الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

بساطة المشتق وتلبّسه لأنه يلاحظ حال التلبّس بخلافه على القول بالتراكيب والأعم يستلزم الجمع بين الضدّين في آن واحد ليتصادق عنوان القائم والقاعد حقيقة وذلك ينافي وضعها للأعم فلا بدّ لوضع المشتق لخصوص التلبّس والمراد منه انّما هو بلحاظ حال التلبّس ولو انقضى عنه المبدأ ويجيء مستقبلا ، فيصدق حقيقة بلا عناية ومئونة زائدة بخلافه على القول بالتركيب.

الرابع :

انه على القول بالأعم لا يمكن الوضع له إلا على الجامع بينهما ولا يعقل الجامع لها لأن التلبّس موجب لوجود العرض والمبدأ ومنقضى عنه المبدأ فلا يعقل الجامع بين الوجود والعدم ولا بدّ من البساطة والوضع للتلبّس.

وبالجملة : فيدخل فيه جميع المشتقات ، فالتمسّك في المقام بصحّة السلب مما لا غبار عليه.

الخامس :

انه على القول بالأعم ، يستدل بالآيات المتعددة ، وذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي انّ الأوصاف العنوانيّة التي توجد في موضوعات الأحكام تكون على أقسام :

١٠١

أحدها :

أن يكون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة والمعرفيّة إلى ما هو في الحقيقة موضوع للحكم المعهوديّة بهذا العنوان من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.

ثانيها :

أن يكون للعنوان مدخليّة حدوثا وبقاء كما في مثل الوطي الجائز حيث انّ الحرمة تدور مدار فعليّة الحيض في كل زمان.

ثالثها :

أن يكون للعنوان دخل حدوثا فقط لأجل الإشارة إلى عليّة المبدأ للحكم مع كفاية صحّة جري المشتق عليه ولو فيما مضى كما في عنوان السارق والسارقة ، والزاني والزانية ، فلا بدّ أن يكون الحكم بلحاظ التلبّس في كلا القسمين بلحاظ التلبّس ولا يمكن أن يكون بلحاظ الانفصالات المفروض أن العنوان هو الموضوع للحكم ، فلا بدّ أن يكون الحكم بلحاظ إذ لو أخذ بلحاظ الانقضاء يلزم أن لا يكون العنوان تمام الموضوع بل كان لمضيّ الزمان دخل فيلزم الخلف.

أما استدلال الأعمى بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) بضمّه استدلال الإمام بها على عدم لياقة من عبد صنما أو ومنا لمنصب الإمامة والخلافة تعريضا بمن يتصدّى لها ممن عبد صنما مدّة

١٠٢

مديدة.

ومن الواضح توقّف ذلك على كون المشتق موضوعا للأعم وإلا لما صحّ التعرّض لانقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدّي للخلافة.

والجواب : منع التوقّف على ذلك ، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعا للمتلبّس فانّ الآية الشريفة في بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظيم خطرها ورفعة محلّها وانّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة ، ومن المعلوم انّ المناسب لذلك هو أن لا يكون المتقمّص بها متلبّسا بالظلم أصلا كما لا يخفى.

«الحمد لله ، وهو خير ختام»

١٠٣
١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

«الأمر في الأوامر»

الأمر الأول : في الأوامر :

لا بدّ في المقام من بيان أمور :

(الأمر الأول) :

فيما يتعلّق بمادة الأمر وقد ذكروا لها معاني متعددة ولكن لا تحصل لتلك المادة في المفهوميّة إلا بورود الهيئة عليها ، فالمادة بلا هيئة عبارة عن قابليّة صرفة فمعاني الأفعال أيضا إنما هو موادّها المتحصّلة جزء اسمي في المفهوميّة في ضمن هيئاتها ، والمبادئ إنما هو نفس المادة ومحض القوّة كالهيولى بالنسبة إلى الصورة.

(الأمر الثاني) :

في هيئة الأمر ، قد ذكر لها معان متعددة حتى عدّوها سبعة أو أكثر ، ومنها : الطلب والشأن والفعل وغير ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو أنه حقيقة في بعض معانيه ومجاز في غيرها ، كما في اللغة ، والتحقيق انه حقيقة في الطلب كما عن المصباح المنير وغيره

١٠٥

انّ الأمر بمعنى الطلب ، جمعه : الأوامر ، فانّ الأمر بمعنى الحال والشأن جمعه : أمور ، فرقا بينهما ، وعليه : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) هذا يتكلّم به الناس ، انتهى.

ولا يخفى انّ الأمر كسائر المشتقات ينحل عند العقل إلى جزءين مع ما هو من البساطة :

أحدهما : مستقل في المفهوميّة حاصل في نفسه الذي هو ركن المعنى ومعروض تلك الخصوصيّة إخطاريّا ، فانه جزء اسمي متحصّل غيره له من معاني الأفعال وانه ذات مادة مستقلّة بالمفهوميّة.

وثانيهما : غير مستقلّة بالمفهوميّة كسائر أداة المعروضة القائمة هي له لأحد طرفيها بالآخر ، أما حكاية من كونه من نفس الأمر لذلك أو افاضة لوجود النفس الأمرية بذلك أو نعتا ليس يتوجّه إليه الخطاب ، فالمادة بلا هيئة عبارة عن قابليّة صرفة كما عرفت.

(الأمر الثالث) :

انه لا فرق في الأمر بحسب المفهوم ومن حيث المادة صدورها من العالي أو من السافل سواء كان بعنوان الجدّ أم لا ، فالوجوب والاستحباب خارجان عن مفاد الأمر بحسب وضعه بل انهما منتزعان عن مفاده لا يعقل أن يكون عين معناه فانه متأخّر عنه ، وإن كان إطلاقه يقتضي الوجوب وفي استفادة الوجوب من الأمر وفيه أقوال :

١٠٦

الأول :

أن يستفاد من الصيغة من حيث الوضع لكونها موضوعة في اللغة للوجوب ، أو أنه ظاهر فيه بالانصراف لكونها أكمل أفراده كما اختاره المشهور.

الثاني :

انه يستفاد من الصيغة من حيث إطلاقه حكما واختاره المحقق الخراساني.

الثالث :

انّ صيغة الطلب قدر مشترك بين الوجوب والاستحباب فتكون لجنس الطلب من الفعل مع المنع من الترك وطلب والاستحباب عن طلب الفعل مع الرخصة في الترك ، فيكون مفهومها مركّبا من جنس وفصل مع وضوح بساطة المفهوم.

عدلوا عن هذا القول المتأخّرون وجعلوا المائز بينهما حقيقة واحدة مقولة بالتفكيك ، والإنصاف بأنه فاسد كسابقها فانّ الطلب لا يقبل الشدّة والضعف.

١٠٧

الرابع :

قول المختار وفاقا للنائيني ـ قدس‌سره ـ وهو : انّ الوجوب الوجوب يستفاد منها بضميمة حكم العقل.

توضيحه :

فانّ الهيئة وضعت للنسبة في إيقاعها على من يتوجّه إليه طلبه ليبعثه على الفعل بايقاع موجب ، فليست موضوعة للوجوب ، إنما الإشكال في طريق استفادته منها قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فيستفاد الوجوب منها بضميمة حكم العقل فلا يكون الوجوب أمرا شرعيّا حتى يكون مفاده بنفسه ينشأ بأمر شرعيّ ، وحيث كان الطلب من حيث الهيئة لإيقاع النسبة بداعي البعث والتحريك وفي بعض المقام قيام دليل متّصل أو منفصل على عدم لزوم الانبعاث عن البعث إذا كان للاستحباب وفي بعض المقامات لم يقم بقرينة متّصلة أو منفصلة ، فيكون المقام على ما هو عليه بحكم العقل بلزوم الانبعاث عن البعث بالوجوب ليس في اللغة إلا ثبوت منه قولهم الواجب بالذات والواجب بالغير فانّ معنى كونه واجبا بالذات هو ثبوته بكونه لنفسه لمكان اقتضائه إنه لا لعلّة خارجية تقتضي ثبوت معنى كونه واجبا غير ما هو ثبوت. الرابع في أنحاء الطلب من المعاني أو أكثر وعدّ منها الطلب والتعجيز والتهديد وغير ذلك ، وقد وقع البحث على ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، وقد علمت انّ الإنصاف انه لا وقع لهذا البحث في الهيئة فانها موضوعة لإيجاد نسبة المادة إلى معروضها

١٠٨

القائمة هي له كما في الهيئات المبنيّة للفاعل أو إلى غيره من دون أن تكون الهيئة مستعملة في أحد المعاني غير النسبيّة كسائر الأفعال من حيث الهيئة لكونه حرفيّا غير مستقل في المفهوميّة بعكس المادة.

(الأمر الرابع) :

في اتحاد الطلب والإرادة عند كثير من أصحابنا والمعتزلة وهو الطلب الإنشائي متحد مع الإرادة الإنشائية تارة استدلّوا بذلك انّ الإرادة من الصفات النفسانيّة الإنشائية كما كالتمنّي والترجّي وأخواتهما وأخرى استدلّوا بالاتحاد أيضا بأنّ الإرادة والطلب من الألفاظ المترادفة ، موضوعان بإزاء مفهوم واحد كالإنسان والبشر مصداقان للكلّي والطلب والمنشأ بلفظه كالطلب ، كذا عين الإرادة الإنشائيّة والوجدان شاهد به عند طلب شيء والأمر به.

وبالجملة :

لا يكاد غير الصفات المعروفة من التمنّي والترجّي والإرادة هنا صفة أخرى كالطلب حتى يكون مغايرا لها فلا محيص عن اتحادهما تارة يعبر به منه ، وأخرى بها وليست من الأفعال الاختيارية للنفس شيء كحركة النفس وتصدّيه.

وفيه :

انّ الإرادة من كيفيات النفس الغير القابلة للانشاء ، إذ الإنشاء عبارة عن إيجاد ، والإرادة غير قابلة لذلك فلا تكون من الصفات

١٠٩

المعروفة ، وإما يعبر به منه وأخرى بها فالاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز يمكن أن تكون الصفات المعروفة كلّها اختيارية بألفاظها الإنشائيّة كالطلب وانها كسائر المقدّمات السابقة عليها من التصوّر والتصديق والعلم وغير ذلك ، وإنا لا نجد من أنفسنا شيئا وراء الإرادة ما يوجب وقوع الفعل عنه والإرادة ليست من الأفعال النفسانيّة بل من كيفيّاتها ، فلو لم يكن هناك فعل نفسانيّ يلزم أن يكون الانبعاث بلا بعث فانّ الإرادة تحدث بعد التصوّر والتصديق ، ولتكذيب اللغة والعرف.

وبالجملة :

لا سبيل لدعوى الاتحاد مع تأخّر رتبة الطلب عن الإرادة ، فالمغايرة أوضح من أن تخفى.

ومما ذكرنا تندفع شبهة الجبر وهي انّ الإرادة ليست باختياريّة ولو كانت الأفعال معلولة للارادة فكانت الإرادة معلولة لمبانيها السابقة ولم يكن بعد الإرادة فعل من النفس ولا تصدق النفساني اختياري لكانت شبهة الجبر مما لا دافع لها وليس الفرار منها إلا القول بالمغايرة بين الإرادة والطلب وبالفعل الاختياري ليترتّب عليه الثواب والعقاب.

وأمّا بناء على المختار من أنّ وراء الإرادة والشوق المؤكد أمر آخر وهو عبارة عن قصد النفس نحو المطلوب والحركة إليه وهو مناط الاختياريّة وليس نسبة الطلب والتصدّي والإرادة نسبة المعلول إلى علّته حتى بعد المحذور بل النفس هو بنفسها مستقلا نحو المطلوب من غير علّة كما انّ نفس عدم التصدّي والكفّ عن الفعل مع الإرادة ، وهذا

١١٠

يكفي في اختياريّة الأفعال وعدم جبريتها.

وأما نفي التفويض بأنّ المفوّضين اختاروا بأنّ العلّة في بقاء الممكن يكفي حدوثا لا حاجة إليها بقاء.

وفيه :

انّ الممكن كما أنه يحتاج إلى العلّة حدوثا يحتاج إليها بقاء فيحتاج إلى الفيض ووصوله من المبدأ الفيّاض في كل آن ، هذا كلّه في إرادة العباد وأفعالهم التكوينيّة ، وكذلك الطلب والإرادة التشريعيّة بلا فرق ، غاية الأمر انّ الطلب في التكوينيات إنما هو عبارة عن تصدّي النفس بحركة عضلاته بها نحو المطلوب وفي التشريعيات عبارة عن تصدّي الآمر بالأمر وبعثه بحركة عضلاته نحو المطلوب.

نعم ؛ الفرق بينهما : انّ الإرادة التكوينيّة في طلب النفس وتصدّيها بالترجّح بعد تحقق الإرادة نحو الفعل أو عدم التصدّي والكفّ عن الشيء بعدم حصول الشوق المؤكّد في النفس بغير العلّية التامّة ولم يخرج عن الاختياريّة غايته انّ الشوق المؤكّد من المرجّحات لتصدّي النفس ، هذا كلّه في قبال الجبر.

ويظهر مما ذكرنا عدم التقسيم في بعض الكلمات ، الإرادة والطلب إلى الواقعي والإنشائي لوضوح انّ الإرادة من الكيفيات النفسانيّة الغير القابلة للانشاء إذ الإنشاء عبارة عن إيجاد الإرادة التي هي غير قابلة لذلك كما ذهب إليه النائيني ـ قدس‌سره ـ وهو الأقوى.

١١١

ثم انه قد عرفت من طيّ ما ذكرنا في المقام :

انّ الأمر من جهة المادة ليس موضوعا لمعنى كلّي كالواقعة ومفهوم عام جامع المعاني السبعة نحو جامعيّة الكلّي لمصاديقه بتصريح اللغويين في كتبهم ، انّ الأمر بمعنى الطلب وبعض معانيه جمعه الأوامر وبمعنى الحال والشأن وغيره جمعه أمور فرقا بينهما وعليه : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) فتكون حقيقة فيهما.

وانّ الأمر من جهة الهيئة ليس له وضع إلا لنسبة المادة إلى الذات فانها من أداة الحروف غير مستقل فانّ مفهومها في غيرها ولغيرها ، فوجوداتها النفسيّة هي بعينها الرابطيّة.

ولاحظ من المعاني المذكورة غير إيجاد النسبة كما أفاده بعض بأنّ لها معان متعددة حتى عدّ إلى أربعة وعشرين معنا ، بل أكثر ، ثم وقع التشاجر : هل انه مشترك لفظي أو معنوي إلى غير ذلك.

فالأمر باعتبار الهيئة موضوع بأنّ النسبة هي إيقاعها على من يتوجّه إليه طلبه لبعثه على الفعل فقط.

(الأمر الخامس) :

فيه فائدة ، وهي أنه : اختلفوا في أنّ الأصل في الواجبات هل التعبّدية أو التوصّلية أو أنه ليس ما يوجب أحد الأمرين وإنما المتعيّن عند عدم تبيّن شيء منهما من مرجعه الآتي بيانه ، هو الانتقال إلى ما يقتضيه الاشتغال أو البراءة ، وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ولا بدّ

١١٢

في تنقيحه من تقديم أمور :

«الأول» :

انّ التعبّديّة الواجب عن كونه وظيفة شرعيّة لأن يتعبّد ويتقرّب اليه سبحانه وتعالى ، والتوصّلية عبارة عمّا لم يعتبر ذلك ، وقد يطلق التوصّلي على الأعم من ذلك فيراد به ما يسقط التكليف به بمحض حصوله ولو مع عدم استناده إلى المكلّف أصلا أو بلا إرادة واختيار كما في حال النوم ونحوه ، بل وبالمحرم أيضا ، وغير خفيّ أنّ غاية ما يمكن من دعوى أصالة التوصّلية يتوهّم أنها قضيّة الإطلاق إنما هي بذلك المعنى الأخص المقابل لاعتباريّة التقرّب زعما برجوعه إلى تقييد المادّة بها ، اما بهذا المعنى الملازم للسقوط بما ذكر فلا بدّ من قيام دليل عليها وإلا فظاهر الخطاب هو تقييد المطلوب بكلّ من المباشرة والاختياريّة وما عدى محرّم على ما هو التحقيق عندنا من كفاية تعدد الجهة في تعدد متعلّق الحكمين وعدم تعلّق كل منهما بعين ما تعلّق الآخر باطلاقه به فضلا عمّا إذا قيل بعدمها.

أما المباشرة فلأن الكلام في ظهور الخطاب في اعتبارها يقع تارة في مقابل كفاية الاستنابة ، وأخرى في مقابل السقوط بفعل الغير فلا استناد إلى المكلّف أصلا. وظاهر انّ ما يلازم التوصّلية بالمعنى الأعم وإن كان هو السقوط على الوجه الثاني دون الأول ، إلا أنّ ظاهر الخطاب هو اعتبارها في مقابل كل من الأمرين ، ولكن على اختلاف طريق المسألتين في ذلك ومغايرة الإطلاق المقتضي لتعيينها في مقابل الاستنابة للاطلاق النافي للسقوط بفعل الغير بدونها فلا يرتضعان من ثدي واحد.

١١٣

توضيح ذلك :

إنّ الاستنابة حيث انها عنوان اختياري تصلح لتعلّق التكليف عند تعذّر المباشرة أو مطلقا ، فترجع كفايتها في عرض المباشرة إلى تعميم متعلّق التكليف ، وتكون هي النتيجة المترتّبة على حكومة دليلها على الدليل الظاهر في حصول المباشرة ، لا محالة وحينئذ فان قلنا بأنّ في البين جامع قريب عرفيّ يصلح أن يكون هو المطالب من المكلّف والمستعمل فيه هيئة الأمر وغيرها من الهيئات الأفعال ولو على سبيل عموم المجاز كما هو لازم القول بالمجازية النسبيّة إلى المستنيب بعلاقة التنزيل كانت أو التسبيب ، كان المتجه حينئذ رجوع التعميم المذكور إلى وجوب القدر المشترك بين الأمرين في مقام تقيّده بخصوص المباشرة ، وإن منعنا عن ذلك وقلنا بأنّ النسبة الناشئة عن الاستنابة حقيقة كانت أم مجازيّة وبأيّ عناية كانت فحيث أنها في طول النسبة إلى المباشر فلا يمكن أن تجمعها نسبة واحدة تكون هي المطالب بها من المكلّف والمستعمل فيه هيئة الأمر ونحوها على سبيل الحقيقة والعموم المجازي كما لا يخفى كان المتعيّن حينئذ رجوع التعميم المذكور إلى التنجيز بين الأمرين في مقابل تعيين المباشرة وعلى كل منها.

فالنسبة المذكورة ولو قلنا بعدم مجازيّتها وأغمضنا عن طوليّتها فلا أقل من انصراف المعنى المنشأ بهيئة الأمر عنها عند إطلاقها المقامي الراجع إلى انتفاء ما يوجب صرفها عن ظاهرها ، فضلا عمّا إذا قلنا بالمجازيّة أو منعنا عن الجامع المذكور والتزمنا عن كفاية الاستنابة بالوجوب التخييري وانّ ظهور الخطاب باعتبار المباشرة يكون أقوى كما

١١٤

لا يخفى.

وأما فعل الغير بلا اشتباه من المكلّف فحيث لا يعقل أن يتعلّق التكليف العيني المتوجّه الى المكلّف خاص القدر المشترك بين فعل نفسه وغيره ولا أحدهما المخبر ، فلا يعقل دليل السقوط عن تعميم المتعلّق بشيء من الوجهين ، وإنما يكون كاشفا لا محالة من ارتفاع موضوعه الذي يدور حدوثا وبقاء مداره بذلك وموضوعيّة للحكم كذلك ضرورة عدم تعقّل السقوط في مفروض المقام بغير ذلك وحيث انّ قضيّة اشتراط كل حكم بوجود موضوعه على حسب ما أخذ موضوعا له إنما هو اشتراط التكليف بمثل ازالة النجاسة أو أداء الدين ونحو ذلك فيما يصلح موضوعه بأن يرتفع بفعل الغير مثلا ، فعدم ارتفاعه به وهذا شرط آخر في ناحية البقاء زائدا على أصل الحدوث فبهذا الاعتبار يكون السقوط بفعل الغير منافيا لإطلاق الخطاب في مقابل اشتراطه بقاء بعدم قيام الغير به.

وبالجملة :

فالسقوط بالاستنابة يرجع إلى الخروج عمّا يقتضيه إطلاق الخطاب في ناحية التكليف بأحد الوجهين وبدونها إلى الخروج عمّا يقتضيه في ناحية التكليف من الوجوب المطلق المقابل للمشروط وبينهما من البون البعيد ما لا يخفى ، ولو فرضنا الدليل مجملا فاختلاف الدليل يسري إلى المقام أيضا لرجوع الأمر عند الشكّ في الاستنابة بناء على تسليم الجامع المذكور إلى العلم بوجوبه والشكّ في قيد زائد فيندرج فيما يكون تردد المكلّف به بين الأقل والأكثر تحليليّا لا خارجيّا ، وعلى المنع عنه الى

١١٥

العلم بتكليف مردد متعلّقه بين المعيّن والمخيّر ومرجعه أيضا إلى التحليلي بوجه آخر على ما بيّن في محلّه وبعد البناء على جريان البراءة في المقام وشمول دليل الرفع لمثل ذلك فينحل اليقين السابق حينئذ ولا يبقى مجال لاستصحاب التكليف المردد بعد الإتيان بالأقل المعلوم تعلّق التكليف به على ما حرر في محلّه.

هذا بخلاف ما إذا شكّ في السقوط بقيام الغير بدون الاستنابة فانه وإن كان جريان البراءة عند انتفاء ما يشكّ في اشتراطه التكليف به كما في مفروض المقام من التسالم عليها من مجاريها ، لكن حيث انّ الشك في المقام راجع إلى مرحلة البقاء وانتقاض اليقين السابق دون الحدوث الموجب لانحلاله كما في المفروض السابق فلا يصحّ دليل الرفع رافعا لموضوع الاستصحاب بل ينعكس الأمر ويرتفع به موضوعه كما في أشباهه فتدبّر.

وأما الاختياريّة ؛ فلأن النسبة الموضوعة لها هيئات الأفعال وان كانت باعتبار اشتراكها المعنوي بين المتعدّي واللازم بأنواعه الراجع بعضها إلى مقولة الانفعال والآخر إلى مقولة الكيف وغير ذلك مما لا دخل للاختياريّة في قيامها بمعروضاتها شاملة لها إذا كان قيام المبدأ بفاعله بغير إرادة واختيار منه على حدّ شموله الاختياري وكان القدر المسلّم من الانصراف الناشئ من كون المبدأ من مقولة الفعل القابل للانفعال ونحوه هو انصرافه عمّا إذا وقع الفعل بقهر قاهر على من يقوم به لكون النسبة حينئذ وقوعه عليه لا صدوره منه.

١١٦

أما إذا كان الفعل صادرا عنه بغير إرادة واختيار كما في حال النوم أو نحوه فانه لا مجال لدعوى الانصراف من مثله لا من جهة الهيئة لما عرفت من أنّ وضعها للقدر المشترك بين المتعدّي واللازم بأنواعه من المتواطي ، ولا معنى لدعوى الانصراف في مثله ولا من جهة نفس المادة إذا كان من مقولة الفعل المصطلح ، فانّ غاية ما يتوقّف عليه إضافتها إلى الفاعل هو صدورها منه.

وأما كونه بارادته واختياره وإن كانت نفس المادة بنفسها بتضمّنه له كما إذا كان التعظيم والتأديب ونحوها من العناوين القصدية ، فلا معنى للانصراف ، وإلا فليس إلى دعواه سبيل. ومن هنا تسالموا على شمول أدلّة الضمانات ونحوها بجامع واحد لا إرادي وغيره ، لقوله : «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» مطلقا لكنّها مضافا إلى امتياز متعلّقات التكاليف عن غيرها من جهة خلوّ غير الاختياري عن جهة الحسن أو القبح الفاعلي التي بها يتقدّم ملاك المطلوبيّة أو المبغوضيّة دون الضمان ونحوه كما لا يخفى.

فهيئة الأمر أيضا ممتازة عن هيئة الماضي ونحوه بأنّ النسبة موضوعة هي إيقاعها على من يتوجّه إليه طلبه مسوقة ليبعثه على الفعل بايقاع موجب للاختيار إليه وتوجّه إرادته نحوه ، فهذا بين الاعتبارين يتعلّق البعث بالإراديّ حتى إذا كان الدليل لبّيّا أيضا لأن المنكشف كذلك.

ويتوسّط الاختياريّة في جهة الانتساب لا محالة ويخرج غير الاختياريّ من الانطباق على المطلوب ويكون السقوط به كالسقوط بفعل

١١٧

الغير في كونه من باب ارتفاع الموضوع المتقدّم بيانه لا لحصول مصداق الواجب كما عرضه في الاستنابة ضرورة توقّفه على إمكان التعميم المتعذّر في المقام أيضا على ما تقدّم.

وأما غير المقدور بأمر مزاحم فهو وإن كانت القدرة أيضا كالاختياريّة في القيود اللاحقة من جهة الخطاب يرتضعان من ثدي واحد وكان الغير المقدور المذكور غير صالح بهذا الاعتبار لأن يطالب به ولو بدليّا مطلقا.

وعلى هذا يبتني خروج ما يزاحمه المضيق في زمانه عن إطلاق الموسع على ما حرر في محلّه ، ولكن حيث انه لا دخل للقدرة عند عدم أخذها شرطا شرعيّا في لسان الدليل إلا في ضمن الطلب دون المطلوب فلا تؤثّر المزاحمة إلا في سقوط الخطاب عن أحد المتزاحمين دون خلوّه عن ملاك الحكم ، ومن جهة حسنه الفاعلي فيكون مجزيّا بهذا الاعتبار من غير حاجة على قيام دليل آخر على ذلك ، ويصلح التعبّدية من هذه الجهة ، ولو قيل بعدم ارتفاع محذور التزاحم بترتّب أحد الخطابين على عصيان الآخر وإن كان خلاف التحقيق عندنا على ما حققناه في محلّه.

نعم ؛ لو كان التزاحم بحيث يوجب مضافا إلى عدم التمكّن عمّا يزاحمه خللا في حسنه الفاعل أيضا ، فهذا يلحق بغير الاختياري في جميع ما تقدّم ومورد اجتماع الأمر والنهي من ذلك.

أما على القول بعدم الجدوى لتعدد الجهة في تعدد متعلق

١١٨

الحكمين وترجيح جانب النهي فظاهر ، إذ بعد خروج الجهة المغلوبيّة عن ملاكيّة الحكم بأقوائيّة الأخرى كما هو المفروض فلا جدوى لها في حسن الفعل فضلا عن حسنه الفاعلي كما لا يخفى.

وأما على ما هو المختار عندنا في كفايتها من ذلك فلأن غاية ما يجديه في ذلك هو التخلّص عن أحد محذوري الاجتماع وارتفاع المانع عن إطلاق متعلّق الأمر عند عدم تنجّز النهي بذلك ، أما عدم مقدوريّته المجامع للمحرّم عند تنجّز حرمته فهو محذور آخر يترتّب البحث من مانعيّته من شمول الإطلاق وعدمها على الفراغ عن جهة الأولى بعد البناء على تبعيّة إطلاق متعلّق الأمر بمقدار مقدوريّته كما عرفت انه مبنيّ على مزاحمة المضيق لإطلاق الموسع ونحوه ولا بدّ حينئذ من تقييد متعلّق الأمر بما عدى المنجز حرمته بناء على الامتناع على ذلك فيستقيم حينئذ ما تسالموا عليه من دوران مانعيّة النهي مدار تنجّزه وغير ذلك مما لا مساس له بالامتناع من الجهة الأولى كما فصّل في محلّه.

ولمكان تلازم الجهتين إيجادا ووجودا فيسير قبح الفاعلي الناشئ عن تنجّز النهي إلى ما يجامع المبغوض ويمتاز عمّا يضادّ المضيق بذلك ولا يصلح بهذا الاعتبار للأمر الترتّبي أيضا مضافا إلى عدم المعقوليّة في المقام من حيث نفسه من جهة رجوعه إلى طلب الشيء على تقدير وجوده فيكون السقوط به كالسقوط بفعل الغير وغير الاختياريّ لا كالسقوط بما يضاد المضيق ونحوه كما لا يخفى ، وتمام الكلام موكول إلى محلّه.

١١٩

«الثاني» :

انّ الخصوصيّات الصالحة لأن يتخصص أولا ، يتخصص بها متعلّقات الأحكام لموضوعاتها ، لا يخلو إما أن يكون التخصيص بها وعدمه من الانقسامات اللاحقة لها بعناوينها الأوليّة من حيث نفس ذواتها بلا مدخليّة لأحكامها في ذلك أو يكون من انقساماتها الثانويّة اللاحقة على أجزاء علّتها.

وغير خفيّ أن ما يرجع إلى القسم الأول فلا يخلو معروض الحكم متعلّقة كان أو موضوعة بالنسبة إلى كل خصوصيّة يمكن أن يتخصص أولا يتخصص بها إما في إطلاقه بالنسبة إلى أمرين أو تقييده بأحدهما ولا يعقل إهماله في نفس الأمر بالنسبة إلى شيء منها مع علم الآمر به والتفاته إلى ما له دخل منها في عروضه ويتساوى وجوده وعدمه وما ينافيه ، هذا بخلاف ما كان من قبيل الثاني فانه بعد أن كان انقسام ما يعرضه الحكم إلى متخصص واللامتخصص بتلك الخصوصيّة مترتّبا على عروضه له منتفيا موضوعه في رتبة عروضه ، فيستحيل أن يرد هو على المتخصص على حذو ما يستحيل أن يتقدّم كل معلول على ما هو من أجزاء علّته ، وهذا بالنسبة إلى امتناع أخذ الخصوصيّة المترتّبة على الحكم كالعلم به وما يجري مجراه في موضوعه المتوقّف عليه فعلية ظاهرا ، إذ بعد أن كانت الخصوصيّة المذكورة متوقّفا تحققها في الخارج على الحكم ، وكذلك الحكم على حقق موضوعه ، فاتحاد جهة التوقّف من الجانبين في مرحلة فعليّة

١٢٠