقتضية لصحّته من جهة عارضه ، لكنك قد عرفت أن ملاك صحّته في نفسه واف بدفع الإشكال في صحّته بلحاظ حكم العقل ، وقد مرّ تفصيله فراجع (٤).

في الظن المانع والممنوع

١٦٣ ـ قوله « قده » : إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص ... الخ (٥).

الإشكال : تارة بلحاظ أن الحكم بحجّية كلا الظنين محال والحكم بحجّية إحداهما بلا مرجح قبيح فإمّا أن يبيّن المرجّح لأحد الظنّين أو يحكم بتساقطهما لاستحالة حجّية المتنافيين.

وأخرى بلحاظ أنّ حجّية الظن مع احتمال المنع عنه فضلا عن الظن لا يجتمعان بداهة منافاة القطع بالحجّية مع احتمال عدمها.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٢٦.

(٢) التعليقة ١٥٩.

(٣) كفاية الأصول / ٣٢٧.

(٤) في التعليقة ١٥٦.

(٥) كفاية الأصول / ٣٢٧.

٣٩٣

ومن الواضح أن الاستقلال في العنوان وتحرير البحث عنه بعد البحث عن المسألة السابقة يقتضي أن يكون محطّ النظر هي الجهة الأولى كما عن شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره ».

وعليه يبتنى على حجّية الظن بالطريق وإلا فلا تمانع من تلك الحيثيّة حيث لا يترقّب دخول الظن المانع.

وأما بناء على تحرير شيخنا العلامة الأستاد « قدس سره » بما يوافق الجهة الثانية ، فهو وإن كانت خلاف الظاهر ممن تعرّض له بعد التّعرض للبحث السابق لكنه لا يبتنى على حجّية الظن بالطريق بل لا يبتنى على حجّية الظن بالواقع أيضا لإمكان قيام الظن المانع على عدم حجّية الظن الممنوع القائم على حجّية شيء.

وعلى أيّ حال فنحن نحرّر البحث بكلتا الجهتين ، فنقول : أما الإشكال من الجهة الأولى ، فيمكن أن يقال : في تقريب حجّية الظن المانع دون الظن الممنوع أن حجّية الظن كلية مقيّدة بعدم المنع الواصل بحيث لا ملاك ولا مقتضي تام الاقتضاء مع وجود المنع الشرعي الواصل فالظن المانع بفرض شمول دليل الحجّية له يوجب انتفاء الملاك والمقتضى التام في طرف الظن الممنوع ، بخلاف الظن الممنوع فانه بفرض شمول دليل الحجّية له لا يوجب انتفاء الملاك في الظن المانع ، بل غاية الأمر أن حجّيته مناف لحجّية المانع ولا يجتمع معه ، لا أنه يوجب انتفاء الملاك فيه لأن وصوله ليس وصول المانع بل وصول المنافي بعين الملاك الذي هو موجود في الظن المانع.

وإذا دار الأمر بين مقتضيين : أحدهما يكون تأثيره رافعا لوجود الآخر ومسقطا له عن تمامية الاقتضاء والآخر يكون تأثيره منافيا لتأثير الآخر لا لتماميّة اقتضائه في نفسه ، فالتأثير للأول ، إذ لا يقبل المزاحمة من الثاني إلاّ بعد تماميّة اقتضائه في نفسه ، ولا يكون تامّ الاقتضاء إلاّ بفرض عدم تأثير الأول ، ولا

٣٩٤

مانع من تأثير الأول إلاّ ما هو تامّ الاقتضاء فيتوقّف مزاحمة الثاني لتأثير الأول على عدم تأثير الأول ، فكيف يكون مانعا عن تأثيره.

ولعل هذا مراد من جعل المسألة نظير دوران الأمر في العمومات بين التّخصيص والتّخصص ، لا أن غرضه أنه عينه ليقال : باختصاصه بالعمومات اللفظيّة لا بالأحكام العقلية.

وبتقريب أوضح وأخفّ مئونة ممّا ذكر أنّ لكل من الظنّ المانع والظنّ الممنوع دلالة التزاميّة عقليّة على عدم حجّية الآخر عقلا ، إذ حجّية كل منهما يستلزم عقلا عدم حجّية الآخر بهذا الدليل العقلي ، لفرض تنافيهما في الحجّية بدليل الانسداد وهذه الدّلالة الالتزاميّة العقليّة مشتركة بين الظنّين من دون تفاضل من هذه الجهة بينهما.

ولكل من الظّنين مدلول مطابقي فالمدلول المطابقي للظن المانع هو المنع شرعا عن الظن الممنوع والمدلول المطابقي للظن الممنوع هو وجوب الصلاة مثلا ولازم هذا المدلول المطابقي عدم حرمة الصلاة لا المنع عن العمل بالظن المانع شرعا.

وعليه فإذا فرض أنّ حجّية الظن عقلا مقيّدة بعدم قيام الحجّة على المنع شرعا عنه ، ففرض شمول دليل الانسداد للظن المانع فرض قيام الحجة عقلا على المنع عن الظن الممنوع شرعا ، فلا ملاك تامّ الملاكيّة لاستقلال العقل بحجّيته.

وفرض شمول دليل الانسداد للظن الممنوع على ما مرّ ليس فرض قيام الحجّة عقلا على المنع عنه شرعا ، فالملاك في الظن المانع على تماميّته وكماله.

فحكم العقل بحجّية الظن الممنوع يوجب انفكاك المعلول عن علّته التّامّة وهو محال ، وحكم العقل بحجّية الظن المانع لا يبقى معه تماميّة ملاك الظن الممنوع ، فلا يلزم انفكاك المعلول عن علّته التّامّة ، فلا محالة يحكم العقل بحجيّة

٣٩٥

ما لا يلزم منه محال.

ويستحيل أن يحكم بحجّية ما يلزم منه محال من دون (١) توقف على ضميمة الدور أو أمر آخر.

هذا بناء على تقيّد الحجّية بعدم المنع شرعا.

وكذا بناء على ما ذكرنا من أن ملاك الحجّية غلبة الإصابة شخصا وعدم غلبة المخالفة نوعا ، فان الظن المانع يكون كاشفا ظنا عن غلبة مخالفة الظن الممنوع للواقع نوعا ، فبضميمة دليل الحجّية يكون حجّة على غلبة مخالفة الظن الممنوع شرعا.

بخلاف الظن الممنوع فانه بضميمة دليل الحجّية لا يكشف عن ذلك ، بل ينافي حجّية المانع مع فرض تماميّة الملاك فيه ، فيجرى فيه ما ذكرنا من المعارضة بين تام الاقتضاء في فرض تأثير الممنوع وغير تام الاقتضاء في فرض تاثير الظن المانع.

إلا أن الاستناد إلى الكشف من هذه الجهة مختصّ بالظن القياسي الذي دلت الأخبار والآثار على غلبة خطئه ، دون غيره خصوصا إذا كان الظن المانع والممنوع من نوع واحد من الأمارات.

بل الأولى الاستناد إلى الكشف عن غلبة المفسدة في العمل به على المصلحة في صورة اصابته للواقع من دون حاجة ملاحظة أقوى الظنين بعد فرض غلبة المفسدة كما لا يخفى وبما ذكرنا تقدر على دفع جميع ما يورد على تقديم الظن المانع.

وأما الإشكال من الجهة الثانية ، فهو عين الإشكال المتقدم في المسألة المتقدمة ، إذ المناط عدم استقلال العقل بوجود المقتضي ، مع عدم إحراز عدم

__________________

(١) على ما ذكره المحقق الآشتياني قدس سره ، بحر الفوائد ١ / ٢٦٨ و ٢٦٩.

٣٩٦

مانعة سواء ظن بوجوده أو احتمل وجوده.

وقد عرفت (١) أن احتمال المانع غير مانع وأن المنع الواصل يوجب عدم تماميّة المقدمات بانفتاح باب العلم والعلمي أو يوجب عدم تماميّة الملاك لفرض انكشاف غلبة الخطاء في الظن الممنوع أو اشتماله على ما ينافي الغرض المولوي كما قرّبناه ، وكل ذلك منتف في فرض عدم وصول المنع.

وقد عرفت (٢) أن الوفاء بمعظم الفقه ليس بنفسه موجبا للاقتصار على الوافي ليقال : إنه لا موجب لحجّية الظن الممنوع حتى يتكلّم في أن الظن بالمنع يمنع عن حجّيته أم لا ، وذلك لأنه مع عدم تفاوت الظنون في نظر العقل لا يتعيّن طائفة منها للحجّية دون غيرها ولو كانت وافية ، لأنه ترجيح بلا مرجّح وتعيين بلا معيّن ، فيكون الكل حجّة بل قد عرفت (٣) سابقا أن الظّن القوي مع كون الملاك فيه أقوى لا يقتصر عليه إلا في مقام الدوران لأن اللازم بحكم العقل التنزل إلى الاطاعة الظنّية من الاطاعة العلميّة ، فكما تجب الاطاعة العلميّة مطلقا لا بمقدار الوفاء بمعظم الفقه ، كذلك تجب الاطاعة الظنّية مطلقا لا بمقدار الوفاء بالمعظم ، وقد أوضحنا كل ذلك مرارا.

نعم من يجعل الحكومة بمعنى حكم العقل بمنجزية الظن في حال الانسداد كمنجّزية القطع على أي حال له أن يقتصر على ما يفي بالمعظم إذ شبهة الخروج عن الدين باعمال الأصول المورديّة تندفع بكون الظن منجّزا بهذا المقدار.

ولعلّ شيخنا « قدس سره » يميل إلى هذا المبنى كما صرح بهذا المعنى في

__________________

(١) في التعليقة ١٦٠.

(٢) في التعليقة ١٦٠.

(٣) في التعليقة ١٤٩.

٣٩٧

غير مورد ، إلا أن المبنى ضعيف كما بيناه مرارا.

وأما ما عن شيخنا الأستاد « قدس سره » في تعليقته المباركة (١) في هذا المقام والمقام السابق من عدم استقلال العقل بالأمن من العقوبة مع ظن المنع أو احتماله وهمّ العقل تحصيل الأمن من العقوبة فلذا يقتصر على ما لا يحتمل المنع عنه شرعا إذا كان وافيا بمعظم الفقه.

فيوضح الجواب عنه أن مقتضى العلم الإجمالي بالأحكام عدم الأمن من عقوبتها إلاّ بموافقتها القطعيّة في ضمن المظنونات والمشكوكات والموهومات.

ومقتضى بطلان الاحتياط كلّية عدم لزوم الموافقة القطعيّة فيما ذكر من الطوائف الثلاث.

ومقتضى بطلان ترجيح المرجوح على الراجح عدم موافقة المشكوكات والموهومات وطرح المظنونات ، فيتضيّق دائرة الأحكام المنجّزة في خصوص المظنونات.

وعليه فيقطع بالأمن من عقوبة الواقعيّات المنجّزة بموافقة المظنونات.

فان كان المراد من عدم الأمن من العقوبة بموافقة الظن الذي يظن بالمنع عنه أو يحتمل المنع عنه موافقة ما يوازيها من المشكوكات والموهومات ، فالواقع فيهما غير منجّز على الفرض حتى يحتاج إلى تحصيل المؤمّن.

وإن كان المراد لزوم الاقتصار على المظنونات التي لا يظنّ ولا يحتمل المنع عنها إذا كانت وافية بمعظم الفقه.

ففيه : أولا ما عرفت مرارا من أن مجرّد الوفاء بمعظم الفقه لا يحقّق الدوران الموجب للاقتصار على ما له تعيّن في نظر العقل ، بل تجب الاطاعة الظنّية

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٩٨

بدلا عن الاطاعة العلميّة وإن كانت أزيد مما يفي بمعظم الفقه.

وثانيا إن الظن بالمنع أو احتماله لا يوجب انتفاء الملاك الموجب لاستقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنّية ، فان الاطاعة الظنّية توجب الظنّ بالفراغ عن الواقع المنجّز مطلقا ، وإنما يختلف ما يظن المنع عنه وما لا يظن المنع عنه بالفراغ في نظر الشارع ، واعتبار الظن بالفراغ في نظر الشارع راجع إلى حجّية الظن المظنون الاعتبار ، ويلزمه عدم حجّية ما لا يظن اعتباره وإن لم يحتمل المنع عنه.

وقد عرفت سابقا (١) عدم تعيّن الظن بالاعتبار في نظر العقل أيضا.

فالتحقيق ما ذكرنا في تحرير البحث بكلا وجهيه فتفطن.

خاتمه : في الظن في أصول الدين

١٦٤ ـ قوله « قده » : هل الظّن كما يتّبع عند الانسداد عقلا ... الخ (٢).

توضيحه أن الواجب في باب الأمور الاعتقاديّة إمّا تحصيل العلم والمعرفة أو عقد القلب على المعلوم بما هو معلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط أو عقد القلب على الواقع.

فان كان الواجب تحصيل العلم أو عقد القلب على المعلوم بما هو ، فلا مجال لإجراء مقدمات الانسداد بل باب الامتثال منسد رأسا ، فان الواجب إمّا هو نفس تحصيل العلم الذي لا سبيل إليه أو متقوّم بالعلم الذي لا سبيل إليه لا أن باب الامتثال العلمي التفصيلي منسد فيتنزّل إلى الامتثال العلمي الإجمالي

__________________

(١) في التعليقة ١٤٧.

(٢) كفاية الأصول / ٣٢٩.

٣٩٩

أو الظّني التّفصيلي.

ومنه يعلم أنه لا مجال لحجّية الظن بالخصوص فيه أيضا إذ لا أثر للواقع حتى يترتب على المؤدّى تنزيلا له منزلة الواقع.

وأما إن كان الواجب عقد القلب على الواقع ، فالعلم منجّز للتكليف وطريق الامتثال عقلا.

فعند انسداد باب العلم وتماميّة سائر المقدمات تصل النوبة إلى حجّية الظن ولزوم عقد القلب عقلا على الواقع المظنون من باب التنزل عن الاطاعة العلميّة إلى الاطاعة الظنّية.

وعدم وصول النوبة إلى الظن لا محالة لاختلال في إحدى المقدمات. ومن المعلوم انسداد باب العلم وعدم جواز إهمال الامتثال رأسا ، وعدم التمكن من الاحتياط التام ، لأن الاحتياط التام بعقد القلب على كلا الطرفين في نفسه غير معقول ، لعدم إمكان الالتزام الجدي بالشيء بنقيضه أو بضده أو بما يقطع بعدمه واقعا ، والواجب في الواقع أحد الأمرين معيّنا فلا معنى للالتزام بنحو التخيير الشرعي لفرض تعيينيّة الواجب شرعا ، ولا للالتزام بنحو التخيير العقلي كما في المتزاحمين ، لأن المفروض وجوب أحدهما معيّنا لا كليهما ليتوهم أنه مع عدم القدرة على امتثالهما معا يتخيّر عقلا بين امتثال هذا أو ذاك.

وأما عقد القلب على الواقع إجمالا ، فلا معنى له إلاّ عقد القلب على الجهة الجامعة والغاء الخصوصيّة.

واستحالة تعلّق عقد القلب بالواقع بخصوصه ، لما مر مرارا أن العلم والشوق وكذا عقد القلب لا توجد مطلقا غير متعلّق بشيء في النفس ولا يعقل تعلقها بما هو غير حاضر في أفق النفس.

كما لا يعقل تعلّقها بأحد الأمرين بخصوصه مرددا ، إذ المردد لا ثبوت له ذاتا ووجودا ماهيّة وهويّة ، فلم يبق إلا تعلّقها بالجهة الجامعة القابلة للانطباق على

٤٠٠