دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة (١) : أن انتفاء بعض الخصوصيات وإن كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال (٢) دخله في موضوعه ؛ إلا إنه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته (٣).

كما أنه (٤) ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ، مثلا :

______________________________________________________

(١) هذا بيان وجه الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل ، وبين كونه نظر العرف أو لسان الدليل ، وأن الاستصحاب ربما يجري على الأخيرين دون الأول ، كما سيظهر.

وحاصل الفرق هو : أن انتفاء بعض خصوصيات الموضوع وإن كان بدوا موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال الاتحاد في الموضوع كالفرض السابق ، وهو ما إذا كان مناط الاتحاد نظر العقل وزالت بعض خصوصيات الموضوع ؛ إلّا إن نظر العرف الذي هو المتبع في فهم الخطابات الشرعية ربما يساعد بحسب المناسبات المغروسة في أذهانهم ، على أن الزائل ليس من مقوّمات الموضوع حتى يكون له دخل في الحكم ؛ بل من الحالات المتبادلة عليه ، فيحكم بوجود الحكم مع زواله كالحكم بوجوده مع بقائه.

(٢) هذا منشأ الشك في بقاء الحكم ، حيث إن منشأه احتمال دخل الخصوصية الزائلة في موضوع الحكم ، وضمير «دخله» راجع إلى «بعض» ، وضمير «موضوعه» إلى «الحكم».

(٣) بل يكون بنظر العرف من حالات الموضوع المتبادلة. وقوله : «إلّا إنه» متعلق ب : «وإن كان موجبا».

(٤) بعد بيان الفرق بين كون مناط الاتحاد نظر العقل ، وبين كونه نظر العرف وبحسب دليل الحكم ، أراد بيان الفرق بين هذين الأخيرين أيضا ، وقبل بيان الفرق بينهما أشار إلى توهم وهو : أنه كيف يكون الموضوع في نظر العرف مغايرا للموضوع في لسان الدليل ، مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا لأنه المخاطب به؟ ومعه لا يبقى مجال لتوهم تعددهما وتغايرهما حتى يبحث عن الفرق بينهما.

ودفع هذا التوهم : بأنه ربما يكون ظاهر الدليل ـ من جهة ظهور العنوان المأخوذ فيه في الموضوعية ـ دوران الحكم مداره وجودا وعدما ؛ لكن العرف بحسب القرائن المرتكزة والمناسبات المغروسة في أذهانهم يجعلون الموضوع أعم مما أخذ موضوعا في لسان الدليل ؛ كما إذا جعل «العنب إذا غلى» موضوعا للحرمة ، وحيث إن العنوان المأخوذ في كل دليل ظاهر في الموضوعية التي يدور الحكم معها وجودا وعدما ، فلا محالة يحكم العرف بأن موضوع الحرمة هو عنوان العنب.

هذا بحسب النظر العرفي البدوي السطحي.

١٢١

إذا ورد : «العنب إذا غلى يحرم» كان العنب بحسب (١) ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ؛ ولكن (٢) العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه من (٣) المناسبات بين الحكم وموضوعه يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ، ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة (٤) ؛ ...

______________________________________________________

وأما بحسب النظر الثانوي العمقي : يرى أن الموضوع ذات العنب ، وليست العنبية مقوّمة للموضوع ؛ بل من حالاته المتبادلة والوسائط الثبوتية ، فهذا الجسم موضوع سواء كان في حال الرطوبة وهو المسمى بالعنب ، أم في حال الجفاف وهو المسمى بالزبيب ، فمعنى الموضوع العرفي حينئذ هو : أن العرف مرجع في تمييز ما هو مقوّم للموضوع عما ليس مقوّما له ، ومعنى الموضوع الدليلي هو الرجوع إلى العرف في معنى الكلام ومعرفة ظاهره.

وببيان آخر : أن للعرف نظرين :

أحدهما : بما هو من أهل المحاورة ، وبهذا النظر يرجع إليه في تحديد الموضوع الدليلي.

وثانيهما : بما ارتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه وإن كان على خلاف ظاهر الكلام ، وهذا النظر الثاني هو مناط الاتحاد في الاستصحاب دون النظر الأول.

فإذا ورد «الماء المتغير نجس» فظاهر الدليل الشرعي بحسب النظر البدوي العرفي هو كون الموضوع للنجاسة الماء بوصف كونه متغيرا ؛ لكن المرتكز في ذهن العرف من المناسبات هو كون معروض النجاسة ذات الماء ، وأن التغيّر واسطة في الثبوت ، كما أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة واسطة ثبوتية في انفعاله ، وبعد زوال التغيّر بنفسه والشك في بقاء نجاسته لا مانع من استصحابها ؛ لبقاء موضوعها وهو نفس الماء ، والشك نشأ من احتمال كون التغيّر علة حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء. وهذا الفرق ما أفاده المصنف في الحاشية بعد سؤال الفرق بين الموضوع العرفي والدليلي فراجع.

(١) يعني : كان العنب بحسب الموضوع الدليلي الذي يفهمه العرف بدوا هو خصوص العنب وإن تغير بعد ذلك لأجل المناسبات.

(٢) هذا إشارة إلى دفع توهم وهو : أنه كيف يكون الموضوع العرفي مغايرا لموضوع الدليل؟ مع أن المرجع في فهم معنى الدليل هو العرف أيضا ، وقد تقدم دفع هذا التوهم.

(٣) بيان ل «ما» الموصول.

(٤) أي : الحالات التي لا يوجب انتفاؤها ارتفاع الموضوع ، بخلاف أوصافه المقوّمة التي يوجب زوالها انتفاء الموضوع.

١٢٢

بحيث (١) لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان (٢) عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان (٣) محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير (٤) في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات فيما (٥) إذا لم تكن بمثابة ...

______________________________________________________

ومن الموارد التي يمتاز فيها الوصف المقوّم عن غيره : ما ذكروه في الفقه من أنه إذا قال البائع : «بعتك هذا الفرس بكذا» ، فبان كونه شاة كان البيع باطلا ؛ لأن الصورة النوعية الفرسية مقوّمة للمبيع ، بخلاف ما لو قال : «بعتك هذا العبد الكاتب» فانكشف كونه أميّا ، فالبيع صحيح ؛ لعدم كون الوصف مقوّما للمبيع بنظر العرف ، بل من أوصاف الكمال ، وتخلّفه يوجب الخيار للمشتري.

(١) غرضه : إقامة الأمارة على كون الزائل من الحالات المتبادلة على الموضوع لا من مقوّماته.

وحاصل تلك الأمارة : أنه إذا صدق ارتفاع الحكم عن موضوعه على عدم كون الزبيب محكوما بأحكام العنب ، وصدق على ترتيب أحكامه على الزبيب بقاء الحكم على موضوعه ، كان الوصف الزائل كالعنبية في المثال من حالات الموضوع المتبادلة ؛ لا من مقوّماته التي كون الدليل ظاهرا فيها.

وإذا لم يكن كذلك ؛ بأن لم يصدق البقاء والارتفاع على ترتيب أحكام العنب على الزبيب ، وعدم ترتيبها عليه كان لأجل كون الوصف الزائل من المقومات التي ينتفي الموضوع بانتفائها.

(٢) أي : كان عدم محكومية الزبيب بحكم العنب «عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه».

(٣) معطوف على «لو» في قوله : «لو لم يكن» ، يعني : بحيث لو كان الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان من بقاء الحكم على موضوعه ، ومن المعلوم الضروري : توقف صدق البقاء والارتفاع على وحدة الموضوع.

(٤) غرضه : التنبيه على أن المغايرة بين الموضوع الدليلي والعرفي غير قادحة لما ستعرف.

(٥) متعلق بقوله : «ولا ضير» ، يعني : لا ضير في اختلاف الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي فيما إذا لم تكن الجهات «بمثابة تصلح ...» الخ.

١٢٣

تصلح (١) قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه.

ولا يخفى (٢) : أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من ...

______________________________________________________

وغرضه من هذا البيان : توجيه عدم قدح الاختلاف بين الموضوع الدليلي والعرفي ، مع كون المرجع في فهم الدليل هو العرف أيضا ، وتوضيح هذا التوجيه يتوقف على مقدمة وهي : أن المناسبة بين الحكم والموضوع تارة : تكون لوضوحها كالقرينة الحافة بالكلام المانعة عن انعقاد الظهور في خلاف ما تقتضيه تلك المناسبة ، كما في قولهم «عليهم‌السلام» : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» ، فإن المناسبة بين انفعال الماء بالنجاسة تقتضي انفعاله بالملاقاة لا مطلقا ولو بالمجاورة ، ولذا لم يفت أحد ظاهرا بانفعاله بالمجاورة ، مع عدم ورود دليل بالخصوص على اعتبار الملاقاة في الانفعال.

وأخرى : لا تكون بذلك الوضوح كمثال : «العنب حلال» أو «إذا غلى يحرم» ، فإن العرف يرى بالنظر البدوي نفس العنب من حيث هو موضوعا للحكم ، ولا يحكم بموضوعية ذاته وكون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة إلا بعد التأمل في أن الرطوبة واليبوسة في نظر العرف من حالات الموضوع لا من القيود المقوّمة له ؛ بحيث يدور الحكم مدارها ، فمناسبة الحكم والموضوع هنا ليست كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور كما كانت كذلك في «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المناسبة إن كانت من القسم الأول ؛ بأن تكون كالقرينة الحافة بالكلام اتحد الموضوع الدليلي والعرفي. وإن كانت المناسبة من القسم الثاني ؛ بأن تكون كالقرينة المنفصلة غير المانعة عن انعقاد الظهور ، فلا محالة من تعدد الموضوع الدليلي والعرفي.

(١) إذ لو كانت المناسبات بمثابة تصلح لصرف الدليل عما هو ظاهر فيه من موضوعية العنوان المذكور فيه كالعنب ، وجعله من حالات الموضوع المتبادلة اتحد الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي ، فتعددهما يكون في القسم الثاني من المناسبات.

وضميرا «صرفه ، هو» راجعان إلى «الدليل» ، وضمير «فيه» إلى «ما» الموصول.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان احتمالات اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة ثبوتا ، وقد عرفت أنها ثلاثة دليلي وعرفي وعقلي.

(٢) هذا إشارة إلى المقام الثاني أي : مقام الإثبات وتعيين أحد الاحتمالات الثلاثة بحسب اقتضاء الدليل ، حيث إن النقض يختلف باختلاف الموضوع دليلا وعقلا وعرفا ، فيصدق بالنسبة إلى موضوع الدليل مثلا ، ولا يصدق بالنسبة إلى الموضوع العرفي ، فلا

١٢٤

الموضوع (١) ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع (٢) ، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلا بد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره من بيان أن خطاب «لا تنقض» قد سيق بأيّ لحاظ (٣).

فالتحقيق (٤) أن يقال : إن قضية إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ

______________________________________________________

يصدق النقض على عدم ترتيب أحكام العنب على الزبيب بحسب موضوع الدليل ، ويصدق بحسب الموضوع العرفي ، فلا بد من تعيين الموضوع بالدليل حتى يكون هو المناط في الاتحاد.

وتوضيح ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في ذلك هو : أن خطاب «لا تنقض» الذي هو مستند الاستصحاب من الخطابات الشرعية الملقاة إلى العرف ، ومن المعلوم : أن المرجع في فهمها وتشخيص مرادات الشارع منها هو العرف ؛ إذ لو لم يكن نظرهم في ذلك حجة مع أنهم هم المخاطبون بها فلا بد من نصب قرينة عليه.

وكأن يقول : «استظهار العرف من جميع الخطابات حجة إلّا في باب الاستصحاب ، فإن المعتبر فيه هو حكم العقل بصدق النقض». وإلّا يلزم الإخلال بالغرض. وحيث إنه لم يرد هذا التخصيص من الشارع ، فيستكشف منه اعتبار ما يستفيدونه من الخطابات ؛ وإن لم يساعده العقل ولا ظاهر الدليل. وعليه : فيكون مناط الاتحاد هو الموضوع العرفي دون الموضوع الدقي والدليلي.

وبالجملة : فحمل أدلة الاستصحاب على نظر العقل تخصيص في الخطابات بلا قرينة توجبه ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٧٤٤».

(١) من كونه عقليا أو عرفيا أو دليليا.

(٢) كنفي أحكام العنب عن الزبيب ، فإنه نقض بلحاظ الموضوع العرفي دون الدليلي ؛ لما مرّ من أن الموضوع الدليلي هو العنب بعنوانه ، فنفي أحكامه عن الزبيب ليس نقضا لأحكام العنب عن العنب ؛ بل عن موضوع آخر ، كما أن إثبات أحكامه للزبيب ليس إبقاء لأحكام العنب ؛ بل تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر.

(٣) من لحاظ الموضوع عقليا أو عرفيا أو دليليا حتى يتميّز به اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة.

(٤) هذا شروع في إثبات كون اللازم في الاستصحاب هو بقاء الموضوع العرفي لا الموضوع العقلي الدقي ، ولا الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، وحاصله : أن مقتضى إطلاق خطاب «لا ينقض اليقين بالشك أبدا» : أن يكون النقض هو بلحاظ الموضوع

١٢٥

الموضوع العرفي ؛ لأنه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية ، ومنها الخطابات الشرعية (١) ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي (٢) فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم ؛ لا محيص (٣) عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ (٤) ، فيكون (٥)

______________________________________________________

العرفي ؛ لأنه المنساق من الإطلاق ؛ وإلا لكان عليه البيان. وعليه : فالمناط في بقاء الموضوع أي : اتحاد القضيتين موضوعا هو نظر العرف وإن لم يكن اتحاد بحسب الموضوع العقلي الدقي ولا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، ففي مثل قوله : «العنب إذا غلى يحرم» تستصحب الحرمة المعلقة على حال الزبيبية ، وذلك لاتحاد القضيتين بحسب الموضوع العرفي ، وكون العنبية والزبيبية من الحالات المتبادلة ؛ وإن لم يكن اتحاد بحسب الموضوع العقلي الدقي ولا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل.

وفي مثل الوجوب والاستحباب أو الحرمة والكراهة إذا زالت المرتبة الشديدة من الطلب ؛ لم يستصحب الاستحباب أو الكراهة ؛ وذلك لعدم اتحاد القضيتين بحسب المحمول عرفا وإن كان هناك اتحاد عقلا ودقة ، نظرا إلى كون الثاني عين الأول لا تفاوت بينهما إلّا بشدة الطلب وضعفه ؛ كما تقدم في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) لأنهم هم المخاطبون بتلك الخطابات ، ولو لم يكن فهمهم فيها حجة لوجب على المتكلم التنبيه على ذلك وبيان مراده منها. وضمير «لأنه» راجع إلى لحاظ الموضوع العرفي.

(٢) أي : أن النهي عن النقض في خطاب «لا تنقض» بنظر آخر غير النظر العرفي الملحوظ في محاوراتهم ، فلا بد من الحمل على أن النهي عن النقض يكون باللحاظ العرفي.

(٣) جواب «فما لم يكن» ، والأولى اقترانه بالفاء بأن يقال : «فلا محيص».

(٤) أي : اللحاظ العرفي ، وضمير «أنه» راجع على النهي ، يعني : فلا محيص عن الحمل على أن النهي عن النقض يكون بذاك اللحاظ العرفي لا العقلي ولا الدليلي.

(٥) هذه نتيجة عدم نصب قرينة على لحاظ نظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاورات العرف ، وحاصله : أن المعيار في بقاء الموضوع ـ حتى يصدق على إثبات الحكم له في ظرف الشك إبقاؤه ، وعلى نفيه عنه نقضه ـ هو الموضوع العرفي لا العقلي

١٢٦

المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وإن لم يحرز بحسب العقل (١) أو لم يساعده النقل (٢) ، فيستصحب (٣) مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ؛ لبقاء الموضوع ، واتحاد القضيتين عرفا ، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك (٤) وإن كان هناك اتحاد عقلا كما مرت الإشارة إليه في القسم الثالث (٥) من أقسام استصحاب الكلي ، فراجع.

______________________________________________________

ولا الدليلي ، ولذا يجري الاستصحاب في أحكام العنب المتبدل بالزبيب ؛ لكون الموضوع عند العرف وهو ذات العنب لا عنوانه باقيا حال الزبيبية ، ولا يجري فيما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن ؛ كالاستحباب الذي هو من مراتب الوجوب إذا ارتفع الوجوب وشك في بقاء الاستحباب الذي هو أيضا من الطلب ، وليس التفاوت بينه وبين الوجوب إلّا بشدة الطلب وضعفه ، فالموضوع العقلي وهو الطلب وإن كان باقيا ؛ لكن الموضوع العرفي منتف ؛ لكون الوجوب والاستحباب بنظر العرف متباينين.

(١) كما مرّ في مثل : «الماء المتغير» إذا كان الشك في البقاء ناشئا من زوال وصف من أوصاف الموضوع.

(٢) كما في مثال العنب ؛ إذ بعد جفافه وتبدله بالزبيب لا يصدق عليه موضوع الدليل.

(٣) يعني : بعد البناء على كون المعيار في الاتحاد نظر العرف يجري الاستصحاب في أحكام العنب الذي صار زبيبا ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو ذات العنب الملحوظ بين حالتي الرطوبة والجفاف. والمراد ب «ما يثبت» هي : الأحكام. قوله : «لبقاء الموضوع» متعلق ب «فيستصحب» ، و «للعنب» متعلق ب «يثبت».

قوله : «ولا يستصحب» عطف على «فيستصحب» ، يعني : ولا يستصحب ما يثبت بالدليل في الموارد التي لا اتحاد فيها عرفا بين القضيتين.

(٤) أي : عرفا وإن كان هناك عقلا كما مرّ في مثال الوجوب والندب.

(٥) وهو ما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن كالشك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب ، وقد تعرض له في أواخر التنبيه الثالث ، حيث قال هناك : «إلّا إن العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين ..» الخ.

وقد تحصل مما أفاده المصنف : أن المرجع في تشخيص مفهوم «لا تنقض» هو العرف ، والرجوع إليهم إنما هو في تمييز المفهوم لا في تطبيقاتهم المسامحية غير المعتبرة. وتركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

١٢٧

المقام الثاني (١):

أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده (٢) ، وإنما الكلام في أنه (٣) للورود أو الحكومة (٤) ، أو التوفيق (٥) بين دليل اعتبارها وخطابه.

______________________________________________________

المقام الثاني : تقدم الأمارة على الاستصحاب بالورود

(١) الغرض من بيان هذا المقام : هو التعرض لوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب ، بعد أن نفى الشبهة عن تقدمها عليه ، ولكنه لا بد من حمل نفي الشبهة على كون الاستصحاب أصلا عمليا ، وأما بناء على أماريته فمقتضى القاعدة تعارضهما وتساقطهما لا تقدم الأمارة عليه ، فما يتراءى في كلمات بعض : من معاملة التعارض مع الأمارة والاستصحاب مبني على كونه من الأمارات لا من الأصول العملية.

(٢) أي : في مورد الاستصحاب ؛ كما إذا كان الثوب مثلا متنجسا وشك في طهارته ، وشهدت بيّنة بطهارته ، فإنه تقدم شهادة هذه البيّنة على استصحاب نجاسته ويحكم بطهارته.

(٣) أي : في أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة وتقديمها عليه هل هو للورود أم غيره؟

والورود : عبارة عن خروج شيء عن دائرة موضوع دليل حقيقة بعناية التعبد في مقابل التخصص الذي هو الخروج الموضوعي أيضا ، لكن لا بالتعبد ، بل بالتكوين ؛ كخروج الجاهل عن موضوع «أكرم العلماء».

(٤) وهي بنحو الإجمال : خروج شيء عن موضوع دليل بالتعبد وبإثباته للمؤدى ؛ كخروج وجوب السورة مثلا في الصلاة عن موضوع دليل البراءة الشرعية بقيام أمارة معتبرة غير علمية على وجوبها ، فإن هذه الأمارة بإثباتها لوجوب السورة تقدم على أصل البراءة حكومة ، وقد تقدم تفصيل الحكومة في قاعدة نفي الضرر.

(٥) والتوفيق بين الدليلين : توضيحه يتوقف على مقدمة وهي : إن للتوفيق العرفي إطلاقين :

أحدهما : نحو خاص من الجمع العرفي بين الدليلين المتعارضين بالنظر البدوي ، وهو في قبال سائر أنحاء الجمع بينهما كالورود والحكومة والتخصيص.

ثانيهما : معنى عام لمطلق الجمع الدلالي بين المتعارضين فيندرج فيه الورود والحكومة والتخصيص ، وحمل الظاهر على النص أو الأظهر ، وحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي والآخر على الفعلي.

١٢٨

والتحقيق : أنه (١) للورود ، فإن (٢) رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقصود من التوفيق العرفي في آخر هذا البحث هو المعنى الثاني ، كما أن المراد به في المقام بقرينة مقابلته للورود والحكومة هو الأول ، فهو عبارة عن حمل أحد الدليلين المعروضين على العرف على الحكم الاقتضائي والآخر على الفعلي ، كالجمع بين دليلي وجوب الوضوء ونفي الضرر بحمل الأول على الاقتضائي والآخر على الفعلي ، أي : نفي الوجوب فعلا لأجل الضرر.

وتقريبه في المقام أن يقال : أن البناء على الحالة السابقة المتيقنة ثابت لو لا اعتبار الأمارة شرعا القائمة على خلافها ، فالحكم الاستصحابي اقتضائي والحكم الثابت بالأمارة فعلي. وضمير «اعتبارها» راجع إلى الأمارة ، وضمير «خطابه» إلى الاستصحاب.

(١) أي : أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة يكون للورود. هذا ما اختاره المصنف هنا ؛ لكنه في ما علقه على بحث البراءة من الرسائل عدل إلى الحكومة ، وجعل مورد الورود خصوص الدليل العلمي على الأصل العملي ، حيث قال في جملة كلامه : «وإما حاكم عليه برفع موضوعه حكما كما هو الحال في الدليل غير العلمي بالنسبة إلى كل أصل كان مدركه النقل». «حاشية الرسائل ، ص ١١٢».

(٢) تعليل لقوله : «والتحقيق» وبيان له.

ويمكن تقريب الورود بوجهين :

الأول : ما أفاده في حاشية الرسائل من اقتضاء الأمارة لليقين الرافع للشك حقيقة.

وتوضيحه : أن موضوع أدلة الاستصحاب هو «نقض اليقين بالشك» لتعلق النهي المدلول عليه ب «لا تنقض» ، وليس الموضوع نفس «الشك» حتى يدعى بقاء الشك وجدانا فيما تيقنه سابقا ، بعد قيام الأمارة على أحد طرفي الشك ويبطل دعوى الورود ، لما عرفت : من تعلق النهي بنفس «نقض اليقين بالشك».

وحينئذ : فإن كان السبب في رفع اليد عن اليقين السابق نفس الشك في البقاء كان ذلك منهيا عنه بمقتضى «لا تنقض» ؛ وإلّا فلا.

وعلى هذا : فإن قامت أمارة معتبرة كخبر العدل والبيّنة على أمر كان اللازم الأخذ بها ، سواء وافقت الحالة السابقة أم خالفتها ، وذلك لارتفاع موضوع الاستصحاب أعني : ـ نقض اليقين بالشك ـ بقيامها ؛ لكون نقض اليقين حينئذ باليقين لا بالشك ، فإن الأمارة المعتبرة وإن لم توجب اليقين بالواقع ؛ لإمكان مخالفتها للواقع ؛ لكن مفاد دليل اعتبار الأمارة هو اليقين بالحكم بعنوان ثانوي كعنوان «ما أخبر به العادل» أو «ما شهدت به

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

البيّنة» ونحو ذلك من العناوين المستفادة من أدلة الاعتبار.

مثلا : إذا علمنا بنجاسة الثوب وأخبرت البيّنة بتطهيره ، فالطهارة الواقعية وإن لم تكن معلومة بعنوانها الأوّلي ، إلّا إن طهارته بعنوان «ما شهدت به البيّنة» معلومة ، ويكون نقض اليقين بالنجاسة بسبب اليقين بالطهارة نقض اليقين باليقين ، لا بالشك فيها حتى يكون منهيا عنه.

نعم ؛ لو كان موضوع الاستصحاب نفس اليقين والشك لم ينطبق ضابط الورود على المقام ؛ لبقاء الشك وجدانا في الطهارة بعد قيام البيّنة. ولكن لما كان الموضوع «نقض اليقين بالشك» لم يكن نقض اليقين بالنجاسة بعد قيام البيّنة نقضا له بالشك ؛ بل نقضا له باليقين بطهارته وإن كان يقينا بها بعنوان ثانوي ، أي : بعنوان «ما أخبرت به البيّنة» ، وهذا معنى الورود الذي يرتفع به موضوع الاستصحاب حقيقة ببركة دليل اعتبار الأمارة.

والشك في الحكم الواقعي ـ كالطهارة في المثال المتقدم ـ وإن كان باقيا بعد قيام الأمارة ؛ إلّا إنه لا منافاة بين الشك في شيء من وجه والعلم به من وجه آخر ثانوي أعني بعنوان ما قامت الأمارة عليه.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من تقريب الورود ، وهو ما أفاده المصنف في حاشية الرسائل ، ص ٢٣٥.

الثاني : ما يستفاد من كلماته في الاستدلال بالأخبار وفي التنبيه الثاني من أن موضوع الاستصحاب هو نقض الحجة باللاحجة ، والأمارة المعتبرة حجة رافعة لهذا الموضوع.

وبيانه : أنه قد تقدم في الاستدلال بصحاح زرارة وغيرها كون قوله «عليه‌السلام» : «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» إرشادا إلى قضية ارتكازية عقلائية وهي أنه لا ينبغي نقض اليقين لكونه أمرا مبرما ، بالشك لكونه مرهونا ، ومن المعلوم : أن العليل بهذه الكبرى لا يختص باليقين والشك بل هو شأن كل حجة في قبال ما ليس بحجة ، فالمذموم عند العقلاء رفع اليد عن الدليل بغير الدليل.

وحيث إن المفروض حجية الأمارة غير العلمية كخبر العدل والبيّنة كان نقض اليقين السابق بسبب الحجة مما ينبغي بنظرهم ، هذا.

والفرق بين هذين التقريبين واضح ؛ لابتناء الوجه الأول على أن مؤدى الأمارة حكم

١٣٠

خلافه ليس (١) من نقض اليقين بالشك ؛ بل (٢) باليقين ، وعدم (٣) رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس (٤) لأجل أن لا يلزم نقضه به ؛ بل من جهة لزوم العمل

______________________________________________________

معلوم بعنوان ثانوي أي : بعنوان «ما قامت الأمارة عليه» ، فيتحقق اليقين الناقض بقيام الأمارة ، وهذا بخلاف الوجه الثاني ؛ لعدم ابتنائه على إفادة الأمارة لليقين بالواقع بعنوان ثانوي ، وإنما يبتني على التصرف في اليقين والشك بإرادة الحجة واللاحجة منهما ؛ لأن العرف الملقى إليه خطاب «لا تنقض» لا يرى خصوصية في وصفي اليقين والشك ؛ لأن المناط عنده في عدم حسن النقض هو رفع اليد عن الحجة بما لا يكون حجة ، وحيث إن الأمارة حجة تعبدا فهي رافعة لموضوع الاستصحاب وإن لم تورث اليقين.

ويرد على كلا الوجهين إشكال تقديم الأمارة على الاستصحاب ، مع أنه حجة أيضا ، وسيأتي التعرض له ولجوابه عند تعرض المصنف له.

(١) خبر «فإن» و «بسبب» متعلق ب «رفع» ، وضمير «خلافه» راجع إلى «اليقين».

(٢) يعني : بل من نقض اليقين باليقين ، أي : بالحجة الموجبة لليقين بعنوان ثانوي ، وهذا إشارة إلى أول الوجهين المتقدمين لتقريب الورود.

(٣) إشارة إلى إشكال ، وهو : أنه على تقدير الورود ـ المبني على إرادة الحجة من اليقين حتى تشمل الأمارة غير العلمية المعتبرة شرعا ـ يلزم العمل على طبق الأمارة المعتبرة مطلقا ، سواء وافقت اليقين السابق أم خالفته ، مع إنه ليس كذلك لأنه مع موافقة الأمارة لليقين السابق يكون العمل به استندا إلى الاستصحاب وعدم لزوم نقض اليقين بالشك أيضا ، لا إلى الأمارة ، فلو كانت الأمارة واردة على الاستصحاب كانت واردة عليه مطلقا ، سواء وافقته أم خالفته ، فتقديمه عليها في صورة الموافقة كاشف عن عدم ورودها عليه.

وضميرا «عنه ، وفقه» راجعان إلى «اليقين».

(٤) خبر «وعدم» وإشارة إلى دفع الإشكال المزبور.

ومحصله : أن العمل باليقين مع موافقة الأمارة له ليس مستندا إلى الفرار من النهي عن لزوم نقض اليقين بالشك حتى يقال : إن العمل به إنما هو لأجل الاستصحاب لا لأجل الأمارة ؛ بل العمل به مستند إلى تلك الأمارة المطابقة لليقين السابق على ما يقتضيه دليل اعتبارها من تنزيلها منزلة العلم ورفع الشك تعبدا. ومن المعلوم : أنه هادم للشك الموضوع للاستصحاب ، فالبناء على اليقين السابق للعلم التعبدي ببقائه غير البناء عليه مع الشك في بقائه ، هذا.

١٣١

بالحجة (١).

لا يقال : نعم (٢) ؛ هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده ، ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ، ويلزم (٣) الأخذ بدليلها؟

فإنه يقال (٤) : ذلك إنما هو لأجل أنه لا محذور في الأخذ بدليلها ، بخلاف الأخذ

______________________________________________________

ولعل تغيير أسلوب العبارة ـ حيث عبّر في صورة المخالفة بنقض اليقين باليقين وفي صورة الموافقة بلزوم العمل بالحجة ـ للإشارة إلى تقريب الورود بالوجهين المتقدمين.

وليس غرضه «قدس‌سره» تخصيص أوّل الوجهين بصورة المخالفة وثانيهما بصورة الموافقة ؛ وذلك لوضوح بطلانه ، فإن مقتضى دليل الاستصحاب ـ على ما صرح به كرارا ـ هو إنشاء حكم مماثل ، ويمتنع فعلية كل من مؤدى الأمارة والاستصحاب ؛ لامتناع اجتماع الفعليين سواء كانا مثلين أم ضدين.

وضمير «نقضه» راجع إلى اليقين ، وضمير «به» إلى الشك.

(١) النافية للشك الذي هو موضوع الاستصحاب ، فالعمل بالدليل الموافق إنما هو لأجل عدم الموضوع معه للاستصحاب ، فلا يقال بحجيته في عرض الأمارة الموافقة له ، وعدم ورود الأمارة حينئذ عليه.

(٢) هذا استدراك على قوله : «بل باليقين» وإشكال على دعوى ورود الأمارة على الاستصحاب.

ومحصل هذا الإشكال : أن العمل بالأمارة المخالفة لليقين السابق إنما يكون نقضا لليقين باليقين ، ومخرجا للمورد عن مصاديق نقض اليقين بالشك بناء على حجية دليل الأمارة في مورد الاستصحاب كما ذكره المدعي للورود وهو أول الكلام ؛ لإمكان الأخذ بدليل الاستصحاب والعمل به دون دليل الأمارة ، ومع إمكان الأخذ بدليله لا مجال للتمسك بدليل الأمارة ؛ لتنافيهما وامتناع الجمع بينهما ، إذ المفروض : مخالفة الأمارة لما يقتضيه الاستصحاب ، فالأخذ بدليل الأمارة ورفض دليل الاستصحاب محتاج إلى مرجح ، فالمشار إليه في قوله : «هذا» كون رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المخالفة له من نقض اليقين باليقين. وضمير «مورده ، بدليله» راجعان إلى الاستصحاب ، وضمير «ولكنه» للشأن.

(٣) بالرفع عطف على «لا يؤخذ» يعني : ولم يلزم الأخذ بدليل الأمارة حتى يكون رفع اليد عن اليقين السابق بها من نقض اليقين باليقين؟ وضمير «دليلها» راجع إلى الأمارة.

(٤) هذا جواب الإشكال المزبور :

ومحصله : أن دليلي الاستصحاب والأمارة لما كانا متنافيين امتنع الأخذ بكليهما ،

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا بد من العمل بأحدهما وطرح الآخر ، فإن أخذ بدليل الأمارة لم يلزم محذور تخصيص دليل الاستصحاب ؛ لأن رفع اليد عن اليقين السابق بالأمارة المعتبرة ليس نقضا لليقين بالشك حتى يخالف دليل الاستصحاب ؛ بل هو نقض اليقين باليقين أي : بالحجة ، فالأخذ بدليل الأمارة جمع حقيقة بين دليلها ودليل الاستصحاب أما الأول : فواضح ، وأما الثاني : فلأنه من مصاديق «ولكن تنقضه بيقين آخر».

وإن أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الأمارة : لزم منه محذور تخصيص دليل الأمارة اقتراحا ، أو بوجه دائر والوجه في لزوم هذا المحذور واضح ؛ إذ مع وجود الأمارة لا موضوع للاستصحاب ؛ إذ معها لا يلزم نقض اليقين بالشك حتى يكون موردا للاستصحاب ، فتحقق موضوع الاستصحاب في مورد الأمارة موقوف على إخراجه عن عموم دليل الأمارة ، وتخصيصه بدليل الاستصحاب وهذا التخصيص إما اقتراحي أي : بلا وجه ، وإما دوري ، وكلاهما فاسد ؛ إذ الأول مستلزم لمخالفة عموم دليل الأمارة بلا وجه صحيح يوجب الخروج عن أصالة العموم التي هي من الأصول اللفظية العقلائية المعمول بها.

والثاني : مستلزم للمحال ؛ لأن شمول دليل الاستصحاب لمورد الأمارة منوط بصدق نقض اليقين بالشك ، وكونه كذلك موقوف على إخراجه عن مورد دليل اعتبار الأمارة ؛ وإلّا لم يتحقق موضوع الاستصحاب ، فلو توقف إخراجه عن عموم دليل اعتبار الأمارة على دليل اعتباره لزم الدور ، وهو محال.

وبعبارة أخرى : مخصصيّة دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة موقوفة على حجيته ، وحجيته موقوفة على مخصصيته ، وهذا دور.

أما توقف المخصصية على الحجية فواضح ؛ إذ التخصيص كالتقييد تصرف في الدليل وهو العام والمطلق ، والمتصرف في الدليل لا بد أن يكون حجة حتى يصلح للتصرف في الدليل ؛ وإلا يلزم رفع اليد عن ظاهر الحجة بغير دليل.

وأما توقف الحجيّة على المخصصيّة ؛ فلأنه لو لم يخصص دليل الاستصحاب عموم دليل الأمارة كانت الأمارة يقينا تعبديا رافعا لموضوع الاستصحاب.

ولا ينعكس الأمر ، فلا يقال : «مخصصيّة دليل الاستصحاب لدليل الأمارة موقوفة على حجية الأمارة ، وحجيتها موقوفة على مخصصية الاستصحاب لها» ، وذلك لأن المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة ، إذ التخصيص يرد على ما هو الحجة ؛ لكن المقدمة

١٣٣

بدليله ، فإنه (١) يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص (٢) إلّا على وجه دائر ؛ إذ التخصيص (٣) به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره (٤) كذلك يتوقف على التخصيص به ؛ إذ لولاه (٥) لا مورد له (٦) معها كما عرفت آنفا (٧).

______________________________________________________

الثانية ممنوعة ؛ لعدم توقف حجية الأمارة على مخصصيّة الاستصحاب لها ، بل لا ارتباط بينهما أصلا ، فلا يصح تقرير الدور في طرف العكس.

(١) أي : لزوم الأخذ بدليل الأمارة وترك دليل الاستصحاب.

وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بدليلها» راجع إلى الأمارة ، وضمير «بدليله» إلى الاستصحاب ، وقد عرفت : عدم المحذور في الأخذ بدليل الأمارة ، إذ لا يلزم من الأخذ بدليلها نقض اليقين بالشك ؛ بل يلزم نقض اليقين باليقين.

(٢) أي : بلا وجه ، وهو المعبّر عنه بالاقتراح ، ولم يتعرض لوجه بطلانه لوضوحه.

(٣) هذا شروع في تقريب الدور الذي عرفت تفصيله.

وضمير «به» راجع إلى دليل الاستصحاب ، وضمير «اعتباره» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «معها» راجع إلى الأمارة.

(٤) يعني : واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب.

وتوضيح العبارة بإبراز مراجع الضمائر هكذا : «إذ التخصيص بدليل الاستصحاب يتوقف على اعتبار الاستصحاب مع الأمارة ، واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقف على تخصيص دليل الأمارة بالاستصحاب» ، فضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

(٥) يعني : لو لا تخصيص دليل اعتبار الأمارة بالاستصحاب ، وهذا تعليل لاعتبار الاستصحاب ، وحاصله : أن اعتباره مع الأمارة موقوف على تخصيصه للأمارة ؛ إذ مع وجودها يكون نقض اليقين باليقين أي : بالحجة ، ولا يكون من نقض اليقين بالشك الذي هو مورد الاستصحاب ؛ إلا إذا لم يكن موردا للأمارة ، وعدم مورديته للأمارة موقوف على تخصيص دليل الاستصحاب لعموم دليل الأمارة ، ومنعه عن اعتبار الأمارة في هذا المورد حتى يخرج عن مصاديق نقض اليقين باليقين ، ويندرج في مصاديق نقض اليقين بالشك.

(٦) أي : لا مورد للاستصحاب مع الأمارة.

(٧) من أن مورد الأمارة غير العلمية من مصاديق نقض اليقين باليقين أي : بالحجة ، لا من مصاديق نقض اليقين بالشك الذي هو مورد الاستصحاب ، فصيرورة مورد الأمارة مصداقا لنقض اليقين بالشك منوط بتخصيص دليلها بالاستصحاب.

١٣٤

وأما حديث الحكومة (١) : فلا أصل له أصلا ، فإنه (٢) لا نظر لدليلها إلى مدلول

______________________________________________________

وبالجملة : فوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب عند المصنف هو الورود ، وقد عرفت تقريبه بوجهين ، فلاحظ.

(١) وهو الذي اختاره الشيخ «قدس‌سره» ، فإنه جعل تقدم أدلة الأمارة على أدلة الاستصحاب على وجه الحكومة ، فإنه جعل الحكومة تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في الآثار الشرعية ، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة في الأحكام ، أو تنزيل شيء داخل في موضوع منزلة ما هو خارج عنه في عدم ترتيب أحكامه عليه كتنزيل الصلاة رياء أو بلا ولاية أو بلا طهارة منزلة عدمها في عدم ترتيب أحكام الصلاة عليها.

قال الشيخ في الأمر الثالث مما يعتبر في جريان الاستصحاب : «ومعنى الحكومة أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم ... ففيما نحن فيه إذا قال الشارع : اعمل بالبينة في نجاسة ثوبك ، والمفروض : أن الشك موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ، فإن الشارع جعل الاحتمال المخالف للبيّنة كالعدم ، فكأنه قال : لا تحكم على هذا الشك بحكمه المقرر في قاعدة الاستصحاب. وافرضه كالمعدوم» (١).

فحكومة البيّنة على الاستصحاب على ما أفاده عبارة عن تنزيل احتمال الخلاف الذي هو مفاد الاستصحاب منزلة العدم في عدم ترتيب حكم نقض اليقين بالشك عليه ، وترتيب آثار ضد الحالة السابقة وهو ما قامت البيّنة عليه من نجاسة الثوب في المثال ، فلا يجري استصحاب طهارته المتيقنة سابقا المشكوكة لا حقا ؛ لأن احتمال الطهارة ملغى بمقتضى البيّنة القائمة على النجاسة.

وببيان أوضح : دليل اعتبار الأمارة ـ كآية النبأ ـ يدل على وجوب تصديق العادل وإلغاء احتمال خلافه ، فإذا أخبر العادل بحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثيه مثلا كان مقتضى وجوب تصديقه إلغاء احتمال خلاف حرمته وهو حليته ، ومن المعلوم أن هذا الاحتمال مورد استصحاب الحلية ، وهو منفي تنزيلا بخبر العادل بالحرمة ، فالأمارة المعتبرة نافية لموضوع الاستصحاب تنزيلا وإن كان باقيا تكوينا.

وهذه الحكومة من الحكومة المضيّقة ، لأنها تضيق الموضوع بإخراج فرد منه ، وحصر حجية الاستصحاب بغير مورد الأمارة.

(٢) تعليل لقوله : «فلا أصل له» وبيان لوجه الإشكال الذي أورده على الحكومة التي

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٣١٤.

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فسرها الشيخ ، بكون الحاكم بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ومبيّنا لمقدار مدلوله ومسوقا لبيان حاله ، على ما أفاده «قدس‌سره» في أوائل التعادل والترجيح.

توضيح الإشكال : أن هذا الضابط للحكومة لا ينطبق على الأمارة غير العلمية حتى يكون تقدمها على الاستصحاب بنحو الحكومة ، وذلك لفقدان شرطها وهو نظر الحاكم بمدلوله اللفظي إلى الدليل المحكوم وشرحه له ، ضرورة أن دليل الأمارة كآية النبأ مثلا لا تعرض ولا نظر له إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتا وشرحا له ؛ بحيث يعد مفسرا ومبيّنا لحاله ، وإن كان ينافيه ثبوتا من حيث إن لازم كل دليلين متعارضين نفي كل منهما مدلول الآخر ، لما بين مدلوليهما من التنافي واقعا ، وذلك أجنبي عن الدلالة اللفظية على هذا التنافي. مثلا قوله : «أكرم العلماء» ينافي قوله : «لا تكرم العالم الفاسق» ؛ لاقتضاء الأمر مطلوبية إكرام العالم الفاسق ، واقتضاء النهي مبغوضيته ، ولأجل هذا التنافي الثبوتي لا يمكن الأخذ بهما في المجمع ؛ ولكن يقدم النهي على الأمر لأقوائية ظهور الخاص من العام ، فالمناط في التقديم هو مقام الدلالة والإثبات.

وعليه : فالمعول في موارد الجمع الدلالي ـ ومنها الحكومة ـ على دلالة اللفظ ، لا ملاحظة الواقع ونفس الأمر.

وبعبارة أخرى : الحكومة من كيفيات دلالة اللفظ ، فالخارج عن حيطة الدلالة اللفظية أجنبي عن الحكومة ، فمجرد التنافي بين مدلولي الدليلين واقعا من دون دلالة اللفظ عليه إثباتا لا ينطبق عليه حدّ الحكومة. وعليه : فالبيّنة القائمة على نجاسة الثوب تقتضي لزوم ترتيب آثار النجاسة عليه ، واستصحاب طهارته يقتضي ترتيب آثار طهارته عليه ، فالبيّنة تنفي استصحاب الطهارة ، كما أن الاستصحاب ينفي النجاسة.

لكن نفي البيّنة لما يقتضيه الاستصحاب ليس مستندا إلى الدلالة اللفظية بأن تكون البيّنة بمدلولها اللفظي نافية للشك الاستصحابي ؛ لعدم كون دليل اعتبار البيّنة كرواية مسعدة بن صدقة شارحا للمراد من قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» ومحدّدا لموارده حتى ينطبق عليه ضابط حكومة أحد الدليلين على الآخر ، فمفاد البيّنة ليس إلا نجاسة الثوب واقعا.

وأما نفي اعتبار الشك في طهارة الثوب : فليس مدلولا للبيّنة بالدلالة اللفظية حتى تكون حاكمة على الاستصحاب.

فالنتيجة : أن التنافي بين مدلولي الأمارة والاستصحاب ناش من التضاد والتهافت بين

١٣٦

دليله إثباتا (١) وبما هو مدلول الدليل (٢) وإن كان دالّا على إلغائه معها ثبوتا (٣) وواقعا ؛ لمنافاة (٤) لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن (٥) قضية

______________________________________________________

نفس المدلولين ثبوتا كالطهارة والنجاسة في المثال ، من دون دلالة عليه إثباتا.

وضمير «فإنه» للشأن ، وضمير «لدليلهما» راجع على الأمارة ، وضمير «دليله» إلى الاستصحاب.

(١) قيد لقوله : «لا نظر» يعني : فإنه لا نظر إثباتا ـ وفي مقام الدلالة ـ لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب ، كما يلتزم به الشيخ في تعريف الحكومة.

(٢) بيان وموضح لقوله : «لا نظر» يعني : لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب لفظا وإثباتا ؛ وإن كان ذلك الدليل دالا على إلغاء الاستصحاب المخالف له ثبوتا ، إلّا إن هذه الدلالة لا تجدي عند الشيخ في الحكومة ؛ لعدم كونها ناشئة من دلالة اللفظ ؛ بل هي ناشئة من تنافي ذات المدلولين ، ضرورة : منافاة البناء على طهارة الثوب للاستصحاب ونجاسته للبيّنة في المثال المذكور ، وضمير «إلغائه» راجع إلى «مدلول» ، وضمير «معها» إلى الأمارة.

(٣) أي : واقعا من جهة امتناع اجتماع مدلوليهما ، لما فيهما من التنافي الذاتي لا إثباتا من جهة دلالة اللفظ.

(٤) تعليل لكون دلالة دليل الأمارة على إلغاء الاستصحاب ثبوتية لا إثباتية مستندة إلى دلالة اللفظ.

وحاصل التعليل : أن نفس اعتبار الأمارة ولزوم العمل بمؤداها ينافي عقلا العمل بالاستصحاب. وكذا العكس ، فإن البناء على طهارة الثوب في المثال المزبور استنادا إلى اعتبار الاستصحاب ينافي البناء على نجاسته اعتمادا على الأمارة وهي البيّنة ، فلزوم العمل بكل منهما يطرد الآخر عقلا ؛ لامتناع اجتماع مفاديهما وهما الطهارة والنجاسة لتضادهما وتنافيهما.

وضميرا «بها ، خلافها» راجعان إلى «الأمارة» ، وضميرا «به» ، والمستتر في «كان» راجعان إلى الاستصحاب.

(٥) غرضه : أن الإلغاء ثبوتا لا يختص بدليل الأمارة ، فكما أن دليلها يلغي ثبوتا ما يقتضيه دليل الاستصحاب ، فكذلك دليله يقتضي إلغاء الأمارة ثبوتا ، فالدلالة الثبوتية على الإلغاء ـ لا الإثباتية ـ لا تختص بدليل الأمارة ؛ بل تشترك بين كلا دليلي الأمارة والاستصحاب ، وهذه الدلالة الثبوتية ليست مناطا للحكومة التي فسرها الشيخ بالشرح

١٣٧

دليله إلغاؤها كذلك (١) ، فإن (٢) كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة (٣).

هذا مع (٤) لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.

______________________________________________________

والدلالة اللفظية ، فلا حكومة للأمارات غير العلمية على الاستصحاب.

وضمير «دليله» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «إلغاؤها» على الأمارة.

(١) يعني : ثبوتا وواقعا ، فلم لا يكون دليل الاستصحاب حاكما على الأمارة؟

(٢) تعليل لإلغاء كل منهما ما يقتضيه الآخر ، ومحصله : أنه لما كان كل من الدليلين بصدد بيان وظيفة الجاهل بالحكم ، فلا محالة يطرد كل منهما الآخر المخالف له في المؤدى بملاك المضادة والمنافرة بين لزوم العمل بأمارة تدل على وجوب شيء ولزوم العمل باستصحاب يقتضي حرمته ، فإن من البديهي طرد كل من الأمارة والاستصحاب للآخر ؛ لكمال المنافرة بين المستصحب ومؤدى الأمارة وهما الوجوب والحرمة.

والحاصل : أن كلا من الأمارة والاستصحاب يلغي الآخر بملاك التضاد الواقع بين مؤداهما ، فهذا الإلغاء ليس مستندا إلى دلالة اللفظ ؛ بل هو ناش من تضاد مضموني الدليلين ثبوتا ، فلا وجه للحكومة الشارحة اللفظية للأمارات غير العلمية على الاستصحاب كما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره».

(٣) أي : مع مخالفة كل من الأمارة والاستصحاب في المؤدى كمثال نجاسة الثوب وطهارته. وأما مع موافقتهما في المؤدى فلا تنافر بينهما حتى يلغي كل منهما الآخر.

(٤) هذا إشكال آخر على الحكومة.

ومحصل هذا الإشكال : أنه بناء على كون دليل الأمارة ناظرا إلى إلغاء احتمال الخلاف يلزم اعتبار الاستصحاب مع موافقته لمؤدى الأمارة ، كما إذا كان مقتضى كل منهما طهارة الثوب ، واختصاص حكومة الأمارة على الاستصحاب بصورة المخالفة ، ولا يظن ذلك من القائل بالحكومة.

وهذا الإشكال يتجه على ظاهر تعريف الشيخ «قدس‌سره» للحكومة في أوائل التعادل والترجيح حيث قال : «فنقول : قد جعل الشارع للشيء المحتمل للحل والحرمة حكما شرعيا أعني الحل ، ثم حكم بأن الأمارة الفلانية كخبر العادل الدال على حرمة العصير حجة ، بمعنى : أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع ، فاحتمال حلية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي كان يترتب عليه لو لا هذه

١٣٨

وأما التوفيق (١) : فإن كان بما ذكرنا (١) فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله

______________________________________________________

الأمارة» (١) ، فإذا كان دليل الأمارة دالا على إلغاء احتمال خلاف مؤداها للواقع ، فلا محالة تختص حكومة الأمارة بصورة مخالفة الاستصحاب لمؤداها.

وأما مع موافقته له فلا ؛ لعدم احتمال خلاف في البين حتى يلغيه دليل الأمارة.

وبالجملة : فما أورده المصنف على حكومة الأمارة على الاستصحاب وجهان :

أحدهما : عدم نظر دليل الأمارة إثباتا إلى دليل الاستصحاب ، والآخر : اختصاص هذه الحكومة بصورة مخالفة المستصحب لمؤدى الأمارة دون صورة الموافقة له.

وضمير «به» راجع إلى الاستصحاب.

وقوله : «فافهم» لعله إشارة على إمكان ردّ الجواب الثاني ، وهو اختصاص الحكومة بصورة المخالفة بتعميم الحكومة لصورة الموافقة بعدم القول بالفصل بين صورتي المخالفة والموافقة.

أو إلى : إمكان تصحيح الحكومة إما بكفاية النظر مطلقا ولو ثبوتا فيها ، وإما بجعل التصديق جنانيا بمعنى الأمر بالاعتقاد بصدق الخبر والنهي عن الاحتمال مطلقا موافقا أو مخالفا ، كما في بعض الحواشي.

والكل كما ترى ؛ إذ في الأول : إنه لا مجال لعدم القول بالفصل في هذه المسألة المستحدثة الخلافية ، وفي الأخيرين : أنهما خلاف ما يظهر من الشيخ «قدس‌سره» من اعتبار الدلالة اللفظية ، ومن إلغاء احتمال الخلاف ؛ لا الاحتمال مطلقا ، والظاهر : أن الأمر بالفهم المتعقب بعدم خلو المطلب عن دقة ليس إشارة إلى مطلب.

وتركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

(١) قد تقدم في أول هذا المقام الثاني : أن التوفيق العرفي يطلق على معنيين خاص وعام ، والمراد به هنا بقرينة جعل «الورود» من أقسامه مطلق الجمع العرفي.

(٢) من الورود فنعم الاتفاق ، لكن إطلاق التوفيق العرفي لا يخلو من مسامحة ؛ إذ الخروج الموضوعي عن حيز أحد الدليلين ليس جمعا بينهما ؛ لعدم تصادقهما على ما هو الخارج موضوعا عن أحدهما ؛ إلا أن يوجه بأن الخروج التكويني كخروج الجاهل عن موضوع وجوب إكرام العلماء أجنبي عن الجمع العرفي.

وأما الخروج التشريعي كخروج مؤدى الأمارة عن نقض اليقين بالشك تعبدا ـ لبقاء الشك وجدانا بعد قيام الأمارة أيضا على خلاف الحالة السابقة المعلومة ـ فيعد جمعا

__________________

(١) فرائد الأصول ٤ : ١٥.

(١) فرائد الأصول ٤ : ١٥.

١٣٩

بدليلها (١) فلا وجه له (٢) ؛ لما عرفت (٣) : من أنه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك لا أنه (٤) غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.

______________________________________________________

عرفيا أيضا ؛ إذ العرف المخاطب بالدليل الوارد يقدمه على الدليل المورود.

(١) أي : بدليل الأمارة.

وتوضيحه : أنه قد نسب إلى جماعة كون النسبة بين الأمارة والاستصحاب عموما من وجهة وتقديم الأمارة عليه في مورد الاجتماع ؛ كما إذا كان مؤدى الأمارة كالبيّنة طهارة شيء ، ومقتضى الاستصحاب نجاسته لوجهين مذكورين في أوثق الوسائل.

«أحدهما : كون الأمارة أقل موردا من الاستصحاب ، وأقليّة أفراد أحد العامين من المرجحات ، فتخصص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارة.

ثانيهما : أن من جملة المرجحات استلزام تقديم أحد الدليلين على الآخر إلغاؤه ، فيقدم الآخر عليه حينئذ ، وتقديم الاستصحاب على الأمارة مستلزم لذلك ؛ وذلك لأن الاستصحاب من حكم المعارضة من سائر الأدلة مساو لسائر الأصول من البراءة والتخيير والاحتياط ، فلو قدم عليها لزم تقديمها عليها أيضا ، فيلزم إلغاء سائر الأدلة حينئذ لا محالة».

(٢) يعني : وإن كان التوفيق العرفي بتخصيص دليل الاستصحاب بدليل الأمارة ، فلا وجه له لعدم انطباق ضابط التخصيص عليه ، حيث إن ضابطه هو التصرف في الحكم برفعه عن الخاص مع بقاء الموضوع على حاله وعدم التصرف فيه ، كتخصيص عموم دليل وجوب القصر على المسافر بما دل على وجوب الإتمام على من شغله السفر مثلا ، فإنه مسافر موضوعا ، والمخصص أخرجه عن حكم المسافر ولم يخرجه عن موضوعه.

وفي المقام : يكون دليل الأمارة متصرفا في الموضوع وهو نقض اليقين بالشك ـ لكنه غير منهي عنه بسبب قيام الأمارة على خلافه ـ حتى يكون من باب التخصيص.

(٣) حيث قال : «والتحقيق أنه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين».

وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «به» راجع إلى «دليلها».

(٤) يعني : لا أن الأخذ بدليل الأمارة يكون داخلا في الاستصحاب موضوعا لصدق «نقض اليقين بالشك» عليه وخارجا عنه حكما ؛ لعدم حرمة نقضه بسبب الأمارة ، وغرضه من قوله : «لا أنه غير منهي عنه» : الإشارة إلى ضابط التخصيص الذي هو إخراج حكمي كما تقدم ، وعدم انطباقه على المقام ؛ لكون الأمارة رافعة لموضوع الاستصحاب ،

١٤٠