دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تقديم بيّنة الداخل وعدمه. وعليه : يكون «تعارض الأدلة» للإشارة إلى وظيفته في مقام الإفتاء ، و «تعارض الأمارات» إلى وظيفته في مقام القضاء ، فلا يكون العطف حينئذ تفسيريا.

قلت : لا ريب في ثبوت المنصبين للفقيه ، بل وغيرهما بناء على عموم ولايته ؛ لكن المقصود بالبحث في مسألة التعادل والترجيح هو : إثبات حجية أحد الخبرين وعدمها ؛ لا علاج تعارض مطلق الطرق حتى يندرج حكم تعارض البيّنتين ونحوهما في هذا البحث.

وهناك جهات أخرى من البحث تركناها رعاية للاختصار.

١٨١
١٨٢

فصل (١)

التعارض : هو تنافي (٢) ...

______________________________________________________

تعريف التعارض

(١) الغرض من عقد هذا الفصل : تعريف التعارض الذي هو موضوع الأحكام الآتية في هذا المقصد ، ثم بيان ما يترتب على هذا التعريف من عدم شموله لموارد الجمع الدلالي والتوفيق العرفي مما يكون بين المدلولين منافاة وتمانع ؛ لكن ليس بين نفس الدليلين تمانع ، والصور الرئيسية التي ادّعى المصنف عدم صدق تعريف التعارض عليها ثلاث :

الأولى : موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر.

الثانية : موارد التوفيق العرفي بين الدليلين بالتصرف في أحدهما تارة وفي كليهما أخرى.

الثالثة : موارد حمل أحد الدليلين على الآخر كما في النص والظاهر والقرينة وذي القرينة ، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. بعد الفراغ من تعريف التعارض.

عناوين ثلاثة في تعريف التعارض

(٢) اعلم : أن الموجود في كلمات القوم في تعريف التعارض عناوين ثلاثة :

أولها : ـ وهو المنسوب إلى المشهور ـ «تنافي المدلولين على وجه التناقض أو التضاد» ، ففي القوانين : «تعارض الدليلين تنافي مدلوليهما» (١) ، وفي الفصول «تنافي مقتضاهما» (٢).

ثانيها : ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» بقوله : «وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ...» (٣).

ثالثها : ما أفاده الماتن.

ولا ريب في مغايرة تعريف المصنف لما أفاده المشهور. وفي مغايرته لتعريف الشيخ

__________________

(١) ذكره في منتهى الدراية ٨ : ١١.

(٢) فرائد الأصول ٤ : ١١.

(٣) الفصول الغروية : ٤٣٥.

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تأمل سيأتي بيانه.

وفي «منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ١٢» ما هذا لفظه : «وتحقيق ما أجمله المصنف هنا ووجه عدوله عن تعريف المشهور منوط بالبحث في مقامين :

الأول : في توضيح الألفاظ الواردة في التعريف.

الثاني : في الفرق بين تعريف المشهور وتعريف الماتن ، ووجه عدوله عنه.

أما المقام الأول : فنقول فيه : إن الكلمات المحتاجة إلى البيان هي التنافي ، والدلالة ، والتناقض ، والتضاد.

أما التنافي : فهو كالتعارض على وزن «التفاعل» من النفي.

والنفي في اللغة : هو الطرد والدفع ، وهذا المعنى هو المقصود في باب التعارض ؛ لأن كل واحد من المدلولين ينفي الآخر ؛ بالدلالة الالتزامية الشرعية كما سيظهر ، أو لأن كل واحد من الدليلين يطرد الآخر ويزاحمه في حجيته الفعلية. لكن التعارض أخص من التنافي ؛ لأن التنافي ـ وهو عدم الاجتماع في الوجود ـ بالذات يتحقق في المدلولين المتمانعين كالوجوب والحرمة ، أو الوجوب وعدمه ، ولا يصدق التعارض على هذا التمانع ، فلا يوصف الوجوب والحرمة بأنهما متعارضان ، وإن وصفا بأنهما متنافيان ؛ بل يوصف ما دل على الوجوب وما دل على الحرمة بالمعارضة ، فيقال : تعارض الخبران ، ولا يقال : تعارض الحكمان ، فالتعارض من أوصاف الدال ـ بما هو دال ـ بالذات لا بالعرض.

وأما كلمة «الدلالة» ففيها جهتان :

الجهة الأولى : أنها تطلق على معنيين : أحدهما : الحكاية والكشف ، وهذا في قبال الكلام المجمل ، فالدلالة متقومة بالظهور.

والآخر : الحجية أي : ظاهر الكلام المتصف بالحجية.

وبعبارة أخرى : يراد بالدلالة ظاهر خصوص الدليل دون غيره مما لا يكون دليلا ، ومعنى التنافي في الدلالة هو تمانع الدليلين المتعارضين في الاندراج تحت دليل الاعتبار ، فإذا دل أحد الخبرين على وجوب جلسة الاستراحة ، والخبر الآخر على عدم وجوبها امتنع شمول أدلة. حجية خبر الثقة لكليهما ؛ لامتناع التعبد بالمتناقضين الموجب لبطلان اقتضاء دليل الاعتبار الحجية الفعلية لكل منهما بعينه ؛ للزوم اجتماع النقيضين لأحدهما المعيّن ؛ لكونه ترجيحا بلا مرجح ، فيزاحم كل منهما الآخر في الحجية الفعلية وفي شمول عموم أدلة الاعتبار له ، وهذا هو التنافي في الدلالة.

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والشاهد على إرادة هذا المعنى من الدلالة لا مطلق الكشف والحكاية هو تصريح المصنف فيما سيأتي بعدم التعارض في موارد الجمع الدلالي كالعام والخاص المنفصل عنه ، لوضوح : أن الخاص المنفصل لا يصادم ظهور العام في عمومه ، وإنما يزاحمه في حجيته بالنسبة إلى مورد الخاص ، فلو كان المناط في تنافي الدلالتين اختلاف ظهورهما لزم إدراج موارد الجمع الدلالي وتقديم أقوى الحجتين على الآخر في تعريف التعارض ، مع أنه لا ريب في خروجها عنه. وينحصر وجه خروجها عنه في إرادة الحجة من الدلالة ؛ إذ لا تمانع بين حجية كل من العام والخاص.

نعم ؛ لا ريب في أن المنسبق من كلمة الدلالة هو الحكاية والكشف لا الحجية ؛ إلّا إن مقصود الماتن منها هو الحجية ، فإنه «قدس‌سره» جعل التعارض من حالات الدليل لا من عوارض المدلول.

الجهة الثانية : أن المراد بالدلالة ليست هي خصوص الدلالة اللفظية المنحصرة في المطابقية والتضمينية والالتزامية ؛ بل المراد بها : مطلق ما كان حجة ولو لم ينطبق عليه ضابط الالتزام من اللزوم العقلي كما في العمى والبصر ، أو العرفي كما في جود حاتم الطائي. ويشهد لهذا التعميم ما أفاده بقوله : «عرضا». وصرّح به في حاشية الرسائل من درج العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين ـ مع تعدد موضوعيهما ـ في موضوع التعارض.

وأما كلمة التناقض فواضحة ؛ لأنها عبارة عن تقابل السلب والإيجاب في شيء واحد ، واعتبر في استحالته اجتماع الوحدات الثمانية أو الأزيد منها.

وأما كلمة التضاد : فقد قسّم المصنف التضاد إلى الحقيقي والعرضي ، ولكن المشهور أرادوا به التضاد الحقيقي خاصة كالتناقض حيث لم يوصفوه بالحقيقي والعرضي.

وكيف كان ؛ فالتضاد الحقيقي كالتناقض يشترط فيه اتحاد الموضوع كاجتماع الوجوب والحرمة في فعل واحد. والتضاد العرضي لا يعتبر فيه اتحاد الموضوع ؛ بل يمتنع تحقق أمرين وجوديين في موضوعين في نظام الوجود كما سيأتي مثاله في موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين.

ثم إن المعتبر من اتحاد الموضوع في التناقض والتضاد الحقيقي ـ كما أفاده في حاشية الرسائل ـ هو الاتحاد في الجملة ليشمل التعارض التبايني والعموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه كما سيأتي.

هذا تمام الكلام في شرح الألفاظ الواردة في تعريف المصنف للتعارض.

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ظهر بما ذكرناه : أنه تعريف جامع لأفراد التعارض ومانع للأغيار أي : لموارد التوفيقات العرفية.

وأما المقام الثاني ـ وهو الفرق بين تعريف التعارض بما أفاده المشهور والمصنف ووجه عدوله عنه ـ فنقول : أما الفرق بين التعريفين فهو : أن ظاهر تعريف المشهور كون التعارض من صفات المدلولين ، وكون توصيف الأمارتين والدليلين بالتعارض توصيفا بحال المتعلق كما ورد التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق السيد علي القزويني ، فيصح حينئذ جعل التعارض وصفا للدليلين ؛ لأنه كتوصيف اللفظ بالكلية والجزئية. مع كونهما من أوصاف المعاني والمفاهيم لا الألفاظ.

وظاهر تعريف المصنف «قدس‌سره» : أن التعارض وصف لنفس الدليلين كالخبرين اللذين وصفا بالتعارض في بعض نصوص الباب كقوله : «إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان» ، ومنشأ هذا التنافي في الحجية هو تمانع المدلولين ، فيكون الوصف بحال الموصوف حقيقة ؛ إذ الموصوف بالتعارض يكون نفس الأمارتين كالخبرين لا مدلوليهما ، غاية الأمر : أن تنافي المدلولين حيثية تعليلية وواسطة ثبوتية لتوصيف الدليلين بالتعارض كوساطة النار لحرارة الماء ، فإن قولنا : «الماء حار». حمل حقيقي وإسناد إلى ما هو له. وهذا بخلافه على تعريف المشهور ، فإن تنافي المدلولين فيه حيثية تقييدية في تعارض الأمارتين ، ويكون واسطة في عروضه على الدليلين كوساطة حركة السفينة لحركة الجالس فيها ، فإنه يصح سلبها عن الجالس فيها حقيقة ؛ إذ المتحرك هو السفينة دون جالسها ، إلّا بناء على معنى آخر للحركة غير مقصود عرفا.

هذا تقريب الفارق بين تعريف المصنف والمشهور.

وأما وجه عدوله عن تعريف المشهور : فأمران ، اقتصر في المتن على ذكر واحد منهما ، وتعرض لكليهما في حاشية الرسائل في مقام تحسين تعريف الشيخ للتعارض :

أحدهما : ما تقدم آنفا من أنه لو كان التعارض «تنافي المدلولين» ـ كما أفاده المشهور ـ كان التعارض وصفا لمتعلق الدليلين لا لأنفسهما. ولو كان التعارض ما أفاده الشيخ من «أنه تنافي الدليلين باعتبار تنافي المدلولين» كان التعارض وصفا لنفس الموصوف أعني : الدليلين ، وكان منشأ تنافيهما تمانع مدلوليهما ، فيسري التنافي من المدلولين إلى الدالين.

ثانيهما : ـ وهو العمدة ـ أن تعريف المشهور يعمّ موارد الجمع الدلالي والتوفيق العرفي ، مع أنه لا ريب في عدم إجراء أحكام التعارض ـ من التوقف والترجيح والتخيير ـ عليها.

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا بخلاف تعريف التعارض بتنافي الدليلين.

وتوضيحه : أن تنافي الدليلين قد يكون بدويّا زائلا ، بالتأمل ؛ بحيث لا يتحيّر العرف في الجمع بينهما والعمل بهما ، وقد يكون مستقرا لا يرى العرف سبيلا إلى الجمع بينهما.

والظاهر : أن موضوع الأخبار العلاجية والأبحاث الآتية هو التعارض المستقر الذي يوجب استمرار تحيّر العرف في الجمع بين المتعارضين كما إذا كان أحدهما يأمر بشيء والآخر ينهى عنه.

وعلى هذا : فالتعريف المناسب لهذا الموضوع المأخوذ في أخبار العلاج هو أن يقال : «إن التعارض تنافي الدليلين» لا تعريفه ب «تنافي المدلولين» لأن تعريف المشهور يشمل كل دليلين متنافيين مدلولا وإن لم يكن بينهما منافاة دلالة وإثباتا ـ أي : في مقام الحجية ـ كما إذا كان بينهما حكومة أو جمع عرفي على أنحائه ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض عليهما من التخيير أو الترجيح ، مع إنه ليس كذلك ، لخروجهما عن باب التعارض.

وهذا بخلاف تعريف المتن ، فإنه لا يشمل مثل هذين الدليلين ولنذكر شاهدين :

الأول : موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر ، نظير ما دل على حكم ، الشكوك في الركعات مثل : قوله «عليه‌السلام» : «إذا شككت فابن على الأكثر» وما دل على نفي الشك عمن كثر شكه كقوله «عليه‌السلام» : «لا شك لكثير الشك» فإن مدلولي هذين الدليلين متنافيان ، بمقتضى تقابل الموجبة الكلية مع السالبة الجزئية ، فالخطاب الأول المثبت للحكم يشمل كثير الشك وغيره ، والخطاب الثاني النافي للحكم مخصوص بكثير الشك ، فيصادم المدلولان ـ في كثير الشك ـ بالنفي والإثبات.

ومقتضى تعريف المشهور : إجراء أحكام التعارض بينهما لأنهما دليلان متنافيان بحسب المدلول ، مع إنه لا ريب ـ عند الجميع ـ في عدم عدّ هذين الدليلين من المتعارضين. والوجه في عدم تعارضهما مع عدم تنافيهما في مقام الدلالة والحجية ، فإن الدليل الحاكم شارح ومبيّن للمراد الجدّي من الدليل المحكوم كما سيأتي توضيحه وعليه : فلا محذور في شمول دليل حجية خبر الثقة لكلا الخبرين المتقدمين ، وينحصر التخلص عن هذا النقض ـ الوارد على تعريف المشهور للتعارض ـ في العدول إلى تعريف المتن.

الشاهد الثاني : موارد الجمع الدلالي ، كما إذا ورد : «أكرم الأمراء ولا تكرم زيدا الأمير» ؛ لتمانع المدلولين في «زيد الأمير» بالنفي والإثبات ؛ لاقتضاء الأمر بإكرام الأمراء

١٨٧

الدليلين (١) ، ...

______________________________________________________

على نحو العام الاستغراقي مطلوبية إكرامه ، واقتضاء النهي مبغوضيته ، فيندرجان في باب التعارض بناء على تعريف المشهور له ، ويخرجان عنه بناء على تعريف المصنف للتعارض ؛ وذلك لعدم تنافيهما دلالة ؛ لكون الثاني ـ لأخصيته ـ مخصصا وقرينة على عدم إرادة «زيد» من العام.

والحاصل : أن تعريف المشهور ينتقض بموارد الحكومات والتوفيقات العرفية ؛ لتحقق التنافي بين المدلولين أو المداليل ، مع عدم إجراء أحكام التعارض ـ من التخيير والترجيح ـ على هذه الموارد قطعا ، فتعيّن تعريف التعارض بالتنافي في مرحلة الدلالة والإثبات كي لا يرد النقض المزبور.

هذا ما يتعلق بتوضيح ما أفاده المصنف من تعريف التعارض ووجه عدوله عن تعريف المشهور.

وأما تعريف الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» للتعارض فهو : إما ملحق بتعريف المشهور. وإما متحد مع تعريف الماتن كما سيأتي بيانه في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(١) تنافي الدليلين : إما أن يكون بحسب المدلول المطابقي وطرد كل منهما لتمام ما يدل عليه الآخر ، وإما أن يكون بحسب المدلول التضمني أي : تمانع الدليلين في بعض مدلوليهما ، وإما أن يكون بحسب المدلول الالتزامي.

فالأول ـ وهو التنافي في المدلول المطابقي ـ أظهر مصاديق التعارض ، نظير ما دلّ على استحباب القنوت في ركعتي الشفع وما دل على عدم استحبابه فيهما.

ونظير ما دل على انفعال البئر والماء القليل بملاقاة النجاسة ، وما دل على عدم انفعالهما بها. ويصدق تعريف التعارض عليهما سواء كان بمعنى تنافي المدلولين أم تنافي الدليلين في مقام الإثبات.

والثاني : أي : ـ التنافي في المدلول التضمني ـ نظير العامين من وجه وهو كثير في الأخبار ؛ فمنها : ما قيل من تعارض قوله «عليه‌السلام» : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» (١) ، مع قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد الحرام» (٢).

ووجه التعارض واضح ، فإن الأفضل للمتنفّل بمكة والمدينة الصلاة في داره ، بمقتضى

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ١٨٢ ، صحيح البخاري ١ : ١٧٨ ، وفيه : «أفضل الصلاة : صلاة».

(٢) الكافي ٤ : ٥٥٥ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٨ / ذيل ح ١٥ ، الوسائل ٥ : ٢٨ / ٦٥٤٧.

١٨٨

أو الأدلة (١) ، بحسب (٢) الدلالة ...

______________________________________________________

إطلاق الخبر الأول ، كما أن الأفضل له هو الإتيان بالنافلة في أحد المسجدين بمقتضى إطلاق الخبر الثاني الشامل للمكتوبة والنافلة ، فمورد الاجتماع هو التنفل في المسجدين.

الثالث : أي : ـ التنافي في المدلول الالتزامي ـ يجري في الالتزام الشرعي تارة ، وفي الالتزام العقلي أخرى.

أما الدلالة الالتزامية الشرعية : فكما إذا دل دليل على وجوب القصر في أربعة فراسخ ، ودل دليل آخر على وجوب الصوم فيها ، فإنهما من حيث المدلول المطابقي لا منافاة بينهما ، لتعدد الموضوع.

لكن الملازمة الشرعية بين الإفطار والقصر الثابتة بدليل خارجي ـ وهو قوله «عليه‌السلام» : «إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت» (١) ـ أوجبت التنافي بينهما ، وحينئذ : فما يدل على وجوب القصر ينفي التزاما وجوب الصوم كما وأن ما يدل على وجوب الصوم ينفي التزاما وجوب القصر.

وأما الدلالة الالتزامية العقلية : فكما إذا دل دليل على وجوب شيء ، فإنه يدل بالالتزام العقلي على وجوب ما يتوقف عليه ، وإذا ما ورد ما يدل على عدم تلك المقدمة دل على عدم وجوب ذلك الشيء لا محالة ، مع فرض بقاء التوقف ، فيتعارضان من حيث الدلالة الالتزامية العقلية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) كاختلاف أخبار الحبوة في مقدارها من كونه سبعة أو أربعة أو ثلاثة أو اثنين ، فإنه لمّا كانت الروايات في مقام تحديد الحبوة فلا محالة يقع التعارض بينها ؛ لأن كلّا منها ينفي بالدلالة الالتزامية الناشئة من التحديد ـ الظاهر في الحصر ـ ما يثبته الآخر فراجع.

وكروايات العارية ، فإن بعضها ينفي الضمان فيها مطلقا ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الذهب والفضة ، من غير فرق في ذلك بين المشكوك وغيره ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الدرهم فإنه مضمون على المستعير مطلقا ، سواء شرط عليه الضمان أم لا ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الدنانير سواء اشترط الضمان على مستعيرها أم لا.

وسيأتي تفصيل تعارض أكثر من دليلين في مسألة انقلاب النسبة إن شاء الله تعالى.

(٢) متعلق ب «تنافي» يعني : أن التعارض وصف الأدلة لا المداليل ، وقد تقدم بيانه عند

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٣٦ / ذيل ح ١٢٦٩ ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢ / ذيل ح ٥٥١ ، الوسائل ٨ :

٥٠٣ / ذيل ح ١١٢٩١.

١٨٩

ومقام (١) الإثبات على (٢) وجه التناقض أو التضاد (٣) حقيقة أو عرضا (٤) ؛ ...

______________________________________________________

توضيح الوجه الثاني من وجهي عدول المصنف عن تعريف المشهور.

(١) الظاهر : أنه عطف تفسيري للدلالة المراد بها الحجية التي يثبت بها الحكم الشرعي.

(٢) الظاهر : أنه متعلق بمحذوف مثل «كائنا» ونحوه ، وليس متعلقا بالتنافي ، وغرضه من قوله : «على وجه التناقض أو التضاد» : بيان منشأ تعارض الدليلين في مرحلة الإثبات لا بيان كيفية تعارض نفس الدليلين من أنه على وجه التناقض تارة ، وعلى وجه التضاد أخرى.

وتوضيحه : أن التعارض وإن كان وصفا لنفس الدليلين ـ لا وصفا للمدلولين ـ كما مرّ مشروحا ، لكن الواسطة الثبوتية بتعارض الخبرين هي تنافي المدلولين ، ومن المعلوم : أن تنافي المدلولين يكون بنحو التناقض تارة كما في دلالة أحدهما على وجوب عدم شيء والآخر على وجوبه ، ويكون بنحو التضاد أخرى ، كما في دلالة الآخر أحدهما مثلا على استحباب صلاة العيدين جماعة في عصر الغيبة ودلالة الآخر على حرمتها بناء على تضاد الأحكام كما هو كذلك. ويشهد لما ذكرناه : من أن مراد المصنف بيان منشأ التعارض لا جعل التناقض والتضاد في نفس الحجية ما أفاده المحقق العراقي في الفوائد ، قال فيها : «التعارض وإن كان هو تنافي الدليلين بحسب المدلول للتناقض أو التضاد بين المدلولين» ، وهذا صريح في أن التعارض وإن لم يكن تنافي المدلولين كما زعمه المشهور ؛ بل هو تعارض الدليلين ، لكن منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما تارة ، وتضادهما أخرى.

(٣) الوجه في زيادة قيد «التضاد» ، وعدم الاقتصار على التنافي بنحو التناقض هو : أن التنافي الذي فسرّ به التعارض لما كان موهما لاختصاص التعارض بالتناقض ـ لأن مقتضى التنافي هو النفي والرفع الذي هو نقيض كل شيء ـ دعا الشيخ والمصنف وغيرهما إلى أخذ قيد التضاد في تعريفه ليعم التعارض مطلق التمانع بين المداليل.

ودعوى : عدم الحاجة إلى قيد «التضاد» ؛ لأن الدليلين الدالين على المتضادين بالمطابقة يدلان على المتناقضين بالدلالة الالتزامية ، فتقييد التنافي بالتناقض كاف في عموم التعريف للمتضادين غير مسموعة ؛ لعدم ثبوت كفاية الدلالة الالتزامية في الحدود إن لم يكن اللازم من البيّن بالمعنى الأخص ، لبناء الحدّ على تعريف المحدود ورفع الخفاء عنه.

(٤) هاتان الكلمتان متعلقتان بقوله : «التضاد» ، فالمقصود : أن التنافي على وجه التضاد إما حقيقي وإما عرضي ، وقد عرفت : أن فرض التعارض في موارد التضاد

١٩٠

بأن (١) علم كذب أحدهما إجمالا ، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (٢).

وعليه (٣) : فلا تعارض بينهما (٤) بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان بينهما حكومة

______________________________________________________

العرضي فارق آخر بين تعريفي المصنف والمشهور للتعارض ، فإنهم اقتصروا على التضاد الحقيقي ؛ ولكن المصنف «قدس‌سره» فرض قسمين للتضاد.

وكيف كان ؛ فالمراد بالتضاد الحقيقي هو تنافيهما بحسب مفهومهما لا بسبب أمر خارجي ، كما عرفت في مثال استحباب الجماعة في صلاة العيدين وحرمتهما. والمراد بالتضادّ العرضي هو تمانع الدليلين بسبب أمر خارجي ـ مانع عن شمول دليل الاعتبار لهما ـ كالعلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين ، من دون أن يكون بين نفس المتعلقين ولا حكميهما ـ اللذين علم إجمالا بكذب أحد الخبرين الدالين عليهما ـ تناقض ولا تضاد.

فالمتحصل من كلام المصنف في تعريف التعارض هو : أن التعارض يوصف به الأدلة لا المداليل ، يعني : تمانع الدليلين في شمول دليل الاعتبار لهما وهو منحصر في صور ثلاث :

الأولى : أن يكون منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما كالوجوب وعدمه.

الثانية : أن يكون منشؤه تضاد المدلولين حقيقة كالوجوب والحرمة.

الثالثة : أن لا يكون منشؤه تنافي المدلولين أصلا ؛ بل العلم الإجمالي بكذب أحد المتعارضين أوجب التعارض بين الدليلين وعدم شمول دليل الاعتبار لهما ، ويطلق على هذا القسم التعارض بالعرض.

(١) هذا تفسير للتضاد العرضي.

(٢) يعني : لا عقلا ولا شرعا ، كما لو دل دليل على أنه لا يملك الأب ، ودل دليل آخر على أنه يصح عتق الأب ، ودل دليل ثالث على أنه لا عتق إلّا في ملك ، فإن الدليلين الأولين ليس بينهما تناف أصلا.

أما حيث علمنا بأنه لا يصح العتق إلّا في ملك كان اللازم كذب أحدهما إما صحة عتق الأب وإما أنه لا يملك الأب ، وكذا إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة ، وآخر على وجوب الظهر يومها ، فإنه لا تنافي بينهما ، أما حيث علمنا بأنه لا تشرع صلاتان في يوم واحد فقد وقع التنافي بين الدليلين.

موارد خروج الجمع الدلالي عن تعريف التعارض

المورد الأول : حكومة أحد الدليلين على الآخر

(٣) أي : وبناء على تعريف التعارض بتنافي الدليلين لا المدلولين.

(٤) أي : بين الدليلين.

١٩١

رافعة للتعارض (١) والخصومة ؛ بأن (٢) يكون أحدهما قد سبق ناظرا إلى بيان كمية ما

______________________________________________________

(١) المقصود به : تنافي المدلولين لا التعارض المصطلح عنده وهو تنافي الدليلين ؛ لأنه «قدس‌سره» يريد إخراج موارد الحكومة ـ التي يتحقق فيها التنافي بين المدلولين لا الدليلين ـ عن تعريف التعارض ، فلا بد أن يراد بكلمة «التعارض» تنافي المدلولين حتى يتجه خروج موارد الحكومة عن التعارض المصطلح الذي هو تنافي في الدليلين.

(٢) هذا إشارة إلى تعريف الحكومة الرافعة لتعارض الدليلين وقد سبق منّا توضيح الحكومة والورود والتوفيق العرفي ـ الشامل لهما وللتخصيص ، ولحمل الظاهر على الأظهر ، وحمل أحد الحكمين على الاقتضائي والآخر على الفعلي ـ في المقام الثاني من تتمة الاستصحاب.

وكيف كان ؛ فالحكومة هي كون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل آخر ومتعارضا لبيان كمية موضوع ذلك الدليل الآخر تعميما أو تخصيصا ، فالتعميم يكون بإدخال ما ليس موضوعا في الدليل المحكوم بالتوسعة فيه ، وجعل فرد آخر لموضوع الحكم ، وهذا القسم يسمى بالحكومة الموسّعة كما إذا دل الدليل على إناطة وجوب القصر والإفطار بالمسافة الامتدادية ، ودل دليل آخر على أن المسافة التلفيقية هي المسافة الامتدادية ، فإن حكومة ما دل على موضوعية الثمانية التلفيقية موسّعة لموضوع دليل حكم الثمانية الامتدادية ، والتخصيص يكون بإخراج بعض أفراد موضوع الدليل المحكوم ورفع الحكم عن ذلك البعض ، وهذا القسيم يسمى بالحكومة المضيّقة المخصصة لموضوع الحكم في الدليل المحكوم ، وهو كما إذا دل دليل على أن «الشاك بين الثلاث والأربع بيني على الأربع» ، ودليل آخر على أن «كثير الشك ليس بشاك» ، فإن دليل الثاني حاكم على الأول ؛ لكونه رافعا لموضوعه ، فإن الحكم بالبناء على الأربع حكم للشك على تقدير وجوده بنحو القضية الشرطية ، يعني : «كلّما شك المصلّي بين الثلاث والأربع ـ سواء كان كثير الشك أم قليله ـ وجب عليه البناء على الأربع» ودليل كثير الشك يهدم ذلك التقدير ؛ لدلالته على «أن كثير الشك ليس بنظر الشارع من أفراد الشاك» ، فلا يثبت له حكم «الشاك بين الثلاث والأربع» من البناء على الأربع.

وهذه الحكومة المضيقة وإن كانت مشتركة مع التخصيص في كون كل من الحاكم والخاص ذا دلالة مستقلة على مضمونه ؛ إلّا إنها تفترق عن التخصيص بأن الحاكم ناظر إلى المحكوم ومتعرض لبيان كمية موضوعه ومتفرع عليه ، بخلاف الخاص ، فإنه ليس متفرعا على العام.

بقي التنبيه على بعض أحكام الحكومة ، وهو : أن قوام الحكومة حيث كان بتعرض

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الدليل الحاكم لما يراد من موضوع الدليل المحكوم تعميما أو تخصيصا ، فلذا تخرج مواردها عن موضوع التعارض كخروج موارد ورود أحد الدليلين على الآخر من جهة عدم تواردهما على موضوع واحد ، فالدليل الحاكم يشبه القرينة المنفصلة من جهة والمتصلة من جهة أخرى.

أما كونه وبنظر العرف في حكم القرينة المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد ؛ فلأن الحاكم وإن كان منفصلا عن المحكوم وغير مانع عن ظهوره في مؤدّاه ؛ إلّا إنه بلحاظ شارحيته له لا يغاير مدلول المحكوم ، وأما كونه كالقرينة المنفصلة ؛ فلأن المدلول وإن كان واحدا لبّا ، لعدم مغايرة الشارح للمراد من المشروح إلّا أن الدال على هذا المدلول الواحد متعدد ، لغرض الانفصال واستقرار ظهور كلا الدالين.

وبهذا تصير الحكومة برزخا بين القرينة المنفصلة والمتصلة ، فمن حيث وحدة المدلول تشبه المتصلة ، ومن حيث تعدد الدال تشبه المنفصلة.

ويترتب على هذا أمران :

الأمر الأول : تعيّن الأخذ بمدلول الحاكم بعد الفراغ عن إثبات حكومته وإن كان أضعف دلالة على مؤدّاه من المحكوم ، من غير ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم ، ولا ملاحظة قوة الظهور وضعفه ؛ بل يقدم الحاكم ولو كانت بينهما عموما من وجه. وأضعف دلالة.

وهذا بخلاف باب التخصيص وسائر موارد الجمع ، فإن تقديم الخاص والأظهر يكون بمناط تقديم أقوى الدليلين ، ولذا يتوقف في تقديم الخاص في فرض مساواته للعام في الدلالة.

الأمر الثاني : الظاهر عدم سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم فيما لا يسري إجمال الخاص المردد بين الأقل والأكثر إلى العام ؛ لفرض حجية أصالة العموم في جميع أفراد العام ، والمزاحم لهذه الحجية هو القدر المتيقن من الخاص المجمل. وكذا الحال في باب الحكومة. فإذا ورد «أكرم العالم» ، ثم ورد «العالم الفاسق ليس بعالم» ، فإن إطلاق العالم في الدليل المحكوم شامل لمرتكب الصغيرة لا عن إصرار ، والشارح وإن كان مجملا ، ولعله يتوهم سراية إجماله إلى المحكوم قضية للتضايف بين الشارح والمشروح ؛ إلّا إن الصحيح عدم سرايته ؛ لأن شارحية الحاكم مقصور على مقدار دلالته ، والمفروض : دلالته على الأقل وهو مرتكب الكبيرة ، وأما غيره فلا مزاحم لأصالة الإطلاق في دليل المحكوم فيؤخذ به.

١٩٣

أريد من الآخر (١) ، مقدما (٢) كان أو مؤخرا ، أو كانا (٣) على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما (٤) كما هو ...

______________________________________________________

(١) أي : من الدليل الآخر وهو الدليل المحكوم.

(٢) هذا و «مؤخرا» حالان من «الآخر» المراد به الدليل المحكوم ، واسم «كان» ضمير راجع إلى «الآخر» ، يعني : أن الحكومة ـ الرافعة للتعارض وللخصومة ـ تتحقق فيما إذا سبق أحد الدليلين للنظر إلى الآخر ، سواء كان زمان صدور الدليل المحكوم مقدما على الدليل الحاكم ـ كما يعتبره الشيخ ـ أم مؤخرا ، وهذه نقطة خلاف بين الشيخ والمصنف في اعتبار سبق المحكوم على الحاكم ـ كما هو رأي الشيخ ، وعدمه كما هو رأي المصنف.

المورد الثاني : التوفيق العرفي

(٣) عطف على «إذا كان» ، وبيان للمورد الثاني مما لا يكون فيه تمانع بين الدليلين في مقام الدلالة وإن كان التنافي بين نفس المدلولين ثابتا. وهذا هو التوفيق العرفي والحكومة العرفية بنظر المصنف ، لا الحكومة الاصطلاحية المنوطة بكون أحدهما ناظرا إلى الآخر وشارحا له.

وقد ذكر لهذا التوفيق العرفي فرضين : أحدهما : توفيق العرف بين الدليلين ـ المتعارضين بدوا ـ بالتصرف في أحدهما.

وثانيهما : بالتصرف في كليهما والمقصود فعلا بيان الفرض الأول.

يعني : فلا تعارض بين الدليلين اللذين يكونان على نحو إذا عرضا على العرف جمع بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما ، ولا يبقى متحيّرا في العمل بهما ، كما هو الحال في الأدلة المتكفلة للأحكام الأوّلية ـ كوجوب الوضوء ونحوه ـ مع الأدلة الثانوية النافية للعسر والحرج والضرر وغيرها ، فإنها ترفع الأحكام الأولية ، فيرتفع وجوب الوضوء بدليل نفي الحرج ونحوه إذا صار الوضوء حرجيا أو ضرريا ، فيصير الحكم الأولي اقتضائيا والحكم الثانوي فعليا.

وهذا الجمع هو المسمى بالتوفيق العرفي والحكومة العرفية ؛ وذلك مطرد في جميع الأحكام الأولية والثانوية التي يكون بين موضوعاتها ترتب وطولية كوجوب الوضوء في المثال المتقدم ، فإن موضوعه ـ وهو نفس الغسلتين والمسحتين ـ مقدم على عارضه من الضرر والحرج ونحوهما من العناوين الثانوية.

(٤) هذا الضمير وضمير «بينهما» راجعان إلى الدليلين.

١٩٤

مطرد (١) في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية ، مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار مما يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية ، حيث (٢) يقدّم في مثلهما الأدلة النافية ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا (٣) ويتفق (٤) في غيرهما (٥) كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) هذا لا يخلو من تعريض بمختار الشيخ «قدس‌سره» القائل بحكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الأولية ، وقد نبّه المصنف عليه في قاعدة لا ضرر بقوله : «ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام ، وتقدم أدلته على أدلتها ، مع أنها عموم من وجه ، حيث إنه يوفق بينهما عرفا بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي ... إلى أن قال : هذا ـ أي : التقديم ـ ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ؛ لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله» فراجع.

(٢) تعليل لقوله : «وفّق بينهما بالتصرف» يعني : أن العرف يوفّق بينهما بأنه يقدّم في مثل العناوين الأولية والثانوية خصوص الأدلة النافية. ويحمل أحكام العناوين الأولية على الاقتضائية والثانوية على الفعلية ، من غير ملاحظة النسبة بينهما ، فيقدم دليل حكم العنوان الثانوي على دليل حكم العنوان الأولي. وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه.

وعليه : فيقدم دليل نفي الضرر على دليل وجوب الوضوء ، مع كون النسبة بينهما عموما من وجه ، ويحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري.

ولو كان بين هذين الدليلين تعارض كان اللازم إجراء قانون التعارض في المجمع في المتعارضين بالعموم من وجه ، فعدم رعاية ضابط التعارض فيه دليل على خروجهما عن باب التعارض موضوعا.

(٣) غرضه : أن عدم لحاظ النسبة دليل على عدم كونهما متعارضين ، وإلّا كان اللازم ملاحظة النسبية بينهما وإجراء أحكام التعارض في مورد الاجتماع.

(٤) عطف على «مطرد» ، يعني : كما يتفق التوفيق العرفي بالتصرف في خصوص أحد الدليلين في غير أدلة أحكام العناوين الأولية والثانوية ، كما إذا كان أحد العنوانين بنظر العرف ـ ولو بمناسبة الحكم والموضوع ـ مقتضيا للحكم ، والآخر مانعا عنه نظير ما قيل من : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فإن العرف يقدّم حرمة الإكرام في العالم الفاسق على وجوب إكرام العلماء ؛ لما يراه من كون العلم مقتضيا لوجوب الإكرام ، والفسق مانع عنه ، مع عدم كون أحد العنوانين في طول الآخر كالعنوان الأوّلي والثانوي.

(٥) أي : غير العناوين الأوّلية والثانوية.

١٩٥

أو بالتصرف (١) فيهما ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما أو في (٢) أحدهما المعيّن ولو كان الآخر أظهر (في نسخة : ولو كان من الآخر أظهر) ،

______________________________________________________

(١) عطف على «بالتصرف في خصوص أحدهما» ، وبيان للفرض الثاني للتوفيق العرفي والحكومة العرفية ، ولهذا الفرض صورتان ، إحداهما : كون مجموع الدليلين قرينة على التصرف في كليهما ، وثانيتهما : كون مجموعهما قرينة على التصرف في أحدهما المعيّن.

والمقصود فعلا بيان الصورة الأولى منهما ، وحاصلها : أن من الموارد الخارجة عن تعارض الدليلين ما إذا وفق العرف بينهما بالتصرف في دلالتهما معا ؛ بأن يكون كل منهما قرينة على التصرف في الآخر ، ومثّل له بما ورد من «أن ثمن العذرة من السحت» (١) ثم ورد «ولا بأس ببيع العذرة» (٢) ، بتقريب : أن العرف يوفّق بينهما بحمل العذرة في الأول بمناسبة الحكم والموضوع ـ على عذرة الإنسان ، وفي الثاني : على عذرة البهائم ، فإن الحرمة تناسب عذرة الإنسان لنجاستها ، والجواز يناسب عذرة البهائم لطهارتها ، فتكون العذرة في دليل الحرمة كالنصّ في عذرة الإنسان وظاهرا في عذرة غيره وفي دليل الجواز كالنص في عذرة البهائم ، وظاهر في عذرة الإنسان ، فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر ، فتكون النتيجة حرمة بيع عذرة الإنسان وجواز بيع عذرة غيره.

(٢) عطف على «فيهما» وإشارة إلى الصورة الثانية من الفرض الثاني من موارد التوفيق الخارجة عن باب التعارض ؛ وحاصلها : أنه قد يوفّق العرف بين الدليلين بالتصرف في أحدهما المعيّن وإن كان أظهر من الآخر ؛ كما إذا لزم من التصرف في دليل غير الأظهر قلّة المورد له أو عدمه ؛ كما إذا قال : «أكرم الأمير ولا تكرم الفساق» ، فإن دلالة الثاني على معناه وإن كانت بسبب الوضع أظهر من دلالة الأول على معناه لكونه بالإطلاق ؛ لكن الدليل الأول يقدم عليه في مورد الاجتماع ـ وهو الأمير الفاسق ـ ويحكم بوجوب إكرامه ؛ إذ التصرف في «أكرم الأمير» بعدم إكرام الأمير الفاسق يوجب قلّة أفراده واختصاص وجوب الإكرام بالأمير العادل ، وهو إما معدوم. وإما نادر ملحق به ، فلا محيص حينئذ من التصرف في «لا تكرم الفساق» مع أظهريته ، وإخراج الأمير الفاسق عن دائرته.

وكيف كان ؛ فقد أخرج المصنف «قدس‌سره» موارد عديدة عن باب التعارض.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٥٢ / ١٠٨٠ ، الوسائل ١٧ : ١٧٥ / ٢٢٢٨٦.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٣ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٧٢ / ١٠٧٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٢٢٨٥.

١٩٦

ولذلك (١) تقدم الأمارات المعتبرة على الأصول الشرعية (٢) ، فإنه (٣) لا يكاد يتحير

______________________________________________________

أحدها : الحكومة.

ثانيها : التوفيقات العرفية التي منها : التصرف في أحد الدليلين بالخصوص كما في أدلة أحكام العناوين الأولية ، فإن المطّرد هو التصرف فيها بحملها على الاقتضائية ، وإبقاء أدلة أحكام العناوين الثانوية على ظاهرها من الفعلية.

ومنها : التصرف في كلا الدليلين.

ومنها : التصرف في أحدهما المعيّن وإن كان أظهر من الآخر من حيث الدلالة ؛ وذلك لجهة خارجية توجب ذلك كلزوم عدم مورد أو قلّته للدليل الآخر الظاهر لو لم يتصرّف في الأظهر كما عرفت مثال ذلك.

(١) أي : ولأجل كون الدليلين على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما ـ بالتصرف في أحدهما المعيّن من دون أن يرى تهافتا بينهما ـ تقدم الأمارات المعتبرة غير العلمية على الأصول الشرعية من الاستصحاب وغيره ، حيث إن العرف لا يرى موضوعا للأصول مع قيام الدليل والأمارة على وفاقها أو خلافها ، فإن موضوع أصالة الحل مثلا هو مشكوك الحل والحرمة ، والخبر المعتبر الدال على الحرمة يرفع الشك الذي هو موضوع أصالة الحل ، وتدخل الحرمة في الغاية وهي قوله «عليه‌السلام» : «حتى تعلم أنه حرام» وتخرج عن المغيّى قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال».

وكذا الحال في الاستصحاب ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بالخبر المعتبر غير العلمي القائم على خلافه ليس نقضا لليقين بالشك ؛ بل هو من نقض اليقين باليقين ، وهذا التوفيق العرفي هو المسمّى بالورود.

(٢) تقييد الأصول بالشرعية لأجل إخراج الأصول العقلية ، فإنه لا خلاف بين الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» في ورود الأمارات عليها ، وإنما الخلاف بينهما في وجه تقدم الأمارات على الأصول الشرعية ، فالشيخ يقدمها بالحكومة ، والمصنف بالورود ، وعليه : يكون التقييد بالشرعية ناظرا إلى كلام الشيخ.

(٣) الضمير للشان ، وهذا بيان وجه التوفيق العرفي ، ومحصله : أن ضابط التعارض ـ وهو تحيّر العرف في الجمع بين الدليلين ـ مفقود هنا ، حيث إنه لا يلزم من تقديم الأمارات على الأصول محذور ـ وهو تخصيص أدلة الأصول الشرعية ـ أصلا ؛ لأن التخصيص إخراج حكمي مع حفظ الموضوع كقوله : «أكرم الأمراء إلا زيدا» ، مع كون زيد من الأمراء.

١٩٧

أهل العرف في تقديمها (١) عليها بعد ملاحظتهما ، حيث (٢) لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا.

بخلاف العكس (٣) ، فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر (٤)

______________________________________________________

وفي المقام لا يكون دليل الأمارة مخصّصا لدليل الأصل ؛ بل يكون رافعا لموضوعه ، فليس هنا إلّا دليل واحد وهو الأمارة دون دليلين حتى يتحيّر العرف في الجمع بينهما.

(١) أي : في تقديم الأمارات على الأصول ، وضمير «ملاحظتهما» راجع إلى «الأمارات والأصول».

(٢) بيان لوجه عدم تحيّر العرف ، وحاصله : ـ كما مر آنفا ـ هو : عدم لزوم محذور من تقديم الأمارات على الأصول أصلا ؛ لارتفاع موضوع الأصول بها إما وجدانا بناء على حجية الأمارات ببناء العقلاء ، حيث إنها تفيد الاطمئنان الذي هو علم عادي نظامي. وإما تعبدا بناء على حجيّتها من باب تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف شرعا ، فإن الشك الذي هو موضوع للأصول يرتفع في كلتا الصورتين ، فيبقى دليل الأمارة حينئذ بلا مانع ؛ لعدم لزوم محذور تخصيص في دليل الأصل بعد انتفاء موضوعه ، وهو المراد بقوله : «حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا». وضمير «منه» راجع إلى «تقديمها».

(٣) وهو تقديم الأصول الشرعية على الأمارات ؛ حيث إنه يلزم من هذا التقديم محذور وهو : التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر.

أما الأول فتقريبه : أن خبر الثقة إذا قام على حرمة شرب التتن مثلا كان حجة ؛ لكونه مشمولا لعموم أدلة حجية خبر الواحد ، والبناء على عدم اعتباره حينئذ تخصيص لعموم أدلة حجيته من دون وجه ؛ إذ لا موجب لرفع اليد عن الحجة وهي أصالة العموم.

وأما الثاني فبيانه : أن عدم حجية الخبر الدال على حرمة شرب التتن مثلا ـ وخروجه عن عموم دليل حجيته مع كونه فردا فعليا له ـ منوط بمخصصيته دليل الأصل له ، ومن المعلوم : توقف مخصصيته على حجيته حتى يصلح لتخصيص الحجة وهي أصالة العموم ، وحجيته أيضا موقوفة على مخصصيته ؛ إذ لا سبيل إلى رفع اليد عن أصالة العموم إلّا بمخصصية دليل الأصل لها ، فتوقف المخصصيّة على الحجية وبالعكس دور.

(٤) إذ يتوقف تخصيص الأمارات بالأصول على اعتبار الشارع الأصول مطلقا حتى في مورد الأمارات ، واعتبار الشارع الأصول مطلقا يتوقف على تخصيص الأمارات بها ، ولا يلزم من العكس ذلك ؛ إذ تقديم الأمارة على الأصول لوجود موضوع الأمارة دون

١٩٨

كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (١).

وليس (٢) وجه تقديمها حكومتها ؛ على أدلتها لعدم كونها ناظرة إلى ...

______________________________________________________

الأصل ؛ إذ مع وجود الأمارة لا جهل بالواقع حتى يتحقق موضوع الأصل.

(١) حيث قال : «المقام الثاني : أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورد ...» الخ.

(٢) يعني : وليس وجه تقديم الأمارات على الأصول الشرعية حكومة الأمارات عليها ؛ كما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره» حيث إنه قال بعد بيان ورود الأمارات على الأصول العقلية : «وإن كان مؤداه ـ أي : الأصل ـ من المجعولات الشرعية كالاستصحاب ونحوه كان ذلك الدليل حاكما على الأصل ، بمعنى : أنه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل».

ومحصل تقريب الحكومة التي عرفت ضابطها من عبارة الشيخ التي نقلناها سابقا هو : كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، نظير ارتفاع حكم الشك الثابت بدليله ـ كالبناء على الأربع مثلا ـ بما دل على أنه «لا شك لكثير الشك» ، أو «مع حفظ الإمام».

ففي المقام إذا كان مقتضى الاستصحاب حليّة شيء وقام خبر الثقة مثلا على حرمته كان هذا الخبر حاكما على استصحاب الحلية أي : مخرجا له عن موضوع الحلية وموجبا لنقض اليقين باليقين أي : بالحجة ، لا بالشك.

وبالجملة : فالدليل الحاكم يرفع تعبّدا الشك الذي هو موضوع الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية ، وهذا الكلام ظاهر في إرادة حكومة نفس الأمارة على أدلة الأصول ، ولا حكومة دليل اعتبارها على أدلة الأصول.

والمصنف يناقش في حكومة كل من الأمارة ودليل اعتبارها بما سيأتي فانتظر.

قوله : «لعدم كونها ناظرة» تعليل لنفي الحكومة التي ادعاها الشيخ «قدس‌سره» ، وحاصله : عدم انطباق الضابط المذكور في كلامه للحكومة على المقام. وينبغي بيان منشأ نزاع المصنف والشيخ في حكومة أحد الدليلين على الآخر فإنه قد تكرر من الماتن مناقشة كلام الشيخ في حكومة قاعدة «لا ضرر» على أدلة الأحكام الأولية ، وكذا في حكومة الأمارة على الاستصحاب ، وحكومته على مثل أصالتي الحل والبراءة ، وألجأته هذه المناقشة إلى اختيار الجمع بوجه آخر من التوفيق العرفي أو الورود.

وقد بيّن المصنف مرامه في مواضع من حاشية الرسائل مختصرا وفي الفوائد مفصّلا.

١٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ومحصل ما أفاده فيهما هو : أن ما اعتبره الشيخ في تفسير الحكومة من «كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر» متين جدا ، فلا يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ما لم يكن تفسير مدلول الدليل المحكوم وتبيّن كمية موضوعه مدلولا لفظيا للدليل الحاكم ، فإذا لم يكن هذا النحو الخاص من التفسير والشرح لم ينطبق ضابط الحكومة على هذين الدليلين ؛ بل كان بينهما تعارض يقتضي رعاية حكمه من التخيير أو الترجيح أو تقديم أحدهما بمناط آخر كالتوفيق العرفي ؛ ولا يكفي في الحكومة دلالة الدليل الحاكم على أمر واقعي ينطبق على موضوع الدليل المحكوم عقلا ؛ لكن بدون النظر والشرح والتفسير بالدلالة اللفظية.

وبيان وجه عدم الكفاية : أن مدلولي الحاكم والمحكوم متنافيان ، والرافع لهذا التنافي هو الشرح والنظر والتعرض المتقوّم بها الحكومة ، وإنما يتحقق النظر إذا كان الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي حاكيا عن حال موضوع الدليل المحكوم سعة وضيقا ، ومفسرا له ومبيّنا لكمية ما يراد منه هذا بحسب الكبرى.

وأما تطبيقه على المقام ببيان انتفاء ضابط الحكومة بين الأمارة والأصل ، فتوضيحه : أن الشارع جعل الأمارة حجة في ظرف الجهل بالواقع ، وحكم بعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للواقع ، وحجية الأمارة في هذه الحال حكم مستقل غير متفرع على جعل أصالة الحل فيما اشتبهت حليته وحرمته ، ومعنى حجية الأمارة ـ حسب الفرض ـ إلغاء احتمال خلاف ما أخبر به العادل أو الثقة ، ومعنى هذا الإلغاء هو : عدم ترتيب الحكم المجعول لاحتمال الخلاف عليه. لكن دلالة الأمارة على نفي حكم الاحتمال إنما هو بمقتضى دلالته الالتزامية الثابتة في دليل الأصل أيضا ؛ لأن دليل الأصل مثل : «كل شيء لك حلال» يدل أيضا على انتفاء غير الحلية من الأحكام ، فإن الدليل على ثبوت حكم خاص يدل على انتفاء ما ينافي ذلك الحكم ، فتقع المعارضة بين الدلالتين لا الحكومة.

لا يقال : الأمارة ناظرة إلى الأصل العملي ومتعرضة لحكم مورده ؛ وذلك لأنه إذا أخبر العادل بحرمة شرب التتن مثلا ، فمدلوله المطابقي هو حرمة شربه ، ومدلوله الالتزامي اللفظي هو نفي ما عدا الحرمة ـ أعني : الحلية الظاهرية التي هي مفاد الأصل ـ الثابتة لموضوعها وهو الشرب المشكوك في حكمه الواقعي.

وهذه الدلالة منتفية في جانب دليل الأصل ، فإن خلاف الحلية الظاهرية في

٢٠٠