نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

بعدم وصوله ، وهذا الأخير هو المراد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومن الواضح أن وصول عدم التكليف تفصيلا محقق لنقيض ما هو جزء العلة التامة لاستحقاق العقاب ، ووصوله بالحجة الشرعية محقق للنقيض تنزيلا.

بخلاف وصوله (١) إجمالا فانه يجتمع مع احتمال التكليف ، فلا يكون محققا للنقيض ، ويجتمع مع الحجة على التكليف ، فلا يكون معذرا عن مخالفة التكليف ، فلا بد في دفع احتمال التكليف من حيث التأثير في العقوبة بالتشبث بعدم وصوله لا بوصول عدمه الغير المنافي لاحتماله بل للحجة على ثبوته ، فالعلم الإجمالي بعدم التكليف لا أثر له عقلا ولا شرعا.

وقد عرفت آنفا أن العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار ليس علما بوجود الحجة ، بل علم بصدور المخبر به ولهذا العلم يراد أن يعامل مع الخبر معاملة الحجة ، فليس العلم الإجمالي بالخبر النافي علما بالمعذر الشرعي ، فتدبر جيدا.

ومما ذكرنا تبين أن ما أفاده (٢) الشيخ الأجل « قدس سره » من أن مقتضى

__________________

(١) يعني بخلاف وصول عدم التكليف اجمالا فانه لا يترتب عليه الأثر وهو تحقق نقيض ما هو جزء العلة التامة لاستحقاق العقاب مع انه كان يترتب فيما كان وصوله تفصيلا ولذا يجتمع مع الحجة الشرعية على التكليف كما اذا علم اجمالا بنجاسة أحد الكأسين مع العلم بطهارة الآخر فان عدم التكليف واصل اجمالا لكن لا يترتب عليه الاثر لوجوب الاجتناب عن النجس في البين شرعا وبما انه غير معلوم تفصيلا فيجب الاجتناب عن الكأسين عقلا ليحصل الموافقة القطعية وعليه فاذا علم بعدم التكليف اجمالا كما اذا علم بعدم نجاسة احد الكأسين وطهارته وشك في نجاسة الآخر وطهارته لم يصح التمسك بوصول عدم التكليف اجمالا لدفع احتمال التكليف من حيث التاثير في العقوبة لأنه لا ينافي احتمال التكليف ولا يرفع اثره بل لا ينافي الحجة على ثبوت التكليف بالنسبة الى الكأس الآخر وحينئذ فاللازم في دفع احتمال التكليف هو التمسك بعدم وصول التكليف فانه الذي يرفع أثر الاحتمال لا وصول عدم التكليف اجمالا فانه لا يترتب عليه أثر لا شرعا ولا عقلا.

(٢) تقدم الإشارة إليه في التعليقة حيث قلنا في أواخر الوجه الأول إلى آخره.

٢٦١

هذا الدليل وجوب العمل بالخبر والخبر النافي لا يجب العمل به.

مدفوع بأن أثر العلم ليس الوجوب عقلا ولا شرعا حتى لا يعقل في الخبر النافي ، بل أثره التنجز ، وعدمه ليس مستندا إلى العلم الإجمالي بالنفي ، بل إلى عدم العلم بالتكليف ، كما أن المعذريّة أثر الحجة الشرعية المجامعة مع احتمال التكليف.

كما أن ما أفاده (١) شيخنا العلامة الأستاد « رحمه الله » من جواز العمل على طبق الخبر النافي لا يرجع إلى محصل ، فان الجواز التكليفي من العقل بما هو غير معقول كسائر الأحكام التكليفية منه. وبمعنى المعذريّة كذلك ، لأنه أثر الحجة الشرعية كما عرفت. وبمعنى عدم التنجز مستند إلى عدم وصول التكليف حقيقة وتنزيلا ، لا إلى وصول عدمه إجمالا كما عرفت مفصلا هنا. هذا كله إذا كانت الأخبار المعلومة الصدور إجمالا في قبال الأصول العمليّة.

وإن كانت في قبال الأصول اللفظية من عموم أو إطلاق أو نحوهما ، فلا أثر للعلم الإجمالي بالإضافة إلى الخبر النافي ، لأن الظهور حجة إلى أن تقوم حجة أقوى على خلافه.

ومن البين أن أطراف العلم الإجمالي يؤخذ بها من باب الاحتياط لا من حيث الحجية حتى يكون من قبيل قيام أقوى الحجتين على أضعفهما.

في الوجه الأول عقلا على حجية الظن

١١٨ ـ قوله « قده » : وأما الكبرى فلاستقلال ... الخ (٢)

لا يذهب عليك أن ترتب الأثر المهم من الحجية إما أن لا يحتاج إلى

__________________

(١) قد عرفت التنبيه عليه.

(٢) كفاية الأصول / ٣٠٨.

٢٦٢

كبرى عقلية أصلا ، وإما أن يحتاج إلى كبرى عقلية بملاك الحسن والقبح ، وذلك لأنه : إن أريد بالضرر العقوبة ، فمن الواضح أن تسليم الصغرى وهو الظن بالعقوبة للظن بالحكم كاف في المقصود من دون إضافة كون الضرر المظنون مما يفر عنه كل ذي شعور أو مما التزم بدفعه العقلاء عملا ، ضرورة أن المراد من الحجية تنجز الواقع عند إصابة الطريق ، والظن بالحكم لو سلم كونه ملازما للظن بالعقوبة كان كذلك وإلا لم يكن ظنا بالعقوبة ، فلا حاجة في ترتبها عند إصابة الظن إلى حكم من العقلاء أصلا.

وإن أريد بالضرر المفسدة ، فمن البين أن مجرد كون الضرر مما يفر عنه كل ذي شعور أو مما التزم بدفعه العقلاء عملا من حيث إنهم ذوو شعور لا يجدي في ترتب العقوبة على مخالفة المظنون ، إلا إذا اندرج في القضايا العقليّة بملاك الحسن والقبح حتى يكون فعله مما يذم عليه عند العقلاء فيكون مما يعاقب عليه شرعا.

١١٩ ـ قوله « قده » : إلا أن يقال إن العقل وإن لم يستقل ... الخ (١).

قد مر غير مرة أن استحقاق الذم والعقاب عقلا مترتب على هتك حرمة المولى وهو ظلم عليه.

ومن الواضح أن عنوان الظلم والخروج عن زي الرقية ورسم العبودية لا يصدق إلا إذا كانت مخالفة التكليف مخالفة لما قامت عليه الحجة عقلا أو شرعا ، والظن بمجرده ليس كذلك ، إذ المفروض أنه في نفسه ليس حجة عقلائية والغرض معاملة الحجة معه بكبرى دفع الضرر المظنون المتوقف على حجيته في نفسه حتى يتحقق موضوع القاعدة وهو الظن بالعقوبة.

وأما كونه حجة شرعا واقعا ، فلا يحقق موضوع القاعدة ، لأن الحجية

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠٩.

٢٦٣

الشرعية سواء كانت بمعنى جعل الحكم المماثل أو بمعنى تنجيز الواقع يتقوم بالوصول عقلا :

أما على الأول ، فواضح ، لأن الحكم المماثل كنفس الحكم الواقعي من حيث عدم الأثر إلا بعد الوصول ، وإلا لكفى نفس وجود الحكم الواقعي في استحقاق العقوبة على مخالفته من دون حاجة إلى جعل الحكم المماثل على طبقه.

وأما على الثاني ، فلأن وجود الحكم المجعول لو كان كافيا في تنجزه بمجرد الظن به أو احتماله لما كانت حاجة إلى جعل التنجز من الشارع ، فجعل التنجز واقعا كجعل الحكم واقعا لا أثر له عقلا.

هذا إذا كانت العقوبة بحكم العقل.

وأما إذا كانت بجعل الشارع ، فكما أن مقتضى قاعدة اللطف البعث إلى ما فيه المصلحة والزجر عما فيه المفسدة لإيصال العباد إلى مصالحهم ودفع وقوعهم في المفاسد كذلك مقتضى قاعدة اللطف إيصال البعث والزجر تحصيلا لذلك الغرض.

وكما أن جعل العقاب لغرض تمامية اقتضاء البعث والزجر للدعوة في نفوس العامة ، كذلك عين هذا الغرض يقتضي إيصال جعل العقاب تحقيقا للدعوة ، وإلا فوجوده الواقعي لا يحقق الدعوة.

وعليه ففعليّة استحقاق العقوبة عقلا وشرعا بفعليّة الحجّة الشرعيّة المحقّقة لعنوان الظلم المحكوم باستحقاق الذم والعقوبة عليه في الأول ، وبفعلية جعل العقاب بوصوله في الثاني فلا معنى لعدم استقلال العقل باستحقاق العقوبة وعدم استقلاله بعدم استحقاقها ، بل إما يحكم بالاستحقاق أو بعدمه. بل الاستحقاق حيث إنه على فرضه « قدس سره » بحكم العقل كما هو المعروف أيضا ، فلا معنى لعدم الجزم بأحد الطرفين ، لأن هذا الحكم من العقلاء ، ليس مترتبا على عنوان يعلم صدقه تارة ويشك فيه أخرى ، بل هو عبارة عن بناء

٢٦٤

العقلاء عملا على المدح والذم ، وبنائهم في مخالفة التكليف المظنون إما على الذم أو لا ، فلا تغفل.

١٢٠ ـ قوله « قده » : ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك ... الخ (١)

قد عرفت (٢) أن مجرد فرار العقلاء عملا عن الضرر المقطوع أو المظنون أو المشكوك : إما مستدرك إذا كان المراد به العقوبة ، إذ المفروض ترتبها لو كانت ثابتة واقعا سواء كان حكم من العقلاء على دفعه أم لا.

وإما لا يجدي مجرد فرارهم عنه إذا كان المراد به غير العقوبة من المضار الدنيوية ، إذ لا يتم أمر الحجّية إلا بعد ترتب استحقاق العقوبة على عدم دفعه ، وهو بمجرد بناء العقلاء على دفعه عملا غير ثابت كما لا يخفى.

بل التحقيق أنه ليس من موارد قاعدة التحسين والتقبيح : أما إذا أريد به العقوبة ، فلأن الإقدام على ما يترتب عليه العقوبة بحكم العقل أعني المعصية ليس موردا لذم آخر أو لعقوبة أخرى من العقل والشارع.

مع خروجه عما فيه ملاك الحسن والقبح من جهة أخرى ، إذ استحقاق الذم والعقاب ليس مما اقتضاه البرهان بل داخل في القضايا المشهورة الميزانيّة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاء للنوع.

ومن البين أن الإقدام على ما يستحق العقاب عليه إذا قطع النظر عن الجهة المقتضية لاستحقاق العقاب لا يؤدى بنوعه إلى اختلال النظام وفساد النوع ، إذ الأمر المترتب على هذا الإقدام غير مربوط بهذا النظام ، بل لو ترتب العقاب لكان في الآخرة ، فتدبره فانه دقيق.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠٩.

(٢) في التعليقة : ١١٨.

٢٦٥

وأما إذا أريد به الضرر الدنيوي ، فلأن تحمل المضار لا يؤدى إلى اختلال النظام وفساد النوع بخلاف الإضرار بالغير ، ولذا لا شبهة في عدم القبح في تحمل المضار لجلب منفعة ، بخلاف إضرار الغير لإيصال نفع إليه فليس الوجه في عدم قبح إضرار الشخص بنفسه جبره بمنفعة عائدة إليه ، وإلا جاز مثله بالنسبة إلى الغير.

نعم إدخال الضرر بلا نفع يعود إلى الشخص لغو لا يقدم عليه العقلاء لا أنّهم يذمّون المقدم عليه بملاك إخلال ذلك الإقدام بالنظام.

ومنه تعرف أن دفع الضرر المقطوع فضلا عن غيره غير واجب بملاك الحسن والقبح.

١٢١ ـ قوله « قده » : إلا أنها ليست بضرر على كل حال ... الخ (١).

بل يكفي كونها ضررا في بعض الأحوال بناء على ما تقدم (٢) منه « قدس سره » من استقلال العقل بدفع الضرر المشكوك كالمظنون ، فان الظن بالمفسدة يجامع احتمال كونها مضرة ، فيجب دفعها من حيث لزوم دفع الضرر المحتمل.

١٢٢ ـ قوله « قده » : مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ... الخ (٣).

هذا إنما يجدي لو قيل : بكفاية مجرد المصلحة وعدم المفسدة في التكليف ، فانه حينئذ لا يلازم الظن به الظن بهما في متعلقه.

بخلاف ما إذا قيل : بلزومهما في التكليف زيادة على المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه ، فان الظن بالتكليف الفعلي يلازم الظن بوجود كل ما له

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٠٩.

(٢) كفاية الاصول : ٣٠٨.

(٣) كفاية الأصول / ٣٠٩.

٢٦٦

دخل في فعليّة التكليف نفسا ومتعلقا ، وليس الظن متعلقا بدوا بالمصلحة أو المفسدة في الفعل حتى لا يجدي في وجوب الاستيفاء أو الاحتراز شرعا ، لإمكان عدم تمامية مصلحة التكليف بنفسه أو وجود مفسدة فيه ، بل المفروض الظن بهما من جهة الظن بالتكليف الفعلي.

ولا يخفى عليك أن مسلكه « قدس سره » هو الثاني.

١٢٣ ـ قوله « قده » : ولا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة ... الخ (١).

نعم عن الشيخ « قدس سره » في العدة (٢) إلحاق ما لا يؤمن مفسدته بما علم مفسدته في قبح الإقدام عليه مستشهدا بقبح الإخبار بما لا يعلم كقبح الإخبار بما علم عدمه.

والقياس بلا وجه لأن القبيح عقلا في باب الكذب هو الكذب المخبري دون الخبري ، لاستحالة إناطة استحقاق الذم عند العقلاء بالخارج عن الاختيار.

ومن الواضح أن القول بغير علم كالقول بما علم عدمه من حيث مناط القبح ، وهو عدم العلم الوجداني بالمخبر به ، فالقول بغير علم بحسب اعتقاد المخبر قول بغير الواقع بحسب اعتقاده ، إذ لا واقع للموجود في اعتقاد المخبر إلا ظرف وجدانه ، وهو معدوم فيه قطعا.

وأما حكم العقل بدفع المفسدة المحتملة ، فقد عرفت سابقا أنه إن كان الحكم العقلي بملاك التحسين والتقبيح العقليين ، فهو مجد في ترتب الأثر المترقب من الحجية ، وإلا فلا.

ومن المعلوم أن المفسدة ليست ضررا كما عرفت ، وعلى فرضه ليست

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٠.

(٢) عدة الأصول : ١١٨.

٢٦٧

داخلة تحت الكبرى العقليّة بملاك التحسين والتقبيح.

وأما وجوب دفع المفسدة بملاحظة وجوب تحصيل الغرض وحرمة تقويت الغرض ونقضه.

ففيه أن الغرض الواقعي لا يجب تحصيله عقلا ولا يحرم نقضه ، فحال الغرض الواقعي حال البعث والزجر المنبعثين عنه واقعا ، فكما أن مخالفة البعث الذي لا حجة عليه ليست ظلما يستحق عليه الذم والعقاب ، كذلك عدم تحصيل الغرض الواقعي ونقضه ، فانه ما لم يقم حجة عليه لا يكن (١) ظلما مذموما.

بل التحقيق أن القطع بالمفسدة والمصلحة الواقعيّتين كذلك ، لما مر أنهما من قبيل المقتضي للبعث والزجر ، لا العلة التامة لهما.

ومع احتمال المفسدة الغالبة في البعث والزجر لا تكون المصلحة والمفسدة غرضا ملزما حتى يكون القطع بهما قطعا بالغرض الملزم ليجب تحصيله ويحرم نقضه. وقد مر تحقيقه في أوائل مباحث القطع (٢) فراجع.

في الوجه الثاني عقلا

١٢٤ ـ قوله « قده » : لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح ... الخ (٣).

لا يخفى عليك أن المراد من الراجح والمرجوح ما هو كذلك بحسب الأغراض المولوية لا الأغراض الشخصية ، فانه محال لا قبيح ، لاستحالة تأثير الأضعف دون الأقوى.

فالترديد هنا بين إرادة الراجح بحسب غرض الفاعل والراجح بحسب

__________________

(١) هكذا وردت في المخطوط بغير خطه قده والصحيح لا يكون.

(٢) في التعليقة ٩ فراجع.

(٣) كفاية الأصول / ٣١٠.

٢٦٨

الغرض المولوي بلا وجه.

كما أن موافقة المرجوح بحسب الغرض المولوي للغرض العقلائي لا تخرجه عن المرجوحية ، بتوهم أنه راجح عقلا ، فلا معنى لحكم العقلاء بقبحه ، وذلك لأن الغرض العقلائي يوجب الرجحان في حد ذاته لا الرجحان بالفعل ، إذ مقام العبودية والمولوية محفوظ عند العقلاء أيضا ، فليس للعبد ترجيح ما يوافق الغرض العقلائي على الغرض المولوي.

فحينئذ نقول : إن الظن بوجوب شيء وإن كان يقتضي رجحان الوجوب على غيره ، لكنه بالاقتضاء لا بالفعل ، وإنما يصير الراجح بالذات راجحا بالفعل ما لم تكن أمارة معتبرة مقتضية لغيره أو أصل معتبر مقتض لغيره ، وإلا لكان الراجح بالفعل غيره. فتمامية هذا الدليل يبتني على مقدمات الانسداد حتى يتمحض المسألة في الظن والوهم مثلا ليقال : إن الامتثال الظني أرجح من الامتثال الوهمي. ومرجع الجواب حينئذ إلى منع الصغرى وأنه لم يعلم قبل تمامية مقدمات الانسداد أن موافقة الظن راجحة بالفعل لتدخل تحت عنوان ترجيح المرجوح على الراجح.

مضافا إلى ما مر من أن الأثر المهم من الحجّية استحقاق العقوبة على المخالفة ، فالكبرى العقلية لا بد من أن تكون بملاك التحسين والتقبيح العقليّين بملاحظة اندراج الموضوع المحكوم بالقبح تحت عنوان يكون بنوعه مخلا بالنظام.

وليس كل راجح بحسب الغرض المولوي كذلك ، إذ ليست المصالح والمفاسد الباعثة على الإيجاب والتحريم من المصالح العامة التي ينحفظ بها النظام أو المفاسد العامة التي يختل بها النظام.

وليس مجرد عدم إقدام العقلاء على ما لا يوافق الأغراض العقلائية موجبا لاتصافه بالقبح ملاك الإخلال بالنظام كما عرفت في قاعدة دفع الضرر.

٢٦٩

وسيجيء إن شاء الله تعالى بقيّة الكلام في البحث عن دليل الانسداد.

في دليل الانسداد

١٢٥ ـ قوله « قده » : الرابع دليل الانسداد وهو مؤلف ... الخ (١).

ربما يقال : إن وجه عقلية الدليل هنا كون الكبرى عقلية ، لكون المقدمة الأخيرة بمنزلة الكبرى للقياس المركب من الصغرى المتوقف على المقدمات السابقة ، فان تلك المقدمات تحقق الدوران بين العمل بالظن أو الشك أو الوهم ، والعقل يحكم حكما كليّا بأنه كلما دار الأمر بين الظن ومقابليه يجب تقديم الظن عليهما ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وفيه أن الاحتياط وسائر الأصول من أطراف الدوران ، فإبطالها وحصر الدوران في الظن ومقابليه بلا وجه.

ومنه تعرف أنه لا وجه لجعل المقدمة الرابعة محققة للصغرى وجعل الخامسة كبرى.

نعم المقدمات الثلاثة الأول ، محققة للدوران بين الظن وغيره من مقابليه والأصول الشرعية والعقلية.

ومن المعلوم أن كبرى إبطال بعضها شرعية وبعضها عقلية ، والعقليّة أيضا لا تختص بكبرى قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

مع أن المقدمات السابقة مبادي تحقق الدوران الذي هو كالصغرى للمقدمة الأخيرة والذي هو صغرى القياس نفس الدوران لا مبادي تحققه ، فلا وجه لجعلها جزء القياس كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١١.

٢٧٠

وجعل أستادنا (١) العلامة « رفع الله مقامه » في الحاشية عقلية الدليل بلحاظ عقلية النتيجة حيث إنها حكم عقلي استقلالي بعد تحقق المقدمات الخمسة.

ويمكن أن يقال : إن النتيجة من أفراد الكبرى الكلية فيتبعها في العقلية والشرعية ، ولا معنى لكون النتيجة بما هي عقلية مع قطع النظر عن الكبرى الكلّيّة ، وليس لمجموع المقدمات الخمسة كبرى كلية ، بل لكل واحدة كبرى تخصها كما لا يخفى.

مع أن العبرة في العقلية لو كانت بكون النتيجة وهي حجية الظن عقلية لكان الدليل عقليا بناء على الحكومة ، لا مطلقا ولو على الكشف ، إذ على الكشف ليست النتيجة إلا وجوب العمل بالظن شرعا ، بخلاف ما إذا كان مناط العقلية ما سيجيء إن شاء الله ، فانه لا فرق فيه بين القولين.

والتحقيق في تأليف القياس في هذا المورد أن يقال : إن المقدمات الخمسة بنحو القياس الاستثنائي مقدم القضية ، وتعين العمل بالظن من باب التالي لها ، والعقلية حينئذ بلحاظ استلزام المقدم للتالي ، لا بلحاظ استلزام المقدمتين للنتيجة حتى يقال : إن استلزام القياس للنتيجة عقلي دائما.

نعم حيث إن أطراف الدوران غير منحصرة عقلا في الأصول الأربعة والظن ومقابليه ، لإمكان أصل آخر عقلا ، فلا محالة لا يكون استلزام المقدم للتالي عقليا ، ولكن بعد ضمّ عدم مرجعية أصل آخر غير الأصول المعمولة إجماعا يكون الاستلزام عقليا قطعيا ، إذ بعد فرض المقدم لو لم يتعيّن الظن يلزم الخلف أو التكليف بما لا يطاق ، واللازم أن يكون التلازم عقليا ، لا ذات اللازم والملزوم.

ومن البين أنه بعد انسداد باب العلم والعلمي لا يبقى إلا الظن والشك

__________________

(١) التعليقة على الرسائل / ٧٦.

٢٧١

والوهم والأصول المطابقة لأحدها ، بمعنى أن الأمر دائر بين العمل بأحد هذه الأمور من حيث هي أو بأصل يطابق أحدها كائنا ما كان.

وحيث إنّ التنزل من الظن إلى مقابليه قبيح ، وإلى ما يطابق أحد هذه الأمور باطل إجماعا قطعيّا كغير هذه الأصول الأربعة ، أو لأدلة خاصة كنفس هذه الأربعة ، فلا محالة يتعين العمل بالظن عقلا ، فتدبر جيدا.

ثم إن هذا الدليل على ما أفاده « قدس سره » مؤلف من مقدمات خمسة.

وأما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » من جعلها أربعة بإسقاط المقدمة الأولى : فإن كان لأجل عدم المقدمية ، فمن الواضح أنه لولاها لم يكن مجال للمقدمات الأخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن كان لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها ، فمن الواضح أن وضوحها لا يوجب عدم مقدميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها ، وإلا كان بعضها الآخر كذلك بل بعضها أوضح.

وأما ما عن بعض أجلّة العصر (١) دام بقاه من جعلها أربعة بإدراج المقدمة الثانية في الرابعة المذكورة هنا بتقريب أنه لا يجب الامتثال العلمي مطلقا أما التفصيلي فلعدم التمكن لانسداد باب العلم والعلمي وأما الاجمالي فللزوم الاختلال أو العسر والحرج.

ففيه أن تعدد مصاديق المقدمة وإن لم يوجب تعدد المقدمة ، إلا أن انتزاع جامع من المقدمات أيضا لا يوجب وحدتها إذا لم يكن الجهة الجامعة من حيث نفسها لها المقدمية ، بل لا بد من ملاحظة الجهة التي بها تكون مقدمة ، فاذا تعددت الجهات تعددت المقدمات ، وإلا فلا. ومن الواضح أن عدم وجوب الامتثال العلمي التفصيلي من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، دون عدم لزوم الامتثال

__________________

(١) هو المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد / ٤٠٠.

٢٧٢

العلمي الإجمالي ، ففي الحقيقة ما له دخل في النتيجة عدم التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي لا عدم وجوبه ، بخلاف المقدمة الرابعة ، فان الدخيل في النتيجة حقيقة عدم لزوم الامتثال الإجمالي ، فالجهة التي لها دخل في النتيجة بحسب المقدمة الثانية غير الجهة التي لها دخل فيها بحسب المقدمة الرابعة وإن أمكن انتزاع جامع عن الجهتين ، فافهم وتدبّر.

١٢٦ ـ قوله « قده » : خامسها أنه كان ترجيح المرجوح ... الخ (١).

هذا دليل المقدمة الخامسة لا نفسها ، بل اللازم أن يقال : أنه لا يجوز التنزل إلى الشك أو الوهم ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح كما في المقدمات السابقة فانها على هذا النسق.

١٢٧ ـ قوله « قده » : هذا إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إذا كان العلم بالاهتمام صالحا للكشف عن وجوب الاحتياط شرعا ـ وكان منجزا له ، حيث إنه حكم طريقي لا يكون فعليا منجزا للواقع إلا بعد وصوله إلى المكلف ـ كان صالحا لتنجيز الواقع من دون حاجة إلى جعل الاحتياط شرعا ، إذ لا نعني بالبيان الرافع لقبح العقوبة بدونه ، إلا ما يصلح لتنجيز الواقع ، ونفس العلم بالاهتمام صالح للاحتجاج به في المؤاخذة على الواقع المجهول ، ويندفع به نقض الغرض اللازم من عدم تنجيز ما له الاهتمام به.

مضافا إلى أن إيجاب الاحتياط في هذه المقدمة إما عقلا بسبب العلم الإجمالي بالأحكام كما قيل ، أو شرعا بكاشفية العلم بالاهتمام كما أفيد ، فيه أحد محذورين : إما المناقضة مع المقدمة الرابعة إذا أريد الاحتياط من حيث المخالفة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١١.

(٢) كفاية الأصول / ٣١٢.

٢٧٣

القطعية والموافقة القطعية معا.

وإما التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وهو مناف لمسلكه « قدس سره ».

لا يقال : هذا إذا كان القول بحرمة المخالفة القطعية في هذه المقدمة من باب منجزية العلم الإجمالي.

وأما إذا كان من باب وجوب هذا المقدار من الاحتياط شرعا ، فلا محذور في التفكيك.

لأنا نقول : نعم إذا كان وجوب الاحتياط شرعا وجوبا نفسيا. وأما إذا كان طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، فمحذور التفكيك على حاله ، لاستحالة رفع عقاب الواقع على تقدير المصادفة في أي طرف كان مع ثبوت عقاب الواقع.

فالتحقيق أن عدم جواز إهمال الامتثال ليس من ناحية منجزية العلم الإجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ولا من حيث وجوب الاحتياط شرعا من تلك الحيثية ، بل عدم جواز إهمال الامتثال المعلوم بالضرورة هو الجامع بين الأمور المحتملة هنا ، وهي إما الاحتياط ، وإما الأصل المثبت للتكليف ، وإما العمل بالمشكوك والموهوم ، وإما العمل بالظن ، والمقدمة الرابعة متكفلة لإبطال الأول والثاني ، والمقدمة الخامسة متكفلة لإبطال الثالث ، فتعين الرابع ، فتدبر.

١٢٨ ـ قوله « قده » : فيما يوجب عسره اختلال النظام ... الخ (١).

إذ الحاكم بالاحتياط هو العقل ومع الالتفات إلى أن مثله مخل بالنظام ويوجب تفويت غرض أقوى ، فلا محالة لا يحكم بلزومه ، بل ذكرنا في محله أن مثله يوجب سقوط التكليف عن فعليّة الباعثيّة والزاجريّة ، لأن الغرض من البعث والزجر انقداح الداعي في نفس المكلف ، ومع عدم حكم العقل بامتثاله

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٣.

٢٧٤

لا يعقل بقاؤه على حاله حيث لا يترقب منه حصول هذا الغرض.

١٢٩ ـ قوله « قده » : إذا كان بحكم العقل ... الخ (١)

فان الموضوع الذي له حكم شرعي قابل للرفع لا عسر فيه ، وإلا لزم رفعه لو كان معلوما بالتفصيل. وأما إذا وجب الاحتياط شرعا ولو طريقيّا كما فيما ذكرنا آنفا إذا كان عسرا ، فلا ريب في تقديم دليل نفي الحرج عليه ، لأن نفس الاحتياط المتعلق به الوجوب الشرعي عسر ، فيرفع.

وربما يورد (٢) عليه « قدس سره » بأن العسر والحرج كالاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فكما أن دفع الاضطرار بما يختاره مع مصادفة مختاره للتكليف يمنع عن تنجزه في المصادف ، مع أنه غير مضطر إليه بعينه ، كذلك رفع الحرج بما يختاره من الترك مع مصادفته للتكليف يمنع عن فعليته وإن لم يكن حرجيا بعينه.

ويندفع بأن القدرة على إتيان المحتملات لازمة عقلا في تنجز التكليف على أي تقدير.

ومع عدمها لمكان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ـ الرّاجع إلى عدم القدرة على إتيان المحتملات رعاية للتكليف المنجز ـ يرخصه العقل في كل من الأطراف ، ولا يعقل الرخصة فيما اختاره مع تنجز التكليف فيه واستحقاق العقوبة عليه.

بخلاف حرجيّة المحتملات ، فانها ليست مانعة شرعا حتى يستتبع الرخصة في ترك كل واحد حتى يمنع عن فعلية التكليف فيما يختاره في مقام دفع الحرج عن نفسه ، فالقياس باطل ، والفارق واضح.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٣.

(٢) المورد هو المحقق النائيني قدس سره. فوائد الأصول ٣ / ٢٥٧ و ٢٥٨.

٢٧٥

وأما ما أفاده « قدس سره » من منع حكومة دليل العسر والحرج على حكم العقل بالاحتياط ، فالمراد عدم حكومته على حد حكومته على الأدلة المتكفلة للأحكام المجعولة بقصرها على غير مورد الحرج ، فان حكم العقل ليس من المجعولات شرعا.

وأما جريان دليل الحرج في رفع حكم شرعي يكون رعايته موجبة لحكم العقل بالاحتياط فرفع موضوع حكم العقل فيصح دعوى الحكومة لدليل نفي الحرج على قاعدة الاحتياط ، فهو أجنبي عن نفي الحكومة بالوجه الذي ذكرنا ، وقد تبين من عدم حرجية نفس موضوع التكليف الواقعي عدم جريان الحكومة على الوجه الآخر ، فتدبر.

١٣٠ ـ قوله « قده » : لأن العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة ... الخ (١).

التكليف وإن كان مقتضيا لامتثاله ، إلا أن العسر ليس في امتثاله ، بل في تحصيل العلم بامتثاله بالجمع بين محتملاته ، وهو ليس من مقتضيات التكليف ولو بواسطة أو وسائط ، والتكليف المجهول ليس بما هو تكليف مجهول حكما شرعيا وتكليفا إلهيا حتى يقال : إن لزوم العلم بامتثاله من مقتضياته وليس هنا إطلاق يفيد إرادة الأعم من اقتضاء العسر أو الموضوعية لأمر عقلي لازمه العسر بل الظاهر من قوله عليه السلام : لا ضرر (٢) أو قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) بناء على ارادة الحكم الموصوف بالضرر أو العسر هو كونه موصوفا بهما ولو بالواسطة والاقتضاء لا أن يكون من باب الوصف بحال المتعلق وهو لازمه العقلي أعني لزوم تحصيل العلم بامتثاله عند الجهل به ، فتدبر.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٣.

(٢) فروع الكافي ٥ : ٣ ـ ٢٩٢.

(٣) الحج : ٧٨.

٢٧٦

بل يمكن أن يقال : بناء على تعميم الاقتضاء أن كل تكليف من التكاليف الواقعيّة لا عسر ولا حرج في الجمع بين محتملاته في مقام تحصيل العلم بامتثاله ، وإنما العسر والحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف. وليس مجموعها تكليفا وحدانيا يكون العسر في الجمع بين محتملاته ، بل حاله حال مجموع تكاليف يكون العسر حقيقة في امتثال المجموع ، فانه لا يرتفع الجميع ، بل يجب الامتثال لكل واحد واحد منها إلى أن يتحقق العسر ، فيسقط الباقي. وكذا الأمر إذا كان الاحتياط واجبا شرعا ، فانه في الحقيقة أحكام متعددة للاحتياطات المنطبقة على الجمع بين محتملات كل تكليف ، فلا يرتفع الوجوب كلّية بتوهم أنه حكم واحد حرجي لموضوع واحد ، بل يجب امتثال كل تكليف إلى أن يتحقق الحرج الرافع لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى بقية التكاليف فتأمل.

١٣١ ـ قوله « قده » : لا وجه لدعوى استقلال العقل ... الخ (١).

لما مر من لزوم التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، بخلاف ما إذا وجب الاحتياط شرعا ، فان الواجب شرعا هذا المقدار من الاحتياط.

لكنك عرفت آنفا أنه يصح إذا كان الاحتياط واجبا نفسيا لا إذا كان طريقيا لتنجيز الواقع ، فان محذور التفكيك على حاله حينئذ فراجع.

١٣٢ ـ قوله « قده » : ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ... الخ (٢).

ينبغي التكلم أولا في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي كلّية وعدمه.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٣.

(٢) كفاية الأصول / ٣١٣.

٢٧٧

وثانيا في جريانه وعدمه في خصوص المقام : فنقول : المانع من الجريان تارة بلحاظ مقام الثبوت ، وأخرى بلحاظ مقام الإثبات :

أما بحسب مقام الثبوت ، فالمانع عند شيخنا الأستاد « قدس سره » تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » منحصر في لزوم المخالفة العملية ، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحدهما وكانا مسبوقي اليقين بالطهارة ، فاستصحاب الطهارة فيهما يوجب الإذن في ارتكابهما ، مع فرض تنجيز العلم بوجوب الاجتناب الذي هو لازم العلم بالنجاسة ، والإذن في المخالفة العملية قبيح عقلا.

لكنا ذكرنا في محله أن تنجيز العلم وإن كان مقصورا على صورة تعلق العلم بتكليف إلزامي ، فما لا مخالفة عملية له لا تنجيز له ، إلا أن المانع عقلا عن جريان الاستصحاب في الأطراف غير منحصر في المخالفة العملية ، فان نفس تنافي الحكمين أعني وجوب الاجتناب عنهما معا وعدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور عقلي.

ومنه يعلم أن هذا المحذور العقلي فيما إذا كان الأصل على طبق العلم الإجمالي كما في الأصول المثبتة للتكليف المعلوم بالإجمال جار أيضا ، إذ اجتماع المثلين كاجتماع الضدين والمتناقضين في الاستحالة.

وبالجملة عدم وجوب الاجتناب فعلا مناقض لوجوب الاجتناب فعلا وإن لم يكن أثر لعدم الوجوب المعلوم بالإجمال ، فالمانع العقلي عن جريان الأصول غير منحصر في لزوم المخالفة العملية.

وأما بحسب مقام الإثبات ، فالمانع لزوم المناقضة بين صدر الرواية وذيلها من شمولها للأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي بناء على شمول اليقين في قوله عليه السلام : ولكن تنقضه بيقين مثله (١) لليقين الإجمالي ، فان مقتضى صدرها

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٨ ـ ٩ وعبارة الرواية : ولكن ينقضه بيقين آخر وليس فيها مثله.

٢٧٨

بملاحظة نفس اليقين والشك حرمة نقض اليقين بالشك في كل من الطرفين ، ومقتضى ذيلها بملاحظة اطلاق اليقين المحدّد للشك بصورة عدم الاقتران بالعلم الإجمالي عدم حرمة نقض اليقين بالشك في هذه الصورة.

وهذا البيان أولى من دعوى أن مقتضى الصدر لزوم الأخذ بالحالة السابقة في كلا الطرفين ، ومقتضى الذيل لزوم الأخذ بخلاف تلك الحالة في أحدهما كما عن شيخنا الأستاد « قدس سره » في التعليقة (١).

وجه الأولوية أنه مع العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا لا يعقل جعل حكم مماثل على طبقه ، فليس هناك وجوب النقض حقيقة ، بل حيث إن اليقين رافع للموضوع حقيقة أو اعتبارا ، فلا محالة يرتفع به حرمة النقض.

مضافا إلى أن تخصيص الذيل بالأخذ بخلاف الحالة السابقة يوجب عدم جريان الأصول المخالفة للعلم ، لا الأعم منها ومن الموافقة ، وهو بلا موجب ، بل إذا كان الذيل محددا للموضوع فلا محالة يكون الشك المقرون بالعلم الإجمالي مغايرا لموضوع حرمة النقض ، سواء كان الحكم المجعول مخالفا للمعلوم بالإجمال أو موافقا له وعنوان النقض لا يستدعي مغايرة الناقض والمنقوض من حيث المتعلق بعد إرادة جعل الحكم المماثل في موضوع الشك الغير المقرون بالعلم الإجمالي من حرمة النقض ، وإرادة عدم جعله عند تحقق اليقين بالحكم بالفعل.

مع أن حرمة نقض اليقين ليست إلا بمعنى حرمة رفع اليد عن اليقين والتمسك بالشك.

ومن المعلوم أنه بعد اليقين بالحكم بالفعل لا معنى للتمسك بيقينه السابق بل يتمسك بيقينه الفعلي.

ولا يخفى عليك أنه بعد عدم تكفل الذيل لحكم شرعي لعدم معنى

__________________

(١) تعليقته على الرسائل / ٢٥٧.

٢٧٩

للتعبد مع العلم سواء كان مماثلا للمتيقن السابق أو منافيا له يدور أمر الذيل بالمآل إلى تأكيد الصدر أو تحديده بما إذا لم يكن الشك من أطراف العلم الإجمالي.

ومن الواضح أنه بناء على التأكيد لا مقابلة بين الصدر والذيل ليكون للذيل إطلاق في قبال الصدر ، بل المؤكد تابع للمتأكد إطلاقا وتقييدا. كما أنه بناء على التحديد لا إطلاق ولا تقييد للمحدود إلا بتبع ما يتحدّد به ، فالعمدة تحقيق أن الذيل من باب التأكيد أو من باب التحديد.

ومنه تعرف أنه لو كان الذيل محددا ، فلا يجدي خلو بعض الأخبار عن قضية الذيل لأنه لا يكون مقيدا لإطلاقه ، كما أنه بناء على التأكيد لا معارضة بين ما يشتمل على الذيل وما لا يشتمل عليه.

نعم بناء على الإجمال وعدم تشخيص التأكيد والتحديد تجدي الأخبار الخالية عن الذيل لانفصال المجمل فلا يسري إجماله إلى غيره.

فان قلت : ارتفاع المتيقن واقعا لا يكون ناقضا ، لفرض حصر الناقض في اليقين وجعل الحكم المماثل في موضوع اليقين والشك ، والعلم الإجمالي لا يكون ناقضا لكلا اليقينين لأنه خلاف مقتضاه ، إذ لا يقين بكل منهما نفيا أو إثباتا. وليس ناقضا لأحدهما بخصوصه ، إذ الخصوصية مشكوكة ، فيؤول إلى نقض اليقين بالشك ، لا باليقين. وليس ناقضا لأحدهما المردد ، إذ العلم الإجمالي غير متعلق بالمردد لما مر منا مرارا أن مقوم صفة العلم أمر جزئي معين ، والمردد بما هو لا ثبوت له ماهية ولا هوية ، وما لا ثبوت له لا يعقل أن يكون مقوما لصفة العلم ، كما أن اليقين المنقوض لا يعقل أن يكون مرددا لعين البرهان المذكور ، فلا الناقض متعلق بالمردد ، ولا المنقوض مردد ، فالناقض ينحصر في اليقين التفصيلي برهانا.

قلت : العلم الإجمالي وإن كان عندنا لا يغاير العلم التفصيلي في حد العلميّة ، وأن طرف العلم دائما مفصل ومنكشف به ، إلا أن متعلق الطرف مجهول ،

٢٨٠