الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

تلك الأبواب الثلاثة أو دخوله في أمر الرابع ويكون ممتنعا.

فذلك البحث قلنا في الأمر الأول انه لا فرق في المتأخّر والمتقدّم والمقارن في تقيّد الواجب ـ وهو متعلّق التكليف ـ سواء كان القيد والمقيّد داخلا أو القيد فقط داخلا والمقيّد خارجا ، ليس المراد من تأثيره فيما قيل إنما المراد من عدم الفرق إنما هو إذا كان مؤثّرا في ظرف وجوده كما في بيع السلم وغيره والفضولي بالنسبة إلى النقل.

ولا فرق بالنسبة إلى متعلّقات التكليف أو موضوعات الأحكام وضعا كان أو تكليفا ، ولا نزاع فيه أصلا إنما النزاع في الأحكام وضعا وتكليفا إنما هو بالنسبة إلى الكشف في الفضولي وبالنسبة إلى الغسل على القول في تأثيره في الماضي قسمين : قسم خارج عن محل النزاع ، وقسم داخل في محل النزاع ، وهكذا بالنسبة إلى الأمر الثاني ليس اذا في صورة الإضافة يكون من محل البحث مثل التعقّب ، فانّ التعبير بهذا اللفظ ناشئ من ضيق العبارة بل المراد من الإضافات كلّما كان من شأنه التصرّم والتفصّي بحيث يكون المتحصّل من الجزءين عنوانا لهما في ظرف وجودهما كالصوم مثلا فانه عنوان كلّي منتزع من تمام الأجزاء ، الزمان المتأخّر علّة لصوم الزمان المتقدّم بمعنى التأثير في زمانه لا من الزمان المتقدّم فانه هو الذي يكون خارجا عن محل البحث بخلاف ما إذا كان مؤثّرا فيما قبله الفضولي على القول بالكشف فانه ليس داخلا في هذا القسم بل انه داخل على محل النزاع.

فكذلك المراد من العلّة الغائيّة هو أن العلم يكون مؤثّرا بمعنى

٢٦١

أن البعث إذا تعلّق بأمر إرادي يكون هذا البعث علّة له في التكوينيّات ويقال له : العلّة الغائيّة ، وإذا انبعث عن المولى إلى العبد في التشريعيّات يكون علّة التشريع فهو إنما يكون في القضايا الخارجيّة المنوطة بالعلم وخطأ هذا هو الذي خارج عن محل النزاع لكونها قضايا جزئيّة شخصيّة من دون أن يجمعها جامع ، بل الذي يكون دخل فيها هو العلم.

أما القضايا الحقيقيّة التي حكم به على موضوعاتها المقدّرة وجوداتها هذا الذي منشأ النزاع بأن الشرط المتأخّر هل يجوز أو يمتنع ، وأما المسألة الذي عنوان في الحقيقة في الأصول بأن الرضا التقديري لا يؤثّر فهو أيضا راجع إلى القضايا الخارجيّة ومجمل القول فيه هو أنه على ثلاثة أقسام ، مثلا إذا قال : أدخل يا زيد ، فانه قضيّة شخصيّة خارجيّة بزعم أنه صديقه ، والحال انه عدوّ له في الواقع وإذا دخل داره وأكل طعامه يحل له ولا يؤثّر عدم رضاه التقديري الذي هو عبارة عن عدم إذنه إذا علم.

وقسم يكون قيدا في الموضوع بأن يقول : يا زيد صديقي أدخل داري ، وقسم يكون العنوان موضوعا بأن يقول : يا صديقي أدخل داري ، وهذين وإن خلط بعض هذين بالرسائل العمليّة ولكن لا يجوز ، وعلى أيّ وجه كان على القول بأنه لا يعقل تأثير المتأخّر في بيع الفضولي كالإجازة في المتقدّم عليه فيمنع ، إنما هو على الكشف ، ولكن عن فخر المحققين الفرق بين الفضولي السلم بأن حقيقة النقل عبارة عن رفع شيء عن موضوعه ووضعه إلى موضوع آخر إنما هو يتحقق بالنسبة إلى السلّم لكون النقل فعل المالك فقد صدر منه غاية الأمر تسلّم المبيع في الزمان المتأخّر

٢٦٢

متممه فقد يؤثّر أثره في ظرف تحققه بخلاف بيع الفضولي والعقد فيه وإن كان سببا للنقل والانتقال إلا أنه وقع من غير المالك والذي وقع منه ليس إلا الرضا المتأخّر عن العقد فيلزم أن يؤثر العقد المعدوم في الموجود الذي هو عبارة عن الرضا ، وهذا لا يتم إلا بالنقل لا بالكشف ، وهذا على مختاره ـ قدس‌سره ـ راجع إلى أصل جواز بيع الفضولي وعدمه وذلك أجنبيّ عن المقام فانّ النزاع في المقام إنما يتمّ بالكشف لا بالنقل.

وقد عرفت أن عدم تأثير المتأخّر في موضوع المتقدّم عليه وامتناعه إنما يتم بالكشف ، هذا هو المدعى ، وأما الدليل فنقول :

انهم اختلفوا في أن الأسباب مجعولات شرعيّة أو المسببات ، والحق هو مجعوليّة المسببات ، وقد عرفت في التعبّدي والتوصّلي فاذا كانت المجعولات هي الأحكام لموضوعاتها المقدّرة وجوداتها تكون لا محالة القضايا الحقيقيّة فتكون المجعولات الشرعيّة كالعلل التكوينيّة ، فكما لا يعقل تقدّم المعلول في العلل التكوينيّة كذلك لا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع في العلل الشرعيّة ، فانه لا يعقل كل ما يكون دخل في الموضوع يتأخّر عنه ولو كان المجعول هو الأسباب على خلاف التحقيق أيضا يلزم التخلّف كذلك.

إذا عرفت فنقول :

انّ الشرط على كلا المبنيين لا يعقل أن يتأخّر سواء كان المجعول الأسباب أو المسببات وإلا لزم التخلّف وهو محال ، فتأخّر الإجازة التي

٢٦٣

كانت هي شرطا غير معقول ، وقد قيل في تصحيح البرهان العقلي بأن الشرط يعني الإجازة ، فليس شرطا بل تعقبه عنوان منتزع من الجزءين شرط للعقد وهو مقارن.

توضيح ذلك :

انّ الأمر المنتزع و ـ هو الملكيّة ـ هو المطلوب ، فليس بإزاء أمر خارجي حتى يشكل بالعقل تأثير المعدوم في الوجود أو يكون دخل في الموضوع أن ما يتأثّر عنه بل هو أمر انتزاعي وهو الملكيّة ينتزع من العقد والإجازة من غير مدخليّة تقدّم أحدهما عن الآخر أو تأخّره عنه ، ولكن هذا وإن كان مستقيما في حدّ نفسه ولكن لا بدّ للدليل الذي يدل على جواز بيع الفضولي بذلك كما أشرنا إليه في الإضافات في الأمر الثالث ، وحينئذ فلا بدّ لنا بعد تصحيح الأدلّة على الجواز وعدم إمكان مساعدة البرهان العقلي واعتباره على ذلك الأمر الإضافي أن نقول بالكشف الحكمي ، كما ذهب إليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ بمعنى أن نقول :

انّ الإجازة قلّة من حينها والشارع قد يرتب آثار النقل من حين العقد ، والفرق بين ما اختاره صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بعد كونهما موافقا للكشف الحكمي هو أن الشيخ ـ قدس‌سره ـ يقول بأن مقتضى القاعدة هو النقل ، والدليل شرعيّ يدل على الكشف.

وذهب صاحب الكفاية بأن مقتضى القاعدة هو الكشف وإن لم يكن في البين دليل شرعي بتقريب ان الاثر الذي هو النقل والانتقال ، وإنما المالك أنفذ هذا العقد المنشأ في زمان العقد فليس مفاده إلا الكشف

٢٦٤

فلمّا يحتاج البيع بهذه الكيفيّة إلى إمضاء الشارع حتى يصحّ ترتّب الآثار عليه شرعا ، فيلزم البحث عن الدليل لصحّة هذا العقد ولزوم ترتّب الأثر عليه ، فقد يدل على ذلك حديث عروة البارقي وغيره من الأدلّة. هذا يمكن الإشكال عليه بعد كونه منفيّا في ذاته بأن إنفاذ المالك وإن وقع على ذلك الإنشاء ولكن وقع في ظرف الإنشاء لا في ظرف المنشأ فانّ ظرف الإنشاء هو حين العقد ، والمنشأ في زمان الإجازة فليس متحدا في الزمان الواحد.

فالحق كما اختاره الشيخ ـ قدس‌سره ـ فلا يقاس عليه سائر المركّبات التي تكون موجودة بتدريج كما في الصوم والصلاة وساير أبواب الفقه وإن كان قد لا يخلو من اختلاف من جهة انّ العلّة هي تمام الاجزاء للامتثال أو الجزء الأخير من المركّب.

هذا إذا كان القيد شرطا للمأمور به ، وكذلك إذا كان شرطا للتكليف ، وهذا تمام الكلام في الشرط المتأخّر.

فلنشرع في المقدّمة الموصلة فنقول :

هذا القيد قد وقع من صاحب الفصول ولم يسبق عليه أحد في ذلك إلا أنه أخذه من أستاذه صاحب الحاشية ولكنّه لم يصرّح بذلك صريحا بل قال في طيّ كلماته بأن المقدّمة واجبة من حيث الإيصال وإن أطنب الكلام في طيّ إن قلت ، قلت ، متعددة.

فعلى أيّ وجه كان فقد قال صاحب الفصول بهذه المقالة ، فالذي يمكن تصويره يعني يمكن أن يكون هذا القيد على أقسام ثلاثة :

٢٦٥

أحدها : أن يكون القيد قيدا للواجب ، يعني انّ الواجب من المقدّمة الموصلة.

والثاني : أن يكون قيدا للوجوب ، يعني يتعلّق الوجوب للمقدّمة إذا كان موصلة.

الثالث : أن يكون القيد والمقيد خارجان يعني الذي وقع في سلسلة إلى ذيها وهو الواجب.

فالذي يكون مراد صاحب الفصول من الموصلة هو ذلك المعنى وإن كان تصوّره مشكلا فأما لو صحّ ذلك كما أشرنا إليه في باب الحروف لما ورد الاشكالات التي وقع من الشيخ ومن تأخّر عنه على كلامه ، فقد عدل عن البحث مراعاة للترتيب والحق انّ البحث هو أن يذكر في التنبيهات بعد الفراغ عن أصل البحث ثم الشروع بالتنبيهات ، فنقول بعد تمهيد المقدّمات المذكورة :

لا إشكال في وجوب جميع أنحاء المقدّمة عقليّا كان أو شرعيّا ، سببا كان أو مقتضيا أو غيرهما ، والشاهد لها الوجدان الحاكم بها ، فوجوبها إما استقلاليّة شرعيّة أو تبعيّة قهريّة وإن كانت الثمرة وإن لم يكن الثمرة ، وإذا أمر المولى بشيء فالمقدّمة مندكة في ذيها ولو كان خطأ لا يريدها ولا يعقل إرادة شيء وعدم إرادة المقدّمة لثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل وبين الطلب المتعلّق بمقدّماته وإلا يلزم الخلط ، فالوجوب يعرض المقدّمة إذا كان الواجب نفسيّا بسبب ملاك الواجب وأما الوجوب الذي أنكره المشهور فهو ليس هذا الوجوب الذي أردناه فانه لازم الوجود فلا يعقل إنكاره لاتحادهما.

٢٦٦

ومنها : تقسيم المقدّمة إلى العقليّة والشرعيّة والعادية.

فالعقليّة هي ما يتوقّف وجود الشيء عقلا عليه كالعلوم النظريّة فانّ حصولها على وجه النظر موقوف على العلم بالمقدّمات ضرورة امتناع حصول العلم بدون العلّة المقتضية لذلك.

والعادية : هي ما يتوقّف وجود الشيء عادة عليه كنصب السلّم للصعود على السطح فانّ العقل لا يستحيل عنده الصعود عليه بدون ذلك كأن يطير مثلا إلا أنه خرق للعادة.

والشرعيّة : هي ما يتوقّف عليه الشيء شرعا كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة فانها موقوفة عليها شرعا إذ لا توقّف للحركات المخصوصة وجودا ولا عدما على الطهارة كذا يقال.

والتحقيق : انّ المقدّمة الشرعيّة مرجعها إلى المقدّمة العقليّة.

بيان ذلك : انه لا يخلو الأمر من وجهين :

أحدهما : أن تكون المقدّمة المذكورة من القيود المعتبرة للمأمور به شرعا أو غير ذلك كأن يكون المأمور به في قوله : «صل» هي الصلاة المأخوذة مع الطهارة.

الثاني : أن لا تكون من القيود المأخوذة فيه على التقديرين ، فالمقدّمة الشرعيّة مقدّمة عقليّة ، أما على الأول فلظهور امتناع حصول المقيد بدون القيد ، فايجاد القيد مما يتوقّف عليه إيجاد المقيد. وأما على الثاني فلأن الفعل الصادر من الفاعل وإن كان بحسب الذات هي الحركة الخاصة إلا أن من المعلوم اختلاف وجوهها ، ومن الممكن أن يكون

٢٦٧

وقوع الخاصة على وجه خاص مما يتوقّف على وجود الطهارة ، فلو كان المأمور به هو الفعل على ذلك الوجه الخاص يمتنع حصول الفعل في الخارج على الوجه المذكور بدون الطهارة.

وإذا عرفت ما قلناه فاعلم انّ من المحقق في مقامه انّ الأحكام الوضعيّة مما لا تقبل الجعل فانها أمور واقعيّة قد كشف عنها المطّلع عليها ، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أن الشارع قد كشف عن توقّف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة فالصلاة الواقعيّة مما يمنع حصولها بدون حصول شرائط فمرجع المقدّمة الشرعيّة إذا لم يكن على وجه التقييد أيضا إلى مقدّمة عقليّة وذلك أمر ظاهر بعد الاطلاع على ما هو المحقق في محلّه ولا خفاء في دخول الأقسام الثلاثة كلّها في النزاع.

ومنها : تقسيمها إلى مقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب ، ومقدّمة العلم ومقدّمة الوجود.

والتحقيق : كما اختاره الشيخ رجوع الثلاثة الأول إلى الأخيرة فانّ وجود الصحّة والوجوب والعلم موقوف على مقدّماتها إلا أنهم لاحظوا الموصوف بهذه الأوصاف فاعتبروا تقسيم المقدّمة بالنسبة إليه ملاحظا فيه حال تلك الأوصاف فما يتوقّف عليه وجود ذلك الموصوف هي مقدّمة الوجود وما يتوقّف عليه الأمر هي مقدّمة الوجوب وما يتوقّف عليه الصحّة هي مقدّمة الصحة ، وما يتوقّف عليه العلم هي مقدّمة العلم ، والأمثلة ظاهرة كنصب السلّم والاستطاعة والطهارة وإيقاع الصلاة في

٢٦٨

أربع جهات عند اشتباه القبلة ، ثم لا شكّ في دخول مقدّمة الوجود في النزاع وخروج مقدّمة الوجوب إذ لا يعقل أن يكون مقدّمة الوجوب واجبة لأن وجوب ذيها متفرّع على وجودها ، فما لم يوجد لم يتحقق وجوب وعلى تقدير وجوده لا يعقل وجوبه لامتناع طلب الحاصل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون مقدّمة الوجوب فقط أو كانت مع ذلك مقدّمة للوجود أيضا ولا كلام في دخول مقدّمة الصحّة أيضا ، وهل المقدّمة العلميّة داخلة في النزاع مطلقا أو فيما كانت خارجة عن حقيقة الواجب ولم يحتمل أن يكون هو الواجب كمسح جزء من الكعبين وغسل جزء من الرأس وما فوق المرفق للعلم بحصول الواجب منها.

وأما إذا كانت المقدّمة العلمية مما يحتمل مدخليّتها في حقيقة الواجب شرطا أو شطرا ومن جهة احتمال كونها نفس الواجب فلا خلاف فيها لأنها من موارد القاعدة التي قد اجمع الكل عليها من أن الشغل اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة أو تكون خارجة عن النزاع مطلقا لقطع العقل بوجوبها مطلقا وجوه بل أقوال.

والتحقيق : أن يقال انه لا ينبغي النزاع في المقدّمة العلميّة مطلقا بل ينبغي أن يكون وجوبها مفروغا عنه على تقدير وعدم وجوبه كذلك على تقدير آخر.

توضيح ذلك : انّ الواجب المتنازع فيه في المقام ان كان المراد به ما يترتّب على فعل الواجب المتّصف به الثواب وعلى تركه العقاب كما زعمه بعض ، فينبغي أن لا تكون المقدّمة العلميّة محلا للنزاع ، وإن

٢٦٩

كان المراد به الطلب الحتمي الذي يكشف عنه العقل على وجه يكفي في حامل التكليف نفس حكم العقل من دون مدخليّة لما يترتّب عليه من الثواب والعقاب ، فالمقدّمة العلمية مما لا ينبغي النزاع في وجوبها.

بيان الأول يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، فنقول : انّ الطلب يقع على وجهين :

أحدهما : أن تكون على وجه المولويّة وإن كان الداعي إلى الطلب ما يرتب على نفس الفعل بناء عند العدليّة من الملازمة.

الثاني : على جهة الإرشاد لا على وجه الآمريّة كما في أوامر الطبيب إلى المريض ولم يرض بتركه ، وعلى هذين الوجهين مما لا ينبغي أن ينازع فيه ، وعلى الأول ترتّب الذم والعقاب عند المخالفة إذا كان الآمر ممن له أهليّة ذلك ، والمدح والثواب عند الإطاعة ، وعلى الثاني ما هو مترتّب على نفس الفعل المطلوب من النفع والضرر ، ومخالفة قول الطبيب لا يترتّب عليها شيء عدا ما يترتّب على نفس ترك النفع كالتبريد ولا يترتّب على مخالفة أمر الطبيب شيء بحسب الهيئة بخلافه إذا كان الأمر على وجه المولويّة.

وإذا تقرر ذلك فاعلم انّ الإتيان بالمقدّمة العلميّة في مورد الاحتياط إنما هو لتحصيل العلم بوجود ما هو المأمور به في الواقع والعلم بوجوب الامتثال وإن كان عقليّا إلا أن ذلك الوجوب عقلي إرشادي لا يترتّب على امتثاله مصلحة زائدة على مصلحة المأمور به ولا على مخالفته عقاب آخر بترك المأمور به من حيث ترك المقدّمة ، فاذا

٢٧٠

كان حال ذي المقدّمة على هذه المثابة فكيف يعقل أن تكون المقدّمة مما يترتّب على تركه العقاب أو على فعله الثواب.

توضيح ذلك يحتاج إلى ذكر مقدّمة :

وهي قد يكون شيئا واحدا مصداقا لأمور متعددة باعتبارات مختلفة ومحكيّا عنه بحكايات متكثّرة بوجوه متفاوتة ، وهذه الأمور تنتزع من ذلك الشيء تارة في عرض واحد وعلى وجه لا ترتّب في انتزاع أحدهما عنه عن الآخر ، وتارة على وجه يكون انتزاع أحد العنوانين موقوفا على عنوان الآخر منه ، فلو فرضنا انّ الآمر تصوّر عنوان الإحراق المترتّب على عنوان الإلقاء وأراد وقوعه من المأمور في الخارج فلا بدّ من أن يطلب على ذلك الوجه والمكلّف إيجاده وامتثاله كذلك والعنوانين متحدين وجودهما في الواقع والترتيب إنما هو في لحاظ العقل وأما في الخارج فلا ترتيب ، وعنوان الإحراق مما ينتزع عن فعل الإلقاء وهو العنوان الأول.

وإذا علمت المقدّمة فنقول : انّ النزاع الواقع بينهم إنما هو في وجوب المقدّمة وعدمه في المقدّمات التي تباين ذيها في الوجود الخارجي والتحصّل الأصلي كما في مقدّمات الصلاة والصعود إلى السطح.

وأما المقدّمات التي متحدة مع ذيها وجودا وإن اختلف عنوانا وحكاية فلا ينبغي للعاقل الارتياب في وجوب هذه المقدّمات ، فانّ الأمر بالإحراق لا يعقل أن يكون ملازما لوجوب الإلقاء في النار بعد أن ذات الإلقاء عين ذات الإحراق ، والمقدّمة العلميّة من قبيل الثاني لا

٢٧١

الأول.

وبيان ذلك : انّ الواجب هو تحصيل العلم بالامتثال بالنسبة إلى الامر المعلوم بالإجمال المردد بين الأمور المتعددة ، والمقدّمة هي الصلاة بجهة خاصة ، ثم بجهة أخرى وهما وإن كانا متعددين بحسب المفهوم إلا أن مجرّد تعدد المفهوم الراجع إلى تعدد الاعتبار لا يجدي بعد الاتحاد في الحقيقة والذات ، فانّ إيقاع الصلاة في الجهات هو عين تحصيل العلم في الخارج ، إذ المزيد لتحصيل العلم بفراغ ذمّة ليس له بدّ من ذلك فانّ عين مطلوبه كما أفاده الشيخ ـ قدس‌سره ـ.

تنبيهات :

(الأول):

انه لا شبهة انّ المقدّمة في الإطلاق والاشتراط تابعة لذيها وذلك لأنّ وجوبها تبعي صرف ومن لوازم وجوب ذيها فتكون إرادة المقدّمة على نهج إرادة ذيها ، وقد عرفت أنها على قسمين ، أحدهما : ما يتحد مع ذيها وجودا ، والآخر : ما يباينه ، والمباين كان محلّا للنزاع كالصعود إلى السطح ونحوه ، وأما المقدّمة المفوّتة كان وجوبها لعدم تفويت الواجب في المتباين من المقدّمة.

(الثاني):

التنبيه فيما اختاره صاحب المعالم من المقدّمة وهي إرادة ذيها ،

٢٧٢

وذهب صاحب الفصول بالمقدّمة الموصلة ، وأبطله الشيخ مطلقا فانّ قيديّة الإيصال كانت للوجوب أو الواجب ، قسم المقدّمة على قسمين ، قسم لا يقتضي الحرمة في حدّ ذاتها ، وقسم يقتضيها كالمثال ، وفصل بينهما وقال : لو قصد التوصّل في القسم الثاني يخرج عن الحرمة بخلاف القسم الأول فانه لا يبقى على حكمه السابق بل يتّصف بالوجوب مطلقا ، ويردّ عليه فانظر في ردّه الصفحة في آخر مسألة الترتّب.

فنقول : انه لا إشكال في أنه إذا توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة فلا بدّ اما من خروج الواجب عن وجوبه ، واما من خروج المقدّمة عن الحرمة لأن وجوبه مع حرمة ما لا يجتمعان لعجز المكلّف عن امتثالهما ، فلو كانت المقدّمة أهم كنفس محرّمة يتوقّف انقاذها على تصرّف في مكان غصبي فيخرج المقدّمة عن الحرمة بخلاف لو دخل في المكان الغصبي بقصد التفرّج أو لم يقصد الامتثال في المقدّمة لا يخرج عن الحرمة كما انّ المستطيع إذا خرج عن البلد لمتابعة الحاج لا يخرج عن الإباحة بمجرّد توقّف الحج عليه يكون في حكمه السابق.

فالمقدّمة إما أن تكون مقدّما على ذيها زمانا خارجا كغسل الثواب للصلاة ، وكطيّ المسافة للحج ونصب السلّم للصعود على السطح ، واما أن يكون الاشتغال بها حال الاشتغال بذيها كترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر ، وكاغتراف في الآنية المغصوبة حال الاشتغال بالوضوء وانّ بين هذين المثالين فرق آخر لا كلام ولا إشكال فيما إذا كان دليل الوجوب مخصصا ـ يعني كان أحدهما أهمّ ـ لدليل الحرمة إذ لا مانع في ذلك لا عقلا ولا شرعا ، كما انه لا ينبغي أن يرتاب في

٢٧٣

عدم الوجوب إذا كان دليل التحريم مقدّما للأهميّة لدليل الوجوب.

وأما الصورة الأخيرة ـ يعني فيما لم يعلم مخصص أحدهما ، إلخ ـ فلا إشكال أيضا في وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة فيما أقدم المكلّف باختياره وكانت المقدّمة مفارقة لذيها زمانا ، إذ لا محذور على ذلك التقدير فان قبل وجودها لا تكليف وبعد وجودها لا توقّف للفعل الواجب على فعل المحرّم وليس في العقل ولا في الشرع ما ينافي ذلك.

أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلاشتراط الوجوب ـ ذي المقدّمة ـ شرعا بنفس المعصية بالمقدّمة ، فعند عدم الشرط لا تكليف بالمشروط من دون تعلّق التكليف والوجوب بالمقدّمة الوجوبيّة أيضا ـ وهو العصيان بالمقدّمة المحرّمة ـ وبعد وجود المعصية وحصول الشرط يجب المشروط ولا يعقل تعلّق الطلب بالحاصل فلا محذور أصلا.

إنما الإشكال فيما إذا توقّف الواجب على فعل محرّم مقارن له في الوجود كترك أحد الضدّين الموقوف عليه فعل الآخر وكالاغتراف في الآنية المغصوبة للوضوء الموقوف على ذلك في أثناء العمل ، فالمشهور سقوط التكليف في هذه الصورة فلو كان الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة واجبا ، فاما يكون وجوبه مشروطا بحصول الشرط أو مطلقا أو معلّقا ولا رابع بحسب الفرض والكل فاسد.

أما الأول فانه قبل زمان الاشتغال بالفعل فلا تكليف بالفعل عند عدم الشرط.

٢٧٤

وأما الثاني تكليف ما لا يطاق لكونه موقوفا لمقدّمة محرّمة ، فالمانع الشرعي كالمانع العقلي.

وأما الثالث فلأن الواجب المعلّق فلا ثمرة ، فهو إنما يثمر في غير ما هو المعلّق عليه لا يعقل التكليف بالفعل المعلّق عليه ... إلخ.

ذهب صاحب المعالم على ما يوهمه ظاهر عبارته في بحث الضدّ ، توقّف وجوب الغيري على إرادة الغير ، قال : بناء على حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها كما لا يخفى.

وبالجملة :

انّ وجوب المقدّمة ينحصر قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها فعند وجود الصارف وعدم الداعي إلى المأمور به لا دليل على وجوبها ، وردّه الشيخ أولا ثم أيّده ثانيا بحيث يلزم من كلماته التناقض والاضطراب.

قال ـ قدس‌سره ـ : أولا ونحن ما أعطينا الحجج الناهضة على وجوب المقدّمة حقّ النظر ، واستقصينا التأمّل فيها ما وجدنا رايحة من ذلك فيها ، كيف وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطه تابع لإطلاق وجوب ذيها واشتراطه ، ولا يعقل اشتراط وجوب الواجب بارادته إلى إباحة الواجب بارادته لأدائه إلى إباحة الواجب فيما يدل على وجوب ذيها عند عدم إرادته ـ المكلّف في المقدّمة ـ فهو دليل على وجوب المقدّمة أيضا والحجّة المفروضة القائمة على وجوب المقدّمة جارية بعينها حال

٢٧٥

الإرادة وعدمها من غير فرق في ذلك.

وبالجملة :

فلا إشكال في فساد التوهّم المذكور ، بل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيري لأجل التوصّل به إلى الغير أولا وجهان.

ثم اختار خلاف ما اختاره أولا ، وقال : أقواهما الأول ، بأنه لا إشكال في انّ الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا كما عرفت سابقا ، بل المقصود منه مجرّد التوصّل به إلى الغير.

ثم قال :

الثمرة بين القولين ، وإذا أتى المقدّمة لا بقصد التوصّل يلزم على المكلّف اعادته ـ المقدّمة في العبادي ـ على القول بلزوم قصد التوصّل ذي المقدّمة والإيصال.

وعلى القول الآخر ينتفي قول صاحب الفصول لا يلزم الاعادة فيه ، فعلى الأول لم يمتثل للأمر الغيري قطعا ، ولما كانت المقدّمة العبادية ليست حالها مثل تلك المقدّمات في الاكتفاء بذات المقدّمة عنها ، وجب اعادتها كما في غيرها من العبادات ، أما الغير العبادي ، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت مقدّمة لإنقاذ الغريق بل يقع واجبا سواء ترتّب على الغير أو لا.

٢٧٦

فان قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق ، كذا أفاده ـ قدس‌سره ـ على قول وعلى الأول ما اشتبهت القبلة في جهات ، وقلنا بوجوب الاحتياط كما هو التحقيق ، فلو صلّى في جهة غير قاصد بالإتيان بها بالجهات الباقية على ما اخترناه يجب عليه العود إلى تلك الجهة.

وعلى الثاني يجزي في مقام الامتثال ، وقد نسب الثاني إلى المشهور ، انّ كلمات الشيخ كان في تقريراته مضطربا لا يليق نسبته إلى الشيخ إلا أن بعض عباراته يؤول بما ذكرنا لا يستقيم ما في فقراته لا فقها ولا أصولا مما ذكر من الأمثلة.

ومن الأمثلة التي ذكرها الشيخ في المقام كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق الموقوف على تحصيل الثمن ولكنّ العبد حصل الثمن لا لأجل شراء اللحم بل بواسطة ما ظهر له من الأمور الموقوفة عليه ثم بدا له الامتثال بأمر المولى ، فيكفي له في المقام المقدّمة الثمن المذكور من غير إشكال في ذلك ولا حاجة إلى اعادته التحصيل ، إنما الإشكال في المقدّمة التي إذا كانت من الأعمال العباديّة.

٢٧٧

«الأمر العاشر» : «في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ»

الظاهر انه من المسائل الأصوليّة لكون البحث عن الملازمة بينهما ونتيجتها يقع في طريق الاستنباط ولا يختصّ بالمباحث اللفظيّة بل يعم منها واللبّي ، وادعوا القائلون بالاقتضاء بعضهم على نحو اقتضاء العينيّة بأن الأمر بالشيء عين النهي عن ترك الضدّ بعدم الفرق بين القول : «صل ، أو : لا تترك الصلاة» ، وفيه انّ قضيّة العينيّة لا بدّ أن يكون مفهومين متحدين كالإنسان والبشر وليس كذلك في ما نحن فيه فانّ مفهوم : «صل» مغاير مع مفهوم : «لا تترك الصلاة» ، وبعضهم انه على نحو التضمّن ، فالأمر بالشيء يتضمّن النهي عن ترك الشيء ، وفيه انه يلزم على ذلك عدم بساطة مفهوم الوجوب وهو غير صحيح.

نعم ؛ يمكن القول بالاقتضاء بالملازمة دعوى اللزوم على نحو الالتزام فمعنى تصوّر الوجوب يوجب التزام تصوّر المنع من الترك.

ثم انّ المستدلّين بالاقتضاء يستدلّون بطريقين :

الأول : بطريق الاستلزام بأنّ الأمر بالشيء يستلزم وجوب عدم ضدّه بقضيّة التوافق بين المأمور به وبين عدم ضدّه بأنه إذا كان الشيء واجبا ليكون عدم ضدّه أيضا واجبا فيكون حينئذ وجود ضدّه محرما ، وهو المقصود الثاني بطريق المقدميّة بأن عدم الضدّ مقدّمة لوجود المأمور به لأن مقدميّة الواجب واجب فيكون وجود ضدّه منهيّا عنه ، فالأمر بالشيء

٢٧٨

يقتضي النهي عن ضدّه ، وهو المقصود ، وفي كلا الطريقين نظر :

أما الأول : لا بدّ أن يلتزم القائل به أن يكون كل أمر مجعول من الشارع مركّبا من أمر ونهي مع كون الأوامر بسائط مفهوما ، وحينئذ فيكون مع الإطاعة ثوابين ومع المخالفة عقابين ، وإلا فلا معنى للنزاع ولا يساعده الشرع ولا العرف والعقل ، وأيضا انّ المتلازمين لا يلزم أن يكون متوافقين في الحكم لا بدّ منه أن يكون متخالفين في الحكم بأن يكون أحد الضدّين واجبا ، والآخر محرما ، وأما التوافق فلا ، بل يمكن أن يكون أحد المتلازمين محكوما بحكم ملازمه أصلا هذا ولكن يمكن أن يقال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق بناء على كونهما وجوديين فانّ قضيّتها الممانعة وذلك ليس إلا من المقدّمات عند الخصم.

وأما الثاني : انّ المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلّة ، فانّ العلّة التامّة مركّبة من وجود المقتضى كالنار ووجود الشرط كالمحاذاة وعدم المانع كالرطوبات وهو لا يكون إلا بعد تحقق المقتضى حتى يكون عدم الشيء مستندا إلى وجود المانع كوجود النار المقتضى مع ملاقات المحل ، ووجود الرطوبة في المحل مانع عن الإحراق فيكون متأخّرا عن وجود المقتضى والشرط ، وهو يصدق عدم الشيء ـ الإحراق ـ مستندا إلى وجود المانع ولا يكون الشيء مانعا عند عدم المقتضى أو الشرط.

فانه وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضى للضدّ الآخر فلا يكون للمانع حينئذ وجود عند عدم المقتضى والشرط فلا يمكن تحقق

٢٧٩

اقتضاء كل من الصلاة والإزالة في نفس المكلّف معا ، وفيما نحن فيه لا يمكن اجتماع مقتضى الضدّين لمضادّة مقتضاهما وبعد عدم إمكان اجتماع مقتضى الضدّين لا يمكن كون أحدهما مانعا عن الآخر ـ إرادة الصلاة والإزالة من شخص في آن واحد ـ.

والمانعيّة تكون موقوفة على فرض المحال ، ولا فرق بين المقتضيات التكوينيّة الخارجيّة عن قدرة المكلّف وإرادته وبين المقتضيات الإراديّة ، فانّ تعلّق الإرادة بايجاد كل من الضدّين محال سواء كانت الإرادة من شخص واحد أو من شخصين ، فلا يكون عدمه من أجزاء علّة وجوده فلا يجتمع القول بالمقدّمة مع القول بامتناع الاجتماع للنقيضين لوجود الآخر كان وجود أحد الضدّين علّة لعدم الآخر ، وذلك لأنه موجب لدعوى مقدميّة العدم للوجود للزوم الدور.

والحاصل : قد ظهر من جميع ما ذكرنا أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاص فيما كان للضدّين ثالث كما هو الغالب لا من طريق الملازمة ولا من طريق المقدّمة كما مرّ.

ثم انهم عدّوا للنزاع في الاقتضاء وعدمه ثمرات :

منها : فساد الضدّ بناء على الاقتضاء في العبادي وعدمه بناء على عدم الاقتضاء.

وعن البهائي إنكار هذه الثمرة والقول بالفساد لا يتوقّف على القول بالاقتضاء بل يكفي في الفساد عدم الأمر بالضدّ ، حيث انّ صحّة العبادة تتوقّف على الأمر بها وبعد ما لم يكن الضدّ مأمورا به لامتناع الأمر

٢٨٠