دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

بالرواية عنهم «عليهم‌السلام» كما ترى (١).

فلا محيص (٢) في حله من أن يقال : إن اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير

______________________________________________________

ينسخوا شيئا من الأحكام. ولكن دفعوا هذا الإشكال بما سيأتي في كلام المصنف «قدس‌سره».

(١) خبر «والتزام» ودفع له.

وحاصل هذا الدفع : أن الالتزام المزبور مستلزم لكثرة النسخ حينئذ ، وهو خلاف ما التزموا به من قلّة النسخ. مضافا إلى استلزامه عدم كمال الدين في عصره «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والمفروض : أنه كمل ـ بحسب الآيات والروايات ـ في زمانه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كما يصرح به خطبة الغدير في حجة الوداع : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يباعدكم عن النار وإلّا وقد نهيتكم عنه» (١).

(٢) هذا جواب الإشكال الذي ذكره بقوله : «يشكل الأمر في تخصيص الكتاب ...» الخ.

توضيحه : أنه يمكن دفع الإشكال بوجوه ثلاثة تعرض المصنف لاثنين منها :

أحدها : عدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من مخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب والسنة كما عليه بناء الأصحاب ، بتقريب : أن وجه القبح المزبور هو فوات الغرض من تأخير البيان ، فإذا فرض انجبار فواته في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إظهارها في الصدر الأول ـ كما اتفق ذلك في كثير من الأحكام حيث إن بيانها كان بالتدريج حسب اقتضاء المصلحة ـ صحّ حينئذ دعوى الالتزام بالتخصيص ، وكون التكليف الواقعي مؤدى الخاص ، إلّا إن السابقين عملوا بحكمهم الظاهري الذي هو مقتضى العمومات.

فحاصل هذا الوجه : مخصصية الخصوصات لتلك العمومات من دون لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ لما مرّ آنفا من تدارك فوات الغرض ـ المانع عن القبح بمصلحة في تأخير البيان.

ثانيها : ـ أي : ثاني الوجوه الدافعة للإشكال ـ أنه لا مانع من الالتزام بناسخية تلك الخصوصات بمعنى كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام ، لا النسخ بمعناه

__________________

(١) الكافي ٥ : ٨٣ / ١١ ، الوسائل ١٧ : ٤٥ / ٢١٩٣٩.

٣٢١

البيان عن وقت الحاجة ـ وكان من الواضح أن ذلك (١) فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات ، أو مفسدة في إبدائها ؛ كإخفاء (٢) غير واحد من التكاليف في الصدر الأول ـ لم يكن (٣) بأس بتخصيص عموماتهما بها.

______________________________________________________

الحقيقي ، وهو رفع الحكم الواقعي الفعلي الثابت ؛ بل ليس العام إلّا حكما ظاهريا من دون أن يكون حكما فعليا ثابتا واقعا ومرادا جدّيا ؛ بل الحكم الثابت واقعا هو مقتضى الخصوصات.

ولا بأس بإرادة النسخ بهذا المعنى بعد اقتضاء المصلحة عدم بيان الحكم الواقعي المطابق لتلك الخصوصات.

ثالثها : أن العمومات كانت مقرونة بقرائن تدل على الحكم الواقعي الذي هو مقتضى الخصوصات ، وكان عمل السابقين على طبق الخصوصات ؛ لكن خفيت تلك القرائن على أهالي الأعصار المتأخرة ، ولذا بيّن لهم الأئمة المعصومون «عليهم‌السلام» تلك الخصوصات.

فمرجع هذا الوجه إلى كشف تلك الخصوصات عن عمل السابقين بمقتضياتها ، وعدم عملهم بالعام ، فلا يلزم النسخ ولا تأخير البيان عن وقت الحاجة حتى يوجه ذلك بعدم لزوم القبح من هذا التأخير لأجل المصلحة في إخفاء الخصوصات أو المفسدة في إبدائها.

وأوجه الوجوه الثلاثة التي ذكرت في دفع الإشكال هو الوجه الأول أعني : التخصيص ، ودفع محذور قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بمصلحة الإخفاء أو مفسدة الإظهار.

ويؤيد هذا الوجه : بيان الأحكام تدريجا في صدر الإسلام ، وعدم اقتضاء المصلحة بيانها دفعة حتى ورد أن المسلمين في أوّل ظهور الإسلام لم يكلّفوا إلّا بالتوحيد واعتقاد الرسالة إلى عشر سنين. والمشار إليه في «ذلك» هو اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعام في التخصيص.

(١) أي : قبح تأخير البيان يكون في مورد عدم الجبران ، وأمّا في مورد الجبران فلا قبح ، والمراد بوقت الحاجة العمل بالعام.

وعليه : فليس تأخير البيان قبيحا ذاتيا كقبح الظلم. حتى لا يتغير عما هو عليه ؛ بل هو كالكذب في كونه مقتضيا للقبح ، ولذا يرتفع لو زوحم بما هو أهم منه كحفظ النفس ونحوه.

(٢) هذا تشبيه بالمنفي ، وضمير «إبدائها» راجع إلى «الخصوصات».

(٣) جواب قوله : «حيث كان» ، يعني : بعد أن كان وجه قبح التخصيص بعد

٣٢٢

واستكشاف (١) أن موردها كان خارجا عن الحكم العام واقعا وإن كان داخلا فيه ظاهرا ، ولأجله (٢) لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها (٣) عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار (٤) والدوام أيضا (٥) ، فتفطن (٦).

______________________________________________________

حضور وقت العام تفويت الغرض ، وكان الغرض الفائت متداركا ، فلا بأس بالالتزام بمخصصية الخصوصات الصادرة من الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» لعمومات الكتاب والسنة.

(١) بالجر عطف على «تخصيص عموماتهما» ومفسّر له ، وضمير «عموماتهما» راجع إلى الكتاب والسنة ، وضميرا «بها ، موردها» راجعان إلى الخصوصات ، وضمير «فيه» راجع إلى «حكم العام واقعا» ؛ وإن كان داخلا في حكمه ظاهرا بمقتضى أصالة العموم.

(٢) هذا بيان الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا : «ثانيها» أي : ثاني الوجوه الدافعة للإشكال ...» الخ ، أي ، ولأجل عدم البأس بمخصصية الخصوصات المقترن إخفاؤها بالمصلحة أو إظهارها بالمفسدة ـ مع تأخّرها عن زمان العمل بالعمومات ـ لا مانع من الالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت لها بالإطلاق الأزماني. والنسخ هنا يكون في الحكم الظاهري بالخصوصات التي هي أحكام واقعية ، فالنسخ كما يكون في الأحكام الواقعية كذلك يكون في الأحكام الظاهرية ؛ لكن تسمية هذا بالنسخ خلاف الاصطلاح.

(٣) أي : بالخصوصات.

(٤) متعلق ب «ظهور» والباء في «بإطلاقها» للسببيّة ومتعلق ب «ظهور» أيضا.

يعني : رفع اليد بسبب الخصوصات عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت بسبب إطلاقها الأزماني ، لما مر من أن للعام ظهورا وضعيا في الأفراد وإطلاقيا في الأحوال والأزمان ، والخصوصات الواردة بعد العام ترفع إطلاقه الأزماني.

(٥) قيد للنسخ ، يعني : أنه كما لا بأس بالالتزام بتخصيص عمومات الكتاب والسنة بتلك الروايات كذلك بالالتزام بناسخيتها لتلك العمومات بهذا المعنى من النسخ.

(٦) لعله إشارة إلى ضعف الوجه الثاني وهو النسخ بالمعنى المزبور ؛ لأنه تخصيص حقيقة أي : بيان للحكم الواقعي الذي هو مؤدى الخاص ؛ إذ المفروض : أن العام لم يكن مرادا جديا ـ وحكما واقعيا فعليا ـ حتى ينسخ بالخاص ؛ بل كان العمل به مبنيا على أصالة العموم.

٣٢٣

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المقصود من عقد هذا الفصل : هو ذكر جملة من المرجحات للدلالة والتعرض لتمييز الظاهر عن الأظهر عند اشتباه الحال فيهما.

وقيل بالوجوه الضعيفة لتميز الأظهر عن الظاهر في الموارد التي اشتبه الحال فيها.

ومن تلك الوجوه ما ذكره الشيخ من أنه إذا دار الأمر بين التقييد والتخصيص قدّم الأول على الثاني لوجهين :

الوجه الأول : أظهرية العام في العمومات من المطلق في الإطلاق لكون ظهور الأول تنجيزيا حيث إنه مستند إلى الوضع ، والثاني تعليقيا لكونه معلّقا على مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان والعام صالح للبيانية ، فلا بد من الأخذ بالعام دون المطلق.

الوجه الثاني : أن التقييد في المحاورات أكثر من التخصيص وهذه الأكثرية ربما توجب أظهرية العام في العموم من ظهور المطلق في الإطلاق.

٢ ـ الإشكال على كلا الوجهين :

وأما على الوجه الأول فحاصله : أن عدم البيان ـ الذي هو من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق ـ هو عدم البيان في خصوص مقام التخاطب ـ لا إلى الأبد ـ.

وعليه : فظهور المطلق في الإطلاق معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب ، فلا دخل لعدم البيان المنفصل في انعقاد الظهور في الإطلاق ، فبعدم البيان في مقام التخاطب يصير ظهور المطلق في الإطلاق تنجيزيا كظهور العام في العموم ، فيقع التعارض بين الظهورين التنجيزيين لا بين التنجيزي والتعليقي ، فلا وجه لتقديم العام على المطلق بهذا الوجه.

٣ ـ وأما الإشكال على الوجه الثاني : فلمنع أغلبية التقييد من التخصيص ؛ لبلوغ التخصيص في الكثرة على حدّ قيل : «وما من عام إلّا وقد خصّ» ، هذا مضافا إلى أن هذه الأغلبية ـ على فرض تسليمها ـ غير مفيدة لعدم كونها مفيدة للظن في مورد الشك أولا ولعدم الظن الحاصل من الأغلبية بحجة على فرض حصوله ثانيا.

٤ ـ ومن الوجوه التي ذكرت لتمييز الأظهرية عن الظاهر هو : تقديم التخصيص على النسخ في دوران الأمر بينهما.

وقد ذكر صاحب الكفاية لهذا الدوران موردين :

٣٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المورد الأول : ما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص كما إذا قال : «أكرم زيدا الأمير» ، ثم قال بعد وقت العمل بالخاص : «لا تكرم الأمراء».

المورد الثاني : ما إذا ورد خاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، فيدور أمر الخاص في هذا المثال بين المخصصية والناسخية ، فتقديمه على العام وإن كان مسلّما لكن الكلام في أنه للتخصيص أو النسخ.

وكيف كان ؛ فإن الوجه في تقديم التخصيص على النسخ في دوران الأمر بينهما هو غلبة التخصيص وندرة النسخ.

وحاصل الإشكال عليه : أن غلبة التخصيص لا تجدي في رفع اليد عن الظهور الوضعي للعام في العموم بالظهور الإطلاقي ؛ إلّا إذا أوجبت أقوائية الظهور الإطلاقي في الاستمرار من الظهور الوضعي للعام في العموم ، ولا توجب الغلبة ذلك إلّا إذا كانت مرتكزة في أذهان العرف ؛ بحيث تعد عندهم من القرائن المكتنفة بالكلام الموجبة للظهور ، وليست الغلبة كذلك فلا يعتدّ بها.

٥ ـ الإشكال في الخصوصات الواردة بعد حضور وقت العمل بالعمومات.

والإشكال مبني على اشتراط التخصيص بورود الخاص قبل زمان العمل بالعام ـ حتى لا يلزم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ وعليه : فلا يمكن الالتزام بمخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب والسنة ، كما لا يمكن الالتزام بناسخيتها لهما ؛ لاستلزامه كثرة النسخ في الشريعة الواحدة مع قلته وكثرة التخصيص.

٦ ـ ويمكن تقريب الإشكال بوجهين :

أحدهما : عدم معقولية دوران الخاص المتأخر عن العام بين النسخ والتخصيص ؛ إذ مع وروده قبل العمل بالعام يتعين التخصيص. وبعد العمل به يتعيّن النسخ فلا دوران بينهما.

ثانيهما : أن أمر تلك الخصوصات بين أمرين لا يمكن الالتزام بهما لبعدهما.

أحدهما : حملها على النسخ بعد انقضاء الوحي ، وهذا نادر جدا لو قيل بصحته.

ثانيهما : حملها على التخصيص ، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح عن الحكيم فلا يمكن الالتزام به.

٧ ـ جواب الإشكال بوجهين :

أحدهما : عدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من مخصصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب والسنة لوجود مصلحة في تأخير البيان ، كما اتفق ذلك

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في كثير من الأحكام في صدر الإسلام.

وثانيهما : أنه لا مانع من الالتزام بناسخية تلك الخصوصات ، بمعنى : كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام لا النسخ بمعناه الحقيقي وهو رفع الحكم الواقعي الفعلي الثابت ؛ بل ليس العام إلا حكما ظاهريا من دون أن يكون حكما ثابتا واقعا ، وكان مرادا جديا ؛ بل الحكم الثابت واقعا هو مقتضى الخصوصات ، ولا باس بإرادة النسخ بهذا المعنى بعد اقتضاء المصلحة عدم بيان الحكم الواقعي المطابق لتلك الخصوصات.

٨ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم صحة تقديم التقييد على التخصيص عند دوران الأمر بينهما.

٢ ـ عدم صحة تقديم التخصيص على النسخ عند دوران الأمر بينهما.

٣ ـ حمل الخصوصات الواردة بعد العمل بالعام ؛ إما على كونها مخصصة لها للمصلحة في تأخير البيان.

وإما على كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام لا النسخ بمعناه الحقيقي.

٣٢٦

فصل (١)

لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين. وأما إذا

______________________________________________________

في انقلاب النسبة

(١) الغرض من عقد هذا الفصل : تعيين الأظهر فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، وأنه هل تنقلب النسبة بين مثل العام والخصوصات المتعددة من العموم والخصوص إلى نسبة أخرى أم لا؟

وقبل الخوض في البحث ينبغي تحرير ما هو محل الكلام في هذا الفصل.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان الاحتمالات في المقام :

الاحتمال الأول : أن يكون أحد الدليلين عاما أو مطلقا والآخر خاصا أو مقيدا ، فلا إشكال في تقديم الخاص على العام والمقيد على المطلق.

الاحتمال الثاني : أن يكون الدليلان عامين من وجه ، فلا إشكال في تعارضهما في مادة الاجتماع والرجوع إلى المرجحات.

الاحتمال الثالث : أن يكون في المقام ثلاثة أدلة أو أكثر ؛ كما لو ورد : «أكرم العلماء» ، وورد : «لا تكرم فساق العلماء» ، وورد : «لا تكرم النحويين».

وهنا يكون دليل أعم مطلقا وهو «أكرم العلماء» ، ودليلان أخص مطلقا وهما «لا تكرم فساق العلماء» و «لا تكرم النحويين».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن هذا الاحتمال الثالث هو محل الكلام.

والحق عند المصنف ـ وهو المشهور ـ أن يقدم الخاصان على العام ، فيحرم إكرام فساق العلماء وإكرام النحويين.

وقد وقع اشتباه لبعض الأعلام ـ وهو الفاضل النراقي ـ حيث توهم انقلاب النسبة ؛ بأن يخصص «أكرم العلماء» مثلا أولا ب «لا تكرم فساق العلماء» ، وحينئذ تكون النسبة بين «أكرم العلماء غير الفساق» وبين «لا تكرم النحويين» عموما من وجه ؛ لأنهما يجتمعان في النحوي العادل ويختص الأول بالفقيه العادل والثاني بالنحوي الفاسق ، وهذا الاشتباه مما لا وجه له ؛ إذ لما ذا لا يقدّم أحد التخصيصين على التخصيص الآخر

٣٢٧

كان بين الزائد عليهما ، فتعيّنه (١) ربما لا يخلو من خفاء.

______________________________________________________

ويقع التعارض في مادة الاجتماع بين العام وكلا الخاصين في مرتبة واحدة ، فلا يلزم الانقلاب وقد انعقد هذا الفصل لدفع هذا التوهم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) أي : فتعيّن الأظهر.

ومقصوده من هذه العبارة : أن البحث في هذا الفصل صغروي كما كان كذلك في الفصل السابق ، لا كبروي.

وبيانه : أن الأحكام المتقدمة في الفصول السابقة لتعارض الخبرين ـ كالتخيير بينهما المدلول بأخبار العلاج ، والاقتصار على المرجحات المنصوصة لو قيل بوجوب الترجيح وغير ذلك ـ لا تختص بموارد تعارض الخبرين ؛ بل تشمل ما إذا كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أربعة أو أزيد ؛ بل قد يكون التعارض بين طوائف ست أو سبع من الأخبار ، فحكم تعارض أكثر من دليلين ـ أيضا ـ هو الجمع الدلالي إن كان بينها حكومة أو أظهرية ، والتخيير إن لم يكن بينها ذلك أو توفيق عرفي ، سواء كانت الأدلة متكافئة في وجوه الترجيح أم متفاضلة بناء على مختار المصنف من إنكار وجوب الترجيح بالمزايا المنصوصة وغيرها.

فإن كان التعارض بين خبرين ، فإن أمكن التوفيق العرفي بينهما ؛ بأن كان أحدهما أظهر من الآخر فهو ، وإلّا فلا بد من إعمال قانون التعارض من الترجيح أو التخيير بينهما.

وإن كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أكثر فتقديم بعضها على بعض من باب الجمع الدلالي يتوقف على كون ذلك البعض أظهر من غيره ، وتشخيص الأظهر هنا لا يخلو من صعوبة ، ولذا عقدوا هذا البحث لمعرفته. وعليه : فهذا الفصل يتكفّل تمييز الأظهر عن الظاهر ، وسيظهر ارتباط معرفة الأقوى دلالة من المتعارضات ببحث انقلاب النسبة.

توضيح المقام : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٨ ، ص ٢٦٦» ـ أن النسبة بين الأدلة الثلاثة المتعارضة أو أكثر إما متحدة ـ بأن تكون عموما مطلقا فقط ، ومن وجه كذلك ـ وإما متعددة ؛ بأن تكون النسبة بين البعض عموما مطلقا وبين البعض الآخر عموما من وجه ، وسيأتي الكلام في النسبة المتعددة في آخر هذا الفصل فانتظر. والكلام فعلا فيما إذا كانت النسبة متحدة ، فإما تبقى على حالها بعد ملاحظة بعضها مع بعضها الآخر ، وإما تنقلب أخرى بعد العلاج.

مثال الأول : ما إذا ورد : «يجب إكرام الأمراء ، ويحرم إكرام الفساق ، ويستحب

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إكرام النحويين» ، فإن النسبة بين الأول وبين كل واحد من الآخرين عموم من وجه ، سواء لوحظ مع أحدهما أم لم يلاحظ ؛ لثبوت هذه النسبة بينها فيل لحاظه مع أحدهما وبعده ، وذلك لأن نسبة «أكرم الأمراء» مع «حرمة إكرام الفساق» وكذا مع «استحباب إكرام النحويين» عموم من وجه ، وبعد ملاحظة «أكرم العلماء» مع أحدهما تكون تلك النسبة محفوظة ؛ لأن «أكرم العلماء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفساق» تكون نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» تلك النسبة السابقة ؛ إذ مفاد «أكرم العلماء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفساق» هو «وجوب إكرام الأمراء العدول» ، ومن المعلوم : أن نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» أيضا عموم من وجه ، وموارد اجتماعهما هو الأمير العادل النحوي.

ولا إشكال في حكم صورة اتحاد النسبة قبل العلاج وبعده ، فإنه يعامل مع مورد اجتماع العامين من وجه معاملة التعارض من الترجيح أو التخيير على الخلاف في تعارض الدليلين أو الأدلة.

ومثال الثاني : ـ أعني : انقلاب النسبة ـ ما إذا ورد : «أكرم الأمراء» ، ثم ورد «لا تكرم فساقهم» ، وورد أيضا : «يكره إكرام الأمراء الكوفيين» ، فإن النسبة بين الأول وكل من الأخيرين عموم مطلق ؛ لكن بعد تخصيصه بأحدهما تنقلب النسبة بينه وبين الآخر إلى العموم من وجه ؛ إذ النسبة بين «أكرم الأمراء العدول» بعد ملاحظته مع «لا تكرم فساقهم» ، وبين «يكره إكرام الأمراء الكوفيين» عموم من وجه ؛ لاجتماعهما في الأمير الكوفي العادل وافتراقهما في الأمير غير الكوفي وفي الأمير الكوفي الفاسق.

فعلى تقدير صحة انقلاب النسبة تلاحظ النسبة الحادثة دون النسبة السابقة ، ففي مادة الاجتماع ـ وهي في المثال : الأمير الكوفي غير الفاسق ـ يقدّم الراجح من الدليلين ـ وهما العام المخصص والخاص الآخر ـ على الآخر إن كان هناك راجح ؛ وإلّا فالتخيير بينهما أو غيره من أحكام التعارض.

وعلى تقدير عدم صحة الانقلاب يخصص العام بكل من الخاصين مع الغض عن الآخر إن أمكن إخراجهما عن العام ، كما إذا بقي للعام بعد إخراجهما عنه مورد كالمثال المزبور ، حيث إنه بعد إخراج «فساق الأمراء» و «الأمراء الكوفيين» عن العام وهو «وجوب إكرام الأمراء» يبقى له مورد مع «الأمراء العدول غير الكوفيين» ، وإن لم يمكن إخراجهما عنه بأن لم يبق للعام مورد ؛ كما إذا ورد «أكرم الأمراء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب

٣٢٩

ولذا (١) وقع بعض الأعلام في اشتباه وخطأ ، حيث (٢) توهّم : أنه إذا كان هناك

______________________________________________________

إكرام عدول الأمراء» ، فإنه لا يمكن تخصيص العام بكليهما لعدم بقاء مورد له ، فلا محالة يقع التعارض بين العام وكلا الخاصين ، ويجري عليهما حكم المتباينين.

وقد ينعكس الأمر فتنقلب نسبة العموم من وجه إلى العموم المطلق ؛ كما إذا ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويكره إكرام الأمراء الفساق» ، فإن النسبة بين الأول والثاني عموم من وجه وبين الثاني والثالث عموم مطلق كما هو واضح ، فإذا خصص الثاني بالثالث وصار مفاده «حرمة إكرام الفساق إلا فساق الأمراء ، فإنه يكره إكرامهم» انقلبت نسبة الأخص من وجه بين «أكرم الأمراء ولا تكرم الفساق» إلى الأخص المطلق ؛ إذ مفادهما حينئذ «وجوب إكرام الأمراء إلّا فساقهم».

هذا ، وقد تنقلب نسبة الأعم والأخص مطلقا إلى التباين ؛ كما إذا ورد : «أكرم الأمراء ولا تكرم فساق الأمراء ويستحب إكرام عدول الأمراء» ، فإن النسبة بين العام وبين كل من الخاصين عموم مطلق كما هو واضح ؛ إلّا إن تخصيصه بالخاص الأول ـ وصيرورة مفاده بعد التخصيص وجوب إكرام الأمراء العدول ـ أوجب انقلاب النسبة إلى التباين ؛ لمباينة هذا المفاد مع استحباب إكرام الأمراء العدول.

إذا عرفت معنى انقلاب النسبة ، وأن المقصود من هذا البحث تعيين الأظهر من بين الأدلة المتعارضة ، فاعلم : أنه وقع الخلاف في أنه هل يلاحظ نسبة كل خاص مع العام مع الغض عن الخاص الآخر ـ أن يخصّص العام بكل واحد من الخصوصات في رتبة واحدة ـ أم يلاحظ نسبة العام إلى خاص ، وبعد تخصيصه به يلاحظ ثانيا مع الخاص الآخر وهكذا؟

فيه قولان نسب الأول إلى المشهور ، والثاني : إلى العلامة النراقي «قدس‌سره» حيث إنه يلاحظ العام مع أحد الخصوصات ، وبعد تخصيصه به يلاحظه مع سائر الخصوصات وقيل : إن استدلاله في الفقه يدور عليه.

ولكن التحقيق الذي ذهب إليه المصنف وغيره هو الأول ، فالمدار عند الفاضل النراقي على النسبة الحادثة ، وعند غيره على النسبة السابقة الأولية التي كانت بين العام وبين كل واحد من الخصوصات ، فيخصص بكل واحد منها ـ مع الغض عن الآخر ـ بتلك النسبة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) أي : ولخفاء الأظهر وقع بعض الأعلام ـ وهو الفاضل النراقي ـ في الخطأ والاشتباه.

(٢) هذا تمهيد لبيان الاشتباه الذي وقع فيه الفاضل النراقي.

٣٣٠

عام (١) وخصوصات (٢) ، وقد خصّص (٣) ببعضها (٤) ، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به ، فربما تنقلب النسبة (٥) إلى عموم وخصوص من وجه ، فلا بد من رعاية هذه النسبة (٦) وتقديم (٧) الراجح منه (٨) ومنها أو التخيير (٩) بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح لا تقديمها (١٠) عليه ؛ إلّا إذا كانت النسبة ...

______________________________________________________

(١) مثل : أكرم العلماء.

(٢) نحو : لا تكرم فساقهم ولا تكرم النحويين.

(٣) أي العام.

(٤) الخصوصات نحو : لا تكرم فساقهم ، فكان اللازم ملاحظة النسبة بين العام وبين سائر الخصوصات نحو : «لا تكرم النحويين» بعد تخصيص العام بالخاص الأول.

(٥) التي كانت بين العام والخاص الثاني «إلى عموم وخصوص من وجه» بعد ما كانت عموما وخصوصا مطلقا. فقوله : «فربما تنقلب النسبة» متفرع على الملاحظة المزبورة ، يعني : قد توجب هذه الملاحظة انقلاب النسبة من العموم والخصوص المطلق إلى الخصوص من وجه ، فلا بد من مراعاة هذه النسبة الجديدة بترتيب أحكامها من الأخذ بالراجح منهما إن كان وإلا فالتخيير.

(٦) أي : نسبة العموم والخصوص من وجه التي انقلبت إليها النسبة السابقة.

(٧) عطف على «رعاية» ومفسر لها.

(٨) أي : من العام المخصص ومن سائر الخصوصات.

(٩) عطف على «تقديم» يعني : لا بد من رعاية هذه النسبة بتقديم الراجح من العام المخصص وسائر الخصوصات إن كان هناك راجح ، أو التخيير بينهما إن لم يكن هناك راجح. وضمير «بينه» راجع إلى العام المخصص ، وضمير «بينها» راجع إلى «سائر الخصوصات».

(١٠) عطف على «ملاحظة» يعني : كان اللازم ملاحظة النسبة ... لا تقديمها ـ أي : لا تقديم الخصوصات على العام ـ كما يقول به غير الفاضل النراقي «قدس‌سره» ؛ إلّا إذا كانت النسبة التي كانت قبل التخصيص محفوظة بعده ولم تنقلب إلى نسبة أخرى ، فإن انقلبت إليها كان اللازم مراعاة النسبة المنقلبة.

ومثال محفوظية النسبة ـ وعدم انقلابها بعد تخصيص العام بأحد الخاصين ـ ما إذا ورد : «أكرم الشعراء ، ولا تكرم الشعراء البصريين ، ولا تكرم الشعراء الكوفيين» ، فإن تخصيص العام ب «لا تكرم الشعراء البصريين» لا يوجب انقلاب نسبة العموم المطلق إلى

٣٣١

بعده (١) على حالها.

وفيه (٢) : أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العام بمخصّص

______________________________________________________

نسبة أخرى ؛ بل هي باقية على حالها ، ضرورة : أن «أكرم الشعراء» قبل تخصيصه ب «لا تكرم الشعراء البصريين» كان أعم مطلقا من «لا تكرم الشعراء الكوفيين» ، وهذه الأعمية باقية أيضا بعد التخصيص به ، ولم تنقلب إلى نسبة أخرى لوضوح : أعمية «الشعراء غير البصريين» من «الشعراء الكوفيين».

هذا توضيح كلام الفاضل النراقي «قدس‌سره» وحاصله : كون المدار في العلاج هو النسبة الحادثة ؛ إلّا إذا كانت النسبة السابقة باقية على حالها بعد تخصيص العام بأحد الخصوصات.

(١) أي : بعد تقديمها ـ أي : تقديم الخصوصات وضمير «حالها» راجع إلى النسبة.

(٢) هذا إشارة إلى جواب المصنف عن كلام الفاضل النراقي.

وتوضيح ما أجاب به المصنف عن كلام الفاضل النراقي يتوقف على مقدمة ، وهي أن مركز النسبة بين الدليلين أو الأدلة هو الظهور العرفي الثابت لهما أو لها.

ثم إن المخصص المنفصل مما لا يصادم أصل ظهور العام في العموم ، وإنما يصادم حجيته بالنسبة إلى مورد الخاص تحكيما للنص أو الأظهر عليه.

نعم القرائن المتصلة تمنع عن انعقاد الظهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يرتفع ظهور العام في العموم بالمخصص المنفصل ؛ بل يخصّص العام بكل واحد من المخصصات في مرتبة واحدة من دون انقلاب ما كان بينها وبين العام قبل التخصيص من النسبة ؛ لأن وجه تقديم كل خاص على عامّه ـ وهو الأظهرية في مورد تصادق العنوانين ـ متحقق في كل واحد من الخصوصات فلا وجه لتقديم أحد الخاصين في تخصيص العام به ، ثم ملاحظة نسبة العام المخصص مع الخاص الثاني ؛ لأن تقديم أحد الخاصين وانقلاب نسبة العام ومع الخاص الآخر إمّا ترجّح بلا مرجح أي : معلول بلا علة وإمّا ترجيح بلا مرجح.

والظاهر : أن مبنى الانقلاب هو تخيّل انثلام الظهور بالقرائن المنفصلة كالمتصلة ؛ لكنه فاسد لوضوح : ترتب الظهور قهرا على مجرد الاستعمال. والقرينة المنفصلة لا تصادم هذا الظهور أصلا ؛ بل تصادم حجيته فقط كما يقول به المشهور.

وكيف كان ؛ فظهور العام محفوظ على حاله ولو بعد تخصيصه بأحد الخاصين ، فكانت النسبة بينه وبين الخاص الآخر عموما مطلقا كما كانت كذلك قبل تخصيصه

٣٣٢

منفصل ـ ولو كان قطعيا ـ لا ينثلم (١) به ظهوره وإن انثلم به حجيته.

ولذلك (٢) يكون بعد التخصيص حجة في الباقي ، لأصالة عمومه (٣) بالنسبة إليه.

لا يقال (٤) : إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا ، فكيف يكون ظاهرا فيه؟

______________________________________________________

بأحد الخاصين ، فيعامل معهما معاملة العام والخاص لا معاملة العامين من وجه كما يقول الفاضل النراقي.

(١) توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية : «لا ينثلم» خبر «وتخصيص العام» ، و «ظهوره» فاعل «ينثلم» ، وضمير «به» راجع إلى «تخصيص» وضمير «ظهوره» إلى «العام».

(٢) يعني : ولأجل عدم انثلام الظهورات بالقرائن المنفصلة يكون ظهور العام في العموم باقيا على الحجيّة بعد التخصيص بالمخصص المنفصل بالنسبة إلى الباقي ، فإنه لو كان التخصيص رافعا لظهوره في العموم لم يكن حجة في الباقي ؛ إذ مع ارتفاع الظهور لا يبقى موضوع للحجية.

وبالجملة : فجريان أصالة العموم ـ التي هي من الأصول المرادية المثبتة لكون الظواهر مرادة للمتكلم ـ أقوى شاهد على بقاء الظهور النوعي بعد التخصيص بالمنفصل.

(٣) أي : لأصالة عموم العام بالنسبة إلى الباقي بعد التخصيص ، وحاصله : أن بقاء الظهور بعد التخصيص يوجب حجية العام في الباقي ؛ لأصالة العموم ؛ إذ جريانها منوط بوجود موضوعه وهو الظهور ، فكأنه قيل : «العام بعد تخصيصه باق على ظهوره في العموم ، ولذا يجري فيه أصالة العموم ، فيكون العام حجة في الباقي».

(٤) وحاصل الإشكال : هو منع الظهور للعام في العموم مع تخصيصه بالمخصص القطعي كالإجماع مثلا ، والظاهر : أن وجه التخصيص بالقطعي في نظر المستشكل هو أن المخصص إذا كان قطعيا فيحصل القطع بعدم كون العام مستعملا في العموم حتى يكون حجة في الباقي ؛ إذ مع قطعيّة المخصص لم يستعمل العام في العموم حتى يحصل له ظهور فيه ويكون حجة في الباقي.

وحاصل ما أجاب به المصنف بقوله : «فإنه يقال» : إن المخصص المنفصل القطعي ليس قرينة على عدم استعمال العام في العموم حتى يقال بعدم ظهوره في العموم ؛ بل هو قرينة على عدم إرادة المتكلم له ، وعدم الإرادة لا يلازم عدم الاستعمال ولا لغوية الاستعمال ؛ لإمكان ترتيب فائدة عليه ، وهي : إفادة قاعدة كلية تكون مرجعا عند الشك في

٣٣٣

فإنه يقال (١) : إن المعلوم عدم إرادة العموم ؛ ...

______________________________________________________

التخصيص ، وهذه الفائدة المهمة تترتب على استعمال العام في العموم.

ويشهد بذلك حجية العام ـ بالاتفاق ـ في تمام ما بقي بعد التخصيص ؛ إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي ؛ لاحتمال عدم كون المستعمل فيه تمام الباقي ؛ بأن يكون هو بعض مراتب الباقي.

وبعبارة أخرى : العام ظاهر ـ بمقتضى وضعه أو قرينة المراد ـ في استيعاب جميع أفراده ، وحيث إن المخصّص القطعي أو الظني منفصل عنه حسب الفرض ، فلا ينثلم أصل ظهوره في الاستغراق ؛ لعدم انقلاب الشيء عمّا وقع عليه ، وإنما يكون الخاص مزاحما لحجية العام في مقدار دلالته ، فيرجع إلى العام في غير ما أخرجه الخاص ، ولا تنقلب النسبة بين العام بعد التخصيص وبين الخاص الآخر ؛ لبقاء ظهور العام على حاله وإن لم يكن حجة في مدلول الخاص الأول.

ولو فرض انهدام أصل ظهور العام بعد التخصيص بالمخصص المنفصل ـ كتخصيص «أكرم الأمراء» ب «لا تكرم فساق الأمراء» ، وصيرورة العام مجازا ـ امتنع التمسك به في الشك في التخصيص الزائد ؛ لكون العام مجملا حينئذ وعدم كونه كاشفا عن المراد الجدّي ؛ لتعدد مراتب المجاز ، فيحتمل إرادة تمام الباقي بعد التخصيص أعني به إكرام الأمراء العدول ، كما يحتمل إرادة بعض المراتب كإكرام الأمراء العدول الكوفيين أو إكرام الأمراء العدول الشعراء ، وحيث إنه لا معيّن لتمام الباقي بعد المخصّص الأول فهو مجمل لا يصح التمسك به في الشك في التخصيص الزائد.

فإن قلت : أصالة عدم مخصص آخر محكمة ، وتدل على نفي التخصيص المشكوك فيه ومعه لا يصير العام المخصص مجملا ؛ يتعين المراد منه في تمام الباقي ببركة هذا الأصل.

قلت : أصالة عدم مخصص آخر قاصرة عن إثبات إرادة تمام الباقي من العام ؛ وذلك لأن هذا الأصل لا يعيّن المراد من العام المخصص ، فإن إرادة تمام الباقي مترتبة على ظهور نفس العام في الباقي وحجيته فيه ، وحيث إن المفروض اقتضاء التخصيص للمجازية وتفاوت مراتب المجاز ، فلا وجه لإرادة تمام الباقي من الباقي حتى يلاحظ مع الخاص الآخر.

(١) توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية :

قوله : «فكيف يكون ظاهرا فيه» يعني : فكيف يكون العام ظاهرا في العموم مع عدم استعماله فيه؟ قد تقدم توضيح هذا الجواب فراجع.

٣٣٤

لا عدم (١) استعماله فيه لإفادة (٢) القاعدة الكلية ، فيعمل (٣) بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها ؛ وإلّا (٤) لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي ؛ لجواز (٥) استعماله حينئذ (٦) فيه وفي غيره (٧) من (٨) المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

وأصالة (٩) عدم مخصص آخر لا يوجب (١٠) انعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في غيره من (١١) المراتب ؛ ...

______________________________________________________

(١) عطف على «عدم» ، وضمير «استعماله» راجع إلى «العام» ، وضمير «فيه» إلى العموم.

(٢) متعلق ب «استعماله» ، يعني : لا عدم استعماله فيه لأجل إفادة القاعدة الكلية.

(٣) بالنصب ، أي : ليعمل بعموم هذه القاعدة الكلية ما لم يعلم بتخصيصها.

(٤) أي : وإن لم يكن العام مستعملا في العموم لم يكن وجه لحجيته في تمام الباقي.

(٥) علّة لقوله : «لم يكن وجه» ، وقد مرّ توضيحه : بقولنا : «إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي».

(٦) أي : حين عدم استعمال العام في العموم وحاصله : ـ بناء على عدم استعمال العام في العموم ـ لا وجه لحجيته في تمام الباقي بعد التخصيص ؛ لإمكان استعماله في جميع الباقي وفي غيره من المراتب التي يجوز عند أبناء المحاورة انتهاء التخصيص إليها ؛ لعدم لزوم التخصيص المستهجن ، مع عدم قرينة معيّنة لمرتبة من مراتب التخصيص.

(٧) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان إلى «تمام الباقي».

(٨) بيان ل «غيره» ؛ إذ كل مرتبة دون مرتبة تمام الباقي يمكن أن يكون هو المستعمل فيه بعد فرض نصب قرينة على عدم استعمال العام في العموم.

(٩) هذا تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس‌سره» : حيث أثبت ظهور العام في تمام الباقي بأصالة عدم التخصيص بمخصص آخر ، فلا مانع حينئذ من التمسك بالعام في تمام الباقي وملاحظة هذا العام المخصص مع الخاص الآخر ، وعليه : فلا يلزم انقلاب النسبة حتى لو بنينا على صيرورة العام مجازا بالتخصيص.

(١٠) هذا ردّ كلام الشيخ وحاصله : أن أصالة عدم مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور العام في تمام الباقي ؛ لأن منشأ الظهور إما الوضع وإما القرينة ، وكلاهما مفقود كما هو واضح ، وليس للظهور موجب آخر.

(١١) بيان ل «غيره» ، وضمير «له» راجع إلى العام ، وضميرا «فيه ، غيره» راجعان إلى «تمام الباقي».

٣٣٥

لعدم (١) الوضع ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها (٢) كما لا يخفى ؛ لجواز (٣) إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.

نعم (٤) ؛ ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام (٥) في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو (٦) غير ظهور العام فيه (٧) في كل مقام.

فانقدح بذلك (٨) : أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا

______________________________________________________

(١) هذا وما بعده ـ مما عطف عليه ـ كلاهما تعليل لقوله : «لا يوجب انعقاد ظهور» ، والأول أعني : عدم الوضع هو ما اعترف به القائل بمجازية العام المخصص ، والثاني ـ أعني عدم القرينة المعيّنة ـ لوضوح أن شأن الخاص إخراج مدلوله عن العام ، ولا يدل على أن المراد من العام بعد التخصيص هو تمام الباقي أم بعضه.

(٢) أي : من المراتب.

(٣) يعني : يمكن أن يريد المتكلم مرتبة خاصة من مراتب التخصيص ولم ينصب قرينة عليها. فلا يكون العام بعد التخصيص ظاهرا في شيء من المراتب حتى يكون حجة فيه. وضميرا «عليها ، إرادتها» راجعان إلى «مرتبة».

(٤) استدراك على قوله : «ولا القرينة المعيّنة» وحاصله : أنه قد يكون في بعض الموارد قرينة خارجية على كون المراد من العام المخصص هو تمام الباقي ، وذلك فيما إذا كانت مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ، وعدم مانع من إظهاره ، فحينئذ يكون عدم نصب القرينة قرينة على أن مراده تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم ، وإلّا لأخلّ بغرضه ، فإن السكوت في مقام البيان بيان لعدم دخل شيء آخر في غرضه لكن لا يتفق هذا في جميع الموارد.

(٥) هذه إحدى مقدمات الحكمة المثبتة لكون المراد تمام الباقي بعد التخصيص ، والأولى أن يقال : «مع كون المتكلم بهذا العام في مقام البيان».

(٦) أي : وعدم نصب قرينة ـ مع كون المتكلم بالعام في مقام البيان ـ غير ظهور العام في تمام الباقي في جميع الموارد كما هو المدعى ، إذ المدعى ظهور العام المخصص بنفسه في تمام الباقي ، لا بمعونة قرينة خارجية.

وكيف كان ؛ فعلى هذا الإشكال المتقدم من صيرورة العام مجملا ـ لو لم يكن حقيقة بعد التخصيص ـ باق على حاله.

(٧) أي : في التمام يعني تمام الباقي.

(٨) أي : بما تقدم من قوله : «أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات وتخصيص العام

٣٣٦

ولو كان (١) بعضها مقدّما أو قطعيا (٢) ما لم يلزم منه (٣) محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا (٤) ولو لم يكن (٥) مستوعبة لأفراده ، فضلا عما إذا كانت

______________________________________________________

بمنفصل ... لا ينثلم به ظهوره ...» ظهر أنه. وهذا نتيجة ما تقدم من أنه لا بد من ملاحظة ظاهر كل دليل مع ظاهر دليل آخر ، فلو كان هنا عام وأربعة خصوصات مثلا فاللازم تخصيص ذلك العام بكل واحد منها مع الغض عن الآخر ، ولا تنقلب النسبة التي كانت بينها قبل التخصيص إلى نسبة أخرى ، كما يظهر ذلك من الأمثلة المتقدمة.

(١) بيان للإطلاق ، ومحصله : أنه لا فرق في لزوم تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات بين تقدم بعضها زمانا على الآخر وعدمه ، وبين كون بعضها قطعيا وبعضها ظنيّا ، فإنه بعد اجتماع شرائط الحجيّة فيها يلزم تخصيص العام بكل واحد منها في عرض الآخر لا في طول الآخر ؛ بأن تخصّص أولا ببعضها ثم بالآخر حتى تنقلب النسبة بين العام المخصّص أولا بذلك البعض ، وبين سائر الخصوصات ، ويصير المدار على النسبة الحادثة.

(٢) موجبا للقطع بعدم استعمال العام في العموم ، وعدم إرادة المتكلم له واقعا.

(٣) أي : من التخصيص ، وقوله : «ما لم يلزم» راجع إلى قوله : «لا بد من تخصيص العام» وشرط له يعني : لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات ، بشرط أن لا يلزم من تخصيصه بكل واحد منها محذور تخصيص الأكثر ؛ بحيث لا يبقى بعده عموم عرفا ؛ لاستهجان هذا التخصيص وقبحه في المحاورات وإن لم يكن مستوعبا لأفراد العام ، فضلا عما إذا كان مستوعبا لها ، فإذا ورد : «أكرم الأمراء ولا تكرم فساقهم ولا تكرم شعراءهم» ، وفرضنا عدم لزوم محذور تخصيص الأكثر من تخصيصه بالخاص الثاني ـ ولزومه من تخصيصه بالخاص الأول لقلّة عدولهم ـ لزم حينئذ تخصيص العام بأحد الخاصين على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.

(٤) وهو تخصيص الأكثر المستهجن وإن لم يكن مستوعبا لأفراد العام.

وضمير «إليه» راجع إلى الموصول في «ما لا يجوز» ، وضمير «لأفراده» راجع إلى «العام».

(٥) الأولى «ولو لم تكن» أو «مستوعبا» بدل «مستوعبة».

وكيف كان ؛ فهذه الكلمة لا تخلو من تعريض بعبارة الشيخ الأنصاري ، فإنه «قدس‌سره» اشترط في تخصيص العام بالخصوصات عدم لزوم المحذور وظاهره إرادة عدم بقاء مورد للعام أصلا بقرينة تمثيله بقوله : «وإن لزم المحذور ، مثل قوله : يجب إكرام العلماء

٣٣٧

مستوعبة لها ، فلا بد حينئذ (١) من معاملة التباين بينه (٢) وبين مجموعها ، ومن (٣) ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه (٤) ، فلو (٥) رجح جانبها أو اختير ـ فيما لم يكن هناك

______________________________________________________

ويحرم إكرام فساق العلماء ، وورد يكره إكرام عدول العلماء ، فإن اللازم من تخصيص العام بهما بقاؤه بلا مورد ، فحكم ذلك كالمتباينين».

واعترض المصنف عليه في الحاشية كما في المتن بعدم انحصار المحذور في خلوّ العام عن المورد ؛ بل إذا بقيت أفراد قليلة تحت العام ؛ بحيث بلغ التخصيص إلى حد الاستهجان امتنع تخصيص العام بمجموع الخصوصات ، وجرت أحكام التعارض على العام ، وتلك المخصصات.

(١) أي : فلا بد حين لزوم المحذور المذكور من معاملة التباين ؛ لا معاملة الأعم والأخص بأن يخصّص العام بتلك الخصوصات. وحق العبارة أن تكون هكذا : «وإن لزم فلا بد حينئذ ...» الخ.

(٢) أي : بين العام ، وضمير «مجموعها» راجع إلى «الخصوصات».

(٣) عطف على «من معاملة التباين» ومفسّر له ؛ إذ معاملة التباين عبارة عن ملاحظة الترجيح وعدمه بين المتعارضين ، فلو رجحت الخصوصات مع الترجيح ـ أو اختيرت بدون الترجيح ـ فلا مجال للعمل بالعام أصلا ؛ لعدم إمكان العمل بالعام مع استيعاب الخصوصات لأفراده ، فحينئذ تكون الخصوصات بأجمعها كدليل واحد ينافي مدلول العام ، نظير منافاة «لا تكرم فساق الأمراء ويستحب إكرام عدولهم» مع «أكرم الأمراء» ، فإن من الواضح : امتناع معاملة الأعم والأخص معها ، وتخصيص «أكرم الأمراء» بهما ؛ لعدم بقاء مورد له بعد تخصيصه بهما ؛ لأنه بمنزلة «لا تكرم الأمراء» ، ومن المعلوم : تعارضهما تباينيا ، فلا محيص عن معاملة التعارض التبايني معهما كسائر المتعارضات المتباينة.

(٤) عطف على «الترجيح» ، وضميره راجع إلى «الترجيح» ، وضمير «بينهما» راجع إلى العام والخصوصات.

(٥) أي : فلو رجّح جانب الخصوصات ، وهذا بيان كيفية معاملة التعارض التبايني مع العام والخصوصات ، وحاصله : أنه لو رجّح جانب الخصوصات لرجحانها أو اختيرت بدون الرجحان من باب التخيير ، فيسقط العام عن الاعتبار ؛ لعدم بقاء مورد له حتى يمكن العمل به ولو أخذ بالعام ترجيحا أو تخييرا ، فلا تسقط به الخصوصات إلّا خصوص الخاص الذي يلزم من تخصيص العام به محذور تخصيص الأكثر ؛ كتخصيص

٣٣٨

ترجيح ـ فلا مجال للعمل به أصلا ، بخلاف ما لو رجّح طرفه أو قدّم تخييرا ، فلا يطرح منها (١) إلّا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور (٢) من (٣) التخصيص فإن (٤) التباين إنما كان بينه (٥) وبين مجموعها لا جميعها (٦) ، وحينئذ (٧) فربما يقع التعارض

______________________________________________________

«أكرم الأمراء» في المثال المذكور ب «لا تكرم فساقهم» لكثرة الفساق ، بخلاف تخصيصه بالخاص الآخر وهو «يستحب إكرام الأمراء العدول» فيخصص العام به ويطرح «لا تكرم فساقهم» ، ولا يخصص به «أكرم الأمراء» فإن مقتضى لزوم تقدير الضرورات بقدرها ـ وحجيّة كل واحد من الخصوصات بنفسه لشمول دليل الحجيّة له ـ لزوم التخصيص ببعضها الذي لا يلزم المحذور المذكور من التخصيص به وطرح غيره ؛ مما يلزم هذا المحذور منه.

(١) أي : من الخصوصات وضميرا «به ، طرفه» راجعان إلى «العام» ، وضمير «طرحه» راجع إلى الموصول في «ما لا يلزم».

(٢) بالرفع فاعل «يلزم» ، واللام فيه للعهد الذكري أي : محذور تخصيص الأكثر.

(٣) ظرف لغو متعلق ب «يلزم» ، وضمير «بغيره» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المطروح.

(٤) تعليل لقوله : «فلا يطرح منها ...» الخ ومحصله : أن وجه طرح الخاص ـ الذي يلزم من تخصيص العام به محذور تخصيص الأكثر ـ هو أن التباين إنما كان بين العام وبين مجموع الخصوصات من حيث المجموع لأنه المعارض للعام ، لا بينه وبين كل واحد منها حتى يجب طرح الجميع ، فاللازم حينئذ : طرح المجموع وتخصيص العام بخاصّ لا يلزم من تخصيصه به المحذور المذكور ، وطرح الخاص الذي يلزم من التخصيص به ذلك المحذور.

(٥) أي : بين العام وبين مجموع الخصوصات ، لا بين العام وجميع الخصوصات.

(٦) والفرق بين المجموع والجميع : هو لحاظ مجموع الخصوصات مخصصا واحدا وليس المعارض للعام كل واحد من الخصوصات حتى يلزم طرحها أجمع على تقدير العمل بالعام ؛ بل المعارض هو المجموع الذي يتحقق طرحه بترك العمل ببعض الخصوصات. فلو عمل بالعام وخصّصه ببعض الخصوصات صدق عليه طرح المجموع ، وإن لم يصدق عليه طرح الجميع لأن الجميع عنوان مشير إلى آحاد الخصوصات ، بخلاف المجموع الذي هو عنوان لعدة أمور يكون لهيئتها الاجتماعية دخل في الحكم.

(٧) يعني : وحين عدم طرح جميع الخصوصات ـ ولزوم الأخذ ببعضها وتخصيص

٣٣٩

بين الخصوصات ، فيخصّص ببعضها ترجيحا أو تخييرا (١) فلا تغفل.

هذا (٢) فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (٣) ، وقد ظهر منه (٤) حالها فيما

______________________________________________________

العام به ـ ربما يقع التعارض بالعرض بين الخصوصات ، كما إذا ورد : «أكرم الأمراء ، لا تكرم فساق الأمراء ، يستحب إكرام العدول منهم» ، فإن تخصيص العام بهما مستلزم لعدم بقاء مورد للعام ، فيقع التعارض التبايني بين العام ومجموع الخاصين ، ولا بد من العلاج. فإن طرحنا العام وعملنا بالخاصين فهو. وإن قدمنا العام لم يجز طرح الخاصين معا كما لا يجوز العمل بهما.

أما عدم جواز طرحهما معا : فلأنهما حجتان ، وما يكون مزاحما للعام واحد منهما لا كلاهما ؛ لأن منشأ عدم بقاء مورد للعام هو العمل بهما معا ، وحينئذ : فالعام حجة بمقتضى أدلة العلاج ، وأحد الخاصين حجة أيضا بمقتضى الأدلة ، فيقع التعارض بالعرض بين نفس الخاصين من جهة تعذر العمل بهما معا.

ومعنى التعارض بالعرض : هو العلم الإجمالي بعدم شمول أدلة الاعتبار لكلا الخاصين ، وأن الحجة منهما أحدهما لا كلاهما. وفي مثله تصل النوبة إلى رعاية قانون التعارض ، فإن كان أحدهما أقوى دلالة قدّم على الآخر كما في «يستحب إكرام الأمراء» فإنه أظهر في الاستحباب من ظهور «لا تكرم الأمراء» في الحرمة ، وإن لم يكن لأحدهما مزية بقوة الدلالة فالحكم هو وجوب الترجيح بالمرجحات إن قلنا بوجوبه ، أو التخيير في تخصيص العام بأحد الخاصين إن لم نقل بوجوب الترجيح كما هو مختار الماتن «قدس‌سره».

وهذا مقصود المصنف من قوله : «فربما يقع التعارض بين الخصوصات».

(١) الترجيح فيما كان له مرجّح ، والتخيير فيما لم يكن له مرجّح أو قلنا بالتخيير مطلقا حتى مع وجود المرجّح ؛ لكون الترجيح مستحبا لا واجبا.

(٢) أي : ما ذكرناه من ملاحظة النسبة بين الظهورات يكون فيما إذا كانت النسبة بين الأدلة المتعارضة متحدة ، كما إذا كانت النسبة بينها أخص مطلقا كقوله : «أكرم الأمراء ، ولا تكرم الكوفيين منهم ، ولا تكرم البصريين منهم» ، فإن النسبة بين كل واحد منهما مع «أكرم الأمراء» أخص مطلقا.

(٣) كالأمثلة المتقدمة ، فإن النسبة بينها متحدة وهي الأخص المطلق.

(٤) أي : قد ظهر مما ذكرناه في المتعارضات المتحدة النسبة ـ من ملاحظة النسبة بينها قبل العلاج ـ حال المتعارضات المتعددة النسبة في أن النسبة ملحوظة بينها قبل العلاج ، ولا تنقلب النسبة بينها بعد العلاج.

٣٤٠