نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

والتحقيق كما يساعده بعض الأخبار ويشهد له الاعتبار أن الآية ليست في مقام المنع عن النفر إلى الجهاد كافة في قبال تخلف جماعة ، بل في مقام المنع عن قصر النفر على الجهاد نظرا إلى أنه كما أن الجهاد مهمّ كذلك التفقّه ، فليكن نفر جماعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله للتفقّه ونفر الباقين إلى الجهاد ، وهو المستفاد من رواية العلل (١) عن الصادق عليه السلام قيل له : إن قوما يروون أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : اختلاف أمتي رحمة فقال : صدقوا فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عزّ وجل : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) إلى آخر الآية. فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ليتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم. إنما أراد اختلافهم من البلدان الحديث.

ويوافقه الاعتبار أيضا ، فانّ النافرين إلى الجهاد من المدينة كان رجوعهم إلى رسول الله ، فيتعلمون منه صلّى الله عليه وآله كما كان كذلك في زمان حضوره من دون حاجة إلى تخلف جماعة لهذه الغاية ، بخلاف النافرين من الأطراف فانهم محتاجون إلى تعلّم الأحكام إذا رجعوا إلى بلادهم والله أعلم.

١١٠ ـ قوله « قده » : ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف ... الخ (٢).

إن كان الغرض صحة التخويف بنفس ما سمعوه من الإمام أو المجتهد فيئول الأمر إلى صدق الإنذار على حكايته.

وإن كان الغرض صحة التخويف استنادا إلى ما سمعوه ، فلا مجال له ، إلا بناء على حجية رأيهم.

وإلاّ فلا وجه لصحة إنذارهم بما رأوه استنادا إلى ما رووه ، كما لا وجه

__________________

(١) ج ١ ص ٨٥ الطبعة الثانية.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٩.

٢٤١

لقبول الإنذار بما هو إنذار.

وظاهر الآية وجوب الإنذار ، لأجل التحذر بما هما إنذار وتحذّر لا بما هما إخبار وتصديق.

لكن الظاهر أن الشيخ الأجل « قدس سره » لا ينكر صدق الإنذار على حكاية العقاب المجعول ، وكيف (١) وصريح كلامه « قدس سره » في رسائله (٢) أن الخبر فيه حيثيّتان حيثية إنشاء التخويف بنقل ما سمعه من الإمام عليه السلام ، وحيثية حكايته لما سمعه منه عليه السلام ، وإنما نظره الشريف « قدس سره » اللطيف إلى أن حيثيّة إنشائه التخويف راجعة إلى فهمه واستفادته من كلام الإمام عليه السلام.

والآية ظاهرة في حجية هذه الحيثية ، لما مر من أن ظاهرها وجوب الإنذار والتحذر بما هما إنذار وتحذر لا بما هما إخبار وتصديق.

وأما الانذار بحكاية العقاب المجعول ، فهو أمر معقول ، ولا يستلزم حجية الإنذار بنقل ما سمعه حجية نقله ، إذ لا فرق بين أنحاء إظهار الفتوى في الحجية سواء كان ابتداء أو بنقل خبر أو بطريق آخر.

وليس هذا مقام عدم القول بالفصل كما في المتن ، إذ الذي لا فصل فيه جزما هو حجية الخبر من حيث كون الناقل مجتهدا أو مقلدا ، لا حجية الخبر عن الرأي أو في مقام إظهار الرأي ، فالخبر حينئذ حجة لا من حيث إنه كاشف عن قول المعصوم عليه السلام ، بل من حيث إنه مظهر لفتوى المفتي.

فالتحقيق أن في آية النفر لا بد من التعميم من وجهين : أحدهما تعميم التفقّه لما إذا علم بالحكم من دون إعمال نظر ورأي ، كما إذا سمع الحكم من

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قده ، لكن الصحيح : كيف.

(٢) فرائد الأصول المحشى ١ / ١١٩.

٢٤٢

المعصوم عليه السلام بكلام صريح فصيح لا يتوقف استفادة الحكم على إعمال رأي ونظر وإلا فلو قلنا : إن التفقّه هو العلم الحاصل للفقيه باعمال النّظر والرأي ، فالآية تكون متكفّلة لحجّية خبر الفقيه من حيث إنه خبر عما تفقّه فيه بإعمال رأيه ونظره ، وإن كان بنفس نقل ما سمعه من المعصوم عليه السلام. وقد عرفت حال عدم القول بالفصل.

ثانيها التعميم من حيث الإنذار بأن يكون الإخبار عن العقاب المجعول المسموع من الإمام عليه السلام بكلام صريح فصيح إنذارا حقيقة ، من دون اختصاص للإنذار بما إذا كان لرأيه ونظره دخل في تحقق الإنذار منه ، فان حجية إنذاره حينئذ ليس إلا حجية خبره عن جعل العقاب لا حجية خبره عما استفاده برأيه ونظره ، فانه على الفرض لا رأي له ولا نظر.

وليس المراد من الإنذار بحكاية العقاب المجعول إنشاء التخويف المقابل للإخبار الذين هما من وجوه استعمال اللفظ في المعنى ، فانه تستحيل كون قضية واحدة خبرية وإنشائية معا.

بل بمعنى أن المراد من حكاية العقاب والداعي إليها تخويف المنقول إليه ، فهذه الحكاية بالعنوان الثانوي إنذار وتخويف ، فتدبر.

ومنه علم أن دفع ما أورده الشيخ الأجل (١) « قدس سره » ليس بدعوى صحة التخويف من الراوي ولو مع عدم حجية رأيه ونظره ، بل بدعوى تحقق الإنذار منه بلا إعمال نظر ورأي ، فتدبر جيدا.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ / ١١٩.

٢٤٣

في آية الكتمان

١١١ ـ قوله « قده » : وتقريب الاستدلال بها أن حرمة الكتمان ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن الآية أجنبية عما نحن فيه ، لأن موردها ما كان فيه مقتضي القبول لو لا الكتمان ، لقوله تعالى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب (٢) فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله ، لا في مقابلة الإيضاح والإظهار.

وما هو نظير ما نحن فيه آية كتمان النساء ما خلق الله في أرحامهن (٣) ، فالملازمة إنما تجدي في مثلها لا فيما نحن فيه.

١١٢ ـ قوله « قده » : فانها تنافيهما ... الخ (٤).

للزوم اللّغوية في الجملة على تقدير حرمة الكتمان مطلقا ووجوب القبول مشروطا. ولا يخفى أن وجوب الإنذار والحذر كذلك بناء على الملازمة ، ولزوم اللغوية مع عدمها ، فان الإطلاق في أحد المتلازمين ينافي الاشتراط في الآخر.

إلا أن يكون نظره « قدس سره » إلى انحصار جهة الاستدلال في الملازمة هنا دون آية النفر ، فالإيراد بالإهمال أو الاختصاص له وجه هناك دون المقام كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٩.

(٢) البقرة : ١٥٩.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

(٤) كفاية الأصول / ٣٠٠.

٢٤٤

١١٣ ـ قوله « قده » : لأجل وضوح الحق بسبب كثرة ... الخ (١).

لا يقال : مثل هذه الفائدة لا يعقل أن تكون غاية للتكليف بالإظهار هنا ، وبالإنذار هناك بالنسبة إلى كل واحد من المكلفين ، مع أن مقتضى إطلاق التكليف ثبوته على كل مكلف وإن عصى الآخر.

لأنا نقول : هذا هو الغرض الأصيل وما يقوم بإظهار كل مكلف أو بإنذاره غرض مقدمي ، ولا يجب الإيصال إلى ذي المقدمة فيما هو ملاك الإيجاب المقدمي ، فتدبر جيدا.

في آية السؤال عن اهل الذكر

١١٤ ـ قوله « قده » : وقد أورد عليها بأنه ... الخ (٢).

قد مرّ الإيراد (٣) عليها وعلى أمثالها بأن الظاهر منها التّعبّد بقول من لعلمه وفقهه دخل في التعبد بقوله ، ولذا قيده به.

والجواب عنه بعد تسليمه بأن الغالب في الصدر الأول هو الإفتاء أو الإنذار بعنوان الرواية ، وإذا وجب التعبد برواية المفتي وجب التعبد برواية غيره لعدم الفصل.

مخدوش بما عرفت مفصلا.

وقد عرفت إمكان تعميم العلم والتفقه ونحوهما لصورة معرفة الحلال والحرام من دون إعمال نظر ورأي ، فلا يكون لقوله إلاّ حيثيّة الخبر عن الحكم (٤).

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠٠.

(٢) كفاية الأصول / ٣٠٠.

(٣) تقدم الإيراد في التعليقة ١١٠.

(٤) تقدم الخدشة وإمكان تعميم التفقه والعلم لصورة معرفة الحلال والحرام في التعليقة : ١١٠.

٢٤٥

وأما دعوى (١) أن ظاهر الآية هو السؤال لكي يعلموا ، فلا يعم ما إذا لم يعلموا.

فمدفوعة بأن الظاهر هو السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد على الجواب ، فيكشف عن حجية الجواب ، فانه على فرض الحجية يكون حجة قاطعة للعذر مصححة لإطلاق العلم عليه ، وإلا فلا.

نعم بين هذه الآية والآيتين المتقدمتين فرق حيث إنه لا أمر بالجواب هنا حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم إفادة العلم كما في إيجاب الإنذار وحرمة الكتمان ، فيمكن إيجاب السؤال إلى أن يحصل العلم بالجواب ولو بجواب جماعة.

هذا كله بالنظر إلى ظاهر هذه الآية مع قطع النظر عن تفسير أهل الذكر بالأئمة عليهم السلام في غير واحد من الأخبار.

مع أن قصر مورد الآية على خصوص الأئمة عليهم السلام لا يلائم مورد الآية كما لا يخفى على من راجعها.

وظني والله أعلم أن أهل الذكر في كل زمان بالنسبة إلى ما يطلب السؤال عنه مختلف : فالسؤال ، عن كون النبي صلّى الله عليه وآله لا يجب أن يكون ملكا أو ملكا وأنه لا يمتنع عليه الطعام والشراب لا بد من أن يكون من غير النبي صلّى الله عليه وآله وعترته عليهم السلام لأنهم محل الكلام ، بل عن العلماء العارفين بأحوال الأنبياء السابقين.

والسؤال عن مسائل الحلال والحرام في هذه الشريعة المقدسة لا بد من أن ينتهي إلى الأئمة عليهم السلام ، فانهم عيبة علم النبي صلّى الله عليه وآله وحملة أحكامه ، فالمصداق حيث إنه في هذا الزمان منحصر فيهم من حيث لزوم انتهاء الأمر إليهم ، فلذا فسر أهل الذكر بهم عليهم السلام ، والله أعلم.

__________________

(١) كما في المتن حيث قال : وفيه أن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب.

٢٤٦

في آية الأذن

١١٥ ـ قوله « قده » : المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص ... الخ (١).

بملاحظة سياق الآية من حيث كونه صلّى الله عليه وآله أذن خير لهم فيصدقهم فيما هو خير لهم وعن الصادق (٢) عليه السلام يصدق المؤمنين لأنه صلّى الله عليه وآله كان رءوفا رحيما بالمؤمنين ، لا بملاحظة تعدية الفعل باللام المشعر بأن المراد تصديقه لهم فيما ينفعهم ويكون لهم لا عليهم. وذلك لأن الإيمان يتعدّى بالإضافة إلى متعلقه دائما بالباء وإلى من يدعو إليه باللام قال تعالى : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ) (٣) ( وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ) (٤) و ( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ) (٥) ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) (٦) و ( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ ) (٧) ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) (٨) ، فكون الإيمان متعديا باللام هنا بالإضافة إلى المؤمنين على طبق طبعه ومقتضاه ، فهو يقرّ لهم ويذعن لهم ويصدق لهم ، واللام في الجميع لام الصلة ، لا لام الغاية ، ولو ذكر ما وقع عليه الإيمان لعدى بالباء.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠١.

(٢) نور الثقلين نقلا عن العياشي ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) الإسراء : ٩٠.

(٤) يوسف : ١٧.

(٥) المؤمنون : ٤٧.

(٦) العنكبوت : ٢٦.

(٧) طه : ٧١.

(٨) آل عمران : ٧٣.

٢٤٧

إنما الكلام في تعديته بالباء في الفقرة الأولى ، مع أن الواقعة على ما ورد في سبب نزول الآية واحدة ، فإنه تعالى أخبره عليه السلام بأن فلانا ينمّ عليك فقبله ثم أخبره النمّام وحلف له بأنه لم ينمّه فقبله أيضا فعيب على ذلك وقيل هو أذن. ومقتضى القاعدة أن يتعدّى بالإضافة إلى المخبر باللام وإلى المخبر به بالباء.

ولعل الوجه فيه ـ مضافا إلى لحاظ التعميم وعدم خصوصية المورد ـ أن مرجع الإيمان بما أنزله الله وأخبر به إلى الإيمان به كالإيمان بصفاته واقعا له تعالى ، فلا مغايرة بالحقيقة فالإيمان دائما يتعلق به تعالى من حيث ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أخباره وإن كان تعالى هو الداعي إليه ، وحيث كان المناسب لمقام النبوة عند تعرض إيمانه بالإضافة إليه تعالى عدم تخصيصه بخصوص شيء مما يتعلق بجنابه تعالى ، فلذا أضاف إيمانه إليه تعالى مطلقا كسائر الموارد ، فتدبره فانه حقيق به.

في الاستدلال بسيرة العقلاء

١١٦ ـ قوله « قده » : إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت ... الخ (١).

لعل غرضه « قدس سره » أن إثبات عدم رادعية الآيات بسبب مخصصية السيرة لها وإن كان دوريّا كاثبات رادعيّة الآيات بسبب عدم مخصصية السيرة لها فانه دوري أيضا ، لكن إثبات الرادعية يتوقف على إحراز الردع بالآيات.

وأما عدم رادعيتها ، فلا يحتاج إلى الثبوت لعدم تقوّم حجية السيرة بثبوت عدم الردع ، بل متقوّمة بعدم ثبوت الردع.

فتزاحم الآيات في الرادعية والسيرة في المخصّصيّة وإن كان يوجب

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠٣.

٢٤٨

سقوطهما عن التأثير ، إلا أنه لا يضر بعدم ثبوت الردع فعلا ، فانه محقق لمكان استحالة الرادعية والمخصّصية ، وإن كان بعد عدم ثبوت الردع لا مانع من حجية السيرة ، فلا مانع من مخصّصيّتها للآيات ، فيثبت بها عدم الردع أيضا.

إلاّ أن الحجية لم يثبت من (١) ناحية مخصصية السيرة ليلزم الدور ، بل من ناحية عدم ثبوت الردع الذي لا مساس له بالمخصصية.

ومنشأ عدم ثبوت الردع تزاحم الآيات والسيرة في الرادعية والمخصصية ، فلا رادع ، كما لا مخصّص من قبل نفس الآيات والسيرة.

والجواب أن الرادعية وإن كانت موقوفة على الإحراز المستلزم للدور ، لكنه كما أن حجية السيرة متقومة في نفسها بعدم ثبوت الردع ، كذلك حجية العام منوطة بعدم ثبوت المخصّص لا بثبوت عدمه ليستلزم الدور.

فكما أنه بعد التزاحم والسقوط يقال : لم يثبت الردع ، فالسيرة حجة ، كذلك يقال : لم يثبت المخصص ، فالعام حجة في مدلوله العمومي ، وفعلية المتنافيين محال.

وربما يورد كما عن بعض أجلة العصر (٢) « قدس سره » عليه بأن حجية السيرة منوطة بالعلم برضاء الشارع وإمضائه ، فعدم العلم به الحاصل من قبل كاف في عدم حجية السيرة وإن كان ثبوت الردع بالآيات مستلزما للدور.

ومبناه على أنه لا ملازمة بين حجية شيء عند العقلاء وحجيته عند الشارع ، فلا بد من إمضاء الشارع ، فالمقتضي للحجية إمضاء الشارع ، وثبوت عدم الردع أحد الطرق الكاشفة عن إمضائه.

ومبنى شيخنا الأستاد « قدس سره » في الاكتفاء بنفس عدم ثبوت الردع هو أن الشارع أحد العقلاء بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل متحد المسلك مع العقلاء فهذا مقتض لاتحاد المسلك ، وردعه الفعلي كاشف عن اختلافه في

__________________

(١) هكذا وردت في النسخة المخطوطة بغير خطه قده ، لكن الصحيح : لم تثبت.

(٢) هو المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد ٣٩٥.

٢٤٩

المسلك ، وأنه بما هو شارع له مسلك آخر.

ومن الواضح أن ردعه الواقعي لا يكون كاشفا عن اختلاف المسلك ليختل به الكاشف الطبعي عن اتحاد مسلكه مع العقلاء من حيث إنه منهم ، فعدم وصول الردع كاف في الحكم باتحاد المسلك ، لعدم المانع عن الحكم بالاتحاد ، وهذا هو الصحيح.

ويمكن أن يقال : في دفع الدور عن رادعية الآيات بأن مزاحمة العمومات مع السيرة الدالة على حجية خبر الثقة من باب مزاحمة تام الاقتضاء وغير تام الاقتضاء ، لأن العام حجة بالذات في مدلوله العمومي لظهوره فيه ، وتقديم الخاص عليه من باب تقديم أقوى الحجتين على أضعفهما ، بخلاف السيرة ، فإن أصل حجيتها الذاتيّة متقومة (١) بعدم الردع الفعلي في مقام الإثبات ، فمقتضى الحجية في السيرة في مقام الإثبات متقومة (٢) بعدم الردع الفعلي ، فعدم الرادع جزء مقتضي الحجّية إثباتا ، لا أنه مانع عن الحجة المفروغ عن حجّيتها.

وعليه ، فمقتضى الحجّية في العام تام ، ولا مانع من تأثيره إلا السيرة التي يتوقف مانعيتها على تمامية اقتضائها ، ويتوقف تمامية اقتضائها على عدم رادعية العمومات عنها ، ويتوقف عدم رادعيّتها مع وجود مقتضيها على مانعية شيء عن تأثيرها ، ولا مانع إلا السيرة التي عرفت حالها ، فمانعيّة السيرة يتوقف (٣) على مانعيّتها.

وبالجملة إثبات الرادعية الفعلية يتوقف على إثبات المقتضي وعدم المانع ، والمقتضي على الفرض موجود ، والمانع مستحيلة المانعية ، فيقطع بالردع الفعلي ، وعدم تمامية المقتضي في السيرة.

نعم يمكن إبداء الفرق بين العام المقارن مع السيرة والمتأخر عنها ، فإن

__________________

( ١ و ٢ ) هكذا وردت في النسخة المخطوطة بغير خطه ، والصحيح : متقوم.

(٣) الصحيح : تتوقف.

٢٥٠

المقارن يتقوّم بعدمه المقتضي ، بخلاف المتأخر عنها ، فإنه يستحيل أن يكون المتأخر رادعا فعليّا عن المتقدم.

فعدم الرادع في موطن انعقاد السيرة هو المقوم لحجّيتها ، والمفروض عدم الرادع هناك ، فيتمّ اقتضائها ، فيكون حجة.

ويدور الأمر في العام المتأخر والسيرة المتقدمة بين أن يكون السيرة المتقدمة مخصصة له أو العام المتأخر ناسخا للحكم الإمضائي ، ورافعا لحجيتها ، ومع عدم الترجيح يكفي استصحاب حجية السيرة الثابتة قبل نزول الآيات الناهية.

ومما ذكرنا يظهر أن مساق الآيات وإن كان عدم اعتناء الشارع بالظن ولو من أول الأمر ، ولذا يتوهم أنه مع تأخرها كاشفة عن عدم إمضاء الشارع لها ، وأنه لا يقين حينئذ بالحجية سابقا حتى تستصحب.

لكنه توهم باطل لما عرفت من أن عدم الرضا الواقعي بل الردع الواقعي لا يمنع عن الحجية ، وإنما يمنع عن الحجية الردع الواصل حين انعقاد السيرة وثبوت الحجية هذا.

إلا أن يقال : أن عدم الردع في زمان يمكن فيه الردع هو المناط في حجية السيرة ، وحيث كان بناء التبليغ على التدريج فلعل زمان نزول الآيات أول أوقات إمكان الردع خصوصا عن مثل ما استقرت عليه سيرة العقلاء في كل ملّة ونحلة.

والتحقيق أنه لا فرق بين العام المقارن والمتأخر إلا من حيث جريان الاستصحاب في صورة تأخر العام بناء على لزوم الدور من الطرفين لا بناء على تقديم الآيات للوجه المزبور ، وإلا فلا مجال للأصل مع وجود الدليل.

وأما من حيث المزاحمة ، فلا لأن أصل حجية السيرة متقومة بعدم الردع حدوثا وبقاء ، فهي وإن كانت حدوثا تام الاقتضاء ، لكنها بقاء غير تام الاقتضاء

٢٥١

فتكون المزاحمة بين تام الاقتضاء وغير تام الاقتضاء من حيث البقاء ، ولذا لم يفرق « قدس سره » في إشكال الدور من هذه الجهة كما لم يفرق غيره أيضا.

مع وضوح أن العام دائما متأخر عن ما بنى (١) العقلاء بما هم عقلاء على العمل بشيء ، فانه لا يختص بزمان دون زمان ولا بملّة ونحلة خاصة.

وربما يتوهم تقديم الآيات الرادعة بوجه آخر وهو أن حجية السيرة بحكم العقل التعليقي ، فلا محالة يرتفع بوجود الحجة التنجيزيّة ، نظرا إلى أن حجية السيرة :

إما من باب حكم العقل بقبح المؤاخذة على أزيد مما استقرت عليه سيرة العقلاء من دون استكشاف رضا الشارع وإمضائه ، فيكون كحكم العقل من باب الحكومة في صورة الانسداد.

وإما من باب حكم العقل بقبح نقض الغرض ، حيث إن بناء العقلاء بمرأى من الشارع ، فلو لم يكن راضيا به وأمكنه الردع ولم يردع لكان ناقضا لغرضه ، وهو قبيح عقلا.

وأنت خبير بما في الوجهين : أما في الأول ، فلأن حكم العقل استقلالا بقبح المؤاخذة على أزيد مما بنى عليه العقلاء لا بد من أن يكون بمقدمات توجب الانتهاء إلى هذا الحكم العقلي كمقدمات الانسداد الموجبة له هناك ، وعدم هذه المقدمات من الوضوح بمكان ، ولا جزاف في الأحكام العقلية.

وأما في الثاني ، فلأن الكبريات الشرعية التي بلحاظها يكون الحكم شرعيا دائما منتهية إلى الكبريات العقلية ، ومع ذلك لم يكن تلك الكبريات الشرعية داخلة تحت الكبريات العقلية ، فلو فرض أن الشارع قال : صريحا بأن السيرة حجة لأمكن إدراجه تحت كبرى عقلية بأن يقال : لو لم يكن الشارع في

__________________

(١) كذا في النسخة المخطوطة بغير خطه ، والصحيح : عما بنى.

٢٥٢

كلامه هذا راضيا بالعمل بالسيرة لكان ذلك منه إغراء بالجهل وهو قبيح عقلا ولا يتوهم متوهم أن حجية السيرة حينئذ من باب قبح الإغراء بالجهل.

وبالجملة تقرير الشارع بعدم ردعه كفعله أو قوله دليل الحجّية شرعا وإن كانت حجية قوله وفعله وتقريره عقليّة فلا تغفل. هذا كله في تقريب رادعيّة الآيات الناهية.

والتحقيق حجّية الخبر بالسيرة وعدم رادعيّة الآيات ، فان ما ذكرنا من كون المعارضة والمزاحمة من قبيل مزاحمة تام الاقتضاء وغير تام الاقتضاء غير تام من حيث البناء والمبني :

أما من حيث البناء ، فلأن ما ذكر إنما يسلم إذا لم يكن عدم تمامية الاقتضاء مستندا إلى تأثير تام الاقتضاء ، ولم يكن تمامية الاقتضاء مساوقة لفعلية التأثير.

وأما السيرة ، فعدم تماميّة الاقتضاء فيها مستند إلى رادعية العام فعلا ، لا إلى غير تأثير العام حتى لا تكون صالحة للمزاحمة ، سواء كان هناك عام أو لا.

كما أن تمامية اقتضائها بعدم تأثير العام مساوق لحجيتها ، إذ لا مانع على الفرض ، والرادع مفروض العدم.

وإذا كان كذلك فتأثير العام منوط بعدم تأثير السيرة إناطة المشروط بشرطه ، وتأثير السيرة منوط بعدم تأثير العام من باب إناطة المقتضي بمقوّمه ، فكلاهما في المنع عن فعليّة التأثير على حد سواء.

وأما من حيث المبني ، فلما تقدم في مبحث حجية الظواهر ولو مع الظن بالخلاف من وقوع الخلط بين المقتضي في مقام الثبوت والمقتضي في مقام الإثبات : وما هو المفروغ عنه في العام هو المقتضي ثبوتا وهو ظهوره العمومي وكشفه النوعي.

وأما المقتضي إثباتا فهو بناء العقلاء ، فلو كان للعقلاء بناءان بنحو العموم والخصوص بفرض بناء على العمل بالعام مطلقا وبناء آخر على العمل بخبر الثقة في قبال العموم لأمكن أن يقال : بأن الشارع أمضى البناء العمومي

٢٥٣

ولم يمض البناء الخصوصي.

وأما إذا كان البناء العملي إما على اتباع الظهور العمومي مطلقا ولو كان في قباله خبر ، أو على اتباعه ما لم يكن في قباله خبر كما هو الواقع ، فلا محالة لا مقتضى لحجية الظهور العمومي فيما يتعلق بخبر الثقة ، وإذا لم يكن منهم بناء عملي ، فلا موقع للامضاء ، فهذا الظهور العمومي لا مقتضى لحجيته في بعض مدلوله ، فلا رادع عن البناء العملي على اتباع خبر الثقة.

وما ذكرناه (١) في مبحث حجّية الظواهر أن نهي الشارع عما بنى العقلاء على اتباعه يمكن أن يكون بإطلاقه نهيا عن رفع اليد به عن الظهور الذي في قباله ، فيكون بالملازمة أمرا باتباع الظهور ، فيكون إثباتا لحجية هذا الظاهر الخاص ابتداء لا إمضاء.

غير جار هنا ، فان النهي الذي يكون أمرا بالملازمة هو هذا الظهور الذي لا مقتضي له ، فكيف يكون هو أمرا باتباع نفسه ، فتدبره ، فانه حقيق به.

ولكنه سيجيء إن شاء الله تعالى في مبحث (٢) الاستصحاب أن عدم بناء العقلاء على العمل بالعمومات الرادعة ليس بملاك العام والخاص ولا بملاك الظاهر والظن بالخلاف كما قدمناه (٣) ، بل بملاك بنائهم على اتباع الخبر ، ولا يعقل بنائهم عملا على طرحه ، ولذا لو ورد ظاهر بالخصوص على المنع عن الخبر لم يكن متبعا عندهم أيضا ، ومع ذلك إذا سئل العقلاء من لزوم اتباع الظهور العمومي أو الخصوصي المانع عن العمل بالخبر على المكلف الملقى إليه ذلك الظهور من قبل مولاه مع عدم حجة أخرى أقوى من قبله يحكمون بلزومه

__________________

(١) في آخر تعليقة ٧٤ حيث قال إلا أن يجعل المنع عن اتباع مثل ذلك الظن شرعا إلى آخره فراجع.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : التعليقة ١١.

(٣) في التعليقة ٧٤.

٢٥٤

عليه ، وأن مخالفته ظلم على المولى.

وقد أجبنا عن (١) الآيات من حيث قصورها في نفسها أو من حيث الحكومة في مبحث الاستصحاب ، فراجع.

ثم اعلم أن تقريب الدور في المقام وأشباهه ليس بملاحظة مقام الثبوت ، فان الوجوب والحرمة أو الوجوب وعدمه أو الحرمة وعدمها أو المنجّزية وعدمها والمبرئيّة والمعذريّة وعدمها (٢) جميعا إما متناقضان أو متضادّان ، ولا توقف للنقيض على عدم نقيضه ، ولا للضد على عدم ضده ، ولا لعدم الضد على وجود ضده.

بل بملاحظة مقام الإثبات ، ولكنه لا من حيث سببيّة الظهور أو الخبر للكشف التصديقي ولو ظنّيا ، إذ لا يعتبر في شيء منهما فعليّة الكشف التصديقي ولو ظنّيا ، والكشف النوعي محفوظ في الدليلين المتعارضين ، ولا يختل الكشف النوعي بورود كاشف نوعي آخر ولو كان أقوى.

بل بلحاظ أن الظهور أو الخبر باعتبار دليل اعتبارهما سبب للكشف القطعي إما عن الحكم المماثل أو عن المنجزية للواقع ، وسببيّة كل منهما للكشف التصديقي عن أحد الأمرين وتأثيره فيه مشروط بعدم تأثير الآخر ، فافهم وتدبر.

في أول الوجوه العقليّة على حجية الخبر

١١٧ ـ قوله « قده » : أحدها أنه يعلم إجمالا بصدور كثير ... الخ (٣).

تقريبه على وجه لا يرد عليه ما أورده شيخنا العلامة الأنصاري (٤) « قدس سره » هو أن العلم الإجمالي وإن كان حاصلا بثبوت تكاليف واقعيّة في مجموع

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : التعليقة ١١.

(٢) والصحيح : عدمها.

(٣) كفاية الأصول / ٣٠٤.

(٤) فرائد الأصول المحشى ١ / ١٤٦.

٢٥٥

الروايات وسائر الأمارات من الإجماعات المنقولة والشهرات وأشباهها ، ضرورة أن دعوى عدم العلم بمطابقة بعض الإجماعات المنقولة والشهرات للواقع خلاف الإنصاف جدا.

إلا أن مجرد تضمن بعض الإجماعات المنقولة وبعض الشهرات لتكاليف واقعيّة لا يجدي ، لاحتمال توافقها مع ما تضمنه الأخبار الصادرة واقعا بحيث لو عزلت الإجماعات المنقولة والشهرات المتوافقة ، مع جملة من الأخبار لم يكن منع العلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعيّة فيما عداها بعيدا ، فالالتزام بالعلم الإجمالي في مجموع الروايات وسائر الأمارات لا يقتضى الاحتياط في تمام الأطراف لمكان احتمال الانطباق على ما تضمنه الأخبار ، فلا علم إجمالي بتكاليف أخر زيادة على ما في الأخبار.

ومما ذكرنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الأستاد « قدس سره » هنا وفي تعليقته (١) الأنيقة على الرسائل ليس مبنيّا على إنكار العلم الإجمالي في الروايات وغيرها بل ، مبني على عدم تأثيره لمكان احتمال الانطباق الراجع إلى قصور العلم الإجمالي عن التأثير في التنجز ، لا مانعية العلم الإجمالي في خصوص الروايات عن اقتضاء العلم الإجمالي الكبير للتنجز كما هو كذلك فيما إذا قامت الحجة المعتبرة على بعض الأطراف ، فان حجيتها : إن كانت بمعنى تنجيز الواقع ، فالعلم الإجمالي لا يعقل أن يكون منجزا للمعلوم على أي تقدير ، إذ أحد التقادير كون الحكم في مورد الحجّة المعتبرة ، والمنجّز لا يتنجّز.

وإن كانت بمعنى جعل الحكم المماثل ، فالعلم الإجمالي لا أثر له ، إلا إذا تعلق بحكم فعلي على أي تقدير ، ولا يعقل أن يكون الواقع في مورد الحجة فعليّا ، لاستحالة اجتماع حكمين بعثيين فعليين في مورد واحد.

__________________

(١) التعليقة على الرسائل / ٧٢.

٢٥٦

بخلاف ما نحن فيه ، فان نسبة العلمين إلى ما تضمنه الأخبار من التكاليف على حد سواء من حيث الفعلية والتنجّز.

بل احتمال انطباق مورد العلم الإجمالي الكبير على مورد العلم الإجمالي الصغير يوجب قصور العلم الاجمالي الكبير عن تعلقه بتكاليف فعليّة زيادة على ما في مؤدّيات الروايات. فهو من قبيل ما إذا علم بوجود غنم موطوء في قطيع الغنم وبوجود غنم مغصوب في ذلك القطيع ، مع احتمال أن يكون المغصوب هو الموطوء ، فلو علم تفصيلا ذلك الموطوء لم يبق إلا احتمال المغصوب في ما عداه.

ومما ذكرنا تبين أن ما أفاده « قدس سره » في تعليقته (١) المباركة في ذيل مانعية احتمال الانطباق عن تأثير العلم الإجمالي الكبير من حجية الأخبار الصادرة وتنجز التكاليف بها مستدرك قال « قدس سره » إلا أن احتمال انطباقها على الموارد التي نهض على التكليف فيها خصوص الأخبار الصادرة ، مع بداهة حجيتها وتنجز التكاليف المدلول عليها وفعليتها ظاهرا مطلقا أصابت الواقع أو أخطأت عنها يكون مانعا عن تنجزها فيما صادفت غير تلك الموارد من الأطراف إلى آخره.

ومن البين أن الموجب للانحلال مجرد احتمال الانطباق الذي معه لا علم إجمالا بتكاليف فعلية أخرى حتى تتنجز بالعلم بها ، لا تعلق العلم الإجمالي بالحجة المنجزة للتكاليف ، فان حجية الأخبار الواقعية أول الكلام ، والمفروض أن المستدل بصدد إثبات كونها بحيث يعامل معها معاملة الحجة ، والمنجز بالحقيقة لتلك التكاليف هو العلم الاجمالي.

مضافا إلى أن العلم بصدور كثير من الأخبار ليس علما بالحجة ، إذ الخبر المفروض صدوره عن الإمام عليه السلام ليس حجة تعبدية حتى يكون العلم

__________________

(١) التعليقة على الرسائل / ٧٢.

٢٥٧

به تفصيلا أو إجمالا علما بالحجة ، ومع ذلك كله فهو مستدرك كما أشرنا إليه ، لما عرفت من أن الموجب للانحلال احتمال الانطباق لا غير ، فتدبر جيدا.

والتحقيق في حسم مادة النزاع أنه لا بد من مراجعة الفقه وملاحظة لأخبار المدونة والإجماعات المنقولة والشهرات وإن (١) كان بعد عزل كثير من الأخبار أو أكثرها الذي ادعى الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله العلم بصدوره وملاحظة الإجماعات المنقولة والشهرات المطابق مضمونها لتلك الأخبار وإن كان (٢) بعد عزل مقدار المعلوم بالإجمال من الأخبار وعزل ما يطابقه من الإجماعات المنقولة والشهرات كان (٣) ضم البقية القليلة من الأخبار إلى بقية لإجماعات والشهرات موجبا لحدوث علم إجمالي في هذه الطوائف المنضمة ، فهو شاهد على أن العلم الإجمالي الكبير يشتمل على تكليف زائد على ما يتضمنه العلم الإجمالي الصغير ، فلا مانع من تنجيزه لتلك التكاليف في أطرافه.

وإن لم يكن الضم بعد العزل موجبا لعلم إجمالي بالتكليف صح ما ادعاه شيخنا الأستاد « قدس سره » ، ولا أظن بعد وفاء المعلوم بالإجمال من الأخبار بمعظم الفقه وقلة الباقي أن يوجب الضم علما إجماليا كما يدعيه الشيخ الأجل (٤) « قدس سره » والله أعلم.

ثم إنه بعد ما فرضنا من انحصار الاحتياط في موارد الروايات بخصوصها نقول : إنها : تارة تكون في قبال الأصول العملية.

__________________

(١) هكذا وردت العبارة في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قده ، لكن الصحيح : فان كان.

(٢) هذه العبارة تكرار لما قبلها إلى قوله والشهرات.

(٣) كلمة كان وردت في النسختين لكن الصحيح زيادتها كما قبلها على ما نبهنا به فضم البقية متعلق بكان الاولى وموجبا خبرها والباقي من العبارة تكرار.

(٤) فرائد الأصول المحشى ١ / ١٤٥ و ١٤٦.

٢٥٨

وأخرى في قبال الأصول اللفظية.

فان كانت في قبال الأصول العملية ، فاما أن تكونا متوافقتين في الإثبات أو النفي ، وإما أن تكونا متخالفتين :

فإن كانت الأخبار مثبتة للتكاليف والأصول أيضا ، كذلك سواء كانت مثبتة لما يماثلها أو لما يضادها موضوعا أو حكما ، فلا ينجز العلم الإجمالي بالإضافة إلى تلك الأخبار المثبتة لما أشرنا إليه آنفا أن مفاد الأصل سواء كان حكما فعليا أو تنجز الحكم الواقعي لا يعقل تأثير العلم في مورده ، لامتناع فعلية الواقع مع فعلية الحكم المجعول على طبق الأصل ، ولامتناع تنجّز المتنجّز.

وبه يندفع توهم تأثيرهما في الحكمين المتماثلين لموضوعين أو المتضادين لموضوع واحد بالاحتياط في الأول والتخيير في الثاني ، إذ مع فعلية وجوب الجمعة مثلا باستصحابه لا علم إجمالي بتكليف فعلي للظهر أو بالحرمة للجمعة حتى يجب الاحتياط في الأول ويتخيّر في الثاني.

وإن كانت الأخبار مثبتة والأصول نافية : فان كانت الأصول النافية بحد يعلم إجمالا بمخالفتها للواقع للعلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار المثبتة المنافية لها فلا مجال للعمل على طبق الأصول ، للزوم المخالفة القطعية العملية ، واجراء بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح.

وإن لم يكن بهذا الحد فالمسألة مبنيّة على جريان الأصول في بعض أطراف العلم الإجمالي وعدمه ، نظرا إلى أنها مغياة بعدم العلم ولو إجمالا بخلاف الحالة السابقة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق القول فيه في دليل الانسداد (١) وفي آخر الاستصحاب (٢).

__________________

(١) في التعليقة ١٣٢.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : التعليقة ١٢٣.

٢٥٩

وإن كانت الأخبار نافية والأصول نافية ، فحالها حال المثبتين ، غاية الأمر أنّ المحذور هناك امتناع الحكمين الفعليين وتنجّز المنجّز ، وهنا لغوية جعل عدم الوجوب فعلا مرتين ولغوية جعل العذر حقيقة مرّتين ، فلا أثر للعلم الإجمالي حينئذ.

وإن كانت الأخبار نافية والأصول مثبتة سواء كانت بحد يعلم إجمالا بمخالفتها للواقع أولا بذلك الحد يتبنى جريانها على شمول أدلة الأصول لصورة العلم الإجمالي بالخلاف.

نعم مثل قاعدة الاشتغال الغير المغيّاة بذلك تكون منجزة للحكم ، ولا أثر حينئذ للعلم الإجمالي ، إذ بعد تنجز الواقع في طرف بالقاعدة يستحيل تعلق العلم الإجمالي بعدم فعليّته ليترتب عليه المعذورية.

بقى الكلام في أثر الخبر النافي حتى يكون العلم به إجمالا مؤثرا ، فان ظاهر الشيخ (١) الأجل « قدس سره » في الرسائل اختصاص تأثير العلم الإجمالي بصورة قيام الخبر على ثبوت التكليف لا نفيه ، وظاهر شيخنا الأستاد « قدس سره » أنه كالخبر المعلوم تفصيلا (٢) فيما له من الأثر ، فأثر العلم به تفصيلا أو إجمالا جواز العمل على طبقه.

وتحقيق القول فيه أن وصول التكليف اللزومي تفصيلا أو إجمالا يوجب التنجز بمعنى أنه يحقق عنوان مخالفة التكليف الواصل المندرجة تحت عنوان الظلم المحكوم عقلا باستحقاق الذم والعقاب ، وعدم استحقاق العقاب بعدم علّته التامة ، وعدمها تارة بعدم المخالفة ، وأخرى بعدم التكليف حقيقة ، وثالثة

__________________

(١) في أواخر الوجه الأول من الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد.

(٢) يعني في المتن حيث قال قدس سره : ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب إلى آخره. كفاية الأصول / ٣٠٥.

٢٦٠