دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

أدلتها (١) بوجه (٢) ، وتعرّضها (٣) لبيان حكم موردها لا يوجب (٤) كونها (٥) ناظرة إلى

______________________________________________________

موضوعها هو الحرمة الظاهرية أو عدم الحلية الظاهرية ، وإلغاؤها لا ربط له بإلغاء حرمة شرب التتن المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل.

فإنه يقال : أوّلا : أن النظر المعتبر في الدليل الحاكم عند الشيخ «قدس‌سره» هو الدلالة اللفظية التي يعبر عنها بالشرح والتفسير ، والنظر بهذا المعنى مفقود في الأمارات. ففرق بين تعرض أحد الدليلين لذات مدلول الآخر وبين تعرضه له بما هو مدلوله ، والرافع للمنافاة ـ المسمّى بالحاكم ـ هو الثاني لا الأول ، والمفروض : أن الأمارة لا بمدلولها ولا بدليل اعتبارها ليست شارحة لما يراد من مثل «كل شيء لك حلال».

وثانيا : أن النظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية العقلية لزم أن يكون دليل الأصل أيضا حاكما على الأمارة ، ضرورة : أن مقتضى الأصل هو الحلية التي هي مورد الأمارة الدالة على الحرمة ، ومن المعلوم : منافاة الحل والحرمة ، ودلالة كل منهما بالالتزام العقلي على نفي الآخر. وهذا معنى حكومة كل من الدليلين المتنافيين ـ بحسب المفاد ـ على الآخر وهو كما ترى.

وعليه : فلا بد أن يراد بالنظر الدلالة اللفظية دون العقلية الثابتة في كل دليل ، حيث إن مدلوله المطابقي ثبوت الحكم لموضوعه ومدلوله الالتزامي العقلي نفي غير ذلك الحكم عن موضوعه.

وقد عرفت : انتفاء النظر اللفظي في الأمارات ، سواء كان المقصود حكومة نفس الأمارة على الأصل أم حكومة دليلها على دليله.

فالنتيجة هي : عدم حكومة الأمارات على الأصول الشرعية ؛ لعدم انطباق ضابط الحكومة عليها ؛ هذا كما في «منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ٤٢» مع تصرف ما منّا.

(١) أي : أدلة الأمارات.

(٢) أي : بشيء من الدلالات اللفظية الشارحة لمعنى الكلام.

(٣) يعني : «ومجرد تعرّض الأمارات لبيان حكم مورد الأصول ...» الخ.

وهذا إشارة إلى توجيه الحكومة وإثبات النظر للأمارات بما ذكرناه آنفا من قولنا : لا يقال : «الأمارة ناظرة» ، وضمير «موردها» راجع إلى الأصول.

(٤) خبر «وتعرّضها» ، ودفع لتوجيه حكومة الأمارات على الأصول ، وقد عرفت توضيح الدفع بوجهين.

(٥) أي : كون الأمارات ، وضمائر «لها ، أدلتها» في الموضعين راجعة إلى الأصول.

٢٠١

أدلتها وشارحة لها ؛ وإلّا (١) كانت أدلتها أيضا دالة ولو بالالتزام (٢) على أن حكم مورد الاجتماع فعلا (٣) هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو (٤) مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الأمارة ؛ بل (٥) ليس مقتضى حجيتها إلّا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا : «وثانيا : أن النظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية».

يعني : وإن أوجب تعرض الأمارات لحكم مورد الأصول كونها شارحة لأدلة الأصول وناظرة إليها كانت أدلة الأصول أيضا ...» الخ.

وجه هذه الدلالة الالتزامية هو : أن المنافاة بين الأحكام الظاهرية الثابتة بالأمارة والأصل توجب دلالة كل واحد من الأمارة والأصل ـ بالالتزام العقلي ـ على نفي ما عداه ، فدليل حرمة شرب التتن مثلا يدل مطابقة على الحرمة والتزاما عقليا على نفي حليّته ، ودليل حليته يدل أيضا مطابقة على حليّته ، والتزاما عقليا على نفي حرمته ، فيتحقق التعارض بينهما في مورد الاجتماع كشرب التتن المحكوم بالحرمة بمقتضى الأمارة وبالحلّ بمقتضى الأصل وينهدم أساس الحكومة.

وعليه : فقوله : «وإلّا كانت» جواب نقضي لنظر الأمارة إلى الأصل ، حيث إن هذا النظر لا يختص بالأمارة ؛ بل يشترك الأصل مع الأمارة في هذا النظر ، فيلزم حكومة كل من الأمارة والأصل على الآخر ، وهذا واضح البطلان.

(٢) أي : الالتزام العقلي الناشئ من تنافي الحكمين المدلولين بالأمارة والأصل.

(٣) قيد قوله : «حكم» يعني : أن دليل الأصل ـ كأصالة الحلّ ـ يدل التزاما عقليا على أن الحكم الفعلي ـ في مورد اجتماع قاعدة الحلّ والأمارة على حرمة شرب التتن مثلا ـ هو الحل الذي يقتضيه أصالة الحل ، لا الحرمة التي تقتضيها الأمارة.

(٤) أي : وكون حكم مورد الاجتماع فعلا مقتضى الأصل لا الأمارة مستلزم عقلا نفي مقتضى الأمارة ، وهي الحرمة في مثال شرب التتن.

وغرضه : توضيح الإشكال على ما أفاده الشيخ من حكومة الأمارات على الأصول الشرعية بتطبيق الحكومة على كل من الأمارة والأصل ، بناء على تعميم النظر في الحكومة للالتزام العقلي كما تقدم ؛ لكن لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر ؛ بل ليس هذا إلّا التعارض.

(٥) هذا إشارة إلى توهم ودفعه.

أما التوهم الذي مرجعه إلى تصحيح الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس‌سره» من ناحية دليل حجية الأمارة ـ لا من ناحية نفس الأمارة التي كان البحث المتقدم بلحاظ

٢٠٢

عليه (١) لفظا ، ضرورة (٢) : أن نفس الأمارة لا دلالة ...

______________________________________________________

حكومتها على الأصل ـ فهو : أن نفس الأمارة كخبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن مثلا وإن لم يكن مؤداها ناظرا إلى دليل الأصل مثل : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» حتى تصح دعوى الحكومة إلّا إن دليل حجيّة الأمارة كآية النبأ وغيرها ـ ناظر إلى دليل الأصل ؛ لأن مقتضى دليل حجيتها نفي احتمال خلاف مؤدى الأمارة كحرمة شرب التتن في المثال ، فإن احتمال خلافه ـ الذي هو موضوع أصالة الحل ـ منفيّ بدليل حجية خبر الثقة ، وهذا النظر النافي لموضوع الأصل يوجب حكومة دليل الأمارة عليه ، فيتم حينئذ حديث حكومة الأمارات على الأصول ؛ كما أفاده الشيخ «قدس‌سره». هذا حاصل التوهم.

وأما دفعه ـ المشار إليه بقوله : «بل ليس مقتضى ...» الخ ـ فتقريبه الراجع إلى نفي النظر اللفظي للأمارة المقوّم لحكومتها على الأصل هو : أن شيئا من مؤدى الأمارة وحجيتها لا يدل لفظا على نفي مقتضى الأصل.

أما مؤداها : فلأنه ليس إلّا الحكم الواقعي ، وأما حجيتها : فلأن مقتضاها ليس إلّا لزوم العمل شرعا بمقتضى الأمارة ، أي : جعل الحكم المماثل على طبق مؤداها ، دون تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف وتنزيل الظن منزلة العلم ، وشيء منهما لا نظر له لفظا إلى مؤدى الأصل.

نعم ؛ تشريع الحرمة مثلا التي هي مؤدى الأمارة مناف عقلا لتشريع الحلية في مورد الأصل وكذا العكس ، فإن حكم الأصل كحليّة شرب التتن مثلا ينافي أيضا عقلا مؤدى الأمارة وهي حرمته.

وبالجملة : فليس المراد بالحجية نفي احتمال الخلاف وتتميم الكشف حتى يكون ناظرا إلى موضوع الأصل ؛ بل المراد بها لزوم العمل على طبق مؤدى الأمارة كما هو أحد المباني في حجية خبر الواحد.

قوله : «عقلا» قيد ل «نفي» ، والمراد بالموصول : الحكم ، وضمير «قضيته» راجع إلى الحكم يعني : بل ليس مقتضى حجية الأمارة إلّا نفي الحكم الذي يقتضيه الأصل ، وهذا النفي عقلي لا لفظي ، وعقليته إنما هي لتنافي مدلولي الأمارة والأصل كالحرمة والحلية.

(١) أي : من دون دلالة على ما يقتضيه الأصل كالحلية لفظا ؛ بل الدلالة عقلية كما مرّ آنفا.

(٢) تعليل لنفي الدلالة اللفظية ، يعني : أن هذه الدلالة لا بد أن يكون الدال عليها

٢٠٣

له (١) إلّا على الحكم الواقعي (٢) ، وقضية حجيتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي (٣) عقلا للزوم العمل على خلافه (٤) وهو (٥) قضية الأصل.

هذا مع احتمال أن يقال (٦) : إنه ليس قضية الحجية شرعا إلّا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا ، وتنجزّ الواقع مع المصادفة وعدم تنجّزه في صورة المخالفة.

______________________________________________________

نفس الأمارة أو دليل اعتبارها ، وشيء منهما لا يدل عليها ؛ إذ الأمارة لا تدل إلّا على الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن ، ودليل اعتبارها ـ المشار إليه بقوله : «وقضية حجيتها ليست ...» الخ ـ لا يدل إلّا على جعل الحكم الظاهري المماثل لمؤدى الأمارة ، وهذا مراده ب «لزوم العمل على وفقها شرعا» ، وعليه : فلا يدل شيء من الأمارة ودليل حجيتها لفظا على نفي ما يقتضيه الأصل ، ونتيجة ذلك عدم حكومة الأمارة على الأصل.

(١) أي : للأمارة ، والصناعة تقتضي تأنيثه ؛ لكنه لم يؤت به مؤنثا حتى في النسخة المطبوعة على النسخة الأصلية.

(٢) واقعيته إنما هي بلحاظ ثبوته للشيء بعنوانه الأوّلي كشرب التتن لا بعنوانه الثانوي ، وهو مشكوك الحكم حتى يكون حكما ظاهريا.

(٣) نعت ل «لزوم» في قوله : «إلّا لزوم العمل».

(٤) الأولى تأنيث الضمير لرجوعه كرجوع ضميري «حجيتها ، وفقها» إلى الأمارة.

(٥) أي : وخلاف الأمارة ـ كالحلية ـ يكون مقتضى الأصل.

(٦) هذا جواب آخر عن نظر الأمارة عقلا إلى الأصل ، ونفي مفاده لأجل تضاد الحكمين.

وحاصل هذا الجواب : إنكار جعل الحكم المماثل للأمارة حتى يكون مضادا لما يقتضيه الأصل وتنفيه الأمارة عقلا ، وتصير حاكمة على الأصل.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ٤٨» ـ أن من مباني حجية الأمارات غير العلمية جعل الحجية لها التي هي من الأحكام الوضعية القابلة للجعل بالاستقلال شرعا كما تقدم في مباحث الاستصحاب ، وليس مقتضى الحجية إلّا تنجز الواقع مع الإصابة والعذر مع الخطأ ، من دون جعل حكم شرعي مماثل للمؤدي كالحرمة حتى ينافي هذا الحكم ما يقتضيه الأصل كالحلية ، ويكون ناظرا إليه ونافيا له بالالتزام العقلي.

وبالجملة : فليس للمؤدى حكم حتى ينفى عقلا ما يقتضيه الأصل ، وتحكم عليه الأمارة. والفرق بين الحجية في الأمارات والأصول حينئذ هو : أن الحجية في الأمارات لا

٢٠٤

وكيف كان (١) ؛ ليس (٢) مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبّدا كي يختلف الحال (٣) ، ...

______________________________________________________

أثر لها إلّا التنجز مع الإصابة والعذر بدونها بخلاف الحجية في الأصول فإن مقتضاها جعل الحكم الظاهري فيها. وأما ما تقدم من قوله «قدس‌سره» : «بل ليس مقتضى حجتها» فقد عرفت أن مقصود المصنف منه جعل الحجية في الأمارات والأصول بمعنى واحد ـ وهو جعل الحكم الظاهري في كلتيهما ـ حتى يدل كل منهما بالالتزام العقلي على نفي ما يقتضيه الآخر.

فصار المتحصل إلى هنا : عدم الوجه في حكومة نفس الأمارة ولا دليل اعتبارها على الأصل ؛ لانتفاء النظر المعتبر في تحقق الحكومة ، وقد مر وجه عدم النظر اللفظي ؛ بل ولا العقلي لا في الأمارة ولا في دليلها.

(١) يعني : سواء قلنا بكون الحجية مقتضية لجعل المؤدى في الأمارات ، كما هو المنسوب إلى المشهور ، أم قلنا بكون الحجية ـ كما احتمله هنا واختاره في محله ـ بمعنى :

تنجز الواقع مع الإصابة والتعذير بدونها ، لا مجال لحكومة الأمارة على الأصل إلّا بمعنى آخر في الحجية ، وهو تتميم الكشف وتنزيل الظن منزلة العلم.

(٢) غرضه : تسليم الحكومة على تقدير دلالة دليل الاعتبار على إلغاء احتمال الخلاف ، وتنزيل الأمارة منزلة القطع كما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ؛ لكن الإشكال في إثبات هذا المبنى.

وكيف كان ؛ فلمّا اعترف المصنف بالحكومة على هذا المبنى تصدّى لدفع الإشكال الذي أوردوه على الحكومة على ذلك المبنى أيضا.

ومحصل ذلك الإشكال : لزوم حكومة كل من الأمارة والأصل على الآخر ؛ حيث إن دليل اعتبار الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير مثلا ينفي احتمال خلافها وهو احتمال حليته ، كما إن دليل اعتبار الأصل المقتضي لحلية شرب العصير ينفي أيضا احتمال خلافها وهو الحرمة ، وإن احتمال الحرمة يكون شرعا بمنزلة العدم لا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب عليه لو لا الأصل ، ومن المعلوم : أنه لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر ؛ بل هذا هو التعارض ، فلا بد من معاملة التعارض مع الأمارة والأصل.

(٣) أي : حال دليل الاعتبار ، وهذا إشارة إلى دفع الإشكال المزبور.

وتوضيح دفعه : أن الخبر الدال على حرمة العصير ، وكذا الخبر الدال على «حلية كل

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

شيء حتى تعلم أنه حرام» مشمول لأدلة حجية الخبر ، ويعمّ الحكم بتصديق العادل كلا منهما ، وما يدل بالمطابقة على وجوب تصديق العادل عملا يدل التزاما على إلغاء احتمال خلافه. إلّا إن الوجه في حكومة أحد الخبرين ـ أي : الأمارة ـ على الآخر ـ أعني : الأصل ـ هو : أن الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير بعنوانه الأولي يدل بالالتزام اللفظي على إلغاء احتمال خلافه ، ولا معنى لإلغاء الاحتمال إلا إلغاء حكمه وأثره شرعا ، فهذه الأمارة تدل على إلغاء احتمال الحلية الواقعية ـ التي هي خلاف ما أخبر به العادل ـ وحكم هذا الاحتمال هو الحلية الظاهرية بمقتضى «كل شيء لك حلال» فالأصل العملي يعارض المدلول الالتزامي للأمارة.

وهذا بخلاف احتمال خلاف مفاد «كل شيء لك حلال» ، فإن خلاف الحلية الظاهرية في موضوعها هو عدم الحلية الظاهرية أو الحرمة الظاهرية أو الاحتياط ، ومن المعلوم : أن إلغاء هذا الاحتمال أجنبي عن إلغاء حرمة شرب العصير المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل ؛ إذ لا يمس الأصل العملي كرامة الواقع ، فهو بالمطابقة يدل على حلية الشيء المشكوك الحكم جلّا وحرمة وبالالتزام على نفي الحرمة الظاهرية. ولا منافاة بين حرمة شيء واقعا وحليته ظاهرا على ما تقرر في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وعليه : فدليل وجوب التصديق في طرف الأمارة يدل بالالتزام على إلغاء مفاد الأصل. ولا يدل في طرف الأصل على إلغاء مفاد الأمارة ، وحيث إن هذه الدلالة الالتزامية لفظية مأخوذة من اقتضاء نفس عنوان التصديق ، فيؤخذ بها وتتحقق الحكومة المتوقفة على نظر الحاكم بمدلوله اللفظي ـ ولو بالالتزام ـ إلى المحكوم.

والظاهر : أن الالتزام بحكومة الأمارة على الأصل مبني على أمرين :

أحدهما : كفاية تعرّض الحاكم بمدلوله اللفظي ـ ولو بدلالته الالتزامية اللفظية ـ للدليل الآخر ، دون العكس ، وعدم توقف الحكومة على وجود كلمة «أعني» وأشباهها من أدوات الشرح والتفسير ؛ لأن المهم هو التعرض بالدلالة اللفظية ، والمفروض : تحققها في المقام ، فإن الدلالة الالتزامية تكون من أقسام الدلالة اللفظية لا العقلية.

ثانيهما : كون الحجية في الأمارات من باب تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف ، لا على مبنى تنزيل المؤدى منزلة الواقع وجعل الحكم المماثل ، ولا على مبنى جعل الحجية ؛ لكن إثبات مبنى تتميم الكشف وجعل الظن منزلة العلم بنظر المصنف «قدس‌سره» مشكل.

٢٠٦

ويكون (١) مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل ، حيث (٢) إنه حكم الاحتمال (٣) ، بخلاف (٤) مفاده فيه ؛ لأجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال ...

______________________________________________________

(١) بالنصب عطف على «يختلف» ومفسر له ، وضمير «مفاده» راجع على «دليل الاعتبار» ، وقد عرفت : مفاد دليل الاعتبار في كل من الأمارة والأصل ، وأن مفاد دليل اعتبار الأمارة ـ بناء على كونه إلغاء احتمال الخلاف ـ ينفي الاحتمال الذي هو موضوع الأصل ، فيكون حاكما عليه كما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره».

(٢) يعني : حيث إن حكم الأصل كالحلية حكم احتمال الحرمة.

وغرضه من هذه العبارة : بيان كون مفاد دليل الاعتبار في الأمارة نفي حكم الأصل كالحلية.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ٥٠» ـ أن إلغاء احتمال خلاف الحرمة ـ التي هي قضية الأمارة ـ أعني به الحل الذي هو مفاد الأصل يوجب انتفاء احتمال الحرمة الذي هو موضوع أصالة الحل. بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل ، فإنه لا يكون مفاده فيه نفي حكم الأمارة أعني : الحرمة واقعا حتى يلغى احتمالها ؛ بل مفاده في الأصل نفي احتمال كون الحكم الظاهري في محتمل الحرمة واقعا غير حليّته كإيجاب الاحتياط. وهذا الدليل لا ينفي ما تقتضيه الأمارة من حرمة الشيء واقعا ، فلا نظر لدليل الأصل إلى الأمارة حتى يكون حاكما عليها.

وبالجملة : فبناء على مبنى إلغاء الاحتمال وتنزيل الظن منزلة العلم في حجية الأمارات تتجه حكومة الأمارات على الأصول.

(٣) يعني : أن احتمال الحرمة الواقعية لشرب التتن مثلا موضوع للحلية التي هي مفاد الأصل ، فإذا دلّت أدلة حجية الأمارة على كون الأمارة كالعلم بالواقع ارتفع احتمال الحرمة الذي هو موضوع الأصل وتبدّل بالعلم بها.

(٤) يعني : بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل ، حيث إن الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن في المثال ليس حكم احتمال خلاف الأصل حتى ينفيه دليل الأصل ، ضرورة : أن الحلية التي هي مفاد الأصل حكم محتمل الحرمة ، فاحتمال الحرمة موضوع الأصل ، فلا يعقل أن ينفي به ، ودليل اعتبار الأصل ينفي احتمال حكم ظاهري آخر غير الحلية ـ كإيجاب الاحتياط ـ عن نفس هذا الموضوع أعني احتمال الحرمة ، كما قال به أصحابنا المحدثون.

٢٠٧

خلافه (١).

كيف (٢)؟ وهو (٣) حكم الشك فيه واحتماله (٤) ، فافهم (٥). وتأمل جيدا.

فانقدح بذلك (٦) : أنه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة

______________________________________________________

وضمير «مفاده» راجع على دليل الاعتبار وضمير «فيه» على الأصل. قوله : «لأجل» تعليل لعدم كون مفاد دليل الاعتبار في الأصل نفي حكم الأمارة.

(١) الضمير راجع إلى «مفاده» ، أي : مفاد دليل الاعتبار في الأصل.

(٢) يعني : كيف يكون دليل الأصل نافيا لاحتمال خلاف الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الأمارة؟ مع أن موضوع الأصل نفس هذا الاحتمال ، فإذا نفى الأصل هذا الاحتمال لزم من وجود الأصل عدمه.

(٣) الواو للحالية ، وضمير «هو» راجع على «مفاد الأصل» ، وضمير «فيه» راجع إلى «الحكم الواقعي» يعني : والحال أن مفاد الأصل ـ كحلية الشيء المشكوك في حكمه ـ حكم الشك في الحكم الواقعي.

فتلخص من جميع ما تقدم : أن الحكومة التي ادّعاها الشيخ «قدس‌سره» مبنية على حجية الأمارات من باب تتميم الكشف وإلغاء الاحتمال ، ولا يرد عليه حينئذ إشكال حكومة الأصول على الأمارات أصلا.

(٤) عطف على «الشك» وضميره راجع إلى الحكم الواقعي.

(٥) لعله إشارة إلى وجاهة مبنى تتميم الكشف في حجية الأمارات غير العلمية بدعوى : أن ظاهر أدلة حجيتها عرفا هو تتميم طريقيتها وكشفها تعبدا ، حيث إنها طرق عقلائية يكون الأمر المتعلق بها ظاهرا في الأخذ بها لأجل الكشف والطريقية ، وهذا عبارة أخرى عن إلغاء احتمال الخلاف الموجود فيها تعبدا.

وعليه : يتجه كلام الشيخ «قدس‌سره» في حكومة الأمارات على الأصول على مبنى تتميم الكشف.

أو إشارة إلى ما في تقريرات الفقيه الأعظم الأصفهاني «قدس‌سره» من إمكان منع موضوعية الاحتمال في الأمارة حتى يكون كموضوعيته في الأصل ؛ بل الموضوع خبر العادل ، وخروج صورة العلم إنما هو لحكم العقل بعدم تعقل جعل الأمارة للعالم. «منتهى الأصول ، ص ٢٦١».

(٦) أي : بما ذكرناه من الإشكال على الحكومة التي أفادها الشيخ «قدس‌سره».

٢٠٨

إلّا بما أشرنا سابقا (١) وآنفا (٢) فلا تغفل (٣).

هذا ولا تعارض (٤) أيضا (٥) إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، كما في الظاهر مع النص (٦) أو الأظهر ، مثل العام والخاص (٧) والمطلق والمقيد ، أو

______________________________________________________

(١) أي : في الاستصحاب ، حيث إنه جعل هناك تقديم الأمارات على الأصول لأجل الورود.

(٢) من التوفيق العرفي الذي هو نوع من الحكومة الرافعة للتعارض والخصومة.

(٣) لعله إشارة إلى المنافاة بين الورود ـ الذي أفاده في مبحث الاستصحاب ـ والتوفيق العرفي الذي أفاده هنا ؛ إذ التوفيق هو الجمع بين الدليلين والأخذ بهما ، والورود هو الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، بل انتفاؤه رأسا ؛ إلّا أن يراد بالتوفيق العرفي ما ينطبق على الورود.

المورد الثالث : حمل الظاهر على الأظهر

(٤) عطف على «فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلوليهما» وهذا إشارة إلى المورد الثالث من موارد التنافي بين المداليل مع خروجها عن تعريف التعارض من جهة عدم تنافيهما في مقام الدلالة والإثبات.

(٥) يعني : كعدم التعارض في موارد الحكومة والتوفيق العرفي والفرق بين المقام والتوفيق العرفي هو : أن تقديم أحد الدليلين على الآخر هناك إنما يكون لجهات خارجية كمناسبة الحكم والموضوع ، وقرينيّة العنوان الثانوي للتصرف في الدليل المشتمل على العنوان الأولي ، بخلافه هنا ، فإن تقديم أحد الدليلين على الآخر فيه إنما هو بملاحظة حالات اللفظ من النصوصية والأظهرية.

(٦) فإن النص قرينة على التصرف في الظاهر ، مثل : زر الحسين «عليه‌السلام» ولا بأس بترك الزيارة ، أو الظاهر مع «الأظهر» نحو : رأيت أسدا يرمى ، حيث إن «يرمى» أظهر في مفاده الذي هو رمي السهم من رمي الحجارة الملائم مع الحيوان المفترس ، من ظهور الأسد في معناه الذي هو الحيوان المفترس.

(٧) كعموم ما دل على حرمة الرّبا إلّا في بعض الموارد كالولد ووالده والسيد وعبده وغير ذلك ، فإن المخصّص ـ لنصوصيته أو أظهريته ـ يقدم على العام الذي هو ظاهر في العموم ، وكذا الحال في المطلق والمقيد كقوله : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» ، و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» ، فإن الأول : ظاهر في صحة عتق مطلق الرقبة وإن كانت كافرة ، والثاني : نص في اعتبار الإيمان في صحة عقتها ، فيقيد إطلاق الأول به. وهذا الجمع

٢٠٩

مثلهما (١) ممّا كان أحدهما نصا أو أظهر ، حيث إن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.

وبالجملة : الأدلة في هذه الصور (٢) وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها (٣) ؛ إلّا إنها غير متعارضة لعدم (٤) تنافيها (٥) في الدلالة وفي مقام الإثبات ؛ بحيث (٦) تبقى أبناء المحاورة متحيّرة (٧) ؛ بل بملاحظة المجموع (٨) أو خصوص بعضها يتصرف ...

______________________________________________________

الدلالي العرفي يرفع الحيرة ، ويخرج نظائر هذين الدليلين عن موضوع التعارض الذي هو الموجب للتحيّر.

(١) أي : مثل العام والخاص والمطلق والمقيد في كون أحد الدليلين نصّا أو أظهر ، والآخر ظاهرا كقوله : «يجب غسل الجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» ، فإن الأوّل نصّ في الوجوب ، والثاني ظاهر في الاستحباب. وقوله «مما» بيان ل «مثلهما».

(٢) أي : العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائرهما ، فإن مداليلهما وإن كانت متنافية ، ضرورة : أن صحة عتق الرقبة الكافرة كما يقتضيها إطلاق «أعتق رقبة» ، وعدم صحته كما هو مقتضى «أعتق رقبة مؤمنة» متنافيان : لكن أظهرية المقيد أو نصوصيته قرينة في مقام الدلالة والإثبات على إرادة خصوص المقيد ، وعدم تعلق الطلب بعتق مطلق الرقبة حتى يتحقق التنافي بين الدليلين.

(٣) كما عرفت في مثال «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة».

(٤) تعليل لعدم تعارض الأدلة مع تنافي مدلولاتها ، حيث إن مناط التعارض ليس هو التنافي بين المدلولات ، بل مناطه تنافيها في مقام الدلالة والإثبات ، وهو مفقود في العام والخاص والمطلق والمقيد ، ومثلهما مما يكون أحدهما نصا أو أظهر والآخر ظاهرا ؛ لما مرّ آنفا : من قرينية النص أو الأظهر على التصرف في الآخر ؛ بحيث لا يبقى تحيّر لأبناء المحاورة في الجمع بينهما والعمل بهما.

(٥) هذا الضمير وضميرا «مدلولاتها ، أنها» راجعة إلى «الأدلة».

(٦) متعلق ب «تنافيها» وبيان له ، فإن ملاك التعارض هو التنافي في مرحلة الدلالة ، فلا تعارض إن لم يكن بينهما منافاة في هذه المرحلة وإن كان بينهما منافاة من حيث المدلول.

(٧) حتى يوجب هذا التحيّر اندراج تلك الأدلة في باب التعارض.

(٨) بأن يتوقف انعقاد الظهور ـ المتبع عند أبناء المحاورة ـ على ملاحظة مجموع الكلمات المتعددة الصادرة من متكلم واحد حقيقة كالكلمات الصادرة من زيد مثلا ، أو

٢١٠

في الجميع (١) أو في البعض (٢) عرفا (٣) ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين.

ولا فرق فيها (٤) بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيّا أو مختلفا ، فيقدم النص أو

______________________________________________________

تنزيلا كالروايات الصادرة عن الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» ، فإنهم «عليهم‌السلام» بمنزلة متكلم واحد ، فتكون الكلمات الصادرة منهم كالصادرة من متكلم واحد في قرينية بعضها على الآخر ، أو كون المجموع ظاهرا في مطلب واحد.

(١) متعلق ب «بملاحظة المجموع». والتصرف في الجميع كالتصرف في كلا الخبرين اللذين دل أحدهما على حرمة بيع العذرة ، والآخر على جوازه ، فإنه يتصرف في كليهما بمناسبة الجواز والحرمة ، فيحمل ما دل على الحرمة على عذرة الإنسان ، وما دل على الجواز على عذرة مأكول اللحم.

(٢) متعلق ب «خصوص بعضها» ، والتصرف في البعض كما يتصرف فيما دل بظاهره على وجوب إعادة الحج على المخالف بعد استبصاره بحمله على الاستحباب ؛ بقرينة الأخبار الدالة على استحباب الإعادة كقوله «عليه‌السلام» : «يقضي أحبّ إليّ».

(٣) قيد ل «يتصرف» ، و «بما» متعلق ب «يتصرف» وبيان للتصرف العرفي ، وضمير «به» راجع إلى «بما».

(٤) أي : لا فرق في الموارد التي قلنا بخروجها عن باب التعارض وعدم شمول الأخبار العلاجية لها كالعام والخاص والمطلق والمقيدة وغيرهما ـ مما يكون أحدهما نصا أو أظهر ، والآخر ظاهرا ـ بين كون السند فيها قطعيا كالكتاب والخبر المتواتر وخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة ، أو ظنيا كأخبار الآحاد غير المحفوفة بتلك القرائن ، أو مختلفا كالكتاب أو الخبر المتواتر وخبر الواحد غير العلمي ، فإن النص أو الأظهر في جميع هذه الموارد يقدّم على الظاهر وإن كان سنده قطعيا كالكتاب ، وكان سند النص والأظهر ظنّيين كالخبرين غير العلميين ، فإن إطلاق الكتاب مثلا يقيّد بخبر الواحد الظني السند.

والوجه في عدم الفرق في تقديم النص ، أو الأظهر على الظاهر بين قطعية السند وظنيّته والاختلاف هو لزوم العمل بهما بعد اعتبارهما سندا ، وعدم تنافيهما دلالة وقطعية سند الظاهر لا تمنع عن التصرف عرفا في دلالته بعد كون الآخر أظهر منه ، وموجبا لرفع التحيّر الذي هو الموضوع للأخبار العلاجية. ولحكم العقل بالتساقط أو التخيير.

وكيف كان ؛ فتوضيح عدم الفرق في الصور التي حكم فيها بالجمع بحمل الظاهر على الأظهر أو النص بين كون سند الأظهر أو النص ظنيا أو قطعيا يتوقف على مقدمة وهي : أن اعتبار الخبر والحديث يتوقف على أمور ثلاثة :

٢١١

الأظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيّا ـ على الظاهر (١) ولو كان (٢) بحسبه قطعيا.

______________________________________________________

الأول : السند بأن يكون حجة معتبرة عند الشارع ، ولا فرق في الحجة بين القطعية والظنية.

الثاني : الدلالة ؛ بأن يكون للفظ ظهور في المعنى عرفا ، ولا يكون مجملا.

الثالث : جهة الصدور ، بأن يكون صدور الحديث لبيان الحكم الواقعي لا لتقية ونحوها.

فإذا تمت هذه الجهات الثلاث يصير الحديث حجة يؤخذ به. ثم لدى التعارض لا بد وأن يقدم الأمر الثالث على الأمر الثاني والأمر الأول ، فإذا كان هناك حديثان أحدهما قطعي السند منصوص الدلالة ، والآخر ظني السند ظاهر الدلالة ؛ لكن كان قطعي السند للتقية ، وظنّي السند لبيان الحكم الواقعي قدّم الظني على القطعي لأنه حجة صدر لبيان الحكم الواقعي ، والأول ـ وإن كان أقوى سندا ودلالة ـ لكنه ليس لبيان الحكم الواقعي حتى يؤخذ به ، كما أنه لا بد أن يقدم الأمر الثاني على الأمر الأول حال التعارض ، فإذا كان هناك حديثان أحدهما قطعي السند ظاهر الدلالة ، والآخر ظنّي السند نص الدلالة جمع بينهما بحمل الظاهر على النص ، وإن كان سند الظاهر قطعيّا وسند النص ظنيّا ، وذلك لأن المعيار ـ بعد حجية كليهما ـ هو الأقوى دلالة ، والنص أقوى دلالة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك : وجه عدم الفرق في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، بين كون سند النص أو الأظهر ظنيّا ، وسند الظاهر قطعيا ، وبين العكس لأن المناط في التقديم هو قوّة الدلالة لا قطعية السند.

(١) متعلق ب «يقدم» ، وضمير «فيها» راجع إلى الموارد المذكورة الخارجة عن باب التعارض.

(٢) يعني : ولو كان الظاهر بحسب السند قطعيا مثل الكتاب والخبر المتواتر ؛ لما عرفت : من عدم تهافتهما سندا ، ولزوم العمل بهما لوجود الجمع العرفي بينهما الموجب لعدم تنافيهما في مقام الدلالة والإثبات.

فصار المتحصل : أنه في موارد الجمع العرفي يجب العمل بكلا الدليلين ، من دون لحاظ السند فيها من حيث قطعيته وظنيته واختلافه ، فلا يقع تعارض في سنديهما. ومورد التعارض في السند هو ما يذكره بقوله : «وإنما يكون التعارض بحسب السند».

٢١٢

وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور (١) مما (٢) كان التنافي فيه بين الأدلة

______________________________________________________

(١) أي : غير موارد الجمع العرفي من العام والخاص والمطلق والمقيد ونحوهما ؛ إذ لا تنافي بينها في مرحلة الدلالة والإثبات بحيث يتحيّر العرف في الجمع بينها.

(٢) بيان ل «غير» ، وضمير «فيه» راجع إلى الموصول في «مما».

وغرضه : بعد نفي التعارض عن الصور المذكورة ـ التي لا يتحيّر العرف في الجمع بينها ـ إثبات التعارض في غير تلك الصور وهو : ما إذا كان العرف متحيّرا في الجمع بين الدليلين أو الأدلة في مقام الإثبات.

توضيح ذلك : أن حجية ما يستنبط منه الحكم الشرعي منوطة بواجديته لأمور ثلاثة :

أحدها : صدوره ممن له تشريع الأحكام.

ثانيها : ظهوره في المعنى وعدم إجماله.

ثالثها : كونه صادرا لبيان الواقع والمتكفل للأول : أدلة حجيّة الأخبار ، ويعبّر عنه تارة : بأصالة السند ، وأخرى : بأصالة الصدور. وللثاني : بناء أبناء المحاورة على كون اللفظ ظاهرا في المعنى الكذائي ، ويعبّر عنه بأصالة الظهور.

وللثالث : ظهور حال المتكلم في إرادة ظاهر كلامه ، وجعله حاكيا عن مرامه ، ويعبّر عنه بأصالة الجهة.

وهذه الأمور الثلاثة مقوّمة لدليلية الدليل ، فإذا تعارض دليلان علم إجمالا بكذب أحد هذه الأمور الثلاثة في أحد الدليلين ، وبمخالفة أحدهما للواقع.

وصور تعارض هذه الأمور وإن كانت كثيرة ؛ إذ التعارض قد يكون بين أصالتي السند فيهما كما إذا كانا مقطوعي الدلالة والجهة ، وقد يكون بين أصالتي الظهور كما إذا كانا مقطوعي السند والجهة ، وقد يكون بين أصالتي الجهة كما إذا كانا مقطوعي السند والدلالة ، وقد يكون غير ذلك ؛ إلّا إن التعارض الذي يسري من الدلالة إلى السند ويوجب التعارض في أصالتي الصدور ـ ويكون موضوع حكم العقل بالتخيير أو التساقط وموضوع أخبار العلاج ـ ينحصر في الدليلين الظنيين ، سواء كان كل واحد منهما قطعيا جهة ودلالة أم ظنيّا كذلك ؛ فإن التعارض يقع بين سنديها للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما ، بعد وضوح : عدم إمكان الجمع بينهما بالتصرف فيهما ، لفرض : قطعية دلالتهما ، فلا محالة يقع التعارض بين أصالتي الصدور فيهما ؛ إذ لا معنى للتعبد بصدورهما مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما. هذا في صورة القطع بالدلالة والجهة.

وأمّا في صورة ظنيتهما ـ كظنيّة السند ـ فلأنهما وإن كانا قابلين للتصرف في

٢١٣

بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات. وإنما يكون التعارض بحسب السند فيها إذا كان كل واحد منها قطعيّا دلالة وجهة. أو ظنيّا (١) فيما (٢) إذا لم يكن (٣) التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل (٤) ، فإنه (٥) حينئذ (٦) لا معنى للتعبد بالسند في الكل إمّا

______________________________________________________

أحدهما والأخذ بظاهر الآخر ، وحمل الأول على التقية مثلا ؛ إلّا إنه لعدم قرينة على ذلك يصير المراد فيهما مجملا وإن لم يكن هذا الإجمال منافيا لأصل الصدور واقعا ؛ لكنه مخلّ بالتعبد بالسند ؛ إذ لا معنى للتعبد بسند رواية مجملة.

وبالجملة : فأصالة الصدور لا تجري في الصورة الأولى ؛ للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما ، وفي الصورة الثانية ؛ لعدم الأثر في التعبد بالصدور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) أي : في الدلالة والجهة كالسند ، فيتعارض الأمور الثلاثة فيهما بناء على عرضيّتها. وأمّا بناء على طوليّتها ـ وكون الظهور والجهة في طول الصدور ـ فالتعارض يكون بين أصالتي الصدور فقط.

(٢) هذا قيد لقوله : «ظنيّا» ؛ لأن القطعي غير قابل للتوفيق جزما وبلا تعليق.

(٣) بمعنى «يوجد» و «يكن» هنا تامة ، و «بالتصرف» متعلق ب «التوفيق».

(٤) إذ مع إمكان التوفيق بينهما بالتصرف في البعض أو الكل تندرج في موارد الجمع العرفي ، وتخرج موضوعا عن باب التعارض.

(٥) الضمير للشأن ، وهذا تعليل للتعارض بحسب السند وحاصله : أن دليل التعبد بالصدور لا يشملهما ، إما للعلم الإجمالي بكذب أحدهما كما في صورة القطع بالدلالة والجهة ؛ إذ مع قطعيّتهما وعدم إمكان التصرف فيهما يحصل العلم بعدم صدور أحدهما.

وإمّا لأجل عدم معنى للتعبّد بصدورهما كما في صورة الظن بكل من الصدور والدلالة والجهة ، حيث إن نتيجة التعبد حينئذ ليست إلّا الرفض ؛ لإجمالهما ، إذ المفروض : أنهما لظنيتهما وإن كانا قابلين للحمل والتصرف ـ بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما أو البناء على صدور أحدهما لبيان غير الواقع ـ ولذا لا يحصل العلم الإجمالي بكذب أحدهما ؛ إلّا إنه لعدم قرينة على تعيّن أحد الأمرين يصير كل منهما مجملا ، ولا معنى للتعبد بالمجمل.

(٦) يعني : حين عدم التوفيق بين الأدلة بالتصرف في الكل أو البعض.

٢١٤

للعلم بكذب أحدهما أو لأجل (١) أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها (٢) ، فيقع (٣) التعارض بين أدلة السند حينئذ كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) عطف على «إمّا» وكلاهما علة لعدم معنى للتعبد بصدورهما.

غاية الأمر : أن الأول راجع إلى عدم المقتضي للحجية ، والثاني : إلى وجود المانع وهو لغويتها.

(٢) هذا الضمير وضمير «بصدورها» راجعان إلى «الأدلة». ووحدة السياق تقتضي إفراد ضمير «أحدهما» كغيره من الضمائر ، لا تثنيته.

(٣) هذه نتيجة العلم بكذب أحد الدليلين أو لغوية التعبد بصدورهما ، فإنهما يمنعان شمول أدلة اعتبار السند لهما ، وهذا معنى التعارض.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ إن التعبير عن هذا البحث بتعارض الأدلة أولى من التعبير عنه بمبحث التعادل والترجيح ، ثم عطف المصنف الأمارات على الأدلة إمّا تفسيري إشارة إلى وحدة المعنى وترادف لفظي الأدلة والأمارات ، وإما غير تفسيري ، فلا بد من المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه بأن يكون الدليل مختصا بالأحكام ، والأمارة مختصة بالموضوعات.

ثم ما صنعه صاحب الكفاية من جعله هذا المبحث من مقاصد علم الأصول أفضل مما صنعه الشيخ من جعله هذا المبحث من خاتمة علم الأصول ، المشعر بكونه خارجا عنه مع أنه من أهم مباحث علم الأصول.

٢ ـ الوجه الموجب للبحث عن تعارض الأدلة : أن همّ الفقيه هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، وفعلية الحجة تتوقف على وجود المقتضي للحجية وفقد المانع عنها.

توضيح ذلك : أن استنباط الحكم الشرعي من أخبار الآحاد التي هي عمدة أدلة الفقه منوط بأمور :

الأول : حجية خبر الواحد.

الثاني : ظهور الألفاظ الواردة في الخبر في معانيها وعدم إجمالها.

الثالث : حجية ظواهر الألفاظ بنحو الكبرى الكلية ، سواء كانت من الكتاب أو السنة في حق جميع المكلفين وعدم اختصاصها بمن قصد إفهامه.

الرابع : علاج تعارض الأخبار.

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ فيقال : أما الأمر الأول : فيتكفله بحث خبر الواحد ، وقد مرّ تفصيله في بحث أخبار الآحاد.

وأما الأمر الثاني : فيتكفله العرف واللغة ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث الألفاظ.

وأما الأمر الثالث : فيبحث عنه في مسألة حجية ظواهر الألفاظ وأن ظواهر الكتاب والسنة تكون حجة.

وبتمامية هذه الأمور الثلاثة يتمّ المقتضي لحجية خبر الواحد ، فإذا تصدى المجتهد لاستنباط الحكم الشرعي ، ولم يكن للخبر معارض كان الخبر حجة فعلية ، وإن كان له معارض لا يجوز التمسك به إلّا بعد علاج التعارض.

والحجية الفعلية في الأخبار المتعارضة تتوقف على قيام دليل ثانوي على حجية أحد الخبرين تخييرا أو تعيينا ، وهذا المقصد الثامن يتكفل البحث عن هذا الدليل الثانوي ، ويعيّن وظيفة الفقيه الذي يواجه الأخبار المتعارضة في كثير من أبواب الفقه.

٤ ـ تعريف التعارض : وقد عرّف المصنف التعارض بتنافي الدليلين أو الأدلة ، والتعارض بهذا المعنى لا يشمل موارد الجمع الدلالي مما ليس بين الدليلين منافاة.

الصور الرئيسية التي هي خارجة عن باب التعارض هي ثلاثة :

الأولى : موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر.

الثانية : موارد التوفيق العرفي بين الدليلين بالتصرف في أحدهما أو في كليهما.

الثالثة : موارد حمل أحد الدليلين على الآخر ؛ كما في النص والظاهر والأظهر والظاهر.

٥ ـ عناوين ثلاثة في تعريف التعارض :

أولها : ـ وهو المنسوب إلى المشهور ـ «تنافي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد».

كما في القوانين والفصول.

ثانيها : هو «تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما» كما عن الشيخ الأنصاري.

ثالثها : ما أفاده صاحب الكفاية حيث قال : «التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة».

وأما كلمة الدلالة : ففيها جهتان :

الأولى : أنها تطلق على معنيين :

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

١ ـ الحكاية والكشف في قبال الكلام المجمل.

٢ ـ الحجية ، ومعنى التنافي في الدلالة هو تمانع الدليلين المتعارضين في الاندراج تحت دليل الاعتبار ، بمعنى : امتناع شمول أدلة حجية خبر الثقة لكلا الخبرين المتعارضين ، لامتناع التعبد بالمتناقضين. هذا هو معنى التنافي في الدلالة.

٦ ـ وأمّا الفرق بين تعريف التعارض عند المشهور وبين تعريفه عند المصنف فهو : أن ظاهر تعريف المشهور : كون التعارض من صفات المدلولين ، فيكون وصفا بحال المتعلق.

وظاهر تعريف المصنف : أن التعارض وصف لنفس الدليلين. هذا خلاصة الفرق بين التعريفين.

وأما وجه عدول المصنف عن تعريف المشهور فأمران :

أحدهما : أنه لو كان التعارض تنافي المدلولين كما هو المشهور لكان التعارض وصفا لمتعلق الدليلين لا نفسهما ، وعلى تعريف المصنف كان الوصف لنفس الدليلين لا لمتعلقهما.

ثانيهما : ـ وهو العمدة ـ أن تعريف المشهور يعمّ موارد الجمع الدلالي والتوفيق العرفي ، مع إنه لا تجري أحكام التعارض من التوقف والتخيير والتساقط في موارد الجمع. هذا بخلاف تعريف المصنف حيث لا يشتمل موارد الجمع.

٧ ـ إشكال المصنف على ما أفاده الشيخ من حكومة الأمارات على الأصول الشرعية ، بمعنى : أن الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض إفراد موضوعه. نظير ارتفاع حكم الشك الثابت بدليله ـ كالبناء على الأربع ـ بما دل على أنه «لا شك لكثير الشك» ، ففي المقام إذا كان مقتضى الاستصحاب حليّة شيء ، وقام خبر الثقة مثلا على حرمته كان هذا الخبر حاكما على استصحاب الحلية أي : مخرجا له عن موضوع الحلية وموجبا لنقض اليقين باليقين أي : بالحجة.

وحاصل إشكال المصنف عليه : هو عدم انطباق ضابط الحكومة على الأمارات ؛ إذ ليس أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر.

٨ ـ وتوهم : تصحيح حكومة الأمارة على الأصل من ناحية دليل حجية الأمارة لا من ناحية نفس الأمارة ، بمعنى : أن نفس الأمارة كخبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن ؛ وإن لم يكن مؤداها ناظرا إلى دليل الأصل ؛ إلّا إن دليل حجية الأمارة كآية النبأ

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وغيرها ناظر إلى دليل الأصل ؛ لأن مقتضى دليل حجيتها نفي احتمال خلاف مؤداها ، فاحتمال الخلاف ـ وهو موضوع أصالة الحلّ ـ منفي بدليل حجيّة خبر الثقة ، وهذا النظر النافي لموضوع الأصل يوجب حكومة الأمارة على الأصل كما يقول الشيخ ؛ مدفوع : بأن شيئا من مؤدى الأمارة ودليل حجيتها لا يدل لفظا على مقتضى الأصل ؛ لأن مؤداها ليس إلّا الحكم الواقعي ، وأمّا حجيتها : فلأن مقتضاها ليس إلّا لزوم العمل شرعا بمقتضى الأمارة أي : جعل الحكم المماثل على طبق مؤداها ، دون تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف كي تكون الأمارة حاكمة على الأصل.

٩ ـ إخراج الموارد العديدة عن باب التعارض :

منها : الحكومة.

ومنها : التوفيقات العرفية التي منها التصرف في أحد الدليلين كما في أحكام العناوين الأولية ، فإن المطرد هو التصرف فيها بحملها على الاقتضائية وإبقاء أدلة أحكام العناوين الثانوية على ظاهرها من الفعلية.

ومنها : التصرف في كلا الدليلين.

ومنها : التصرف في أحدهما المعيّن وإن كان أظهر من الآخر من حيث الدلالة ، وذلك لجهة خارجية توجب ذلك ؛ كلزوم عدم مورد أو قلّته للدليل الآخر الظاهر لو لم يتصرف في الأظهر.

١٠ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ تعريف التعارض بتنافي الدليلين أو الأدلة.

٢ ـ إخراج موارد الجمع عن باب التعارض.

٣ ـ تقديم الأمارات على الأصول إنما هو من باب الورود لا الحكومة.

٢١٨

فصل (١)

______________________________________________________

في بيان مقتضى القاعدة الأولية

وهي حكم العقل مع قطع النظر عن أدلة خاصة وأخبار علاجية.

وهناك قاعدة ثانوية وهي مفاد أدلة خاصة وأخبار علاجية يأتي البحث عنها في الفصل الثالث.

(١) الغرض من عقد هذا الفصل الثاني : هو بيان مقتضى القاعدة الأولية في الخبرين المتعارضين بناء على الطريقية. وأمّا بناء على السببية فسيأتي الكلام في مقتضى القاعدة الأولية فانتظر.

فيقع الكلام فعلا في مقتضى القاعدة الأولية على الطريقية أي : في حكم العقل في تعارض الأمارتين.

وتوضيح ما هو مقتضى القاعدة الأولية في المقام يتوقف على مقدمة وهي : أن حجية الأخبار ـ وسائر الأمارات ـ إمّا أن تكون من باب الطريقية والكشف عن الواقع.

وإمّا أن تكون من باب السببية والموضوعية.

والفرق بينهما : أن المراد من جعل الحجية على وجه الطريقية هو : كونها مجعولة بلحاظ لزوم حفظ الواقع والأحكام الواقعية ، ولا مصلحة في نفس الخبر وإنما المصلحة في المؤدى والواقع.

وأما المراد بحجية الخبر على نحو السببية فهو : وجود المصلحة في نفس الخبر سواء طابق الواقع أم لا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مقتضى القاعدة الأولية على الطريقية هو سقوط المتعارضين عن الحجية للعلم الإجمالي بكذب أحدهما.

نعم ؛ يمكن نفي الثالث بهما ، فلو دل أحدهما على حرمة صلاة الجمعة والآخر على الوجوب نفيا الاستحباب ؛ لأن الحجة المجهولة بينهما نافية له.

وكيف كان ؛ فمحتملات تعارض الخبرين على الطريقية وإن كانت كثيرة هي :

الأول : سقوطهما عن الحجية رأسا أي : سواء كان في المدلول المطابقي أو الالتزامي ،

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وجواز الرجوع إلى الأصل ولو كان مخالفا لهما ، فالتعارض يوجب فرض كليهما كالعدم وكون المورد مما لا نص فيه.

الثاني : الحكم بالتوقف ، بمعنى : سقوطهما في المدلول المطابقي دون الالتزامي ، وجواز الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما دون الأصل المخالف لهما.

الثالث : حجيّتهما معا.

الرابع : حجية أحدهما تخييرا.

الخامس : حجية الموافق للواقع منهما.

السادس : حجية أحدهما لا بعينه إلّا إن مختار المصنف هو هذا الاحتمال السادس.

ومحصل ما أفاده في وجهه : هو أن التعارض لما لم يكن موجبا لسقوط كلا المتعارضين عن الطريقية ؛ لعدم كونه موجبا للعلم بكذبهما معا حتى يسقط كلاهما عن الطريقية ؛ بل لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما ، كان اعتبار الآخر الذي فيه مناط الحجية ـ وهو احتمال المطابقة للواقع ـ بلا مانع.

إلّا إنه لما كان ذلك غير متميز عمّا علم إجمالا كذبه ، مع احتمال انطباقه على كل واحد من المتعارضين فلا يشملهما دليل الاعتبار ، لأجل العلم بعدم صغروية كليهما له ، ولا يشمل أحدهما المعيّن ؛ لكونه ترجيحا بلا مرجح ، ولا أحدهما المخيّر ، لعدم فرديته للعام.

وببيان آخر : الوجه في حجية أحد المتعارضين بلا عنوان هو وجود المقتضي وفقد المانع.

أما وجود المقتضي : فلأن المقتضي لجعل الحجية للخبر هو غلية الإصابة نوعا ، وحيث إن كل واحد من المتعارضين جامع لشرائط الحجية لو لا التعارض ـ كان احتمال الإصابة موجودا في كل منهما ؛ إذ لا علم بكذب أحدهما المعين حتى يكون الساقط عن دليل الاعتبار خصوص معلوم الكذب.

وعليه : فالمقوم لحجية كل واحد ـ أعني احتمال الإصابة بالواقع ـ موجود ، ولا بد من ملاحظة مقدار مانعية المانع وأنه يمنع عن حجية أحدهما أو كليهما.

وأمّا فقد المانع عن حجية أحدهما : فلانحصار المانع في العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، وهو لا يوجب سقوط كليهما عن الحجية بل يوجب سقوط أحدهما بلا عنوان ؛ وذلك لتساوي نسبة هذا العلم الإجمالي إلى كلا الخبرين ، إذ لا تعيّن لواحد منهما بحسب هذا العلم.

٢٢٠