نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

تنزيل منزلة الواقع لا الواقع المعلوم.

وتوهم أنه يفيد تنزيل المأخوذ من الراوي بما هو مأخوذ منه منزلة الواقع الواصل نظرا إلى أن الأخذ لازمه الوصول ، فيكون كناية عن الوصول.

مدفوع بأن الدليل إن كان متكفلا لتنزيل الأخذ من الراوي منزلة أخذ الواقع صح أن يتوهم ترتّب الأثر على الوصول.

وكذا لو دل على ترتيب الأثر على الأخذ بأن يقول رتب أثر أخذ الواقع على الأخذ من الراوي مثلا أمكن أن يكون كناية عن ترتيب أثر وصول الواقع.

وأما إن كان الدليل متكفلا للأمر بالأخذ ، فلا ، لأن الوصول الذي هو لازمه غير قابل للأمر به حتى يكون الأمر بالأخذ كناية عن الأمر بلازمه.

والمفروض أن قوله عليه السلام : نعم بعد السؤال المذكور في قوّة قوله خذ معالم دينك من يونس بل الأمر بالأخذ كناية عن الأمر بالعمل ، حيث إن العمل لا يكون بلا أخذ والأخذ للعمل ، فيكون الأخذ العملي كالتصديق العملي ، وكالنقض عملا أو الإبقاء عملا.

مع أن اعتبار الأخذ في المنزل عليه بلا وجه ، بل غايته تنزيل المأخوذ بما هو مأخوذ منزلة معالم الدين ، لا منزلة معالم الدين المأخوذة ليكون تنزيلا للواصل منزلة الواصل.

والعمدة في الفرق بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع أو منزلة الواقع الواصل ملاحظة حال المنزل عليه ، وإلا فيمكن أن يكون التنزيل بلحاظ الواقع فقط ، ومع ذلك كان لقيام الأمارة دخل في جعل الحكم المماثل ، كما هو كذلك بناء على سببيّة الأمارات في قبال طريقيّتها.

وكذا في دلالة التنزيل منزلة الواقع قوله عليه السلام فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان (١) فانّ نفس التأدية من الامام عليه السلام واضحة لا يحتاج إلى التنزيل ،

__________________

(١) الأصول من الكافي : ١ / ٣٣٠.

٦١

فقول القائل ما يخبر به عني فهو ما يخبر به عني ليس إلاّ لبيان واقعيّة المخبر به ، لا واقعيّة الإخبار به ، فتصديقه عليه السلام لكونه عنه ، ليس بلحاظ كون الخبر عنه فان هذه النسبة قطعية والمشكوكة كون المخبر به عنه ، فيكون تصديقا منه عليه السلام لهذه النسبة ، لا لتلك النسبة ، فتدبّر جيّدا.

لا يقال : فحينئذ لا أثر لكونه عنه عليه السلام فما فائدة هذا التنزيل.

لأنّا نقول : كونه عنه عليه السلام ليس بلحاظ أثر وصوله عنه عليه السلام بل لبيان واقعيّة المخبر به حيث لا يقول عليه السلام إلا صدقا.

وأما الآيات ، فآية النبأ أيضا تدل على التنزيل منزلة الواقع.

وتوهم التنزيل منزلة الواقع الواصل بدعوى أن خبر العادل حيث إن مؤدّاه كان مبينا شرعا تنزيلا لم يجب فيه التبين ، وخبر الفاسق حيث إنه لم يكن كذلك وجب فيه التبين ، فالمدار على الواقع المبيّن.

فاسد فان التبين ليس لتتميم موضوع الحكم ولا لتنجيز الواقع بالعلم بصدقه ، بل لظهور الواقعيّة وعدمها ، وعدم كونه لتتميم الموضوع واضح ، وكذا عدم كونه للتنجيز ، فإن الردع على الاعتماد على نبأ الفاسق ليس لأجل رعاية حال المكلف من حيث عدم تنجّز الواقع بنبإ الفاسق ، بل من حيث إنه يوجب وقوعه في خلاف الواقع وإصابة القوم بجهالة.

وأمّا آية النفر ، فوجوب التحذر وإن كان يدل على ترتب العقاب على ما أنذروا ، لكنه كما يحتمل أن يكون لتنجز الواقع بالخبر عنه ، كذلك يحتمل أن يكون لجعل الحكم المماثل على طبق ما أنذروا ، وعلى أيّ حال ليست الآية في مقام تتميم موضوع الحكم ، بل إمّا في مقام جعل الحكم المماثل على طبق المخبر به ، أو تنجيز المخبر به بالخبر ، وكذا غيرهما من الآيات.

وأما بناء العقلاء ، فقد مر مرارا أن بناء العقلاء عملا على مؤاخذة العبد إذا خالف ما أخبر الثقة به عن مولاه مثلا لا على جعل الحكم المماثل.

ولكن على أي تقدير ليس الخبر عندهم متمّما لموضوع الحكم ، فاحتمال

٦٢

تكفّل أدلة حجّية الخبر مثلا لتنزيل المخبر به منزلة القطع الموضوعي أو تكفّلها لتنزيله منزلة القطع الموضوعي والطريقي معا باطل.

نعم الأدلة تختلف من حيث دلالتها على تنزيل المخبر به منزلة الواقع بجعل الحكم المماثل أو تنزيله منزلة وصول الواقع من حيث التنجّز فقط لا من حيث الجزئيّة للموضوع أيضا.

٢٣ ـ قوله « مد ظله » : لوضوح أن المراد من قيام ... الخ (١).

بل المراد من قيام شيء مقام القطع إمّا هو القيام من حيث المتعلق بمعنى قيام مؤدى الأمارة مقام الواقع أو قيام نفس الأمارة مقام القطع في التّنجيز.

وتوهم قيام الأصول مطلقا مقام القطع لأنها المرجع بعد فقد العلم.

لا وجه له ، إذ حقيقة قيام شيء مقام القطع هو القيام بما له من الآثار والأحكام لا مجرد الرجوع إليه بعد فقده.

٢٤ ـ قوله « مد ظله » : إمّا بلحاظ المتيقّن أو بلحاظ نفس اليقين ... الخ (٢).

فالأول للقطع الطريقي ، والثاني للموضوعي.

لكنك قد عرفت آنفا أن طريقيّة اليقين وصيرورته مرآة للمتيقّن وملحوظيّته ، آليا إنّما هي في مقام تعلّقه بالمتيقّن ، وأما اليقين الواقع طرفا لحرمة النقض ، فلا يعقل إلا لحاظه استقلاليّا.

نعم بناء على أنه كناية عن إبقاء حكم المتيقّن يجري الإشكال في أن المكنى عنه هل هو المتيقن بما هو متيقن أو ذات المتيقن والجمع بينهما في لحاظ واحد محال.

وأما إذا كان بعنوان إبقاء اليقين في جميع آثاره من المنجّزية للحكم ومن

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٥.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٦.

٦٣

كونه جزء الموضوع ، فلا بأس بالجمع كما تقدم نظيره ، فيكون جعلا للمنجّزيّة لا حقا وجعلا للحكم المماثل المرتب على اليقين ومتعلقه ، فتدبّر.

وتوهم الفرق بين دليل الأمارة ودليل الاستصحاب من حيث إن الأول في مقام تتميم كشفها دون الثاني.

مدفوع بأنه أيضا في مقام إبقاء الكاشف ، فتدبر.

٢٥ ـ قوله « مد ظله » : وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد ... الخ (١).

توضيحه أن وفاء خطاب واحد وإنشاء واحد بتنزيلين وإن كان مستحيلا كما عرفت.

إلا أن تنزيلين بإنشاءين في عرض واحد يدل دليل الاعتبار على أحدهما بالمطابقة وعلى الآخر بالالتزام ليس محالا ، وهنا كذلك ، لدلالة دليل الأمارة مثلا على ترتيب آثار الواقع مطلقا ومنها الأثر المترتب على الواقع عند تعلق القطع به حتى في صورة كون القطع تمام الموضوع ، إذ لمتعلقه دخل شرعا ولو بنحو العنوانية المحفوظة في جميع المراتب.

وهذا التنزيل وإن كان يقتضي عقلا تنزيلا آخر ، حيث إن الواقع لم يكن له في المقام أثر بنفسه حتى يعقل التّعبّد به هنا ، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع بلحاظه.

لكنه لا يقتضي عقلا أن يكون المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلي ، لإمكان جعل شيء آخر مكانه.

إلا أنه لا يبعد عرفا أن يكون هو القطع بالواقع الجعلي ، فصون الكلام عن اللغويّة بضم الملازمة العرفيّة يدل على تنزيل آخر في عرض هذا التنزيل للجزء الآخر.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٦.

٦٤

وإنما قلنا بأن اللازم أن يكون التنزيل الآخر مقارنا لهذا التنزيل ، لا سابقا ولا لاحقا ، لأن الأثر الذي كان بلحاظه التنزيلان واحد ، فلا يعقل التعبد بذلك الواحد ، إلا إذا كان أحد الجزءين محرزا حقيقة ، بحيث لا حالة منتظره المتعبد بذلك الأثر وترتيبه على الواقع ، أو كان التنزيلان متقارنين ، ليكون مرجعهما إلى التعبد بالوجوب أو الحرمة.

وأما مع سبق أحد التنزيلين ولحوق الآخر ، فلا يصح التنزيل في كل منهما ، إذ الاثر واحد والموضوع واحد مركبا كان أو مقيدا ، وليس للجزء أو ذات المقيد أو القيد حكم شرعي حتى يصح التعبد به بعنوان التعبد بجزء موضوعه.

فظهر من جميع ما مر أن تنزيل مركب منزلة مركب آخر لا يكاد يصح إلا بأحد وجهين ، إما بالمطابقة أو بالالتزام ، ولكن بنحو المقارنة.

وقد عرفت أن التنزيل بالمطابقة غير معقول هنا لمكان الجمع بين اللحاظين كما تقدم ، فلم يبق مجال إلا للالتزام.

٢٦ ـ قوله « مد ظله » : فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع ... الخ (١).

بعد ما عرفت أن تنزيل الجزء الآخر وهو القطع بالواقع التنزيلي الذي قلنا به بدلالة الاقتضاء والملازمة العرفيّة لا بد من أن يكون في عرض تنزيل المؤدى منزلة الواقع تعرف استحالة تحقق تنزيلين كذلك ، إذ القطع بالواقع التنزيلي متأخر طبعا عن الواقع التنزيلي.

والمفروض أن دلالة الدليل على تنزيل المؤدّى يتوقف على دلالته بالملازمة على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي ، مع أنه لا واقع تنزيلي إلا بهذا الدليل.

فكيف يعقل أن يكون أحد التنزيلين المتأخر رتبته عن موضوعه المتأخر رتبته عن التنزيل الآخر في عرض التنزيل الآخر؟

وتمام السر فيه أن مرجع التنزيلين إلى تنزيل واحد وإثبات حكم مركب

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٦.

٦٥

لمركب آخر ، فلا بد من أن يكون الموضوع بجميع أجزائه وقيوده متقدما في مرحلة موضوعيّته على الحكم ، مع أن بعض هذا المركب لا ثبوت له في حد موضوعيّته إلا بلحاظ هذا الحكم.

وبعبارة أوضح معنى تنزيل المائع الذي أخبر البيّنة بخمريّته منزلة الخمر تحريمه ، ومعنى القطع بالواقع التنزيلي بما هو كذلك هو القطع بخمريّته شرعا أي القطع بحرمته ، ومن البديهي أن القطع بالحرمة لا يعقل أن يؤخذ في موضوع تلك الحرمة.

وليعلم أن تقدم الموضوع على حكمه ليس تقدّما خارجيّا حتى يدفع بكفاية التقدم اللحاظي بل تقدم طبعي سيأتي إن شاء الله تعالى ما هو الملاك فيه.

والتحقيق أن الحكم المرتب على المنزّل المماثل لحكم المنزل عليه : إن كان قابلا للتحليل امكن تعدد التنزيل ، ومعه لا يلزم من أخذ القطع بالواقع التنزيلي دور ولا محال آخر ، فإن الأثر على الفرض متعدد ، والقطع بأثر يمكن أن يؤخذ في موضوع أثر آخر ، ولا يجب أن يكون موضوع الحكم جميع أجزائه عرضيّة بحيث لا يكون بينها تأخر وتقدّم طبعي.

وإن لم يكن الحكم قابلا للتحليل ، فلا معنى لتعدد التنزيل ، حيث لا معنى للتنزيل إلا جعل الحكم والمفروض وحدته ، وليست الجزئيّة للموضوع قابلة للجعل الاستقلالي.

وعليه فنفس الوحدة مانعة عن أخذ القطع بالواقع التنزيلي جزء للموضوع بتنزيل آخر طولا كان أو عرضا ، لا أن لزوم الدور مانع.

كما أن التحقيق عدم قبول الحكم هنا للانحلال إلى المتعدد ، إذ القابل له ما إذا كان متعلقه المطلوب به مركبا ذا أجزاء أو مقيدا ذا تقيّد ، فيمكن الأمر بأجزاء الصلاة بدلا عن الأمر بنفس الصلاة ، كما يمكن الأمر بالصلاة وبجعلها عن طهارة بدلا عن الأمر بالصلاة عن طهارة ، بخلاف ما نحن فيه ، فان القطع بالخمريّة ، التعبدية جزء الموضوع ، لا جزء المتعلّق حتى يكون مطلوبا بطلبه ،

٦٦

فتدبّر.

كما أن (١) دفع الإشكال بكفاية الأثر التعليقي في تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وتوقف فعليّة الأثر على تحقق المعلّق عليه ، فالموقوف غير الموقوف عليه.

مدفوع بأن المعلّق عليه هو القطع بالواقع التنزيلي ، ومثله لا يعقل أن يكون قيدا لأول الأمر إلى تعليق الحرمة للمائع مثلا على القطع بالحرمة.

والتعليقيّة والفعليّة من شئون شخص الحرمة المنشئة لا أن الأثر متعدد ، إذ ليس الكلام في أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه حتى يكون معقولا واقعا وظاهرا ، بل في كون القطع بالواقع التنزيلي جزء لموضوع الواقع التنزيلي على حدّ جزئيّة القطع بالخمريّة لموضوع الحكم في جميع مراتبه.

ومنه يعلم أن أخذ (٢) القطع الموضوعي من حيث كونه طريقا معتبرا مشترك الحال من حيث الإشكال مع مسلكه « قدس سره » لأن دليل التنزيل بالإضافة إلى المؤدّى فقط وإن كان محققا لحيثيّة اعتبار الطريق من دون حاجة إلى تنزيل ، آخر ، إلا أن المؤدّى لا بد من أن يكون ذا أثر ، والأثر التعليقي أيضا لا يدفع المحذور ، لأن حيثيّة طريقيّته إلى الواقع وإن لم يتوقف على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، إلا أن حيثيّة اعتباره يتوقف على هذا التنزيل ، إذ لا معنى لاعتبار الأمارة إلا الحكم على مؤداها بمثل الحكم على الواقع فعليّا كان أو تعليقيّا.

نعم لو كان للمؤدّى أثر آخر غير ما هو أثر المجموع من المؤدى وحيثيّة قيام الطريق المعتبر عليه اندفع المحذور وكان دليل التنزيل تنزيلا ومحققا للطريق ، المعتبر ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) الدافع للاشكال بما في المتن هو المحقق الحائري قده. درر الفوائد / ٣٣٢.

(٢) كما عن المحقق الحائري قده. درر الفوائد / ٣٣١.

٦٧

في القطع وأقسامه

٢٧ ـ قوله « قده » (١) : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم ... الخ (٢).

بداهة أن الموضوع لا بد منه في مرتبة موضوعيّته وتعلّق الحكم به ، والمفروض أن الموضوع سنخ موضوع لا ثبوت له مع قطع النظر عن حكمه.

ولو لا شخص هذا الحكم لا يعقل تعلّق القطع به بشخصه ، وتعلّقه بصورة مثله عند الخطأ خلف.

ولو لا تعلق القطع به لم يتحقق ما هو مقطوع الوجوب مثلا بشخص هذا الوجوب بالحمل الشائع حتى يكون موضوعا لشخصه ، فيلزم توقف الشيء على نفسه.

والتحقيق أن العلم الموقوف عليه شخص الحكم : إذا لوحظ بالإضافة إلى متعلّقة المتقوّم به العلم في مرتبة وجوده في النفس ، فمتعلّقه ماهية الحكم دون وجوده ، لاستحالة تقوّم العلم بأمر خارج عن أفق النفس ، وليس العلم إلا وجود الماهية في النفس ، إذ الوجود لا يقبل وجودا آخر ، لا من سنخه ، ولا من غير سنخه.

ومن الواضح أن العلم وإن كان متوقفا على المعلوم بالذات ومتأخرا عنه ، لكنه لا توقف لماهيّة الحكم عليه ، بل لوجوده فلا دور ، لعدم التوقف من الطرفين.

مضافا إلى عدم التعدد في الوجود المبني عليه الدور المصطلح عليه.

وإذا لوحظ العلم بالإضافة إلى المعلوم بالعرض وهو المطابق للمعلوم

__________________

(١) يبدو أن الشيخ الآخوند الخراساني كان حيّا لغاية كتابة التعليقة السابقة ٢٦.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٦.

٦٨

بالذات أي الحكم بوجوده الحقيقي ، والحكم (١) وإن كان متوقفا بالفرض على العلم توقف المشروط على شرطه ، إلا أن شرطه وهو حقيقة العلم كما عرفت لا يتوقف على وجود الحكم بل على ماهيّته.

ومنه تعرف أنه كما لا دور كذلك لا خلف ولا اجتماع المتنافيين من حيث التقدم والتأخر الطبعيين ، فإن العلم له التأخر الطبعي عن ذات متعلقه تأخر العارض عن معروضه ولا تأخر لمعروضه عنه ، وحقيقة الحكم لها التأخر الطبعي عن حقيقة العلم تأخر المشروط عن شرطه ، لكنه لا تأخر للعلم عن حقيقة الحكم ، بل عن ماهيّة (٢) المقوّمة له في أفق النفس ، فلم يلزم خلف ولا اجتماع المتنافيين.

ولا يخفى عليك أن الشرط وإن كان حقيقة العلم المطابق للواقع بحيث يكون المعلوم صورة شخص الحكم لا صورة مثله ، إلا أنه لا توقف للمعلوم بالذات على المعلوم بالعرض ، فلا دور بالواسطة.

والمفروض هنا تحقق الحكم حال تحقق العلم ، لأن الشرطية لا تقتضي إلا تحقق العلم المطابق ، سواء كان مطابقه مقارنا له زمانا أو سابقا عليه أو لا حقا.

ومما مرّ يندفع الدور بتقريب آخر : هو أن العلم موضوع الحكم لا متعلّقه المطلوب به ، والموضوع لا بد من أن يكون مفروض الثبوت ، فيلزم فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته ، وهو ملاك الدور المحال.

ويندفع بأن مقتضاه فرض ثبوت العلم لا فرض الثبوت المعلوم ، وثبوت العلم لا يقتضي ثبوت المعلوم بالعرض كما عرفت.

مع أن ثبوت الشيء فرضا غير ثبوته التحقيقي ، فلا يلزم من فرض ثبوت الشيء هنا ثبوت الشيء قبل ثبوت نفسه ، فلا مانع من توقّف ثبوته التّحقيقي

__________________

(١) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، لكن الصحيح : فالحكم.

(٢) كذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف قده ، والصحيح : عن ماهيته.

٦٩

على ثبوته الفرضي.

نعم يمكن فرض الخلف من وجه آخر ، وهو أن فرض تعليق الوجوب على العلم به هو فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة مثلا ، وفرض نفس القيد وهو العلم بوجوب الصلاة هو فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة.

لا يقال : هذا إذا كان العلم قيدا للواجب ، وأما إذا كان الواجب ذات الحصة الملازمة للعلم ، فالوجوب متعلّق بذات الصلاة بحيث لا يتعدى إلى ما لا يلازم العلم.

لأنّا نقول : طبيعي الصلاة لا يتخصّص (١) بالعلم بالوجوب والجهل به ، بل الواجب بما هو واجب يتخصّص بالمعلوم والمجهول ، وفرض العلم بوجوب الصّلاة فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصّلاة لا بحصة منه ، ولازمه الخلف.

والتحقيق أن جعل الإيجاب واقعا على طبق ما اعتقده القاطع من الوجوب بحيث لا يكون وجوب واقعا قبل حصول القطع به من باب الاتفاق ليس فيه محذور الخلف.

بخلاف جعل الوجوب على المعلوم الوجوب بنحو القضيّة الحقيقيّة حتى يصير الحكم فعليّا بفعليّة موضوعه ، فان فيه محذور الخلف إذ يستحيل حصول العلم بالوجوب بوصول هذه القضيّة مع ترتّب الوجوب على العلم بالوجوب كون فعليّة الحكم بفعليّة موضوعه ، والمبنيّ على أمر محال محال ، فجعل الحكم هكذا محال ، بل القسم الأول محال من وجه آخر ، فان جعل الحكم بعثا وزجرا لجعل الداعي ، ومع فرض العلم بالوجوب من المكلف يلغو جعل الباعث له ، فتدبّر.

٢٨ ـ قوله « مد ظلّه » : ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ... الخ (٢).

قد أشرنا سابقا إلى أن اجتماع المثلين مبنيّ على أن يكون الحكم هو

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : لا يتحصّص ، وكذلك في العبارة الآتية.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٧.

٧٠

البعث والتحريك الخارجي بخارجيّة منشأ انتزاعه.

وأما لو كان الحكم عبارة عن نفس الإرادة والكراهة ، فلا يلزم منه اجتماع المثلين بناء على أصالة الوجود وبقاء حقيقة العرض عند الحركة والاشتداد ، فان ذات الإرادة المقطوع بها باقية عند تأكدها ، فلا يلزم الخلف بانعدامها ولا اجتماع المثلين ببقائها وتأكدها ، والإرادة الموجودة من الأول إلى الآخر موجود واحد مستمرّ ينتزع عنها مرتبة ضعيفة في أول أمرها ومرتبة شديدة في آخر أمرها.

ولا يخفى عليك أن التحريك التنزيلي المنتزع عن الإنشاء بداعي جعل الداعي وإن كان يصح اعتبار الشّدّة والضعف فيهما (١) كما في التحريك الحقيقي الخارجي لكن لا بنحو الحركة والاشتداد ، بداهة أن الإنشاءين الصادرين لجعل الداعي ليس بينهما اتصال في الوجود الوحداني ، كي يجري فيهما الحركة والاشتداد ، وإن كان يختلف قول الطبيعة على أفراد التحريك التنزيلي بالشدة والضعف ، فيقال : إن وجوب الصلاة أشد وأقوى من وجوب غيرها.

ولو فرض فيما نحن فيه تأكد الداعي وتأكد الإرادة وصدور التحريك المنزل منزلة التحريك الشديد ، وسقوط الإنشاء السابق عن كونه محركا كان خلفا ، وإلا لكان من اجتماع المثلين.

وأما انتزاع البعث الأكيد عقلا من مجموع الإنشاءين ، فلا يلزم الخلف ولا اجتماع المثلين غير (٢) صحيح ، لأن خارجيّة الأمر الانتزاعي بخارجيّة منشأ انتزاعه ومجموع الإنشاءين واحد بالاعتبار لا بالحقيقية فلا منشأ انتزاع (٣) البعث الأكيد حقيقة حتى يتحقّق البعث الأكيد انتزاعا.

وانتزاع معنى من منشئه ليس جزافا بل لاقتضاء المنشأ فكان المعنى

__________________

(١) والصحيح : فيه.

(٢) والصحيح : فغير.

(٣) هكذا في المطبوع لكن الصحيح : لانتزاع.

٧١

الانتزاعي موجودا بالقوّة ومنشأ (١) موجود بالفعل ، ونحو وجود الأمر الانتزاعي نحو وجود المقبول بوجود القابل خارجا وفعليّة ، بحيث يكون له نحو وجود يختص به بفعليّة الاعتبار والانتزاع ، وبهذه الملاحظة يكون من الاعتباريات لا من الواقعيات.

والمفروض أن المنشأ ليس إلا الإنشاء بداعي جعل الداعي فقط ، وحيث لا منشأ حقيقة لانتزاع البعث الأكيد ، فلا هو موجود بوجوده ، ولا يعقل انتزاع ما لا منشأ له ، فتدبّر جيّدا.

٢٩ ـ قوله « قده » : في مرتبة أخرى منه أو مثله ... الخ (٢).

فاذا كان القطع بالإنشاء الواقعي من متممات السبب السابق كان الحكم الفعلي فعليّة ذلك الحكم المنشئ.

وإن كان بنفسه سببا من غير دخل للمصلحة الداعية إلى الحكم الواقعي كان هذا الحكم مماثلا للحكم الفعلي الذي كان المورد في سبيل الترقّي والبلوغ إليه.

لكنه يشكل بأن الإنشاء الذي قطع به السبب لحكم فعلي مماثل : إن كان انشاء بلا داع فهو محال ، لأنه من الأفعال الاختيارية فيستحيل صدوره بلا داع.

وإن كان انشاء بداعي جعل الداعي فلا محالة إذا قطع به يبلغ مرتبة الفعلية ، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليّين.

وإن كان إنشاء لغير داعي جعل الداعي من سائر الدواعي ، فهو مصداق لذلك الداعي.

فالإنشاء بداعي الإرشاد إرشاد وبداعي الامتحان امتحان ، ويستحيل أن ينقلب عما هو عليه ، فيصبر بعثا حقيقيّا وحكما فعليّا.

__________________

(١) هكذا في المطبوع والصحيح : ومنشأه.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٧.

٧٢

فالإنشاء المزبور ليس من مراتب الحكم الحقيقي حتى يندرج تحت عنوان أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، أو في مرتبة أخرى من مثله أو من ضده.

فان قلت : هذا إذا أريد من المرتبة مرتبة الإنشاء ، وأما إذا أريد مرتبة الاقتضاء فلا محذور فيها ، لأن القطع بالمقتضي لا يستدعي فعليّة مقتضاه ، بل يمكن أن يكون المقتضي المقطوع به فاقد الشرط أو واجد المانع ، بخلاف المقتضي للحكم المماثل ، لإمكان فقدانه للمانع ، ووجدانه للشرط.

قلت : المقتضي بمعنى السبب الفاعلي كذلك ، لثبوت مقتضاه في مرتبة ذاته ، فيتعدد المقتضى بتعدد المقتضي ، ولكل تعين ، في مرتبة مقتضيه بتعين المقتضي.

بخلاف المقتضي بمعنى الغاية الداعية ، فان المدعو إليه لا ثبوت له في مرتبة ذات غايته ، بل الغاية أثر لذيها لا العكس.

وإذ لا ثبوت له في مرتبة الغاية فلا تعيّن له بتعيّن الغاية ، كي يتعدّد ذو الغاية بتعدّد الغاية ، فلا معنى لأن يقال : إن الحكم الفعلي المعلول لعلّة غائيّة مماثل لما لا تعين له في مرتبة الغاية الغير الداعية بالفعل ، بل لا مدفع للإشكال.

إلا أن يقال : إن الإنشاء بداعي جعل الداعي المقطوع به يمكن أن يكون منوطا شرعا بأمر غير حاصل ، فلا يبلغه إلى مرتبة الفعلية ، بخلاف الحكم الفعلي المماثل ، فان مجرد القطع بالإنشاء المزبور سبب تام له ، فلا يلزم اجتماع المثلين ، فتدبّر.

٣٠ ـ قوله « قده » : يمكن أن يكون الحكم فعليّا بمعنى أنه لو تعلق به القطع على ما هو عليه ... الخ (١).

تحقيق المقام أن حقيقة الحكم : إن كانت عبارة عن الإرادة والكراهة ، فلا

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٦٧.

٧٣

يكاد يعقل تصور فردين من الإرادة ، أو الإرادة والكراهة في موضوع واحد.

وإن كانت عبارة عن البعث والتحريك ونحوهما : فإن كانت لحقيقة الحكم الفعلي مرتبة واحدة ذات جهات موجبة لبلوغها إلى درجة الفعليّة ، ومرتبة التّمامية ، فمن البيّن حينئذ أن ما يستحق أن يكون مصداقا للحكم الحقيقي هو ما اجتمعت فيه جميع جهات الفعليّة ، بداهة أن الفاقد لبعضها باق على الشأنية ولم يبلغ درجة الفعليّة ، والفعليّة تنسب إلى نفس تلك الجهة لا إلى الحكم.

ولا بد حينئذ من جعل العلم مثلا مبلّغا إلى درجة الفعليّة ، فيكون مرتبة الفعليّة والتّنجّز فيه واحدة ، وهو مما لا يقول به المصنف العلامة « رفع الله مقامه » إلا في الأحكام الطريقيّة دون النفسيّة الحقيقيّة.

وإن كانت لحقيقة الحكم الفعلي مراتب ودرجات مع وجدان جميعها لما هو ملاك الفعليّة ومناط حقيقة الحكميّة ، فمن الواضح أن فردين من طبيعة واحدة مثلان ، ومن طبيعتين ضدان ، سواء كانا متفاوتين في القوّة والضّعف أم لا ، فيستحيل اجتماعهما.

نعم إنما يمكن إبداء الفرق فيما لو كان استحالة اجتماع الحكمين الفعليّين بأمر خارج من حقيقة الحكم الفعلي ، وذلك بدعوى أن الحكم : إن كان الغرض الباعث إليه بحدّ يوجب على الحاكم القيام على رفع موانع تنجّزه على المكلف بنصب طريق موافق أو بجعل احتياط ملزم ، فلا محالة يستحيل منه نصب طريق لا يوافق أو أصل مخالف لمنافاته للغرض.

وإن كان الغرض الداعي إلى جعل الداعي لا بذلك الحد ، فكما لا يجب عليه رفع موانع تنجّزه على المكلف كما هو كذلك قطعا في الغالب ، كذلك يجوز له إبداء المانع عن تنجّزه بنصب طريق غير موافق أو أصل مخالف ، إذ المفروض كون الغرض بحيث لا يوجب رفع المانع ، فلا يمنع عن إبدائه ، إذ لا فرق بينهما في نظر العقل حيث إن عدم رفعه إبقاء منه والإبقاء والإبداء على حد سواء.

لكن لا يخفى عليك أن الغرض إنما يتفاوت فيما إذا كان غرضا من

٧٤

المأمور به لا غرضا من الأمر ، وإلا فالغرض الباعث على الأمر واحد لا يختلف ، فإن الغرض من التكليف الحقيقي جعل الداعي حقيقة ، وهو مناف لجعل داع آخر مماثل أو مضاد من حيث الغرضية.

كما أن نفس جعل حكمين كذلك أيضا محال ، ضرورة أن معنى إمكان الدعوة هنا تماميّة الداعي من قبل الأمر فيبقى المأمور ومقتضى عقله ، وهواه ، فإذا خلى العبد عما ينافي رسوم العبوديّة يخرج الداعي من حد الإمكان إلى الوجوب ، ولا يعقل اجتماع حكمين كذلك ، بداهة عدم إمكان انقداح داعيين متماثلين ، أو متضادين في نفس المأمور بالإضافة إلى فعل واحد.

وأما إذا أريد من الحكم الفعلي الإنشاء بداعي إظهار الشوق إلى الفعل فهو فعلي من قبل هذه المقدمة وإن لم يكن فعليّا من قبل غيرها ، فلو قطع به أو قامت الحجة عليه من باب الاتفاق لتنجّز.

ففيه أن الشوق ما لم يصل إلى حد بحيث لو كان فعلا مباشريّا للمشتاق لتحركت عضلاته نحوه لا يكون مصداقا للإرادة التّكوينيّة في المثال ، وللإرادة التّشريعيّة فيما نحن فيه.

ومن الواضح أن بلوغ الشوق إلى هذا الحد علّة تامّة للبعث الجدي والتحريك الحقيقي.

مضافا إلى منافاة نفس الإرادة التشريعية للإرادة الأخرى في طرف ضدها.

وإذا لم يصل الشوق إلى هذا الحد فمثله لو قطع به لا يكون مؤثرا في تحريك العبد فكيف يتنجّز.

نعم يمكن تقريب ما أفاده « قدس سره » بأن الحكم الواقعي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، لا بغيره من الدواعي ، فإنه لا يعقل أن ينطبق عليه عنوان البعث والزجر.

وهذا الحكم وإن لم يكن قبل الوصول بنحو من الأنحاء مصداقا للبعث

٧٥

والزجر الفعليّين ، لكنه فعليّ بمعنى آخر أي هو تمام ما بيد المولى وتمام ما يتحقق من قبله.

ومثله لو قطع به أو قامت عليه الحجّة كما يصير بعثا فعليّا ، كذلك يتنجز.

بخلاف ما إذا ظن به ، فإنه لا يصير مصداقا للبعث الفعلي كما لا يصير منجّزا ، فلذا يعقل جعل بعث فعلي أو زجر فعلي في مورده ، إذ المماثلة بين البعثين الفعليين ، والمضادة بين بعث فعليّ وزجر فعليّ ، لا بين ما لا يكون مصداقا للبعث بالفعل وما يكون كذلك بالفعل ، وسيجيء (١) إن شاء الله تعالى تفصيل القول فيه.

( في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه )

٣١ ـ قوله « قده » : يقتضي موافقته التزاما والتسليم له ... الخ (٢).

لا يخفى عليك أن تحقيق حقيقة الالتزام الباطني لا يخلو عن خفاء وغموض ، لأنه خارج عن المقولات التي هي أجناس عالية للماهيات ولا شيء من موجودات عالم الإمكان كذلك.

ووجه الخروج أن المقولة المناسبة له مقولة الكيف النفساني أو مقولة الفعل وهو خارج عن كلتيهما :

أما عن الأولى ، فلأن المفروض أن نسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد لا بالتّكيّف والقبول والانفعال مع أن الكيفيات النفسانية مضبوطة محصورة ليس بشيء منها كما لا يخفى على الخبير بها.

وأما عن الثانية ، فلأنها عبارة عن الحالة الحاصلة للشيء عند تأثيره التدريجي في غيره ، كالتسخين للنار في قبال مقولة الانفعال. ومن البين أنه ليس هنا شيئان لأحدهما حالة التأثير التدريجي وللآخر حالة التأثر التدريجي كالنار

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٧١.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٨.

٧٦

والماء.

لكنا قد ذكرنا في مبحث الطلب والإرادة (١) مفصلا أن الفعل القلبي ضرب من الوجود النوري ، والوجود في قبال المقولات ، وهذا الفعل قائم بالنفس قياما صدوريا فهو من العلوم الفعلية دون الانفعالية ، ونسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد.

وبالجملة الأفعال القلبية أمور يساعدها الوجدان ، فان الانسان كثيرا ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب ، لكنه لا ينقاد له قلبا ولا يقرّبه باطنا ، لخباثة نفسه أو لجهة أخرى ، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفا من سوطه وسطوته.

وهكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبيّنا صلّى الله عليه وآله حيث إنهم كانوا عالمين بحقيّته كما نطق به القرآن ومع ذلك لم يكونوا منقادين له قلبا ولا مقرّين به باطنا.

ولو كان ملاك الايمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا مؤمنين به حقيقة ، أو جعل الإيمان الذي هو أكمل كمالات النفس مجرد الإقرار اللساني ، وكلاهما مما لا يمكن الالتزام به فافهم جيّدا.

٣٢ ـ قوله « قده » : الحق هو الثاني لشاهدة الوجدان ... الخ (٢).

قد عرفت في مبحث التجري (٣) أن ملاك استحقاق العقوبة انطباق عنوان هتك الحرمة والظلم على المخالفة للتكليف.

ومن الواضح أن عدم الالتزام قلبا مع كمال الالتزام عملا لا يكون هتكا ولا ظلما ، إذ الغرض من التكليف انقداح الداعي إلى فعل ما هو موافق لغرض

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٤٩.

(٢) كفاية الأصول ٢٦٨.

(٣) التعليقة ١٠.

٧٧

المولى.

وعدم المبالاة بأمر المولى إنما يكون هتكا وظلما إذا انجر إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه.

نعم إذا كان الالتزام قلبا واجبا شرعا كان تركه هتكا وظلما.

والحاصل أن الغرض عدم اقتضاء التكليف بفعل للالتزام به قلبا عقلا ، لا عدم وجوبه شرعا ، ولا عدم وجوب الالتزام بما ورد منه تعالى أو من رسوله شرعا أو عقلا ، فالكلام في مقتضيات التكليف المعلوم عقلا ، وإلا فلزوم الالتزام بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله غير مختص بالثابت في حق المكلف ، بل ولو كان في حق الغير.

مع أن لزوم تصديق النبي صلّى الله عليه وآله فيما أتى به معناه أن ما أوجبه صلّى الله عليه وآله واجب من قبله تعالى وهو يجتمع مع عدم الالتزام بما أوجبه تعالى ، فتدبّر جيّدا.

ثم إن هذا كله لو كان الغرض من هذا البحث بيان شئون التكليف المعلوم من حيث الإطاعة والمعصية عقلا.

وأما إن كان الغرض بيان المانع من إجراء الأصل وعدمه كما هو المناسب لمباحث الأصول العمليّة ، فلا فرق بين أن يكون وجوب الموافقة الالتزاميّة وحرمة المخالفة الالتزامية من مقتضيات التكليف المعلوم عقلا وأن يكون بدليل آخر عقلا ونقلا (١) ، فانه يمنع عن جريان الأصل على القول به ، ولو ثبت بدليل آخر كما هو واضح.

ومنه يظهر الفرق بين البحث من حيث كونهما من شئون التكليف ، والبحث من حيث المانعيّة عن إجراء الأصول من وجه آخر : وهو عدم اختصاص الأول بالتوصليات بل يعم التعبديات أيضا.

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : أو نقلا.

٧٨

غاية الأمر أن المخالفة الالتزامية فيها لا تنفكّ عن المخالفة العمليّة وتنفك المخالفة العمليّة عن المخالفة الالتزامية ، لأن الالتزام بالحكم لا يلازم العمل ، والعمل العبادي يلازم الالتزام بالحكم.

ويختص الثاني أعني البحث من حيث المانعية بالتوصليات حتى يتمحّض المانع في المخالفة الالتزامية مستلزمة (١) للمخالفة العمليّة التي لا كلام في مانعيّتها.

٣٣ ـ قوله « قده » : للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا ... الخ (٢).

بل يتمكن من أزيد من ذلك بناء على ما سيجيء إن شاء الله من أن طرف العلم دائما مبيّن تفصيلا ، وإنما الإجمال والتردّد في طرف الطّرف ومتعلّقه ، بداهة أن طرف العلم يتشخص به العلم في مرحلة النفس ، وهو أمر جزئي غير مردد ، وهنا كذلك ، لأن المعلوم هو الإلزام من الشارع أما أنّ متعلّقه الفعل أو الترك ، فهو مجهول أي غير معلوم والإلزام المعلوم يستتبع على الفرض الالتزام به باطنا والانقياد له قلبا.

٣٤ ـ قوله « قده » : وإن أبيت إلاّ عن لزوم الالتزام به بخصوص ... الخ (٣).

إذ كل تكليف كما يقتضي إطاعته عملا لا إطاعة الأعم منه ومن غيره كذلك يقتضي الالتزام به بحده ، لا الالتزام بعنوان أعم أو بالجهة الجامعة بينه وبين ضده فافهم.

٣٥ ـ قوله « قده » : لما كانت موافقته القطعيّة الالتزاميّة ... الخ (٤).

لعدم تبيّنه تفصيلا حتى يلتزم به بعنوانه.

__________________

(١) هكذا في المطبوع والمخطوط بغير خط المصنف ، لكن الصحيح : استلزامها.

(٢) كفاية الأصول / ٢٦٨.

(٣) كفاية الأصول / ٢٦٨.

(٤) كفاية الأصول / ٢٦٨.

٧٩

وأما الالتزام بهذا بعينه وبذاك بعينه حتى يتحقق الالتزام بالواقع بعنوانه ، فهو محال إلا على وجه باطل ، لان الالتزام الجدي بشيئين من قبله تعالى مع القطع بأن أحد الشيئين لم يرد منه تعالى مما لا ينقدح في نفس العاقل إلاّ بنحو التشريع المحرم عقلا ونقلا.

ومنه ظهر أنّ الالتزام بأحدهما بخصوصه مع عدم العلم بوروده بخصوصه غير ممكن إلاّ تشريعا.

مضافا إلى عدم إحراز الالتزام اللازم حينئذ.

وهكذا الأمر في الالتزام بهما تخييرا ، فإن الغرض : إن كان على نحو الالتزام بالواجب التخييري ، فهو غير معقول ، للقطع بأن الثابت الزام تعييني لا تخييري ، فيكون تشريعا غير مفيد.

وإن كان بنحو التخيير في نفس التزامه بمعنى أن العقل يخيره بين الالتزام بالوجوب أو الالتزام بالحرمة ، فهو جزاف لا يعقل حكم العقل به ، لأن الالزام الواقعي كما يقتضى إطاعة نفسه عملا كذلك يقتضي إطاعة نفسه التزاما ، فالتخيير بين الالتزام بالثابت والالتزام بغير الثابت لا يعقل أن يكون من مقتضيات التكليف الثابت ، فلا يحكم به العقل.

فان قلت : هذا إذا أريد من التخيير ما هو كالتخيير بين الواجبين المتزاحمين ، حيث إن اقتضاء كل منهما للجري على وفق مقتضاه محقق ، والجري على وفق كلا الاقتضاءين غير ممكن ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فيحكم العقل بالتخيير بينهما.

وأما إذا أريد من التخيير ما هو كالتخيير بين محتملات تكليف واحد ، فانه لا مانع منه ، ولا يجب أن يكون باقتضاء ذلك التكليف الواحد عقلا ليقال : بأنه غير معقول.

قلت : وجه التخيير بين محتملات تكليف واحد كالصلاة إلى إحدى

٨٠