دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وأما الأمور الاعتقادية (١) التي كان المهم فيها شرعا هو الانقياد (٢) والتسليم ،

______________________________________________________

أن دليل حجية ظواهر الألفاظ هو السيرة العقلائية الممضاة على العمل بالظواهر ، ومن المعلوم : أن المتبع عندهم بما هم عقلاء هو الظهور الفعلي. واستصحاب الظهور السابق قاصر عن إثباته ، والفرد الادعائي للظهور الثابت بالاستصحاب ليس متبعا عندهم حتى يندرج في دليل حجية الظواهر على حد اندراج الظهور الفعلي فيه ؛ وذلك لأن دليل حجية الظواهر وهي السيرة العقلائية لبّي ، فلا إطلاق له حتى يشمل كلا من الظهور الفعلي والتعبدي ، فموضوع الحجية هو خصوص الظهور الفعلي.

وبالجملة : فما أفاده المصنف «قدس‌سره» في الحاشية من «أن الأصل الجاري هنا أصل لفظي وهو أصالة عدم النقل ولا ربط له بالاستصحاب» في غاية المتانة ، ولا وجه لإثبات الظهور التنزيلي كما في بعض الحواشي أصلا.

(١) توضيحه : أن الأمور الاعتقادية على قسمين :

الأول : أن يكون المطلوب فيها شرعا مجرد الالتزام بها وعقد القلب عليها من دون لزوم تحصيل اليقين بها ؛ كخصوصيات عالم البرزخ والبعث والجنة والنار ، فإن الواجب منها علينا هو التسليم لها والاعتقاد بها على ما هي عليه ، فتتأدى هذه المطلوبية بأن نعتقد بما اعتقد به إمامنا الصادق «صلوات الله عليه» ، وفي هذا القسم يجري كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي.

أما الأول : فكما إذا شك في بقاء سؤال النكيرين أو وحشة القبر أو ضغطته في بعض بقاع الأرض ؛ لكرامة من دفن فيها من نبيّ أو إمام «صلوات الله عليهما» ، فإنه يجري الاستصحاب في جميع ذلك ، ويترتب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كله ، فإن هذا الوجوب حكم شرعي يترتب على استصحاب موضوعه ؛ إذ لا فرق في الحكم الشرعي بين تعلقه بعمل جارحي وعمل جانحي بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما كما سيأتي.

وأما الثاني : فكما إذا فرض الشك في وجوب اعتقادنا بنبوة الأنبياء السابقين «عليهم‌السلام» ؛ لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام ، أو شك في وجوب الاعتقاد بالسؤال والضغطة والوحشة مع اليقين بها ، فإن استصحاب وجوب الاعتقاد جار في جميعها بلا مانع.

(٢) هذا إشارة إلى القسم الأول الذي يكون المطلوب فيه هو الالتزام والانقياد دون اليقين والمعرفة ، وقد مر تفصيله بقولنا : «الأول : أن يكون المطلوب فيها شرعا».

٦١

والاعتقاد بمعنى : عقد القلب عليها (١) من الأعمال القلبية الاختيارية (٢) ، فكذا (٣) لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما ، وكذا موضوعا (٤) ...

______________________________________________________

(١) أشار بهذا التفسير إلى مغايرة الاعتقاد لليقين ، فإن الثاني مقابل الجهل ، والأول مقابل الجحود والإنكار ولو مع اليقين كما يشهد به قوله تعالى : (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(١) ، وكذا الوجدان ، فإن بعض الناس مع علمه بأفضلية غيره منه لا يلتزم بذلك ، ولا يعقد قلبه عليه لجهات خارجية.

ومن هنا يقال : إن بعض خلفاء الجور مع تيقنه بإمامة من عاصره من الأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين» لم يلتزم بما تيقنه ، ولم يؤد وظيفته بالنسبة إليه «عليه‌السلام» ؛ بل ظلمه وجفاه.

وبالجملة : فلا ينبغي الارتياب في مغايرة الاعتقاد لليقين كما هو المحكي عن أكثر المتكلمين أيضا ، وأن النسبة بينهما عموم من وجه ؛ لاجتماعهما في الأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها كلا من اليقين وعقد القلب ، وافتراقهما من ناحية الاعتقاد بخصوصيات البرزخ والحساب والميزان والحوض وكيفيات تعذيب العصاة ، ومن ناحية اليقين بحصول العلم بنبوة الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لأكثر أهل النفاق مع عدم اعتقادهم والتزامهم بذلك.

(٢) غرضه : أن الانقياد والتسليم وعقد القلب تعدّ أعمالا وإن كانت صادرة من الجوانح ، وهي اختيارية ، فيصح تعلق التكليف بها ، وكذا استصحابه لو شك في بقائه. وقد عرفت أن الاعتقاد ليس هو اليقين ، وإلّا لاندرج في القسم الثاني الآتي.

وبالجملة : فجريان الاستصحاب في وجوب الاعتقاد منوط بأمور ثلاثة :

أحدها : كون الاعتقاد عملا اختياريا وإن كان قلبيا.

ثانيها : مغايرته لليقين ؛ إذ مع الاتحاد يندرج في الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها المعرفة.

ثالثها : عدم التلازم بين الاعتقاد واليقين ؛ إذ معه كما عن بعض المحققين : لا يعقل الشك في بقاء اللازم مع انتفاء الملزوم وهو اليقين.

(٣) جواب «وأما الأمور الاعتقادية» يعني : فلا إشكال في جريان الاستصحاب هنا ، كعدم الإشكال في جريانه في الموضوعات الصرفة واللغوية.

(٤) وقد عرفت أمثلة كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي عند شرح قوله :

__________________

(١) النمل : ١٤.

٦٢

فيما (١) كان هناك يقين سابق وشك لاحق ؛ لصحة (٢) التنزيل وعموم الدليل (٣).

وكونه (٤) أصلا عمليا إنما (٥) هو بمعنى : أنه وظيفة الشاك تعبدا قبالا للأمارات

______________________________________________________

«وأما الأمور الاعتقادية» وضمير «فيها» راجع إلى «الأمور الاعتقادية».

(١) متعلق بقوله : لا إشكال ، وقيد لكل من الحكم والموضوع ، وهو إشارة إلى التفصيل في متعلق الاعتقاد بين المبدأ تعالى الذي لا يعتريه شك في البقاء ، وبين غيره مما يمكن فيه الشك في البقاء.

(٢) تعليل لقوله : «فكذا لا إشكال» ، ومحصله : أن المقتضي لجريان الاستصحاب في هذا القسم من الأمور الاعتقادية من كلتا مرحلتي الثبوت والإثبات موجود.

أما مرحلة الثبوت فلبداهة : صحة التنزيل فيها ، وجعل المشكوك فيه موضوعا أو حكما منزلة المتيقن ، فإذا شك في بقاء أصل السؤال أو وجوب الاعتقاد به مثلا ، مع اليقين ببقاء أصله صح تنزيل المشكوك منهما منزلة المتيقن ؛ إذ لا مانع من صحة هذا التنزيل أصلا.

وأما مرحلة الإثبات : فلا قصور فيها أيضا بعد شمول عموم مثل : «لا تنقض اليقين بالشك» لهذا القسم من الأمور الاعتقادية كشموله للأحكام الفرعية.

فالنتيجة : أن الاستصحاب الموضوعي والحكمي يجري في هذا النوع من الأمور الاعتقادية.

(٣) معطوف على «صحة» ، وهذا إشارة إلى مقام الإثبات أي : دليل الاستصحاب ، كما أن قوله : «لصحة التنزيل» إشارة إلى مقام الثبوت ، وقد مر توضيح كليهما.

(٤) أي : «وكون الاستصحاب ...» الخ وهذا إشارة إلى ما قد يتوهم في المقام وهو : أن الاستصحاب من الأصول العملية التي لا تجري في الأمور الاعتقادية لمغايرتها للعملية.

(٥) هذا دفع التوهم المزبور ، ومحصله : أنه لا منافاة بين كون الاستصحاب أصلا عمليا ، وبين جريانه في الأمور الاعتقادية ؛ إذ المراد بالأصل ما يقابل الأمارة ، وهو ما جعل وظيفة للشاك في مقام العمل ، بخلاف الأمارة فإنها تحكي عن الواقع وترفع ـ ولو تعبدا ـ الشك الذي هو موضوع الأصل. والمراد بالعمل كما مرت الإشارة إليه : ما يعم العمل الخارجي والجانحي ، لا ما يقابل الاعتقاد كما هو مبنى التوهم حتى يختص الاستصحاب بالأحكام الفرعية المتعلقة بالأعمال الجوارحية.

هذا تمام الكلام في القسم الأول من الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها عقد القلب عليها ، من دون لزوم المعرفة بها ، وكانت نتيجة البحث فيه جواز جريان كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي فيه.

٦٣

الحاكية عن الواقعيات ، فيعم (١) العمل بالجوانح (٢).

وأما (٣) التي كان المهم فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها ، فلا (٤) مجال له

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة قوله : «وظيفة الشاك تعبدا» ، وقد عرفت محصله.

(٢) كما في المقام ، وقوله : «كالجوارح» يعني : الأفعال الجوارحية المتعلقة بها الأحكام الفرعية.

(٣) معطوف على قوله : «وأما الأمور الاعتقادية» يعني : «وأما الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها ...» الخ. وهذا إشارة إلى القسم الثاني من الأمور الاعتقادية.

وتوضيحه : أنه إذا كان موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم بالأمور الاعتقادية بشرط اليقين بها لا مطلقا ؛ كوجود الصانع وتوحيده والنبوة والمعاد ـ حيث إن موضوع وجوب الالتزام والاعتقاد بها هو معرفتها واليقين بها لا نفس وجودها واقعا وإن لم يتعلق بها معرفة ، كما كان الأمر كذلك في القسم الأول ـ فلا يجري الاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور ؛ إذ ليست هي بوجودها الواقعي موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم حتى تثبت بالاستصحاب ؛ بل موضوعها المعرفة بها ، وهي لا تثبت بالاستصحاب ، فلا يجدي جريانه في الموضوع ، فلو كان متيقنا بحياة إمام زمانه لا يجري فيها الاستصحاب ؛ إذ لا يثبت به المعرفة التي هي موضوع وجوب الاعتقاد إلا بناء على أمرين : أحدهما كفاية المعرفة الظنية في الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها المعرفة ، والآخر حجية الاستصحاب من باب الظن.

وأما الاستصحاب الحكمي : فلا مانع من جريانه ، فلو شك في وجوب تحصيل القطع بتفاصيل القيامة ، بعد أن كان في زمان قاطعا بوجوبه جرى فيه الاستصحاب ويترتب عليه وجوب تحصيل اليقين بها.

قوله : «شرعا» كمعرفة الله «سبحانه وتعالى» عند الأشاعرة ، المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، فإن وجوبها شرعي عندهم ؛ لكنه عقلي عند العدلية ، ويمكن أن يكون قوله : «شرعا» إشارة إلى وجوب تحصيل المعرفة ببعض الاعتقاديات كالمعاد الجسماني ؛ إذ بناء على وجوب تحصيل المعرفة به عندنا يكون وجوبه شرعيا لا عقليا.

وعليه : فليس قوله : «شرعا» إشارة إلى وجوب معرفة الباري عند الأشعري ؛ بل غرض المصنف الإشارة إلى أن وجوب معرفة بعض الأمور الاعتقادية عقلي وبعضها شرعي.

(٤) جواب «وأما التي» ، يعني : فلا مجال للاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور الاعتقادية التي يكون المهم فيها القطع بها. وضميرا «بها ، معرفتها» راجعان إلى «الأمور».

٦٤

موضوعا ويجري (١) حكما ، فلو كان (٢) متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء كتفاصيل القيامة (٣) في زمان ، وشك في بقاء وجوبه يستصحب (٤).

وأما (٥) لو شك في حياة إمام زمان مثلا فلا يستصحب (٦) ؛ لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ؛ بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه (٧) ، ولا يكاد يجدي (٨) في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا ؛ إلّا إذا كان حجة من باب ...

______________________________________________________

(١) يعني : ويجري الاستصحاب الحكمي ؛ لصحة التنزيل ثبوتا وعموم دليل الاستصحاب إثباتا.

(٢) هذا متفرع على ما أفاده من جريان الاستصحاب الحكمي في القسم الثاني من الأمور الاعتقادية ، وعدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيه.

(٣) هذا مثال للاستصحاب الحكمي.

(٤) يعني : ويستصحب نفس وجوب تحصيل القطع بذلك الشيء ؛ كبعض خصوصيات البعث والميزان على تقدير عروض الشك ، بعد القطع بوجوب تحصيل العلم بذلك. والوجه في جريان الاستصحاب الحكمي هو : اجتماع أركانه فيه.

(٥) مثال للاستصحاب الموضوعي الذي منعه بقوله : «فلا مجال له موضوعا» ومحصله : أنه لو شك في حياة إمام زمان ونحوه مما يجب فيه تحصيل المعرفة ، فلا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأن المطلوب لزوم المعرفة لا وجوب الاعتقاد بوجود الإمام واقعا حتى يترتب وجوب الاعتقاد بحياته الثابتة بالاستصحاب ؛ بل الموضوع لوجوب الاعتقاد هو الحياة المعلومة ، ومن المعلوم : أن استصحاب الحياة لا يوجب المعرفة بها ؛ بل لا يترتب على استصحابها إلا الحياة الواقعية التي هي بعض موضوع الاعتقاد ، وبعضها الآخر هي المعرفة التي لا يثبتها الاستصحاب ؛ لبقاء الشك على حاله بعد جريانه أيضا.

وبالجملة : فالاستصحاب الموضوعي لا يجري في الأمور الاعتقادية التي يتوقف وجوب الاعتقاد بها على معرفتها.

(٦) يعني : فلا يستصحب حياة إمام الزمان ؛ إذ لا يثبت الاستصحاب معرفة الإمام حتى يترتب عليها حكمها وهو وجوب المعرفة ؛ بل لا بد من تحصيل اليقين بموته أو حياته.

(٧) يعني : مع إمكان تحصيل اليقين بموت الإمام أو حياته.

(٨) يعني : ولا يكاد يجدي الاستصحاب ؛ لما عرفت : من عدم إثباته للمعرفة التي هي جزء الموضوع ودخيل فيه عقلا أو شرعا حسب اختلاف الموارد والأقوال كما مرت الإشارة إليه آنفا.

٦٥

إفادته (١) الظن ، وكان (٢) المورد مما يكتفي به أيضا (٣) فالاعتقاديات (٤) كسائر الموضوعات لا بد في جريانه فيها (٥) من (٦) أن يكون في المورد أثر ...

______________________________________________________

إلّا إذا كان الاستصحاب حجة من باب الظن ، وكان الأمر الاعتقادي مما يكتفى فيه بالمعرفة الظنية أيضا ، فحينئذ : يجدي الاستصحاب المزبور ؛ لأنه يثبت المعرفة الظنية التي هي كالمعرفة العلمية على الفرض ، فإذا كان وجوب الاعتقاد بنسب الإمام «عليه‌السلام» مترتبا على مطلق الاعتقاد الراجح الشامل للعلم والظن ، فاستصحاب حياته وإن لم يكن موجبا لليقين بحياته ؛ لكن يترتب عليه وجوب الاعتقاد بنسبه الذي موضوعه مطلق الاعتقاد الراجح به ولو كان هو الظن الذي يثبت بالاستصحاب.

(١) أي : إفادة الاستصحاب للظن ، والمستتر في «كان» راجع إلى الاستصحاب.

(٢) معطوف على «كان».

وغرضه : أن جريان الاستصحاب في الأمر الاعتقادي منوط بشرطين :

أحدهما : حجية الاستصحاب من باب الظن.

ثانيهما : كفاية المعرفة الظنية في ذلك الأمر الاعتيادي.

وضمير «به» راجع إلى «الظن».

(٣) يعني : كما يكتفى فيه بالقطع ، وذلك في كل أمر اعتقادي يكون الواجب فيه مطلق الاعتقاد الراجح الصادق على كل من العلم والظن المقابل للشك والوهم.

(٤) هذا حاصل ما أفاده في تقسيم الأمور الاعتقادية ، وحكم الاستصحاب من حيث جريانه فيها وعدمه.

وغرضه : أن نسبة الأمور الاعتقادية إلى الاستصحاب كنسبة الموضوعات إليه من دون تفاوت بينهما ، فكما أن جريانه في الموضوعات منوط بترتب الأثر الشرعي عليها ، فكذلك جريانه في الأمور الاعتقادية ، فكل مورد يترتب عليه أثر شرعي مع إمكان موافقته في حال الشك يجري فيه الاستصحاب ، سواء كان ذلك متعلقا بعمل الجوارح أم بعمل الجوانح.

وبالجملة : فمجرد كون شيء أمرا اعتقاديا ليس مانعا عن جريان الاستصحاب فيه ؛ بل حال الأمور الاعتقادية حال الموضوعات في توقف جريانه في كليهما على اجتماع شرائطه.

(٥) أي : في الاعتقادات ، وضمير «جريانه» راجع على الاستصحاب.

(٦) هذا إشارة إلى شروط ثلاثة في جريان الاستصحاب في جميع الموارد :

٦٦

شرعي (١) ، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه (٢) ، كان (٣) ذاك متعلقا بعمل الجوارح أو الجوانح.

______________________________________________________

أحدها : أن يكون في المورد أثر شرعي ، ثانيها : التمكن من موافقته ، حيث إنه أصل عملي ، ثالثها : بقاء الشك ، حيث إنه موضوع للأصل المقابل للأمارة ، ومع اجتماع هذه الشروط يجري في الاعتقاد وغيره على حد سواء.

(١) هذا إشارة إلى الشرط الأول ، وقوله : «يتمكن» إشارة إلى الشرط الثاني. وقوله : «مع بقاء الشك فيه» إشارة إلى الشرط الثالث.

(٢) كما هو كذلك في القسم الأول من الأمور الاعتقادية ، وفي الشك في بقاء وجوب المعرفة في القسم الثاني منها.

(٣) أي : سواء كان الأثر الشرعي متعلقا بأفعال الجوارح كالصلاة والحج وغيرهما ، أم بأفعال الجوانح كالأمور الاعتقادية من الالتزام وعقد القلب والمعرفة.

فصار المتحصل مما أفاده : أنه في الأمور الاعتقادية التي كون المهم فيها شرعا هو الانقياد والتسليم وعقد القلب عليها يجري فيها الاستصحاب موضوعا وحكما ، وفي الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها هو القطع بها يجري فيها الاستصحاب حكما لا موضوعا.

ولا يخفى : أن ما أفاده المصنف من أول التنبيه إلى هنا من تقسيم الأمور الاعتقادية إلى قسمين ، وجريان الاستصحاب موضوعا وحكما في القسم الأول ، وجريانه حكما في القسم الثاني لا يخلو من تعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، فلا بد أولا من ذكر كلام الشيخ ثم مورد نظر المصنف فيه ثانيا.

قال الشيخ «قدس‌سره» ، في صدر التنبيه السابع : «وأما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها ؛ لأنه إن كان من باب الأخبار فليس مؤداها إلّا حكم عملي كان معمولا به على تقدير اليقين به ، والمفروض : أن وجود الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك ؛ لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف ، وإن كان من باب الظن فهو مبني على اعتبار الظن في أصول الدين» (١).

وأما نظر المصنف فبيانه : أن مقصود الشيخ بقوله : «وأما الشرعية الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها» : إما أن يكون الأحكام الشرعية الاعتقادية في قبال الأحكام الشرعية العملية الفرعية كالصلاة ، وإما أن يكون نفس المعتقدات أي : الأمور التي لا بد من

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٢٥٩.

٦٧

وقد انقدح بذلك (١) أنه لا مجال ...

______________________________________________________

الاعتقاد بها. وعلى كل منهما يرد عليه بالمنع من تعليل عدم جريان الاستصحاب بناء على أخذه من الأخبار بعدم إمكان الحكم بوجوب الاعتقاد عند الشك ؛ لزوال الاعتقاد.

وجه المنع : أن الشك في وجوب الاعتقاد لا يزيل نفس الاعتقاد ، والشك في الأمر الاعتقادي وإن كان مزيلا للاعتقاد بمعنى الإيقان ؛ لكنه لا ينافي عقد القلب عليه والالتزام بواقعه فيما لم يعتبر فيه المعرفة. ولأجله لا بد من التفصيل في الأمور الاعتقادية بين ما يكفي فيه عقد القلب عليها ولو لم يعلم بها كتفاصيل عالم البرزخ ، وبين ما يكون المطلوب فيها المعرفة واليقين بها ، فإنه لا مانع من جريان الاستصحاب في القسم الأول حكما وموضوعا كما تقدم بيانه.

هذا مضافا إلى : أن الاعتقاد إن كان بمعنى المعرفة اليقينية فلا وجه للتفصيل في الاستصحاب بين حجيته بالأخبار وحجيته بالظن ؛ إذ المفروض : عدم الجدوى في الاستصحاب ؛ لعدم إفادته المعرفة المطلوبة في الاعتقاد وإن كان حجة من باب الظن.

وأما دعوى الشيخ «قدس‌سره» : بأن الاستصحاب حكم عملي فيردها ما في المتن من أنه في قبال الأمارة الكاشفة عن الواقع ؛ لا بمعنى اختصاصه بأعمال الجوارح حتى لا يجري في الأحكام المتعلقة بأعمال الجوانح.

(١) أي : ظهر بما ذكر ـ من أن الاعتقادات كالموضوعات في توقف جريان الاستصحاب فيها على كون المورد ذا أثر شرعي ـ أنه لا مجال للاستصحاب في نفس النبوة ... الخ.

توضيحه : أنه يحتمل في النبوة المستصحبة وجوه ثلاثة :

أولها : أن يراد بها صفة نفسانية تكوينية موجبة للاستيلاء على التصرف في الأنفس والآفاق ، والفوز بمنصب الرئاسة العامة الإلهية ، وهذه المرتبة العالية من كمال النفس تستلزم تلقي المعارف الإلهية من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر. والنبي على هذا «فعيل» بمعنى مفعول ، باعتبار تلقيه للوحي ، فينبئه تعالى بما شاء.

ثانيها : أن يراد بها منصب مجعول إلهي كولاية الفقيه على القصّر ، وولاية الأب والجد على الصغير ، وكالقضاوة والملكية وغير ذلك من الأحكام الوضعية ، فالنبوة على هذا ليست بمعنى كون نفسه المقدسة مجلى المعارف ـ وإن كانت هذه الصفة مما لا بد منها في اعتبار النبوة ـ بل بمعنى جعله مخبرا ومبلغا عنه تعالى وسفيرا إلى خلقه ، فبعثته تثبت له منصب المخبرية والسفارة ، وللنبوة حينئذ معنى فاعلي لا مفعولي ؛ لأنها بالمعنى

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول أمر واقعي ؛ لأن النبي ممن أنبأه الله تعالى بمعارفه ، لا أمر اعتباري.

ثالثها : أن يراد بالنبوة المستصحبة أحكام شرعية يشك في منسوخيتها بشريعة أخرى. فهذه احتمالات ثلاثة لا بد من ملاحظة كل منها.

فإن أريد بها المعنى الأول ، فلا يجري فيها الاستصحاب ؛ إما لاختلال ركن الشك في البقاء ، وإما لاختلال شرط جريانه أعني : كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. أما اختلال الشك : فلأجل أن الشك في بقاء النبوة بمعنى المرتبة القدسية لا بد أن يكون إما لانحطاط نفسه المقدسة أو للموت أو لمجيء نبيّ آخر ، والكل غير معقول.

وأما الأول ـ وهو الذي اقتصر عليه في المتن ـ : فلأن الانحطاط إنما يتصور في الملكات الحاصلة للنفس بالتخلق من تحليها بالفضائل بسبب المجاهدة ؛ كملكة العدالة والجود والإيثار ، فيحصل الضعف فيها ؛ بل ربما تزول بسبب تسويلات النفس الأمّارة بالسوء ، وحيث إن لملكة النبوة درجة التحقق ووصولها من مرتبة القوة والاستعداد إلى مرتبة الفعلية المستلزمة لمقام الوحي ، فانحطاطها معناه العود والانقلاب إلى القوة المستحيلة عادة.

وأما الثاني : فلأن الموت لا يوجب زوال سائر الملكات الراسخة فضلا عن هذه الملكة الشامخة ، كيف؟ والدنيا مزرعة الآخرة والمعرفة بذر المشاهدة ، كيف يعقل زوالها بالموت؟.

وكيف تنقلب النفوس العالية بالموت إلى نفوس سافلة ، مع أن الموت لو لم يوجب قوة المشاهدة لم يوجب ضعفها.

وأما الثالث : وهو زوالها بمجيء نبي لا حق ولو كان أكمل فلوضوح أن زيادة كمال شخص لا توجب زوال كمال شخص آخر أو نقصه.

وعليه : فلا يعقل الشك في بقاء النبوة بهذا المعنى حتى يستصحب. هذا كله في اختلال الشك في البقاء.

وأما اختلال شرط الاستصحاب ، فلوضوح : أن النبوة بهذا المعنى أمر تكويني لازم لمرتبة كمال النفس ، فلو فرض محالا إمكان انحطاط النفس عن تلك المرتبة لا يجري فيها الاستصحاب ؛ لعدم كونها مجعولا شرعيا كما هو ظاهر ، ولا موضوعا لحكم شرعي مهم ، إلّا في نذر شيء له تعالى على تقدير بقاء هذه الصفة الكمالية لذلك النبي وعدم انحطاطها.

٦٩

له (١) في نفس النبوة إذا كانت ناشئة من كمال النفس (٢) بمثابة يوحى إليها ، وكانت (٣) لازمة لبعض مراتب كمالها ؛ إما (٤) لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم (٥) كونها مجعولة ؛ بل من الصفات الخارجية التكوينية ، ولو (٦) فرض

______________________________________________________

فإن قلت : وجوب العمل بأحكام شريعته من آثار بقاء نبوته ، فكيف لا يكون لبقائها أثر شرعي؟

قلت : وجوب العمل بالأحكام ليس من آثار النبوة بهذا المعنى حتى يترتب على استصحابها ؛ إذ لو علم ببقائها بهذا المعنى لا يجب أيضا العمل بأحكام شريعته مع العلم بحدوث شريعة أخرى ناسخة بسبب بعث نبي آخر ، فوجوب العمل بالأحكام أثر بقاء النبوة بالمعنى الثاني أي : المنصب الإلهي الذي هو من سنخ الأمور الاعتبارية ، وهذا كما سيأتي يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه آثاره الشرعية.

هذا كله في حكم النبوة بمعنى : الملكة القدسية الباقية ببقاء نفسه المطمئنة في العوالم والنشآت.

وإن أريد بها المعنى الثاني : فسيأتي حكم الاستصحاب فيه فانتظر.

(١) أي : للاستصحاب وضمير «أنه» للشأن.

(٢) هذا إشارة إلى النبوة بالمعنى الأول ، وهو ما ينشأ من كمال النفس.

(٣) معطوف على «كانت» ، يعني : وكانت النبوة لازمة لبعض مراتب كمال النفس.

(٤) بيان لوجه قوله : «لا مجال له» ، وقد ذكر لعدم المجال لجريان الاستصحاب في النبوة بالمعنى الأول وجهين على سبيل منع الخلو ـ متقدمين آنفا بقولنا : «فإن أريد بها المعنى الأول فلا يجري فيها الاستصحاب ...» الخ ـ الأول : عدم الشك في بقائها ، الثاني : كونها من الصفات التكوينية ، فلا يجري فيها الاستصحاب ولو مع الشك في بقائها ؛ لاحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة العالية ؛ وذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعية ولا مما يترتب عليه حكم شرعي ، ومن المعلوم : توقف جريان الاستصحاب على تحقق أحدهما. وضميرا «فيها ، بها» راجعان إلى «النبوة».

(٥) معطوف على «لعدم الشك» ، وهذا إشارة إلى ثاني وجهي عدم جريان الاستصحاب الذي تقدم بقولنا : «الثاني : كونها من الصفات التكوينية».

(٦) وصلية ، غرضه : أن الاستصحاب لا يجري في النبوة بالمعنى الأول ، ولو فرض الشك في بقائها الذي هو ثاني ركني الاستصحاب ، لما عرفت : من عدم كون النبوة بهذا المعنى حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي. وضمير «بقائها» راجع إلى «النبوة».

٧٠

الشك في بقائها باحتمال (١) انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم (٢) بقائها بتلك المثابة ؛ كما هو (٣) الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ، وعدم (٤) أثر شرعي مهم (٥) لها يترتب عليها باستصحابها (٦).

نعم (٧) ؛ لو كانت النبوة من المناصب المجعولة وكانت ...

______________________________________________________

(١) الباء للسببية ، يعني : ولو فرض الشك في بقائها بسبب احتمال انحطاط النفس ... الخ.

وغرضه : بيان منشأ الشك في بقاء النبوة وهو احتمال انحطاط النفس.

(٢) معطوف على «انحطاط» ، ويمكن عطفه على «بقائها» ، يعني : ولو فرض في بقائها وارتفاعها بسبب احتمال انحطاط النفس. والإيجاز يقتضي أن تكون العبارة هكذا : «ولو فرض الشك في بقائها وارتفاعها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة كما هو الشأن ...».

(٣) أي : احتمال انحطاط النفس شأن سائر الصفات والملكات الحاصلة بالرياضات ؛ إذ مع حصول ضعف في تلك الرياضات المحصلة للملكات تنحط تلك الملكات عن المراتب العالية الحاصلة بالرياضات الشاقة.

(٤) معطوف على «عدم كونها مجعولة» ، يعني : أن المنع عن جريان الاستصحاب بالمعنى الأول إنما هو لعدم كون المستصحب بنفسه أثرا شرعيا ولا موضوعا له ، والمفروض : إناطة جريانه بأحدهما. وعليه : فالواو في «وعدم» بمعنى «مع» ، فمنع جريان الاستصحاب منوط بأمرين : أحدهما : عدم مجعولية المستصحب ، والآخر : عدم ترتب أثر شرعي عليه.

(٥) احتراز عن غير المهم ، وهو الحاصل نادرا بعنوان ثانوي كالنذر وأخويه.

(٦) هذا الضمير وضميرا «لها ، عليها» راجعة إلى «النبوة».

(٧) استدراك على قوله : «وقد انقدح بذلك» ، وإشارة إلى المعنى الثاني للنبوة ، وحاصله : أنه يمكن إجراء الاستصحاب في نفس النبوة بناء على كونها من المناصب المجعولة كالولاية والقضاوة ونحوهما من الأحكام الوضعية المجعولة ؛ إذ المفروض : كون النبوة بنفسها حينئذ مجعولا شرعيا ، لا صفة تكوينية غير قابلة للاستصحاب كما هو مقتضى معناها الأول الذي يعد من المعدات للنبوة التي هي من المناصب المجعولة ؛ لكن يشكل إجراء الاستصحاب في النبوة المجعولة الإلهية من ناحية أخرى.

٧١

كالولاية (١) وإن كان (٢) لا بد في إعطائها من أهلية وخصوصية يستحق بها لكانت (٣) موردا للاستصحاب بنفسها ، فيترتب (٤) عليها آثارها ولو كانت (٥) عقلية بعد (٦) استصحابها ؛ لكنه (٧) يحتاج إلى دليل (٨) كان هناك غير منوط بها ؛ ...

______________________________________________________

ومحصل هذا الإشكال المانع عن جريان الاستصحاب في النبوة بمعنى المنصب الإلهي هو : لزوم الدور.

توضيحه : أن جريانه فيها منوط بحجيته من غير ناحية بقاء النبوة ؛ إذ لو كانت منوطة ببقائها لزم الدور ؛ لتوقف بقائها على الاستصحاب كما هو المقصود ، فلو توقف اعتباره على بقاء النبوة كان دورا موجبا لامتناع التمسك به لإثبات بقاء النبوة.

(١) أي : في كونها من المناصب المجعولة.

(٢) كلمة «وإن» وصلية ، وهذه الجملة معترضة ، يعني : أن هذا المنصب الرفيع وإن كان إلهيا ؛ ولكنه يحتاج إلى محل قابل ، فالنبوة التكوينية توجد القابلية والأهلية لإفاضة المنصب الإلهي الشامخ ، وضمير «إعطائها» راجع إلى «النبوة». والمراد بالخصوصية : كمال النفس بمرتبة يجعلها أهلا لإفاضة النبوة الإلهية. وضمير بها راجع إلى «الإلهية».

(٣) جواب «لو كانت» ، يعني : لو كانت النبوة من المناصب المجعولة لكانت بنفسها موردا للاستصحاب ؛ لاجتماع أركانه ؛ إذ المفروض : كون النبوة حينئذ من المجعولات الشرعية ، وضمائر «بنفسها ، عليها ، آثارها» راجعة إلى «النبوة».

(٤) هذا متفرع على جريان الاستصحاب في النبوة التي تكون من المناصب المجعولة ، فإن لازم صحة جريانه فيها هو ترتب آثار النبوة على استصحابها.

(٥) يعني : ولو كانت آثار النبوة عقلية كوجوب الإطاعة الذي هو حكم عقلي مترتب على الحكم مطلقا ، سواء كان واقعيا أم ظاهريا كما تقدم ذلك في التنبيه التاسع ، فيترتب هذا الحكم العقلي على النبوة الثابتة بالاستصحاب كترتبه على النبوة الثابتة بالقطع.

(٦) هذا الظرف متعلق ب «فيترتب» ، وضمير «استصحابها» راجع إلى النبوة.

(٧) استدراك على قوله : «لكانت موردا» ، وبيان للإشكال الذي تقدم توضيحه في قولنا : «ومحصل الإشكال ...» الخ.

(٨) سواء كان الاستصحاب أصلا عمليا أم دليلا اجتهاديا ؛ لافتقاره ـ على التقديرين ـ إلى دليل شرعي على اعتباره ، فإن كان ذلك الدليل من الشرع السابق لزم الدور ، وإن كان من الشريعة اللاحقة فلا يجدي في بقاء الشريعة السابقة ؛ لأن اعتبار الاستصحاب

٧٢

وإلّا (١) لدار كما لا يخفى.

وأما استصحابها (٢) بمعنى : استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها ، فلا إشكال فيه (٣) كما مر (٤).

ثم لا يخفى (٥) أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم ؛ إلّا إذا اعترف بأنه على

______________________________________________________

من الشريعة اللاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة ، وعدم شك في بقائها حتى يجري فيه الاستصحاب. ولو كان الدليل على اعتبار الاستصحاب بناء العقلاء لم يصح الاستناد إليه إلّا بعد الإمضاء ، فيقع الكلام في أن الشرع السابق أمضاه أو اللاحق ، فإن كان هو السابق لزم الدور ، وإن كان هو اللاحق فذاك مساوق للنسخ وعدم الشك في البقاء ، وهو خلف.

(١) أي : وإن لم يكن هناك دليل غير منوط بالنبوة ؛ بأن كان منوطا بالنبوة «لدار» ؛ إذ يكون إثبات النبوة بالاستصحاب وإثبات حجية الاستصحاب بالنبوة ، وهو دور صريح ، هذا تمام الكلام في استصحاب النبوة بمعانيها الثلاث.

(٢) أي : استصحاب النبوة ، وهذا إشارة إلى النبوة بمعناها الثالث ، وقد تقدم آنفا بقولنا : «وإن أريد بها بعض أحكام شريعة ...» الخ. وضمير «بها» راجع على «النبوة».

(٣) في بعض النسخ «فيها» ، وضمير «فيها» راجع إلى «استصحابها» ، فالأولى تذكير الضمير كما في بعض النسخ ، ولذا ذكرنا الضمير مذكرا.

وكيف كان ؛ فالأنسب بمقتضى السياق أن يقال : «وأما النبوة بمعنى : بعض أحكام شريعة من اتصف بها : فلا إشكال في استصحابها».

(٤) يعني : في التنبيه السادس في استصحاب عدم نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة.

(٥) هذا أحد الأمور التي عقد هذا التنبيه لبيانها ، وقبل الخوض فيه لا بد من ذكر مقدمة وهي : الاستدلال بالاستصحاب يكون تارة : لإثبات الدعوى وإقناع النفس ومعذوريته في بقائه على الشريعة السابقة ؛ كما هو شأن البرهان الحقيقي ، وأخرى : لإلزام الخصم ودعوة المسلم إلى اليهودية كما هو شأن البرهان الجدلي ، وفي كليهما يعتبر أمور :

الأول : اليقين بالثبوت والشك في البقاء ، ضرورة أنهما ركنا الاستصحاب.

الثاني : كون المستصحب أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي.

الثالث : الاعتقاد بحجية الاستصحاب وقيام الدليل عليها.

فإن هذه الأمور معتبرة في البرهان الذي يراد به إثبات الدعوى ، فإن الاستصحاب مع

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فقدان أحد هذه الأمور لا يكون حجة ، فلا يصلح لإثبات الدعوى ، كما أنها معتبرة في البرهان الجدلي الذي يراد به إلزام الخصم ؛ إذ مع فقدان كلها أو بعضها لا يرى المورد من موارد الاستصحاب حتى يكون حجة على الخصم ويلزم به وتبطل به دعواه ؛ إذ لا بد في إلزامه من اعترافه بجريان الاستصحاب في المورد ، ومع إنكاره لشرط من شرائطه واعتقاده بعدم جريانه فيه كيف يعقل إلزامه به؟

ففي البرهان الجدلي الملزم للخصم المبطل لدعواه يعتبر اعترافه باجتماع جميع شرائط البرهان عنده ، كاجتماعها عند من يقنع به نفسه ويثبت به دعواه ، ولذا قال المصنف «قدس‌سره» : «لا يكاد يلزم به الخصم إلّا إذا اعترف ...» الخ.

وبهذه المقدمة يتضح : أنه لا مجال لتثبت الكتابي باستصحاب نبوة موسى «على نبينا وآله وعليه‌السلام» ، لا إلزاما للخصم وهو المسلم ، ولا إقناعا لنفسه.

أما الأول : فلانتفاء الشرط الأول والثاني فيه إن أريد بالنبوة الصفة الكمالية القائمة بنفسه المقدسة التي من شئونها تلقي المعارف الإلهية والفيوضات الربانية ؛ وذلك لليقين ببقاء النبوة بهذا المعنى ، فلا شك في بقائها حتى يجري فيها الاستصحاب. كما لا أثر شرعا لهذه النبوة ، فينتفي الشرط الثاني أيضا وهو كون المستصحب أثرا شرعيا أو موضوعا له.

ولانتفاء الشرط الأول أيضا ـ وهو الشك في البقاء دون الشرط الثاني ـ إن أريد بالنبوة الشريعة ، حيث إن ارتفاعها معلوم ؛ لعلم المسلم بنسخها بهذه الشريعة ، فلا يكون شاكا في ارتفاع شريعته حتى يجري فيها الاستصحاب ويلزمه الكتابي به.

وأما الثاني : وهو تشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى «على نبينا وآله وعليه‌السلام» لإقناع نفسه ، فلا مجال له ؛ إذ لو أريد بالنبوة المنصب الإلهي الذي لا بد من تحصيل اليقين به بالنظر إلى المعجزات ودلائل النبوة ، فلا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأنه لا يوجب المعرفة.

ولو أريد بها الشريعة : فالكتابي وإن كان متيقنا بأصلها وشاكا في بقائها ؛ إلّا إن جريانه فيها منوط بالدليل على اعتباره ، فإن كان ذلك الدليل من نفس تلك الشريعة لزم الدور ، لتوقفها على اعتبار الاستصحاب ، وتوقف اعتباره عليها. وإن كان من هذه الشريعة : لزم الخلف ؛ إذ لازم اعتباره من هذه الشريعة ارتفاع الشريعة السابقة.

ولو أريد بالنبوة الكمال النفساني الحاصل بالرياضات ، فلا مجال لجريان الاستصحاب

٧٤

يقين ، فشك فيما (١) صح هناك التعبد والتنزيل (٢) ودل عليه الدليل (٣).

كما (٤) لا يصح أن يقنع به إلّا مع اليقين والشك والدليل (٥) على التنزيل.

ومنه (٦) انقدح : أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلا لا إلزاما للمسلم ؛ لعدم (٧) الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، ...

______________________________________________________

فيها لليقين ببقائها. مضافا إلى عدم ترتب أثر شرعي عليه.

(١) متعلق ب «يلزم» أي : إذا كان المستصحب النبوة بالمعنى الثالث وهو أحكام شريعة موسى «عليه‌السلام».

(٢) غرضه : أن مجرد اعتراف الخصم بكونه على يقين فشك لا يكفي في إلزامه ؛ بل لا بد من كون المورد من موارد صحة التنزيل والتعبد في ظرف الشك ؛ بأن لا يكون من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها ، وإلّا فلا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأنه لا يوجب المعرفة ، فلا يصح التعبد والتنزيل في تلك الأمور الاعتقادية ثبوتا.

(٣) هذا مقام الإثبات ؛ إذ مجرد إمكان التعبد لا يثبت فعلية التعبد ؛ بل فعليته منوطة بدلالة الدليل عليها.

(٤) غرضه : أن هذين الشرطين معتبران أيضا في من يجري الاستصحاب لإقناع نفسه وإثبات دعواه ؛ لما مر آنفا : من لزوم اجتماع الشرائط في البرهان مطلقا حقيقيا كان أو جدليا ، وضمير «به» راجع إلى الاستصحاب أي : يقنع الكتابي بالاستصحاب.

(٥) معطوف على «اليقين» ، يعني : ومع الدليل على التنزيل.

(٦) أي : ومن عدم جريان الاستصحاب في أحكام شريعة موسى «عليه‌السلام».

وغرضه من هذه العبارة ، بعد تمهيد المقدمة المزبورة : بيان ذي المقدمة الذي هو أحد الأمور الداعية إلى عقد هذا التنبيه ، والمراد بذلك الأمر هو : ما جرى بين بعض أهل الكتاب وبين بعض السادة الأعلام ـ وهو السيد السند العلامة السيد محمد باقر القزويني على ما في حاشية المحقق الآشتياني ، أو السيد الأجلّ بحر العلوم ، أو العلامة السيد محسن الكاظمي ، أو السيد حسين القزويني «قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة» على ما في أوثق الوسائل ، أو جميعهم ؛ لإمكان تعدد الواقعة ـ من مناظرة ، وهي : أن الكتابي في مقام إلزام المسلمين تمسك بالاستصحاب ، بتقريب : أنهم متيقنون بنبوة موسى «عليه‌السلام» ، فعليهم إثبات نسخها ، فإن الاستصحاب يقتضي بقاء شرعه إلى أن يثبت نسخه. ومن هنا يظهر الفرق بين هذا التنبيه وبين التنبيه السادس كما تقدم هناك فراجع.

(٧) تعليل لعدم صحة تمسك الكتابي بالاستصحاب لإلزام المسلم.

٧٥

واليقين (١) بنسخ شريعته ؛ وإلّا (٢) لم يكن بمسلّم مع (٣) أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين وشك (٤) ولا إقناعا (٥) مع الشك ؛ للزوم (٦) معرفة النبي بالنظر (٧) إلى حالاته ومعجزاته عقلا (٨) ، ...

______________________________________________________

ومحصل التعليل كما مر آنفا : عدم الشك في بقاء النبوة بمعنى الصفة الكمالية النفسانية ، ومع العلم ببقائها لا مورد للاستصحاب مع أنه لا أثر لها شرعا حتى تستصحب.

(١) معطوف على «عدم الشك» ، يعني : ولليقين بنسخ شريعته إن أريد بالنبوة المستصحبة الشريعة ؛ إذ المسلم يقطع بنسخ شريعة موسى «عليه‌السلام» ، وإلّا فليس بمسلم ، فعلى التقديرين لا يلزم المسلم باستصحاب الكتابي ، إما للقطع بالبقاء إن أريد بالنبوة الصفة الواقعية الحاصلة بالرياضات ؛ لكن قطع المسلم بالبقاء لا يجدي الكتابي الذي مقصوده إثبات بقاء شرع موسى «عليه‌السلام» ، وإما للقطع بالارتفاع إن أريد بالنبوة الشريعة كما تقدم تفصيله.

(٢) أي : وإن لم يكن المسلم متيقنا بالنسخ لم يكن بمسلم.

(٣) هذا متمم لقوله : «لعدم الشك ...» الخ ، يعني : كيف يمكن إلزام المسلم باستصحاب شريعة موسى «عليه‌السلام» القاطع بنسخها؟ مع أنه لا بد في إلزام الخصم بالبرهان الجدلي ـ وهو الاستصحاب هنا ـ من تحقق موضوعه وهو اليقين والشك اللذان هما ركنا الاستصحاب حتى يمكن إلزام المسلم به.

(٤) والمفروض أنه لا يمكن للمسلم ـ من حيث إنه مسلم ـ أن يكون متيقنا بشريعة موسى «عليه‌السلام» وشاكا في بقائها ؛ بل هو متيقن بارتفاعها ، فينتفي الشك في البقاء الذي هو ثاني ركني الاستصحاب ، ومع انتفائه لا يبقى مجال لجريانه.

(٥) معطوف على «إلزاما». وحاصله : الذي تقدم تفصيله هو : أن الاستصحاب بالنسبة إلى الكتابي وإن أمكن جريانه ـ لكونه شاكا ـ لكنه لا يجديه أيضا بحيث يعول عليه في تكليفه ؛ لأن النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها بالنظر إلى معجزات النبي ودلائل نبوته ، ولا يكتفى فيها بالشك.

(٦) تعليل لقوله : «ولا إقناعا» ، يعني : أن النبوة مما يجب تحصيل المعرفة بها.

(٧) متعلق ب «معرفة» ، وقوله : «عقلا» قيد أيضا ل «معرفة» ، والأولى أن تكون العبارة هكذا : «للزوم معرفة النبي عقلا بالنظر إلى حالاته ومعجزاته».

(٨) فلو فرض حجية الاستصحاب بنظر الكتابي فليس له أيضا التمسك به في إثبات

٧٦

وعدم (١) الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا ولا شرعا (٢). والاتكال (٣) على قيامه في شريعتنا لا يكاد (٤) يجديه إلّا على نحو محال ...

______________________________________________________

بقاء النبوة المجعولة ، حيث إن معرفة النبي ليست بأقل من الأحكام العملية الفرعية التي لا يجوز استصحابها إلّا بعد الفحص واليأس عن الناسخ والمخصص والمقيد ، فلا وجه لاستصحاب النبوة قبل الفحص عن ورود شريعة أخرى وعدمه ، ومن المعلوم : أن الكتابي لو تفحص ولم يكن ممن أعمى الله قلبه لاستبصر وأذعن بالحق.

(١) معطوف على «لزوم» ، وهذا إشارة إلى أن الكتابي إذا أراد التعبد بشريعة موسى «عليه‌السلام» فكلا ركني الاستصحاب وهما اليقين والشك وإن كانا موجودين ؛ لكن الشرط الثالث المتقدم بقولنا : «الثالث : الاعتقاد بحجية الاستصحاب وقيام الدليل عليها» مفقود ؛ لعدم الدليل على اعتباره هنا لا عقلا ولا شرعا.

أما الأول : فلأن البناء على الحالة السابقة المتيقنة عند الشك في بقائها ليس من المستقلات العقلية كحسن الإطاعة وقبح المعصية. ولو سلم كونه مما استقرت عليه سيرة العقلاء : فاعتباره منوط بإمضاء الشرع ، فيرجع ذلك إلى الدليل الشرعي ، فإن كان الإمضاء من الشرع السابق فاستصحاب النبوة السابقة يتوقف على ثبوتها ، وثبوتها على استصحاب النبوة ، وهذا دور. وإن كان الإمضاء من الشرع اللاحق : لزم الخلف ، وهو ارتفاع النبوة السابقة بالنسخ.

وأما الثاني : فهو عين ما ذكر في دليل إمضاء بناء العقلاء.

(٢) قد عرفت تقريب عدم الدليل عقلا وشرعا على اعتبار الاستصحاب في جواز التعبد بالشريعة السابقة مع الشك فيها.

(٣) هذا إشارة إلى دفع توهم ، وهو عدم تسليم قوله : «ولا شرعا» بتقريب : أن قيام الدليل على اعتبار الاستصحاب في شرعنا كاف في ثبوت الدليل الشرعي على اعتباره ، وضمير «قيامه» راجع إلى الدليل.

(٤) هذا دفع التوهم : وحاصله كما مر : أن اعتبار الاستصحاب في شريعتنا لا يجدي الكتابي أصلا ؛ إذ لازم اعتباره في هذه الشريعة ارتفاع الشريعة السابقة ، حيث إن اعتقاده باعتبار الاستصحاب في هذه الشريعة يتوقف على تصديق هذه الشريعة ، ضرورة : أن حجية الاستصحاب من أحكامها ، فالإذعان بحجيته موقوف على تصديق أصل الشريعة ، وتصديقها مساوق لليقين بارتفاع الشرع السابق ، فيلزم من استصحاب ذلك الشرع عدمه. وهو ما أفاده بقوله : «مجال». وضمير «يجديه» راجع على «الكتابي».

٧٧

ووجوب (١) العمل بالاحتياط عقلا في حال عدم المعرفة بمراعاة (٢) الشريعتين ما لم (٣) يلزم منه الاختلال ؛ للعلم (٤) بثبوت إحداهما على الإجمال ؛ إلّا (٥) إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.

______________________________________________________

هذا تمام الكلام فيما أفاده المصنف في منع تمسك أهل الكتاب بالاستصحاب لإثبات بقاء شريعتهم وعدم نسخها.

(١) معطوف على «لزوم المعرفة» ، يعني : أن الكتابي الشاك ليس له أن يقنع بالاستصحاب الذي لا يفيد إلا حكما ظاهريا ؛ بل عليه الفحص والنظر لتحصيل المعرفة مع الإمكان ، وبدونه ليس له الاعتماد على الاستصحاب في أعماله ؛ بل عليه أن يعمل بمقتضى العلم الإجمالي وهو العمل بكلتا الشريعتين ما لم يلزم منه اختلال النظام.

والحاصل : أن الاستصحاب لا يجدي الكتابي لا اعتقادا ولا عملا.

(٢) متعلق ب «بالاحتياط» ، وقوله : «عقلا» قيد ل «وجوب» ، و «في حال» متعلق ب «العمل» ، ويمكن تعلقه ب «وجوب».

(٣) قيد لوجوب الاحتياط ، يعني : يجب الاحتياط بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم من الاحتياط اختلال النظام ، وضمير «منه» راجع على «الاحتياط».

(٤) متعلق ب «وجوب العمل» وتعليل له ، يعني : يجب الاحتياط عقلا لأجل العلم الإجمالي بثبوت إحدى الشريعتين. وضمير «إحداهما» راجع إلى «الشريعتين».

(٥) استثناء من وجوب الاحتياط عقلا.

وحاصل الاستثناء : أنه إذا ثبت اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى حجية الحجج بنظر العقل ـ كثبوت اعتباره في عدم الحجية عند الشك في حدوثها ـ لم يجب الاحتياط بمراعاة الشريعتين ؛ بل يعمل بما يقتضيه الاستصحاب من بقاء الشريعة السابقة ، هذا ولكنه مجرد فرض ؛ إذ لا فرق في اعتبار الاستصحاب وعدمه بين موارده.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : أن استصحاب النبوة لا يجري مطلقا ، سواء أريد بها الصفة الكمالية التكوينية أم الموهبة الإلهية التشريعية ، أم الأحكام الفرعية ، وسواء أريد بالاستصحاب إلزام الخصم أم إقناع النفس ؛ لأنه بناء على إرادة الصفة التكوينية من النبوة لا شك في بقائها أولا ، وعدم ترتب أثر شرعي عليها على تقدير الشك فيها ثانيا ، من غير فرق في ذلك بين قصد الإلزام والإقناع بالاستصحاب ؛ لإناطته في كلتا الصورتين بالشك في البقاء والأثر الشرعي. وبناء على إرادة الصفة التشريعية الإلهية منها ـ وإن كانت النبوة بنفسها حينئذ أثرا شرعيا قابلا للاستصحاب ـ

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لكنه مع ذلك لا يجري فيها ؛ لا إلزاما للمسلم ، لليقين بارتفاعها ، مع وضوح : أنه يعتبر في إلزامه بالاستصحاب الجدلي من كونه متيقنا بالثبوت وشاكا في البقاء ، ولا إقناعا لنفسه ؛ لكون النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل اليقين والمعرفة بها ، ومن المعلوم : أن الاستصحاب لا يوجب المعرفة ؛ بل حكم على الشك.

وبناء على إرادة الشريعة من النبوة وإن كانت بنفسها حكما شرعيا موردا للاستصحاب ؛ إلّا إنه لا يجري فيها أيضا ، لا إلزاما ؛ ليقين المسلم بارتفاعها بنسخها بهذه الشريعة ، وإلّا فليس بمسلم ، ولا إقناعا ؛ للزوم الدور إن كان دليل اعتبار الاستصحاب من الشرع السابق ؛ لتوقف بقائه على اعتبار الاستصحاب ، وتوقف اعتباره على بقاء الشرع. وإن كان دليل اعتباره من هذا الشرع لزم الخلف وهو ارتفاع الشرع السابق.

وبالجملة : فلا مجال لاستصحاب الكتابي لإثبات نبوة موسى أو عيسى «عليهما‌السلام» ، لا لإقناع نفسه ولا لإلزام خصمه. واكتفينا في هذا التنبيه بما في منتهى الدراية لما فيه من الكفاية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا التنبيه الثاني عشر : هو تحقيق حال الاستصحاب في الأمور الاعتقادية من حيث جريان الاستصحاب وعدمه. ولا إشكال في جريانه فيما إذا كان المستصحب من الأحكام الفرعية ، أو كونه موضوعا لأثر شرعي ، فإذا كان هذا ملاكه فلا فرق بين كون المورد من أفعال الجوارح أو الجوانح.

فلو كان الأكل والشرب عملا للمكلف حسب الجوارح : فالاعتقاد وعقد القلب والتصديق عمل له بحسب الجوانح ، فيجري الاستصحاب في كلا القسمين.

٢ ـ ثم المطلوب في باب الاعتقاد تارة : يكون تعلق فعل القلب بنفس الواقع على ما هو عليه ، من دون أن يكون العلم مأخوذا في موضوعه ، وذلك كالتصديق بما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، والاعتقاد بما يجري على الإنسان من الأحوال بعد الموت من سؤال القبر ثم النشر والحشر ومحاسبة الأعمال بالميزان.

وأخرى : يكون المطلوب تعلقه بالواقع المعلوم ؛ بحيث يكون العلم جزءا للموضوع ، فلا يكفي الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه ؛ بل يجب الاعتقاد بالواقع الثابت عن علم ،

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كالاعتقاد بالله تعالى وصفاته وأنبيائه وخلفائه.

٣ ـ جريان الاستصحاب في القسم الأول من الأمور الاعتقادية حكما وموضوعا ؛ إذ يكون كل من الحكم والموضوع موضوعا لوجوب الاعتقاد ؛ لعدم اعتبار العلم ؛ بل الاعتقاد به إذا أحرز الواقع بوجه من الوجوه. فلو شككنا في أن سؤال القبر من دين الله أو لا بعد ما كان كذلك ، يستصحب ويتعلق به الالتزام والاعتقاد ، أو شككنا بوجوب الاعتقاد بنبوة الأنبياء السابقين «عليهم‌السلام» ؛ لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام يستصحب وجوب الاعتقاد بنبوة الأنبياء السابقين.

٤ ـ وأما القسم الثاني من الأمور الاعتقادية : فقد فصّل المصنف بين استصحاب الموضوع والحكم حيث قال بعدم الاستصحاب الموضوعي في تلك الأمور ؛ إذ ليست هي بوجودها الواقعي وإن لم يتعلق بها العلم والمعرفة موضوع وجوب الاعتقاد ، بل موضوعه هي المعرفة وهي لا تثبت بالاستصحاب.

وأما الاستصحاب الحكمي : فلا مانع من جريانه ، فلو شك في وجوب تحصيل القطع بتفاصيل القيامة بعد أن كان في زمان قاطعا بوجوبه جري فيه الاستصحاب ، ويترتب عليه وجوب تحصيل اليقين بها.

٥ ـ تمسّك الكتابي باستصحاب نبوة موسى : بتقريب : أن المسلمين متيقنون بنبوة موسى «عليه‌السلام» ، فعليهم إثبات نسخها ، فإن الاستصحاب يقتضي بقاء شرعه إلى أن يثبت نسخه.

ويقال في الجواب عنه : إن استصحاب النبوة لا يجري مطلقا ، سواء أريد بها الصفة الكمالية أو الموهبة الإلهية أو الأحكام الفرعية ، وسواء أريد بالاستصحاب الإلزام أو الإقناع ؛ لأنه بناء على إرادة الصفة الكمالية من النبوة لا شك في بقائها أوّلا ، ولا يترتب عليها أثر شرعي ثانيا. من غير فرق ذلك بين قصد الإلزام والإقناع وبناء على إرادة الصفة التشريعية منها : فليقين المسلم بارتفاعها بالنسخ أولا ، ولكون النبوة من الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل اليقين بها ، ومن المعلوم : أن الاستصحاب لا يوجب اليقين والمعرفة.

وأما بناء على إرادة الشريعة من النبوة : فإنها وإن كانت بنفسها من الأحكام القابلة للجعل ؛ إلّا إن الاستصحاب لا يوجب إقناعا ولا إلزاما. والأول للزوم الدليل إن كان دليل اعتباره من الشرع السابق ، والخلف إن كان دليل اعتباره من الشرع اللاحق ، والثاني

٨٠