نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

فانه الموضوع للمسألة ، فتدبره فانه حقيق به.

ونظير الثبوت التعبدي إشكالا وجوابا تنجز السنة بالخبر : أما إشكالا ، فمن حيث إن المنجّزيّة صفة جعليّة للخبر ، فهي من عوارض الخبر.

وأما جوابا فمن حيث إن المنجّزيّة والمتنجّزيّة متضايفتان ، فكما أن الخبر منجّز كذلك السنة الواقعيّة متنجّزة.

فإذا كان موضوع العلم بحيث ينطبق على الخبر صح البحث عن كون الخبر منجّزا.

وإذا لم ينطبق إلا على السنة الواقعيّة لزم البحث عن تنجّز السنة بالخبر. نعم جعل البحث في ثبوت السنة تعبّدا أولى من تنجزها بالخبر ، لأن الثبوت التعبدي بالإضافة إلى السنة كالوجود إلى الماهية ، والتنجز بالنسبة إليها كالعرض بالنسبة إلى الموضوع ، فالثبوت التعبدي أشد مساسا بالسّنة من التنجّز ، بل التنجز أكثر مساسا بالخبر حيث إنه وصف مجعول ابتداء للخبر ، فتدبر.

٩٥ ـ قوله « قده » : مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة ... الخ (١).

هذا لا يجري بناء على الحجّية بمعنى كون الخبر بحيث ينجّز الواقع ، إذ لا ثبوت تعبّدي هنا ، وإنما الثابت هي السنة بوجودها الحقيقي عند مصادفة الخبر لها. وإنما يجري بناء على إنشاء الحكم المماثل كما هو مبني الدعوى ، وذلك إنما هو بلحاظ لسان الدليل حيث إن وجوب تصديق العادل وسماع قوله ليس عين وجوب صلاة الجمعة ، بل لازمه وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، فالحكم المماثل لازم ما هو لسان الدليل ، وهو المبحوث عنه لا وجوب صلاة الجمعة.

ولذا تكون المسألة أصولية لا فقهية حيث لا تعلق للحجّية بحكم العمل

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٣.

٢٠١

بلا واسطة ، بل هي وحكم العمل متلازمان ، وإن كان التلازم بنحو الكناية لا بنحو الجد ، وهذا المقدار من التوسيط كاف في مقام الاستنباط ، ويخرج به عن تطبيق الحكم الكلي على مورده.

والتحقيق أن هذا المعنى وإن أمكن الالتزام به في جعل المسألة أصولية لا فقهيّة ، لكنه لا يجدي في دعوى أنه لازم الحجية ، لما عرفت من أن الحكم المماثل له ثبوت تحقيقي لا تعبدي تنزيلي ، بل ما له ثبوت تعبدي نفس السنة لا لازمه (١).

في آية النبأ

٩٦ ـ قوله « قده » : من وجوه أظهرها ... الخ (٢).

منها ما حكاه المحقق الأنصاري « قدس سره » في (٣) رسائله وهو تعليق الحكم على أمر عرضي متأخر عن الذاتي.

وتوضيحه بحيث يكون دليلا للمطلوب هو أن العلة لوجوب التبين إما مجرد الخبرية أو هي مع الفسق بنحو الاشتراك أو كل منهما مستقلا أو مجرد فسق المخبر ، وبعد ظهور الآية في دخل الفسق في وجوب التبين كما هو مفروض الرسائل ينفي الاحتمال الأول ، كما أن الثاني يثبت المطلوب لانتفاء المعلول بانتفاء أحد جزءي العلة.

وأما احتمال قيام خصوصية العدالة أو خصوصية أخرى في مقام الفسق فالعلة غير منحصرة.

فمدفوع : بمنافاته للبرهان إن كان كل منهما بخصوصه علة لوجوب

__________________

(١) والصحيح : لازمها.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٦.

(٣) فرائد الأصول المحشى : ١ / ١٠٧.

٢٠٢

التبين ، إذ المتباينان لا يؤثران أثرا واحدا. وبمنافاته للظاهر إن كانا مؤثرين بجامع يجمعهما ، إذ الظاهر من الآية علّية خبر الفاسق من حيث عنوانه الخاص.

والاحتمال الثالث مناف للظاهر ، لأن بيان الخبرية مغن عن الفسق ، إذ لا يلزم من الاكتفاء على تعليل الحكم بالخبرية إخلال بثبوت الحكم في مورد من الموارد ، فتقييد الخبر بكون الجائي به فاسقا ليس لبيان العلّية.

لا يقال : إذا كان كل منهما علة فعند اجتماعها (١) يكونان معا علة واحدة ، فالحكم الواحد حيث كان منبعثا عنهما رتّبه عليهما.

لأنا نقول : هذا بالنسبة إلى شخص الحكم ، وأما إذا كان المرتب عليهما كلي الحكم كما هو مقتضى القول بالمفهوم ، فلا محالة يلزم من ترتيبه عليهما الإخلال لعلّية الخبرية في غير هذا المورد ، ففرض علّية الخبريّة يستلزم عدم التقييد بالفسق ، وإلا لازم اللغويّة.

وحمله على نكتة أخرى مناف لتسليم ظهور الآية في علّية الفسق ، فلم يبق من المحتملات إلا علّية الفسق اشتراكا أو استقلالا بنحو الانحصار.

نعم كل ذلك مبني على تسليم ظهور الآية بمناسبة الحكم والموضوع في علّية الفسق للحكم لا للتنبيه على فسق المخبر وهو الوليد في خصوص المورد.

وأما ما أفاده المحقق المقدم « رحمه الله » من أن التعليل بالذاتي أولى لحصوله قبل حصول العرضي فانما ينفي العلية بالاستقلال للخبرية لا الاشتراك مع الفسق في التأثير.

مضافا إلى أن قبليّة الذاتي على العرضي قبليّة ذاتيّة طبعيّة ، لا قبليّة زمانيّة وجوديّة حتى لا ينتهي النوبة في التأثير إلى العرضي المتأخر ، فتدبر جيّدا.

ثم إن تقريب الاستدلال على المشهور بالمفهوم مبني كما أفاده المحقق

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة ، لكن الصحيح : اجتماعهما.

٢٠٣

الأنصاري « قدس سره » على كون وجوب التبين نفسيا لا على كونه شرطيا ، إذ لا يتوقف الوجوب الشرطي على المقدمة الخارجية القاضية بأنه لو لا وجوب قبول خبر العادل لكان أسوأ حالا من الفاسق ، وجه عدم التوقف أن وجوب العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن ، فينتفي في غيره.

والوجوب الشرطي عبارة عن لابديّة المشروط في تحققه من الشرط ، لا الوجوب المقدمي حتى يقال : إن عدم وجوب التبين مقدمة للعمل كما يمكن أن يكون لعدم المقدمية ، كذلك يمكن أن يكون لعدم وجوب ذيها وهو العمل بالخبر ، فإنه لا مقدمية للتبين للعمل حتى يتوهم وجوبه المقدمي.

وكذا الوجوب الشرطي بمعنى وجوب العمل بخبر الفاسق مقيدا بالتبيّن فيجب التبين لأخذه في الواجب وإن لم يكن بنفسه مقدمة وجودية للعمل بالخبر ، فإنه بناء عليه يجب التبين مطلقا تحصيلا للعمل الواجب مع أنه لا ريب في عدم وجوب التبين لو لم يرد ترتيب الأثر على الخبر.

كما أن ما أفاده الشيخ الأعظم في رسائله من وجوب التبين عند إرادة العمل لا مطلقا فانه : إن أريد منه وجوب التبين نفسيّا غاية الأمر مشروطا بإرادة العمل على طبق الخبر ، فهو التزام بالوجوب النفسي المشروط لا بالوجوب الشرطي المقابل للوجوب النفسي.

وإن أريد منه اشتراط وجوبه الغيري بإرادة العمل على طبق الخبر ، فهو محال ، لأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا ، ولا يعقل اشتراط وجوب العمل على طبق الخبر بإرادة العمل ، للزوم تعليق الحكم على مشيّة المكلف.

بل المراد من الوجوب الشرطي ما ذكرناه من أن حرمة العمل بخبر الفاسق مقيّدة بعدم التبين وجوازه بالتبين ، فأصل الجواز منوط بالتبين ، فلا بد في جواز العمل من التبين ، لا أن التبين واجب شرعي بنحو من الوجوب الحقيقي

٢٠٤

هذه غاية تقريب الوجوب الشرطي للتبين.

والتحقيق أن التبين ليس كالفحص المشروط به العمل بالعام أو إجراء الأصول ، بل معناه طلب العلم بالواقع ، ويكون مدار العمل عليه لا على خبر الفاسق بعد التبين.

ومن البين أن وجوب طلب العلم بالواقع لا يكون بوجه مرتبا ومعلّقا على مجيء الفاسق بالخبر حتى ينتفي بانتفائه ، بل المراد والله أعلم لزوم الإعراض عن خبر الفاسق وصرف المكلف إلى تحصيل العلم بالواقع لترتيب آثار الواقع.

فبناء على ثبوت مفهوم الشرط للآية يكون المعلق على مجيء الفاسق هو عدم حجية الخبر بمعنى عدم جعل الحكم المماثل أو عدم المنجزية للواقع ببيان لازمه وهو تحصيل العلم ، إذ لا يطلب تحصيل العلم بالواقع ، إلا مع عدم الحجة على الواقع بعدم ثبوته تنزيلا أو عدم تنجزه بمنجز.

فالمنتفى بانتفاء مجيء الفاسق عن النبأ هو ملزوم التبين أي عدم الحجية ، وانتفائه عن النبأ الذي جاء به العادل هو حجية خبر العادل ، لاستحالة ارتفاع النقيضين.

فتبين أن المعلّق حقيقة على مجيء الفاسق بناء على المفهوم هو ملزوم وجوب التبين لا نفسه ، فوجوب التبين لم يكن منوطا به شيء ولا منوطا بشيء ، بل المعلّق هو عدم جعل الحكم المماثل أو عدم المنجزية للواقع ، فهو المنتفي عند انتفاء مجيء الفاسق من دون حاجة إلى ضم مقدمة خارجية.

٩٧ ـ قوله « قده » : على كون الجائي به الفاسق ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن ظاهر الآية من حيث وقوع مجيء الفاسق بوجوده الرابط في تلو الشرطية أن المعلق عليه مجيء الفاسق بنحو وجوده الرابط ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٦.

٢٠٥

فينتفي الحكم بانتفائه لا فسق الجائي به بوجوده الرابط كي ينتفي الحكم بانتفاء كونه فاسقا مع حفظ مجيء الخبر ، فان الواقع موقع الفرض والتقدير هو مجيء الفاسق لا فسق الجائي ، فكيف يكون المجيء مفروغا عنه.

وبالجملة : فرق بين ما لو قيل إن كان الجائي بالخبر فاسقا وما لو قيل إن كان الفاسق جائيا بالخبر ، ومفاد الآية تحليلا هو الثاني ، وما يجدي في المقام هو الأول.

لا يقال : إذا كان النبأ بعنوانه لا بما هو مضاف إلى الفاسق موضوعا للحكم ، فلا فرق في إفادة المفهوم على النحو المطلوب بين كون المعلّق عليه مجيء الفاسق أو كون الجائي به فاسقا ، فان النبأ الذي جاء به العادل نبأ لم يجيء به فاسق ، فلا يجب التبيّن عنه من حيث إنه لم يجيء به فاسق.

لأنا نقول : معنى إن جاءكم فاسق بنبإ في الحقيقة إن نبّأكم فاسق ، لا أن المجيء أمر آخر حتى يكون أحدهما موضوعا والآخر معلقا عليه.

ويمكن أن يقال : بالفرق بين مورد الآية والموارد التي يكون الشرط فيها محققا للموضوع ، فان الولد لا يكون إلا مرزوقا ولا الدرس إلا مقروءا ولا الركاب إلا عند الركوب ، بخلاف النبأ فإنه ربما يكون ولا انتساب له إلى الفاسق ، فلو كانت العبارة إن نبّأكم فاسق لأمكن أيضا القول بدلالتها على المطلوب ، حيث إن الهيئة وإن كانت مقيّدة من حيث الفاعل بالفاسق ، إلاّ أن مادّة النّبأ مطلقة فلنا التمسك بإطلاق مادّته وجعله موضوعا ، وجعل انتسابه إلى الفاسق معلّقا عليه ، فينتفي وجوب التبيّن بانتفائه.

فان قلت : لا يعقل أن يكون الإضافة والنسبة إلى الفاسق معلقا عليها والنبأ موضوعا للحكم ، لأن المعلق عليه كالمعلق لا بد من أن يكون ملحوظا بلحاظ استقلالي ليعقل تعليق شيء على شيء.

وكذا وقوع مدخول الأداة موقع الفرض والتقدير أو موقع العلّية أو

٢٠٦

العلّية المنحصرة ، فإن هذه المعاني حيث إنها معان حرفية فلا بد من أن يكون الملحوظ بالأصالة معنى اسميا ، ولا يعقل أن تكون النسبة بما هي نسبة ملحوظا استقلالا لتلاحظ العلّية وأشباهها فيها بالتبع.

قلت : ليس الإشكال بحسب مقام الثبوت لإمكان دخل الإضافة إلى الفاسق في وجوب التبين عن النبأ ، وإنما الإشكال بحسب مقام الإثبات ، فان كان إيجاب التبين بمثل ما عبّرنا به وهو إن نبّأكم فاسق فتبيّنوا ، فمفاد الهيئة وهي النسبة الحقيقيّة معنى حرفي لا يعقل أن تكون معلقا عليها وموصوفة بالأوصاف المذكورة.

وأما مثل قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ فمجيء الفاسق معنى اسمي له قبول التعليق والعلّية والوقوع موقع الفرض والتقدير ، كما أن النبأ الوارد عليه النسبة في مثل المثال أيضا قابل لذلك ، لكنه يتحد المعلق عليه والموضوع.

نعم التحقيق أن تجريد النبأ عن الإضافة إلى الفاسق لا يخرج المعلق عليه عن كونه محققا للموضوع ، إذ لا حقيقة للنبإ إلا بصدوره من مخبر وكون المعلق عليه ذا بدل لا يخرجه عن كونه محققا للموضوع فان المناط انتفاء الموضوع بانتفاء المعلق عليه.

ومن الواضح انتفاء النبأ بانتفاء مجيء الفاسق والعادل ، بخلاف مثل إن جاءك زيد فاكرمه فان زيدا محفوظ ولو مع انتفاء المجيء وانتفاء كل ما يفرض بدلا للمجيء.

وربما يورد على جعل النبأ بنفسه موضوعا وجعل مجيء الفاسق به معلقا عليه بأن الموضوع : إمّا هو طبيعي النبأ المقسم بين نبأ الفاسق ونبأ العادل أو النبأ الموجود الخارجي :

فان كان الأول كان اللازم على تقدير تحقق الشرط وجوب التبين عن نبأ العادل أيضا لفرض كون الموضوع طبيعة النبأ المتحققة في ضمن نبأ

٢٠٧

العادل أيضا.

وإن كان الثاني فيجب أن يكون التعبير بأداة الشرط باعتبار الترديد ، لأن النبأ الخارجي ليس قابلا لأمرين ، فعلى هذا ينبغي أن يعبر بما يدل على المضي لا الاستقبال.

أقول : أما على تقدير جعل الموضوع طبيعي النبأ ، فليس المراد من الطبيعة المطلقة بنحو الجمع بين القيود بحيث يكون المراد منه الطبيعة المتحققة في ضمن نبأ العادل والفاسق معا.

بل المراد هو اللابشرط القسمي أي طبيعي النبأ الغير الملحوظ معه نسبة إلى الفاسق ولا عدمها وإن كان هذا الطبيعي يتحصص من قبل المعلق عليه وجودا وعدما ، فيتحقق هناك حصتان ، إحداهما موضوع وجوب التبين ، والأخرى موضوع عدم وجوب التبين.

ولا منافاة بين أن يكون الموضوع الحقيقي لكل حكم حصة مخصوصة ، وأن يكون الموضوع في الكلام رعاية للتعليق المفيد لحكمين منطوقا ومفهوما نفس الطبيعي الغير الملحوظ معه ما يوجب تحصّصه بحصّتين وجودا وعدما.

وأما على تقدير إرادة النبأ الخارجي ، ففيه : أولا أن شأن الأداة ليس جعل موضوع الحكم قابلا لأمرين ومنقسما إلى قسمين ومتحصّصا بحصّتين ، ضرورة أنه شأن ما كان الموضوع فيه كليّا ، لا مثل إن جاءك زيد فأكرمه.

بل شأن الأداة جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وهو كما يجتمع مع كلية الموضوع كذلك مع جزئية الموضوع ، وإن كان وجود بعض أفراد الموضوع الجزئي ملازما لأحد طرفي المعلق عليه كما فيما نحن فيه ، حيث إن النبأ الموجود بالفعل إما مضاف إلى الفاسق أو إلى العادل.

إلا أن وقوع الشيء موقع الفرض والتقدير يجتمع مع كون المحقق عدمه فضلا عن موافقة الفرض للواقع ، كما في حرف لو الشرطية فان دلالتها على

٢٠٨

امتناع الجزاء بملاحظة أن فرض وجود شيء في الماضي لكون المحقق عدمه ففرضه فرض أمر محال ، وما يترتب عليه أيضا محال.

وثانيا لا وجه لاختصاص الترديد بالماضي إلا توهم أن الموجود بالفعل في الخارج حيث إنه جزئي متشخص ، فلذا لا يكون قابلا لأمرين بل واقع لا محالة على أحد الوجهين ، بخلاف ما لم يوجد بعد ، فانه غير متشخص وغير واقع على وجه حتى لا يكون هناك مجال إلا للترديد.

ويندفع بأن المفروض في المستقبل إذا كان واحدا شخصيا لا نوعيا فهو أيضا بحسب الفرض جزئي لا يقع إلا على وجه واحد ، فهو غير قابل لأمرين ، بل أمره مردد بين أمرين بلحاظ جهل الشخص بحاله ، فالجزئية المانعة عن قبول الأمرين لا تختص بما وقع ، بل تعم ما سيقع أيضا ، فتدبر جيدا.

٩٨ ـ قوله « قده » : إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع ... الخ (١).

توضيحه : أن أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلوا لها فيما له من الشأن بالإضافة إلى سنخ الحكم المنشئ ، لأن انتفاء شخص الحكم بانتفاء شخص موضوعه أو شخص علّته لا يحتاج إلى دلالة على الحصر ، فالحصر بالإضافة إلى سنخ الحكم :

فان كان الواقع عقيبها معلقا عليه حقيقة الحكم كانت السببية منحصرة ، ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها.

وإن كان محققا للموضوع كان الموضوع الحقيقي منحصرا فيما وقع عقيب الأداة ، ومقتضى انحصار موضوع سنخ الحكم في شيء انتفاؤه بانتفائه وإن كان هناك موضوع آخر.

بل يمكن تقويته بدعوى أن أداة الشرط شأنها التعليق دائما غاية الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٦.

٢٠٩

أن المعلق عليه : ربما لا يعقل له بدل يمكن أن ينوب عنه سواء كان علة كما في مثل إن سأل زيد فاجبه أو محققا للموضوع كما في مثل إن رزقت ولدا فاختنه وأشباهه ، فالانتفاء عند الانتفاء عقلي.

وربما يعقل له بدل ، لكنه يؤخذ في القضية على نحو المحقق للموضوع بالعدول عن جعل الفسق معلقا عليه كما في التقريب الأول من المتن إلى جعل المجيء معلقا عليه مع كونه ذا بدل ، فيكون النكتة فيه إظهار حصر الموضوع في ما أخذ الشرط فيه محققا له بدعوى انه كالمحقق الذي ينتفي الحكم بانتفائه من سائر القضايا الشرطية التي يدعي دلالتها على المفهوم.

٩٩ ـ قوله « قده » : لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة ... الخ (١).

حيث إن إصابة القوم بجهالة علّة وهي متقدّمة على معلولها وهو وجوب التبين وعدم جواز العمل بخبر الفاسق ، فالعمل بخبر الفاسق من حيث نفسه جهالة لا بما هو غير حجة ، بل حيث إنه جهالة لم يكن حجة ، فالعلة مشتركة بين خبر الفاسق وخبر العادل لعدم العلم في كليهما.

ويمكن أن يقال : إن ظاهر التعليل هنا وفي غير مورد من الموارد عدم كونه تعبديّا بل يذكر العلة غالبا لتقريب الحكم إلى أفهام عموم الناس.

ومن الواضح أن العمل بخبر من يوثق به ليس عند العقلاء من شأن أرباب الجهل ، كما أن العمل بخبر من لا يبالي بالكذب من زي أرباب الجهل ، وبعيد عن طريقة أرباب المعرفة والبصيرة.

وإنما اغتر أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله بظهور إسلام الوليد المقتضي للتجنب عن الكذب غفلة منهم عن عداوته لبني المصطلق الداعية إلى الافتراء عليهم بارتدادهم فنبههم الله تعالى على فسقه المقتضي لعدم المبالاة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٧.

٢١٠

بالكذب ، فيقتضي التبين عن خبره ، لأن الاعتماد على خبر من لا يبالي بالكذب من شأن أرباب الجهل.

لا يقال : ظاهر التعليل بإصابة القوم كون الحكم لخصوص الواقعة ، لعدم سريان هذه العلة في جميع موارد العمل بخبر الفاسق.

لأنا نقول : لو كان الحكم لخصوص الواقعة لكان اللازم تكذيب الوليد لعلمه تعالى بكذبه مع قيامه مقام إظهار فسقه ، لا إيجاب التبين والتعليل بخوف إصابة القوم ، فيعلم منه أن الغرض إعطاء الكلية ، لأن الكاذب قد يصدق ، وحيث كان المقصود تطبيق الكلية على المورد أيضا فلذا طبق كلي المفسدة على خصوص مفسدة المورد وهي إصابة القوم بجهالة والله أعلم.

ومرجع هذا الجواب إلى أن المراد هي الجهالة العملية دون الحقيقيّة النفسانية كما في قوله تعالى : ( أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (١) ، وقوله تعالى : ( يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) (٢) إلى غير ذلك.

إلا أن كون العمل بخبر العادل من زي أرباب البصيرة والعمل بخبر الفاسق من زي أرباب الجهالة ليس بمجرد كون الفاسق لا يبالي بالكذب دون العادل ، فان الاعتماد على ما ليس بحجة ليس من زي أرباب البصيرة ، وإنما يكون العمل بخبر العادل مع قطع النظر عن هذه الآية من شأن أرباب البصيرة لبناء العقلاء على العمل بخبر من يوثق به ، فالآية حينئذ مبنيّة على حجّية خبر العادل وكاشفة عنها لا أنها مبيّنة للحجّية وجاعلة لها كما هو المقصود هنا.

وربما يجاب (٣) بأن العلة ليس مطلق الجهالة بل جهالة خاصة توجب

__________________

(١) هود : ٤٦.

(٢) النساء : ١٧.

(٣) كما عن المحقق العراقي قده. نهاية الأفكار : ٣ / ١١٥.

٢١١

الندامة وهي مخصوصة بخبر الفاسق ، وأما العمل بخبر العادل فعلى فرض المخالفة للواقع يوجب المعذورية لا الندامة.

وجوابه ما مر آنفا من أنه مع قطع النظر عن الحجية كلاهما يوجب الندم ، فالآية مبنية على الحجية الموجبة للمعذورية ، لا متكفلة لها.

وأما الجواب (١) عن التعليل بحكومة المفهوم الموجب لحجية خبر العادل وأنه محرز للواقع اعتبارا ، فالجهالة وإن كانت بمعنى عدم العلم إلا أنها منزلة منزلة العدم بمقتضى المفهوم.

فمندفع بأن حكومة سائر الأدلة على هذا التعليل المشترك وجيهة ، وأما حكومة المفهوم المعلل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجية خبر العادل حتى يرتفع به الجهالة تنزيلا ، فهو دور واضح ، فتدبّر جيّدا.

في إشكال الخبر مع الواسطة

١٠٠ ـ قوله « قده » : فإنه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق ... الخ (٢).

وببيان آخر لا ريب في أن حجية الخبر إما بمعنى إنشاء الحكم المماثل على طبقه أو بمعنى جعله بحيث ينجز الواقع.

فان كان الأول فمن البيّن أن إيجاب ما أخبر بوجوبه العادل وتحريم ما أخبر بتحريمه لا يكاد يعم بلفظه ما إذا أخبر عن موضوع محكوم بهذا الحكم الإيجابي أو التحريمي المماثل ، وإلا لزم كون الحكم موضوعا لنفسه ، حيث إن

__________________

(١) كما عن المحقق النائيني قده. فوائد الأصول : ٣ / ١٧٢.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٧.

٢١٢

الحكم متأخر طبعا عن موضوعه ، فلا ثبوت له في مرتبة موضوعه بما هو موضوعه ، ومعنى شمول الإخبار عن الوجوب والتحريم للإخبار عن الوجوب والتحريم التنزيليّين الثابتين بنفس آية النبأ وشبهها شمول الموضوع لحكمه وثبوت الحكم في مرتبة موضوعه.

وإن كان الثاني : فان اقتصرنا في التنجيز على كون الخبر موجبا لاستحقاق العقوبة على المخالفة عند المصادفة ، فلا مجال للتعدّي عن الخبر المتكفل لحكم شرعي نفسي بنفسه ، وهو خلاف المطلوب.

وإن عممنا التنجيز ولو بلحاظ انتهائه إلى ذلك ومجرد إيقاع المكلف في كلفة التكليف طريقيّا كان أو حقيقيّا ، فلا محالة يرد المحذور المزبور على الوجه المسطور ، فان جعل الخبر منجزا لا يكاد يعم تنجيز نفسه.

مع أن قيام الخبر على الخبر لا أثر له إلا تنجيز الخبر ، فتدبر.

ومما ذكرنا تبين أن ملاك الإشكال اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة موضوعيته له ، لا عدم فردية الحكم (١) لطبيعة الأثر حال تعلقه بها ، فكيف يعمّ نفسه فانه يندفع بجعل القضية حقيقيّة ، لشمول القضية الحقيقيّة لأفرادها المحقّقة والمقدرة ، فالحكم بنفسه من الأفراد المقدّرة الوجود المحققة بعد تعلقه بموضوعه.

كما أنه ليس ملاك الإشكال لحاظ الحكم في موضوعه بشخصه تفصيلا ،

__________________

(١) كما عن المحقق النائيني قده حيث إن صريح كلامه في الوجه الرابع ان وجوب التصديق في الوسائط وإن كان نفسه من الآثار الشرعية إلا أنه ليس أثرا يكون وجوب التصديق بلحاظه فلا يكون فردا من طبيعة الأثر الذي بلحاظ يجب تصديق المخبر بل هو أثر يترتب على الخبر مع الواسطة بنفس دليل الاعتبار وهو صدق العادل لأول السلسلة فيلزم أن يكون الدليل مثبتا لنفسه وموجدا لفرد آخر مثله. فوائد الأصول ٣ : ١٧٩ ـ ١٨٠.

٢١٣

حتى يتوهم أن مفاد دليل الحجية إذا كان عاما أصوليا لا مانع من شموله لحكمه ، لعدم لحاظه تفصيلا في موضوعه بل إجمالا في ضمن العموم ، فيصح أن يقال : رتب كل أثر أو كل ما هو فرد لعنوان الأثر ، فيعم نفس الحكم المتعلق بالعام قياسا بالقضية الطبيعية التي يجاب بها الإشكال بتخيل أن الحكم فيها حيث إنه ملحوظ بالإجمال يندفع به الإشكال (١).

وسيجيء إن شاء الله تعالى فساد هذا التخيل وأن الجواب بالقضية الطبيعيّة غير منوط بالفرق بين اللحاظ الإجمالي والتفصيلي ، لضرورة أن اتحاد الحكم مع موضوعه في مرتبة موضوعيته إذا كان مستحيلا لم يكن فرق فيه بين أن يكون هذا المحال ملحوظا بنحو التفصيل أو الاجمال.

وربما يتوهم أن الاشكال مبنيّ على تعلق الحكم بالموضوعات الخارجية والهويات العينيّة ، فانه يقتضي سراية الحكم إلى موضوعه المتقوم بشخص الحكم ، فيلزم سراية الحكم إلى نفسه.

وأما إذا قلنا بأن الحكم لا يتعلق بالخارجيات بل يتعلق بالطبائع والعناوين ، فموضوع الحكم حينئذ ليس متقوما بحقيقة الحكم بل بعنوانه ، فلا يلزم سراية الحكم إلى نفسه ، بل بين الحكم ومقوّم موضوعه التفاوت بالحقيقة والعنوان ، وكفى به مغايرة بين الحكم وموضوعه ، فلا يلزم عروض الشيء لنفسه ، ولا اتحاده بنفسه وسرايته إلى نفسه.

ويندفع هذا التوهم : أولا بأن المبني وإن كان صحيحا عندنا للبراهين

__________________

(١) لم نجد القائل بأن ملاك الإشكال لحاظ الحكم في موضوعه بشخصه تفصيلا والمجيب بأن مفاد دليل الحجية هو العموم الأصولي فيمكن شموله لحكمه مع أنا لم نأل جهدا في الرجوع إلى كلمات الأصوليين فيما يحضرنا من الكتب واعادة النظر والتأمل والدقة فيها مرة بعد أخرى فلم نحصل على شيء.

٢١٤

القاطعة المذكورة في مسألة (١) اجتماع الأمر والنهي ، إلا أن جميع تلك البراهين غير جار هنا ، لأنها :

إما كون الفعل الخارجي مسقطا للحكم فلا يعقل أن يكون معروضا له.

وإما كونه معلولا للحكم والمعلول متأخر طبعا عن علته فلا يعقل أن يكون معروضا له فإن المعروض متقدم طبعا على عارضه.

وإما كون البعث موجودا مع أن الفعل معدوم والموجود لا يتعلق بالمعدوم ولا يتقوم به.

وإما كون الحكم : إما بمعنى الإرادة وهي كيفيّة نفسانيّة وهي الشوق الأكيد والشوق المطلق لا يوجد بل يوجد متعلقا بشيء ومتعلّقه المشخّص له لا يعقل أن يكون أمرا خارجا عن أفق النفس بل أمر واقع في أفق النفس فكيف يمكن أن تكون الحركات العضلانيّة مقوّمة لصفة الشوق النفساني.

وإما بمعنى البعث الاعتباري الانتزاعي عن الإنشاء بداعي جعل الداعي.

ومن الواضح أن البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده الاعتباري العقلائي بل يوجد متعلقا بمتعلقه ويستحيل أن يكون الأمر الخارجي المتأصل المغاير لأفق الاعتبار مقوّما ومشخّصا لأمر اعتباري.

فالمناسب للأمر الاعتباري ليس إلا الطبيعة والعنوان لا الشخص الخارجي والمعنون.

وهذه البراهين برمّتها أجنبية عما نحن فيه ، لأن الطبيعة التي تعلق بها الوجوب الحقيقي الذي يصح (٢) انتزاع عنوان الواجب منها إنما هي قبل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : التعليقة ٦٢.

(٢) هكذا في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قد ، لكن الصحيح : يصحح.

٢١٥

وجودها الحقيقي خارجا ، فهذه الطبيعة الواجبة مع فرض كونها واجبة إذا تعلق بها شخص الوجوب المأخوذ فيها الملحوظ معها لا يلزم منها (١) شيء من المحاذير المتقدمة ، لأنها لا تسقط الحكم في مرتبة طبيعيّتها ، ولا هي معلولة له في هذه المرتبة ، ولا معدومة في هذه المرتبة ، ولا منافية لأفق النفس ، ولا لأفق الاعتبار ، لعدم خارجيتها.

بل إنما لا يعقل أخذ شخص هذا الوجوب في متعلق نفسه للزوم عروض الشيء لنفسه ، فلا موجب لأخذ العنوان مقوما للموضوع إلا نفس هذا المحذور ، لا محذور تعلق الحكم بالخارجيات حتى يتوهم أن الموضوع لا محالة هو العنوان ، فلا يبقى مجال للاشكال.

فان قلت : لا ينحصر المانع عن تعلق الحكم بالموضوع الخارجي في ما ذكر ، بل الحكم حيث إنه بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية لا من قبيل عوارض الوجود ، فلا بد من أن يكون فعليّة موضوعه بفعليّة نفسه لا بفعلية أخرى ، لأن كل فعلية تأبى عن فعلية أخرى ، فيجب انسلاخ الموضوع عن الفعلية في نفسه وفي قيده ، فلا يعقل أخذ حقيقة الوجوب في طرف الموضوع مطلقا.

قلت : هذا أيضا غير جار هنا ، لأن الفعلية المتصورة في طرف الموضوع هنا من طرف شخص الحكم المتعلق به ، فليس الاشكال هنا اتحاد فعلية مع فعلية أخرى بل عروض فعلية واحدة لنفسها ، فتدبره فانه حقيق به.

هذا كله في بيان عدم المانع من تعلق الحكم الشخصي بما أخذ فيه نفسه إلا من حيث الاشكال المبحوث عنه هنا.

وثانيا أن المقتضى لتعلق الحكم هنا بالمعنون موجود ، وذلك لأن وجوب

__________________

(١) بصورة التأنيث في النسختين ، والصحيح : منه.

٢١٦

تصديق العادل إما بعنوان جعل الحكم المماثل أو بعنوان تنجيز الواقع بالخبر ومقتضى كليهما أن يكون الدليل ناظرا إلى حقيقة الأثر لا إلى عنوانه :

إما إذا كان من باب جعل الحكم المماثل ، فلأن المماثلة إما أن يلاحظ بين الحكم المماثل الظاهري والحكم الواقعي ، أو بين الحكم الظاهري ومؤدّى الخبر :

والحكم الواقعي ، أو بين الحكم الظاهري ومؤدّى الخبر :

فإن كان الأول كما هو التحقيق لأن جعل الحكم المماثل بعنوان إيصال الواقع بعنوان آخر ، فلا محالة يجب لحاظ المماثلة بين الحكم المماثل الواصل بالحقيقة والحكم الواقعي الواصل بالعرض ، والمفروض هنا وحدة الحكم ، ومع فرض الوحدة لا يعقل المماثلة لشيء مع شيء آخر.

وإن كان الثاني فمؤدى الخبر وهو عنوان الحكم المأخوذ في طرف الموضوع وإن كان غير حقيقة الحكم ، فالاثنينيّة المصحّحة لاعتبار المماثلة حاصلة ، إلا أن جعل الحكم المماثل حيث إنه بعنوان تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ومصححه جعل الحكم على طبق المؤدى بعنوان أنه الواقع ، فيحتاج إلى منزّل ومنزّل عليه ومصحح التنزيل.

وحيث إن المنزل هنا عنوان شخص الحكم والمنزل عليه حقيقة شخص الحكم وهو بعينه مصحح التنزيل ، فلا يعقل التنزيل ، لأن المنزل عليه محقق لا يحتاج إلى التنزيل ، كما أن الحكم الواقعي لو كان فعليا واصلا لا معنى لتنزيل شيء منزلته.

وأما إذا كان من باب جعل المنجّز للواقع ، فالأمر أوضح لأن المتنجّز بالخبر حقيقة الأثر لا عنوانه فيتحد المنجّز والمتنجّز وهو محال لرجوعه إلى علّية الشيء لنفسه.

٢١٧

١٠١ ـ قوله « قده » : نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا فلا بأس ... الخ (١).

لكن ليعلم أنّ جعلا آخر لا يعقل أن يتكفل إلاّ لمرتبة من الخبر وهو الخبر عن الخبر المتكفل للحكم الواقعي دون المراتب الأخر ، للزوم المحذور المزبور في شمول الجعل الآخر لجميع مراتب الخبر حتى المتكفل ، لموضوع محكوم بهذا الجعل.

وعليه فلا يكاد ينضبط الجعل المصحح لجميع مراتب الخبر تحت ضابط ، ولعله أشار « قدس سره » إليه بقوله فتدبر.

في دفع الإشكال عن الخبر مع الواسطة

١٠٢ ـ قوله « قده » : إذا لم تكن القضيّة طبيعيّة والحكم فيها ... الخ (٢).

في جعل القضيّة هنا طبيعيّة مسامحة بحسب العبارة لوضوح أن الموضوع في القضيّة الطبيعيّة نفس الطبيعة الكلّية من حيث هي كلية ، وهي وإن كانت في قبال الشخصية فيناسب عدم لحاظ الشخص هنا ، إلا أن الآثار الشرعية غير مترتبة على الطبيعة بما هي كلية لا موطن لها إلا الذهن.

بل مراده « قدس سره » ما أوضحه بعد ذلك وهو مجرد كون الموضوع نفس الطبيعة والقضيّة حينئذ إذا كانت مسورة بأدوات العموم محصورة كلية على مذاق التحقيق.

والفرق بين الطبيعيّة والمحصورة بعد اشتراكهما في كون الموضوع نفس

__________________

(١) كفاية الأصول / ٢٩٧.

(٢) كفاية الأصول / ٢٩٧.

٢١٨

الطبيعة أن الطبيعة في الطبيعيّة ما فيها ينظر والمرئي بالذات ، وفي المحصورة ما بها ينظر وفي حكم المرآة ، ولذا لا تسري في الأولى إلى الأفراد بخلاف الثانية.

وحيث إن المحصورة مختلف فيها من حيث كون الحكم فيها على الأفراد أو على الطبيعة السارية إلى الأفراد فلذا تعارف الحكم على أمثال ما نحن فيه بأنها على نحو القضيّة الطبيعيّة.

والمراد بكون الطبيعة آلة ملاحظة الأفراد ليس كون لحاظها واسطة في ثبوت لحاظ الأفراد ، فان الأفراد حيث إنها غير متناهية ، فهي غير قابلة للحاظ لا بلا واسطة ولا مع الواسطة ، بل المراد لحاظ الأفراد بلحاظ جامعها المنطبق عليها قهرا.

لكن حيث إن الحكم غير مترتب على الجامع بما هو جامع ذهني بل بما هو منطبق على الأفراد ، فاذا لوحظ فانيا في معنونه المتحد مع الأفراد بنحو الوحدة في الكثرة كان الحكم مترتبا على المعنون بواسطة العنوان.

هذا في مثل القضايا الحقيقيّة الشاملة للأفراد المحقّقة والمقدّرة فانها غير متناهية ، فيجب الحكم على الطبيعة السارية.

وأما في مثل القضية الخارجية المخصوصة بالأفراد المحقّقة كقولنا قتل كل من في العسكر فالأفراد لا محالة متناهية ، فلا بأس بالحكم على الأفراد ، فالمحصورة لا يتعين فيها الحكم على الطبيعة دائما بل في قضايا العلوم.

والعام الأصولي : إذا أطلق في قبال العام المنطقي فهو يعم المحصورة بأقسامها.

وإذا أطلق في قبال القضيّة الطبيعيّة المذكورة في الأصول ، فيختص بالمحصورة التي كان الحكم فيها على الأفراد كما في القضايا الخارجيّة. وأداة العموم على أي حال للتوسعة : فتارة للدلالة على ملاحظة الطبيعة وسيعة بحيث لا يشذ عنها فرد.

٢١٩

وأخرى للدلالة على جميع الكثرات والمميّزات للطبيعة كما سيجيء إن شاء الله تعالى بيانه ، فافهم ولا تخلط.

وأما وجه اندفاع الاشكال بجعل القضية طبيعيّة فهو أن المفروض لحاظ نفس الطبيعة لا بمشخصاتها ومفرّداتها ، فأشخاص الآثار غير مجعولة موضوعا للحكم لا تفصيلا ولا إجمالا ، فلا يلزم في هذه المرحلة تعلق شخص الحكم بما هو هو متقوّم بشخصه ليلزم عروض الشيء لنفسه.

وصيرورة شخص الحكم المرتّب على الطبيعة فردا لها بعد تعلقه بها أمر وجداني ، بداهة أن شخص هذا الأثر فرد من أفراد طبيعة الأثر.

ومن الواضح أنه لا تعلق للحكم بشخصه بعد صيرورته فردا لذات موضوعه ، إذ لا تعلق للحكم إلاّ في مرتبة ترتيبه جعلا على موضوعه ، ولا تأخر للحكم عن موضوعه طبعا ، ولا تقدم لموضوعه عليه طبعا ، إلاّ في مرتبة كونه حكما وذاك موضوعا.

والحكم بترتيبه على ما صار فردا من طبيعة الأثر من العقل ، فانه بعد تعلق الحكم بالطبيعة والمفروض أنه بلا اشكال فرد للطبيعة ، فلا محالة يحكم العقل بترتيب الحكم على كل ما هو فرد للطبيعة.

ومما ذكرنا تبين الفرق بين القضية الطبيعيّة والعام الأصولي المقابل لها ، فانه ليس الوجه فيه ما توهم من عدم كون الحكم في الطبيعيّة ملحوظا تفصيلا ، وأنه ملحوظ إجمالا ليقال : بأن العام الأصولي كذلك.

بل الوجه عدم لحاظ أشخاص الآثار مطلقا لا إجمالا ولا تفصيلا في القضية الطبيعية.

بخلاف العام الأصولي ، فان أشخاص الآثار ملحوظة بنحو الجمع والإجمال ، بداهة أن الحكم على العام الملحوظ بنحو الكل الأفرادي مترتب على كل واحد من الكثرات المجموعة في اللحاظ ، فان الحكم وإن كان بحسب

٢٢٠