الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

المخصصات اللبيّة إذا كان الخارج ما يصلح أن يكون قيدا في موضوع الحكم فيكون إحراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه وضيقه للمخاطب كالفسق والعدالة كقوله : انظروا إلى رجل قد روى حديثنا ، وعلم حلالنا وحرامنا ونظر في أحكامنا ؛ خذ بأعدلهما وأورعهما إذا وقع الخلاف في حكمهما لا يصلح التمسّك بالعام في الشبهة وإذا كان الخارج لا يمكن أخذه قيدا لموضوع لعدم كونه صالحا الخارج كما في قوله : اللهم العن بني أميّة قاطبة لا يحرز منهم فانّ إحراز انطباقه على مصاديقه صيغته للأمر كالسعادة والشقاوة.

ويظهر ضعف هذا الضابط بملاحظة ما ذكره الشيخ ـ رحمه‌الله ـ من الضابط كما عرفت في المقام.

ثم قال : هذا كلّه إذا علم الخارج من أيّ نحو من المخصص هل هو مما أخذ قيدا للموضوع كالعدالة والفسق أو مما يؤخذ في الموضوع كالإيمان والكفر والسعادة ، وأما إذا شكّ في ذلك بأنه لا يعلم من أيّ نحو كالعداوة وحينئذ يمكن أن يكون مثل العدالة بأن لا يصحّ التمسّك بالعام ويمكن أن يكون مثل الإيمان والسعادة بأن يصحّ التمسّك بالعام في المشكوك كما تمسّك بالعام بالعداوة كما في قوله : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي فانّ اليد يضمن إذا كان عاديّا خرج المأذون لبّا فيكون ذلك لم يفرق بين التخصيص اللفظي واللبّي في كون العام يعنون بالخاص مع انّ الأصل في اللفظي لا يعوّل بالعام بجريان الأصل العدمي في الموضوع.

٤٦١

وفي المقام يعوّل على المختار لأن الأصل العدم يعني عدم كونه مأذونا ملازم فيرتفع به الشك في الموضوع فيتمسّك بالعام ولا يجري الأصل فيما لم يكن للموضوع حالة سابقة في المخصصات اللفظيّة ، وحيث انّ المخصص لا يعنون العام مطلقا عند صاحب الكفاية في المنفصل والتخصص المتّصل كالاستثناء ، ويقول بجريان أصل موضوعي العدمي وينقح العام كما عرفت تفصيلا بليس الناقصة.

تنبيهات :

(الأول) : يظهر من بعضهم التمسّك بالعموم فيما إذا شكّ في فرد من غير جهة العموم كما إذا شكّ في صحّة الغسل أو الوضوء بمائع مضاف فيستكشف صحيحه بعموم قوله : أوفوا بالنذر ، إذا وقع متعلّقا بالنذر ، فيقال : انّ هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء لعموم قوله : أوفوا بالنذر ، وكل ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحا فيجب أن يكون الوضوء صحيحا.

أما الصغرى بالعموم ، وأما الكبرى فالقطع بأن ما ليس صحيحا لا يجب الوفاء به ، وقد شاء التمسّك بمثل ذلك في كلمات بعضهم كما لا يخفى على المتتبّع وهو فاسد جدّا.

واما إجمالا فانّ النذر وأمثاله من العناوين الثانويّة التي لا يرد إلا على محل يعلم قوله ولا يمكن استكشاف ذلك ، واما تفصيلا فلأن الأحكام الواردة في الشريعة على ضربين :

٤٦٢

(أحدهما) : لا يؤخذ ضدّه في موضوع ذلك الحكم كاباحة السكر وحرمة الخمر ووجوب الصلاة ونحوها ، فانه لا يعقل القول بأنه يباح السكر الذي ليس بحرام ، فانه في مقام إنشاء الإباحة التي في عرض الحرمة.

نعم ؛ يمكن تقييد موضوعه بأمر ذلك ليوجب الحرمة كأكل المسكر المضرّ مثلا.

(وثانيهما) : يؤخذ في موضوعه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوليّة كوجوب إطاعة الوالدين في الأمور المباحة أو الغير المحرّمة وكامضاء وصايا الميّت في غير الأمور المحرّمة وكاباحة أخ مؤمن في الأمور المباحة أو الغير المحرّمة.

وقد اصطلحنا على الضرب الأول بالعناوين الأوليّة والثاني بالعناوين الثانويّة ، فموضوع هذا الحكم أخذ فيه الجواز ، وليس الجواز ما يتفرّع وجوب النذر حتى يمكن استكشافه بالعموم بل يجب أولا إحراز الجواز مع قطع النظر عن لحوق هذا الحكم للموضوع ثم بعد ذلك التمسّك بالعموم في وجوب ترتّب آثاره.

ولو صحّ التمسّك بالعموم في المقام لم يبق لنا مشكوك من الأمور إلا ويمكن استكشافه من العموم ، كما إذا شكّ في جواز شرب مائع فيتمسّك بأدلّة استحباب القضايا الخارجيّة ، ونشير فيما لو أراده مؤمن وهو باطل جدّا كي لا يختلط عليك الأمر ، والموارد المتقدّمة فانها بعد تقاعدها متقاربة جدّا.

٤٦٣

(الثاني) : إذا علمنا أن زيدا مثلا مما لا يوجب إكرامه وشككنا بأنه هل هو عالم وخصص في هذا المورد أو ليس عالما فلا يخصص وبأصالة عدم التخصيص نقول : انه ليس بعالم ، ولو تردد شخص بين زيدين : أحدهما عالم ، والآخر جاهل ، وقال المولى : لا تكرم زيدا يحكم بأنه زيد الجاهل لأصالة عدم التخصيص ، فنقول : كل عالم يجب إكرامه بالعموم وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات المفهمة كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها لا ينجس المحل ، فان كان نجسا غير متنجّس يلزم تخصيص قولنا : كل نجس البسه.

(الثالث) : الحكم المتعلّق بالعام إذا علل بعلّة فانّ علمنا بعدم المطابقة عموما وخصوصا الحكم يدور مدار العلّة في التعميم والتخصيص كما إذا قيل : لا تأكل الرمّان لأنه حامض ، فيختصّ بالحامض منه ويعمّ الرّمان ، ومحال لتوهّم كشف الحموضة من العموم في المقام.

وأما إذا لم يعلم بالتخصيص يحكم بالمطابقة ، فكل الرّمان يحكم بالحموضة ، وذلك ظاهر في الجملة ، ولا بدّ من التأمّل في الموارد كيلا يشتبه الأمر فيها فتشخيصها موكول إلى نظر آخر ، وهو المسدد.

«البحث الخامس» :

في العام سراية الإجمال من المخصص إلى العام إذا كان المخصص مجملا كما عن الشيخ والأكثر ، فلا يستفاد شيء بوجه من الوجوه ، ولو

٤٦٤

كان العام مبنيّا من جهة أخرى لزم الأخذ لوجود المقتضى وانتفاء المانع فلا فرق بين أن يكون المبيّن أمرا معلوما من جميع الجهات ، كما إذا قيل : اقتلوا المشركين إلا بعض اليهود مثلا ؛ يجب الأخذ بعموم العام في غير اليهود ، وبين أن يكون أمرا مجملا ، كما إذا قيل : يجب الاجتناب من هذه الآنية إلا بعضها يثبت التكليف بتصريحه إجمالا فيها وإن لم يعلم المكلّف به شخصا فلا بدّ من الأخذ بالمعلوم فان اقتضى العلم الإجمالي ثبوت التكليف في الجميع كما هو التحقيق في مورد الشبهة المحصورة فهو وإلا فلا بدّ من العمل بمقتضى الأصول في ذلك المورد.

وبالجملة :

فالمراد من نفي الحجّية في العام المخصوص بالمجمل عدم الأخذ به في القدر الذي لا يمكن الاستكشاف ، وأما ما يمكن استكشافه تفصيلا كما في قولك : أكرم العلماء إلا بعض النحويين إذا كان البعض معيّنا عنده في اعتباره أو حكما لوجوب إكرام بعض النحويين في المثال المذكور ثم الأخذ بما تقتضيه القواعد المقررة في مثل المقام من لزوم الاحتياط في بعض الموارد والتخيير في آخر أو الرجوع إلى البراءة ، ثم اعلم أنّ الإجمال على قسمين :

(أحدهما) : أن يكون المراد مرددا من المتباينين كقولك : أكرم العلماء إلا زيدا مع اشتراكه بين الأقل والأكثر ، وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الأقل داخلا في الأكثر ، ويكون دخوله في الباقي معلوما كقوله : أكرم العلماء العدول ، وشكّ في العدالة هل هي الملكة أو حسن الظاهر ، فصاحب الملكة دخوله في العام معلوم أو يكون

٤٦٥

دخوله في المخصص معلوما كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، وشك في معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبائر فقط أو مرتكب الصغائر؟ ، فمرتكب الكبائر دخوله في المخصص قطعيّ ، والشكّ إنما هو في الزائد الثاني : أن لا يكون الأقل داخلا تحت الأكثر كقولك : أكرم العلماء إلا زيدين ، وتردد الأمر بين أن يراد من المخصص فردان من العلماء التسمية كل منهما زيدا أو فردا واحدا مسمّى بزيدين.

وعلى التقادير المخصص إما أن يكون متّصلا كالشرط والغاية ويدل البعض والصفة والاستثناء على تأمّل فيه كما ستعرف الوجه فيه أو منفصلا والثاني ظاهر ، وهذه صورته والحكم بالإجمال في صورة دوران الأمرين المتباينين في محلّه سواء كان التخصيص متّصلا أو منفصلا ، والوجه فيه ظاهر كما عرفت في أول البحث حيث انّ لفظ العام لا يستفاد منه شيء ما لم يكن بيان من العلم أو الظنّ المعتبر بما أريد منه ، والمفروض انتفائه.

وكذلك في صورة دوران الأمر بين الأقل الذي لا يشمله الأكثر سواء كان المخصص متّصلا لعدم ما يوجب البيان لا من اللفظ ولا من غيره.

وأما الأول فظاهر ، وأما الثاني فغاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ الأصل عدم خروج الأقل حينئذ بمنزلة المتباينين ، لا يقال : انّ خروج الواحد يقينيّ ، ولا يجري فيه الأصل ، فأصالة عدم خروج الأكثر سليمة عن المعارض.

٤٦٦

لأنّا نقول : ان المعلوم خروجه هو الواحد مفهوما ، والعلم بخروجه غير مجد ، وبعد ابتلاء الأصل الجاري في المصداق بالمعارض كما لا يخفى.

فان قلت : انّ الحكم بخروج فردين ، وإن كان متغايرين يشتمل على زيادة تخصيص في العام بخلاف الحكم بخروج فرد آخر فهو مخالف لأصل واحد والأول مخالف لأصلين.

قلت : لو سلّم ذلك يجدي فيما لو قلنا بأن توحيد الأصول يوجب الترجيح كما بيّن انّ ذلك مما لا يوجب له في غير الأدلّة الاجتهاديّة ، اللهم إلا بالقول بالأصول اللفظيّة منها لابتنائها على الظنون النوعيّة.

وأما إن كان التخصيص المتّصل كالشرط والغاية والصفة ويعدل البعض ، فالظاهر انّ الإجمال أيضا في محلّه لسريان الإجمال في العام ، فيسقط عن الاعتبار بالنسبة إلى تلك الافراد المشكوك فيها ، فيرجع فيها إلى الأصول ، وأما غيرها فالعام فيها مبيّن لا إجمال فيها لأن العدالة في قولك : أكرم العلماء العدول من القيود المعتبرة في الموضوع وإجمال المقيّد بعد إجمال القيد من الأمور الواضحة وكأن الموضوع في المقام هو نفس العدالة كما إذا قيل : أكرم عدول العلماء مع اشتباهها بين الوجهين.

وأما إذا كان التخصيص بالمنفصل كقولك : أكرم العلماء ، ثم قولك : لا تكرم فسّاق العلماء ، فمن القريب جدّا عدم سراية الإجمال منه إلى العام ، فيؤخذ في المعلوم المتيقّن للمخصص وهو المرتكب الكبائر ، ويدفع

٤٦٧

الزائد بأصالة عدم التخصيص فيؤخذ فيه العموم ولا وجه للرجوع إلى الأصول العمليّة ، وإن شئت تقول : انّ خروج أهل الكبائر بواسطة القرينة المعلومة.

وأما خروج غيرهم فغير معلوم ، والأصل عدم الخروج ، والفرق بينه وبين المتّصل هو أن العام في المتّصل لم يتم دلالته وظهوره على الافراد المندرجة فيه قبل الإتيان بالقيد ، فان المتكلّم ما لم ينتهي كلامه فكل قيد يأتي به فهو مأخوذ في موضوعه أو محمول بخلافه في المنفصل ، فانّ التخصيص فيه لأجل التعارض كسائر المعارضات بعد تماميّة الدلالات في العام ، فكما قامت قرينة على صرف الظاهر يجب التعويل عليها وإن نعلم بما هو القرينة ، فالأصل عدمه.

لا يقال : انّ الشكّ في المقام إنما هو في كون الشيء قرينة ، وهذا مما لا يجدي فيه الأصل إذا لم يعلم أنه لا يكون قرينة في زمان حتى يستصحب.

لأنّا نقول : أصالة عدم وجود القرينة مطلقا يجدي في المقام لما عرفت من أن العام ظاهر في جميع المراتب وعدم ظهوره في بعض محتاج إلى القرينة ، فأصالة عدم القرينة مجد ، ويتم في الجملة ، فلا يبعد الفرق المذكور كما لعلّه يساعد عليه العرف ، هذا كلّه في غير الاستثناء ففيه إشكال من حيث أنه لم يظهر كونه من المخصصات المتّصلة أو غير المتّصلة لا يتعدد دعوى الاتصال فيه أيضا فيلحقه حكمه.

٤٦٨

تذنيب :

إذا ورد مخصصات متعارضان كما إذا علمنا بتخصيص العام بأحدهما يقينا وعدم تخصصه بالآخر أيضا ، فان أمكن الترجيح فهو وإلا فالحكم فيه ما عرفت في المخصص المجمل ، فيجب الرجوع في محلّ الاستثناء إلى الأصول إن قلنا به وإلا فيخيّر بينهما ، فتدبّر.

«البحث السادس» :

في العام في أنه هل يجوز التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصص فيه خلاف الحق عدم الجواز ، وعليه الشيخ ، ومن المحققين بل ادّعى عليه الإجماع كما عن النهاية وحكى عن ظاهر التهذيب الجواز وتبعه العيدي والمدقق الشيرواني وجماعة من الاخباريّة ، وغيرهم.

أما الإجماع والتزموا به بالبحث والتفتيش قد استقرّت أرباب الفتوى والاجتهاد في طلب المعارض للعمومات ، ولا يجوزون البدار في الفتوى بمجرّد عموم الرواية بل إتعاب أنفسهم في تحصيل المدارك بعد الفحص الأخذ بالعمومات.

وثانيا : الاختيار الدلالة على أن في الكتاب والسنّة عاما وخاصّا ومطلقا ومقيّدا يدلّ على أنه يجب الأخذ بالعموم والإطلاق ، ولكن ضرورة لا يكون ذلك إلا بالعلم والفحص عن المخصص والمقيّد ، ثم انّ العمومات التي بأيدينا اليوم في الأخبار يحتمل تخصصها من وجهين :

أحدهما : من حيث العلم الإجمالي بوجود مخصصات لها في

٤٦٩

الأخبار التي يمكن الوصول إليها في زماننا وغيرها من الإمارات الظنّية على تقدير القول بها.

وثانيهما : من حيث ورود التخصيص عليه في الواقع مع عدم وصوله إلينا.

والاحتمال الثاني شكّ بدويّ ليس فيه علم إجمالي ويعلم في دفعه بأصالة عدم التخصيص له من المعارض ، والاحتمال الأول حيث فيه علم اجمالي لا يعول بالعام الّا بعد الفحص له يستكف واقعه ويعلم أنه هل هو من العمومات التي خصصت أو من غيرها أو المفروض دعوى العلم الاجمالي فيما هو المخصص بأيدينا ، وما يمكن لنا الوصول إليها من المخصصات بالفحص من حيث تشخيص الواقع لا من حيث إجزاء أصالة عدم المخصص لأن الجهة البدويّة غير محتاجة إلى الفحص والجهة مسبوقة بالعلم الإجمالي تصير معلومة له للتخصيص تارة ومعلوم العدم أخرى كما لا يخفى.

ثم الكلام حيث كان في وجود المانع عن العمل المقتضي ، فانّ العام مسلّم الحجّية ، فلا يتوهّم حينئذ أن يكون الكلام والنزاع في حجّيته ذلك إلا على الإطلاق حتى يحتاج إلى إثبات الحجّية كما توهّم في أن النزاع إنما هو في حجّية العام قبل الفحص عن المخصص ، فقال : لا دلالة مع العلم الإجمالي ، وظهور كلامه في نفي الدليل على اعتبار أصالة الحقيقة عند العلم الإجمالي.

٤٧٠

ثم قال : هذا التوهّم انّ هذا الدليل بعينه يجري في ساير الأدلّة الظنّية سواء كان ظنّية من حيث السند كخبر الواحد أو من حيث المتن كالأمر والنهي والمطلق والمقيّد ، وغيرها من الظواهر اللفظيّة ، كما قد يتوهّم أن مرجع النزاع إلى جواز العمل في المقام بأصالة الحقيقة قبل الفحص عن القرينة.

وفيه :

انّ الأصول المعمولة في الألفاظ من تشخيص أوضاعها ومراداتها لم يعهد من أحد الخلاف فيه ولم يظهر من العرف توقّف في العمل بها قبل الفحص بل وذلك ديدنهم على وجه لا يقبل الإنكار.

وعن الشيخ البهائي وغيره على أن النزاع في هذه المسألة من صغريات النزاع في جواز العمل بالأدلّة الشرعيّة قبل الفحص عن المعارض ولو كان الدليلان متباينان وإنما الوجه أفرادهم هذا نظرا إلى أن وجود المعارض هنا أقوى.

وقد يتوهّم أن الوجه في وجوب الفحص في المقام هو الوجه عند اعمال الأصول العمليّة كالبراءة في الأحكام الشرعيّة ، ولعل المقامين متغايران حيث انّ العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة في الحكم الشرعي عدم جريان دليل البراءة عند عدم الفحص.

أما العقل فلانحصار المعذوريّة فيما إذا كان الجاهل متفحّصا عن الحكم ضرورة عدم معذوريّة الغير المتفحّص مطلقا عند العقل ، ولذلك

٤٧١

يحكم العقل بوجوب النظر في المعجزة.

أما النقل فبعد مخالفته لما هو المستفاد من العقل تسلّم الإطلاق كما في بعض الروايات ، فالإجماع واقع على وجوب تقييده بالفحص كما عرفت إذا لم نجد من يظهر منه الخلاف في وجوب الفحص في العمل بالبراءة فترك التعويل على البراءة عند عدم الفحص لعدم المقتضى بخلاف المقام ، فانّ المقتضى في العام مما لا ينبغي الكلام فيه لظهور اعتباره سندا ودلالة ما لم يمنعه مانع.

ثم انّ الفرق بينهما هو انّ العامل بالعام تمسّك على دليل اجتهادي به يخرج الواقعة عن أطراف العلم الإجمالي المقتضي للتكليف المانع عن العمل بالبراءة ، ولو كان في البراءة أيضا علما إجماليّا لكن لا يكون وجها لاتحاد المقامين ، كما لا يخفى.

إن قلت : ما الفرق بين العام وبين أصالة الظهور في الألفاظ؟.

فانه يقال : انّ المخصصات المنفصلة عن العام بمنزلة المعارضات فليست من قبيل قرائن المجازات وذلك لأن القرائن المتعارفة إذا اطّلع عليها المخاطب فلا يتأمّل في الحكم بارادة المتكلّم خلاف ظاهر اللفظ بخلاف المقام ، فانّ الحكم بقرينة الخاص للعام في المنفصل بهذه المثابة إذا اطّلع عليها المخاطب فلا يتأمّل في الحكم سيّما في الأخبار التي بأيدينا اليوم فانه قد يكون العام واردا عن المعصوم والخاص عن المعصوم الآخر والحكم يكون قرينة يتوقّف على كون المتكلّم بهما بمنزلة متكلّم واحد.

وبالجملة : فرق ظاهر بين المخصص المتّصل وبين المنفصل.

٤٧٢

تذنيب :

اختلف القائلون بوجوب الفحص في مقداره والتحقيق في المقام انه يجب الفحص إلى أن يرتفع ما يقتضي الفحص وهو أمور ، فعلى القول باعتبار الظنّ الشخصي ومع حصوله قبل الفحص لا بدّ من القول بكفاية الظنّ بعدم الفحص عن المخصص عند حصول الظنّ بالمراد بعد الفحص ، وانّ ذلك غير مرضيّ عندنا كما نبّهنا عليه وعلى ما اخترنا من أن المانع عن العمل بالعام هو العلم الاجمالي وارتفاعه بالفحص يظهر انّ الفحص يفيد القطع بعدم المخصص الذي كان احتماله مانعا من الأخذ بالعموم.

وأما احتمال التخصيص البدوي فلا يمنع من العموم يكفي في دفعه أصالة عدم المخصص كما عرفت.

ثم انّ مناط وجوب الفحص يظهر باستقصاء مسألة العموم في بابه لا بحسب استقصاء البحث في جميع أبواب الكتب الجوامع الفقهيّة والاخباريّة.

«البحث السابع» :

في العام في الخطابات المشافهيّة هل لفظ المصدر بارادة ما يقتضي للوجودين يصلح ما يقتضي بالتقيّد والتخصيص للحاضرين أو لا يصلح لاقتضاء الخطاب ذلك. الحق إمكان شمول الخطاب للمعدمين على وجه الحقيقة.

٤٧٣

وتوضيح ذلك بعد رسم أمور :

(الأول) :

في إمكانه وعدمه. الظاهر انّ مثل أداة الخطاب لم يكن موضوعا لخطاب الحاضرين حتى يقتضي التخصيص والتقييد بل انه موضوع لخطاب مدخوله فاذا قال : يا أيها الناس وضع لخطاب مفهوم الناس حقيقة أو مقدّرة ، فاذا قال : يا زيد يكون لمخاطب حاضر ومفهوم زيد.

وعن صاحب المعالم ما وضع لخطاب المشافهة نحو : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، لا يعمّ بصيغته من تأخّر عن زمان الخطاب ، وإنما يثبت الحكم لهم بدليل آخر ، وظاهر المثالين ولو بعد تصرّف في الثاني بتجريده عن الماضويّة أو بالقول بأن المناط اتّصافهم بالإيمان حال وجودهم وتعبير الماضوية بالنسبة إليها.

وقال بعض الأجلّة في فصوله وتبعه بعض المحققين اختلفوا في أن الألفاظ التي وضعت للخطاب ك «يا أيها الناس» هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمّهم بصيغته أو لا؟ ، وأنت خبير بأنه لا يعقل النزاع في عموم صيغة الخطاب في قوله : «يا أيها الناس» على ما مثل به ويقتضيه ظاهر الضمير في قوله بصيغته على انّ البحث لا يلائم مباحث العام كما لا يخفى ، وقريب منه في وجه ما عنون به بعض الأعاظم حيث قال : اختلفوا في إمكان عموم المشافهة لغير الموجودين وعدمه ، ويمكن الذبّ عنه بأنّ المراد ليس عموم الخطاب بل عموم اللفظ الواقع بعد أداة الخطاب فينطبق على تحرير الأول إلا أنه لا يخلو عن تمحّل

٤٧٤

في الأول فتدبّر.

فعلى ما هو ظاهر من كلام هذا العالم في عدم شمول الخطابات الخاصّة ك «يا أيها الرسول» و «يا أيها المدّثر» و «يا أيها المزّمل» ومثل «أنت» وأشباهها لعدم تعقّل الشمول إلا على وجه بعيد كذكر المقيّد وإرادة المطلق ، وأما مثل قولك : أنتم وصيغ الجمع من الحاضر ك (افعلوا) ونحوها لا يخلو عن تأمّل.

وأما ما ذهب إليه صاحب المعالم في بحث الاخبار : انّ أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطابات المشافهيّة ، وقد مرّ أنه مخصوص بالموجودين إذ الأحكام المستفادة من الكتاب قد تكون مستفادة من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، مما هو كثير مما أخذ الإسم الجنس موضوعا للحكم فانه لا إشكال في عموم اللفظ ولا نزاع في شموله لغير الحاضرين.

فان اختصّ خطابهم على فرض الامتناع ، وقد يذبّ عنه بأنّ الاختصاص بالحاضرين يستند إلى لفظ الناس حقيقة في الموجودين وهو خبط وخلط ، ولا يخفى على أحد والظاهر قياس اسم الجنس المقرون بحروف النداء بغيره حيث انّ المنادى على تقدير امتناع نداء المعدوم يجب أن يكون موجودا حال النداء.

وأما اسم الجنس الخالي عن حرف النداء فعلى تقدير اعتبار الوجود فيه أيضا ما هو خلاف التحقيق لا يقتضي ما زعمه من عدم الشمول

٤٧٥

فانّ إطلاق الناس على غير الموجودين إنما هو باعتبار حال وجودهم ولا إشكال حقيقة على هذا القول.

(الثاني):

انّ النزاع المذكور هل هو عقليّ من حيث أن حرف النداء والخطاب للموجودين وغيره أو لغويّ من حيث عموم الألفاظ الواقعة بعد أداة الخطاب.

قيل : فان كان مرجع النزاع إلى وضع الصيغة لشمول المعدوم أو لا يكون لغويّة ، كما عن صاحب المعالم ومن تبعه وإن كان البحث في العموم والخصوص من حيث الإمكان ، والامتناع يرجع إلى أمر عقليّ من حيث إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه ، والاتّصاف ما هو مناط القولين ، يمكن القول بأن النزاع عقليّ ولو لوحظ نفس الخلاف يمكن القول بكونه لغويّا ، فانّ إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه لا ربط له بها جزما ولكل وجهة هو مولّيها.

ثم على تقدير النزاع العقليّ قد عرفت إمكان جريان النزاع في : «يا أيها الناس» لكون اللفظ المصدر بأداة الخطاب عامّا لجميع أفراده الموجودة والمعدومة والمقتضى الحمل على العموم بخلاف ما إذا لم يكن الخطاب مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، فانّ غاية ما يكون هناك انّ لا يكون مانع عن الخطاب بالمعدوم اما انه خاطب وأريد بذلك الكلام الخطاب العام للمعدوم والموجود ، فلا قاضي به من اللفظ لإمكان

٤٧٦

المخاطبة بشخص خاص مع عموم الحكم المستفاد من ذلك الكلام ، فكلّما لا مانع من أن يكون خطابا للمعدومين لا يكفي في القول بالعموم بل لا بدّ من وجود المقتضي أيضا.

ومما ذكرنا يظهر الوجه فيما قلنا من دخول نحو : «أنتم» و «افعلوا» وأمثالهما في النزاع وحيث انّ المخاطبة بها وأشباهها موقوفة على القصد وإرادة العموم خطابا وشموله للمعدومين والغائبين وذلك مما لا كاشف له ظاهرا بحسب الوضع ، ثم على تقدير كون النزاع لفظيّا فهل الخلاف في الشمول على نحو الحقيقة كما هو المختار وفاقا للشيخ أو الأعم من الحقيقة والمجاز أو المجاز فقط إمكانا على وجه لا خلاف في وقوعه على تقدير إمكانه أو وقوعا على وجه لا خلاف في إمكانه وجوه يمكن استفادة كل منها من مطاوي كلماتهم عنوانا واحتجاجا واعتراضا على ما هو غير خفيّ على المتتبّع.

وإذا عرفت ذلك فاعلم انّ المنقول في المقام أقوال :

الأول : في الوافية على ما حكي من شمول الخطاب للمعدومين من غير تصريح بكونه على أيّ وجه من الحقيقة والمجاز.

الثاني : الشمول حقيقة لغة ، حكي عن الفاضل النراقي.

الثالث : حقيقة شرعيّة ، نفى البعد الفاضل المذكور.

الرابع : الشمول مجازا ، حكاه الفاضل التفتازاني ، وظاهر دعواه ذهابه إلى أن الخطابات القرآنيّة يعمّ الغائبين والمعدومين على وجه المجاز فعلا وظنّي انه ليس في محلّه ، كما عرفت.

٤٧٧

الوجه الخامس : إمكان الشمول على نحو المجاز بنحو التنزيل والادعاء إذا كان فيه فائدة متعلّق بها أغراض أهل المحاورة وأصحاب المساورة لعلّه المشهورة كما قيل ، والأظهر عندي القول بامكانه على وجه الحقيقة إن أريد من المجاز المبحوث عنه في المقام والمجاز في إرادة الخطاب كما يظهر من جماعة منهم بعض الأجلّة حيث صرّحوا بأنّ الارادة حقيقة في خطاب الموجود الحاضر واستعماله في غير ذلك سواء كان على وجه التغليب كما إذا انضمّ إلى الموجودين غيرهم أو غيره كما إذا اختصّ بغيرهم مجازا إن أريد من المجاز ما هو المعهود مثله في المجاز العقليّ بمعنى انّ التصرّف إنما هو أمر عقليّ من دون سراية إلى اللفظ.

توضيح ذلك :

انّ إرادة الخطاب إنما هي موضوعة لأن يخاطب بها وهو يقتضي التوجيه إليه وذلك لا يعقل في حقّ المعدومين الا تنزيله منزلة الموجود وادّعى أنه الموجود ومجرّد ذلك يكفي استعمال اللفظ الموضوع للمخاطبة من دون استلزام لتصرّف آخر في اللفظ باستعماله في غير معناه ، وهل هذا إلا مثل استعمال الأسد في الرجل الشجاع بادعاء أنه حيوان مفترس حقيقة.

وما يتوهّم من أن الأسد مجاز حينئذ لأنه موضوع للحيوان المفترس الحقيقي لا الادّعائي فهو غلط ، فانّ ادّعاء كونه من الأسد ليس من وجوه المعنى حتى يقال : انه موضوع لغيره كما لا يخفى.

٤٧٨

ومما ذكرنا يظهر ما تابع فيه بعض الأجلّة من امتناع تعلّق الخطاب بمعناه الحقيقي وتوجيهه نحو المعدوم وذكره في وجه الامتناع مما لا مدخل لكونه أداة الخطاب كما هو ظاهر على المتأمّل ، ويظهر فساده بمراجعة كلامه في فصوله والذي يقتضي بذلك أنه لا حاجة إلى أمر آخر بعد التنزيل ولو عند التغليب بملاحظة أمر أهم لئلا يلزم استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي بل لا يعقل الأمر الأعم الشامل للمعدوم والموجود في مدلول أداة الخطاب إما من الأمور الحادثة بالإرادة كما يراه البعض أو من الأمور التي يكشف عنها الإرادة سواء كانت الإرادة علامة لها كما في علامة التأنيث والتذكير أو غيرها وعلى التقادير فهي معنى شخصيّة جزئيّة لا يتحمّل العموم كما هو ظاهر لمن تدبّر.

نعم ؛ يصحّ ذلك في مدلول مدخول الإرادة ، وذلك من اعتبار العموم في مدلول الإرادة.

(الأمر الثالث):

البحث في الوقوع فلا بدّ له من التماس دليل آخر أو لم نجد ما يقتضي له فانّ ما تخيّله البعض من الأدلّة لا يقتضي إلا الاشتراك في الحكم ، وأما الخطاب بالقرآنيّة مما لوحظ فيها التنزيل المذكور واستعمل في المخاطبة للحاضر ولمن هو منزل منزلته فلم يدل عليه دليل ولكن بدون التنزيل لا يعقل الخطاب في المقامين ومعه لا إشكال فيهما.

٤٧٩

ثم انه قد احتمل بعض المحققين في الخطابات القرآنيّة على القول باختصاصها للحاضرين يعمّ الغائبين والمبلّغون واحدا بعد واحد مقام المتكلّم بها ويخاطب بها إلا الموجود فكان الكتاب نداء مستمرّا من ابتداء صدور الخطاب إلى انتهاء التكليف. والسرّ فيه إلى أن المكتوب إليه ينقل من الموجود الكتبي إلى الوجود اللفظي ومنه إلى المعنى ، فهو من حيث هو قار متكلّم ومن حيث انّه مقصود من الخطاب مستمع. انتهى كلامه.

وقال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وما أفاده أمر معقول لكنّه موقوف على وجود ما يدلّ عليه ، ولم نقف على ما يقتضي بذلك الاعتبار ، مع انّ ما ذكره في السرّ ليس أمرا ظاهرا لا يقلّ المنع لا احتمال انتقال من الكتب إلى المعنى من دون توسّط اللفظ فيبقى اعتبار الخطاب باللفظ ، وأما أمر الكتابة والحفظ كما هو ثابت فلا دليل فيه على ما ذكره لاحتمال فوائد شتّى غير ما ذكره.

ثم انه قد ذكر بعضهم انّ الغرض من هذه المسألة وذكرها بيان الحق فيها فلا يترتّب عليها أثر علي إذ الظاهر تحقق الإجماع على مساواة جميع الأمّة في التكليف.

واعترض عليه بعض المحققين بوجود الثمرة في مقامين :

أحدهما : انه على الشمول لا بدّ من الأخذ بما ظاهر من الخطابات وعلى عدم الشمول على المعدومين فلا بدّ من تحصيل متفاهم المتشافهين فان حصل العلم به فهو وإلا عملنا بالاجتهاد في تحصيل ما هو الأقرب

٤٨٠