الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

شيء فيه القول به فيما كان المطلوبيّة أمرا معلوما مع الشكّ في اعتبار أمر آخر فيه كما فيما نحن فيه.

فظهر فساد ما قرّره المستدل من أنه على تقدير أن يكون الدليل لبّيا يكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرر ، نعم قد يمكن القول بالاشتغال فيما يكون الشكّ في كيفيّة الامتثال بعد معلوميّة وجوب نفس الامتثال من الشرع لأن الكيفيات المتعلّقة بالامتثال من الأمور التي وكلّها الشارع إلى العقل لا يحتاج إلى بيان منه في ذلك ، فلا قبح في العقاب عليه بعد إمكان الاحتياط ، كما انه يمكن القول بالاشتغال أيضا فيما إذا لم يمكن الامتثال معلوما أيضا نظرا إلى أنّ الشكّ في المكلّف به حيث انّ المقصود في الواقع هو أمر واحد وإن احتاج بيانه على تقدير التعبّدية إلى أمر زائد على بيان نفس مطلوبيّة الفعل ظاهرا كما لا يخفى فتأمّل.

ولا يذهب عليك أن ما ذكرنا من احتياج التعبّد إلى البيان زائدا غير ما دلّ على الطلب لا يلازم أن يكون للفعل ثوابان أحدهما لنفس الفعل ، وثانيهما للامتثال لتعدد الأمر الملحوظ فيها كما توهّمه بعض ، وفي الكفاية أيضا كذلك لما عرفت من أن المقصود حقيقة واحدة ولا يعقل تعدد الثواب والعقاب.

وبالجملة :

إذا لم يكن مطلوب المولى وافيا بتمام غرضه فيحتاج في تحصيل

١٤١

غرضه إلى متمم لجعله حتى يستوفي غرضه بأمرين وانهما ينشآن عن ملاك واحد ، فهما في حكم واحد وإطاعتهما ومعصيتهما واحد ولا يكون إلا خبرا بواحد مسقطا من دون إتيان الآخر كما إذا أمر بالصوم المشروط بالطهارة في أول الفجر ويستحيل أن يأمر بجامع واحد قبل الفجر بالغسل وبعده بالصوم ، فلا محالة يأمر بأمرين وما نحن فيه من هذا القبيل.

فانّا إذا فرضنا أن غرض المولى مترتّب بداعي القربة وحيث لا يمكن استفادة الغرض بأمر واحد إلا بأمر آخر بقوله : صل وصل بداعي الأمر ، وحينئذ فلا يصحّ الاكتفاء بحكم العقل ، كما ذكره في الكفاية إذ غاية ما يحكم به العقل هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج وليس من شئونه التشريع ، بل هو راجع إلى الشارع يحتاج إلى جعل آخر من الشارع.

فلا يرد ما توهّم في الكفاية ومن غيره في المقام أن سقوط الأمر الأول مع عصيان الأمر الثاني لا مجال له وذلك في محلّه بخلاف ما إذا كان الأمرين مستقلّين ناشئين عن ملاكين كما إذا تعلّق النذر باتيان صلاة الفريضة في المسجد وإذا خالف بنذره فأتى الصلاة في غيره يعدّ عاصيا ولزمه الكفّارة.

وأما ما نحن فيه يستحيل سقوط أحد الأمرين بدون الآخر ، وقد عرفت أن المختار في المقام أن الأصل فيما شكّ أنه تعبّدى أو توصّلى ، وليس ما يوجب أحد الأمرين وإنما المتعيّن عند عدم تبيّن شيء منهما المرجع هو الاشتغال أو البراءة وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه للاهمال

١٤٢

وعدم الإطلاق ، ثم استدل بالتعبّدية بأمور :

الأول :

بقوله : «لا عمل إلا بالنيّة» ونظيره قوله : «إنما الأعمال بالنيّات» وقوله : «لا قول إلا بالعمل ، ولا عمل إلا بالنيّة ، ولا نيّة إلا بإصابة السنّة» وقوله : «لكل امرئ ما نوى» وجه الدلالة انّ العمل عبارة عن مطلق الأفعال التي يتعلّق بها الأمر والطلب من الأمور الواجبة والنيّة عبارة عن قصد القربة ونفي العمل بدون النيّة يوجب الكذب فلا بدّ من حمله على نفى الأثر كما في روادفه كقوله : «لا صلاة إلا بطهور» فالمعنى انه : لا ترتّب على واجب من الواجبات أثر من الآثار المطلوبة منها من سقوط الأمر وفراغ الذمّة واستحقاق الثواب إلا بقصد القربة وهو المطلوب والجواب عنه :

أولا :

منع كون المراد من العمل مطلق الأفعال الواجبة بل الظاهر بملاحظة ورود نفس العمل في مقامات عديدة تناظر المقام انّ المراد بالعمل خصوص العبادات كما في قوله : «والعالمون كلّهم هالكون إلا العاملون ..» بقوله : لا عمل في استحق به الجنّة ، وإن أبيت عن ذلك فلا بدّ من حمله على ظاهره لغة ، وهو مطلق الأفعال من اختصاص له بالواجبات ولازمه عدم ترتّب الأثر على كل فعل ولو كان من الأفعال المحرّمة إلا بنيّة القربة وفسادها غنى عن البيّنة.

١٤٣

وثانيا :

نمنع كون المراد بالنيّة هو قصد القربة إذ المقصود من لفظ «النيّة» عرفا ولغة ليس إلا مجرّد القصد إلى الفعل ولا دليل على انّ المراد في المقام هو قصد القربة غاية ما في الباب دلالة حينئذ على اعتبار قصد العنوان في العمل ، فما لم يتحقق قصد الفاعل إلى عنوان الفعل فلا يصحّ رجوع النفي إلى الذات ، فلا بدّ أن يحمل العمل إلى الأفعال الاختياريّة من حيث أنها اختياريّة والإرادة ، ومع تعدد العناوين يكفي إذا كان أحدهما مقصودا بوقوع الفعل الاختياري ، فتحمل الرواية على الفعل الاختياري بعنوانه الاختياري غير واقع إلا بالقصد إلى ذلك العنوان هذا ما يقتضيه قواعد اللغة.

وأما ما يمكن استظهاره من الرواية فهو ما عرفت من أن المراد بها خصوص الأفعال ، ويدل على اعتبار القربة فيها فلا دلالة فيها على المطلوب بوجه ، على انه لو حمل على ما زعم يلزم تخصيص بشنيع ولا يكاد يلتزم به من له ذو مسكة ، فالأمر دائر بين التصرّف في الرواية بأحد الوجوه المذكورة ونحن لو لم ندع ظهور الاحتمال الأخير لا نسلم ظهورها في غيره ، فلا وجه للاستدلال لمكان الإجمال.

وأما قوله : «وإنما الأعمال بالنيّات» فقد ادّعى تواتره لفظا إلا بعض أصحابنا على ما حكى قال باتصال اسناده إلى الخليفة الثاني ، ، وكيف كان فهو بمنزلة أن يقال : كل عمل بالنيّة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كل ما ليس متلبّسا بالنيّة ليس بعمل ، فتكون مفادّها مفاد

١٤٤

الرواية الأخرى.

وأما قوله : «لكل امرئ ما نوى» فمن الظاهر عدم انتهاضه بشيء من المقصود ، فلا وجه للاستناد إليه ، قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : فالتحقيق انّ مقتضى الأوامر الخاصة على ما عرفت لا يزيد التوصّلية والأدلّة المذكورة لا تنهض حجّة على إثبات الأصل الثانوي ، فعند الشكّ لا بدّ من الأخذ بمقتضى أصالة البراءة أو أصالة العدم على ما نبّهنا عليه.

وفيه :

ليس فيما ذكرناه من استدلالات الخصم إطلاق ، فلا وجه لتعيّن التوصّلية أو التعبّدية بل المأمور به بالإضافة إلى الانقسامات الثانوية مطلقا ، لا مناص من كونه مهملا.

وأما دعوى ظهور الأمر في التوصّلية مع فرض عدم الإطلاق ، فلا وجه لها بداهة ليس فيما نحن فيه ما يقتضي الظهور غير الإطلاق وهو مفروض العدم ، وفيه : انّ الإطلاق موجود والتقييد ممنوع كما عرفت من كلام الشيخ ـ رحمه‌الله ـ ولا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، قد علمت في الأمر الخامس.

الثانية : من استدلالهم للتعبّدية في موارد الشكّ فيهما بقوله تعالى :

١٤٥

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، انّ المطلوب في المقام إثبات الأصل في الأوامر وما دام به العلامة فيه إثبات اشتراط العبادة بنيّة القربة ، وكيف كان ينطبق الاستدلال المدعى بأمرين : أحدهما بحصر المأمور به لأهل الكتاب بقصد الامتثال ويستصحب هذا الحكم في شريعتنا أيضا لما قرر من جواز استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع الماضية وثانيهما انهم أمروا بالإخلاص في الدين بها في الشرائع وذلك يتم في حقنا بالأمرين.

وفيه :

أما الجواب من الأمر الأول إن أريد من الحصر المذكور ينحصر غاياتها بالتعبّدية بأن يكون على أن تكون كلمة اللام للغاية كما يظهر من استدلال بعض أصحابنا بالآية في قبال الأشعري القائل بالجزاف في أفعاله تعالى ، فهو فاسد جدّا لأن المنساق من الآية أنها ليست للغاية بل من المعلوم بواسطة ملاحظة نظرائه في الآيات القرآنيّة ، انها لام الإرادة والأمر الداخل على المراد المأمور به كما في قوله : (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ). و (يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) ، فمدخول اللام هذه يكون مفعولا به على ما صرّح به بعضهم حتى انّ المصرّح به في كلام «ابن هشام» على ما حكى انّ القائل بعدم التقوية في مثل هذه إنما زعم ذلك لعدم قصور الفعل وعدم الحاجة إلى التقوية.

فالمفعول به عنده مقدّر لكنّه يخالف المذكور بل يكون من جنسه

١٤٦

فالتقدير في الآية : يريد الله الإذهاب ليذهب ، وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أن اللام هذه ليست للغاية ، مضافا إلى عدم استقامة العطف في قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فانهما معطوفان على قوله : ليعبدوا ، وقضيّة ذلك تكرار العامل كما يؤذن به حذف النون منهما أيضا مع أنهما ليسا غايتين بل هما مأمور بهما ، وذلك ظاهر مع تأمّل التنزّل ، فلا دلالة في الآية على المطلوب لاحتمال أن يكون الأوامر المتعلّقة بهم لطفا التعبّد كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فتكون العبادة والتذلل من الغايات المترتّبة على الأوامر سواء كانت التعبّدية أو التوصّلية.

أما الجواب عن الأمر الثاني فالمراد من الدين يحتمل أن يكون معناه من معنى العبادة ، كما عرفت من الآيات وأخرى يكون المراد الطاعة كما قيل في قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) ولا يطيعون طاعة الحق.

وثالثه يكون منه الجزاء كما في قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

ورابعه يكون المراد منه الإسلام كما في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، ولو تنزّلنا وأغمضنا عن ذلك كلّه فيجب حمل الآية على الاستحباب ، إذ على تقدير إرادة وجوب نيّة القربة يلزم تخصيص مستبشع لا يمكن التزامه ، إذ الأغلب في الأوامر الواردة في شريعتنا أنها واجبات ليس فيها دلالة بأحدهما من التعبّدية والتوصّلية.

١٤٧

الثالث :

قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

وجه الدلالة : انّ الإطاعة مما قد أمر بها في هذه الآية ولا تصدق إلا بقصد الامتثال فيجب ذلك في الأوامر نظرا إلى وجوب الإطاعة ، فتكون هذه الآية حاكمة على ظواهر الأوامر الواردة في المقامات الخاصة نظير ورود قوله تعالى : (وَسارِعُوا) على الأوامر الخاصة على القول بدلالتها على الفور.

والجواب عنه :

انّ الإطاعة تارة تطلق ويراد بها ما لا يصدق بدون قصد الامتثال على ما هو مناط الاستدلال ، وتارة تطلق ويراد بها مجرّد عدم المعصية وليس يجوز أن يكون المراد بها في المقام هو الأول إذ على تقديره يلزم أن تكون إطاعة الرسول واجبة أيضا ، بمعنى قصد التقرّب مع انّ الإجماع قائم بعدم وجوب إطاعة الرسول بهذا المعنى إذ لم يقل بوجوب قصد التقرّب إليه أحد من العلماء ، ولا يكفي في ذلك انّ إطاعة الله هي بعينها إطاعة الرسول إذ الظاهر من تكرار الأمر من الآية تكرار المأمور به ولذلك يرد في الاستدلال مع انه يمكن الاستدلال بآية لم يكن فيها الإطاعة ، فتدبّر.

ّمنا ولكن تخصيص للأكثر على وجه لا يكاد يلتزم به المنصف ، فلا بدّ من أن يحمل على المعنى الثاني كما يشعر بذلك ورودها بهذا المعنى في كثير من الموارد في القرآن الكريم وغيره ، كما في الأمر باطاعة

١٤٨

الوالدين إذ ليس المراد بها فيه إلا مجرّد عدم المخالفة ، وكما في قوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) بأن مقابله تولّى بالإطاعة من أقوى الشاهد على أن المراد بالآية عدم المخالفة.

ثم انّ ما ذكرنا من انّ المراد بالإطاعة هو عدم المعصية ليس على وجه المجازية ، لما ستعرف من أنه قد يمكن أن يكون المقصود أعم من مدلول اللفظ بحسب الظاهر لا سبيل إلى تأدية ذلك المقصود الأعم إلا على وجه الغير المفيد بخصوص المراد على الواجبات التعبّدية ، فانّ المقصود بها التعبّد بها مع انه لا يمكن أن يكون المفاد بلا دليل عليه.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : انه إذا لم يتبيّن شيء من أصالة التوصّلية والتعبّدية فيكون المرجع هو الاشتغال أو البراءة والإهمال ، وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، وإذا شكّ في القيد لأجل عدم معقوليّة كونه مفادا بالكاشف عن الطلب ، ولا بدّ للمولى من بيان زائد على بيان نفس الطلب والأصل عدمه ، واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان كما هو المحرر في أصالة البراءة فيكون حال بقيّة الأجزاء في جريانها عند الشكّ فيها.

هذا إذا كان مدخليّة قصد القربة شرعيّا ، وأما إذا كان عقليّا ربما يقال بأن مقتضى القاعدة في المقام هو الاشتغال عند الشك وإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر ، فانّ العقل بعد ما حكم بلزوم تحصيل عرض المولى ، فلا بدّ من القول بالاشتغال عند الشكّ في حصوله ، فاذا

١٤٩

أتى بالمأمور به بلا داع القربة مع احتمال كونه لا يسقط الغرض منه إلا بقصد القربة ، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء به ، ولا يخفى انّ هذا الفرق مبنيّ على التفرقة بين المحصّلات الشرعيّة والأسباب التكوينيّة ، وإذا شكّ في دخل شيء في حصول الإحراق الواجب شرعا يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال.

وأما إذا شككنا في أمر شرعي كما إذا شكّ في حصول الطهارة ، فمقتضى القاعدة هي البراءة لشمول حديث الرفع لرفع شرطيّة الشيء المشكوك جزئيّته ، ولكنّ هذا القول فاسد لعدم الفرق في التشريعيّات أو التكوينات.

توضيح ذلك :

هو أنّ العلّة إما أن تكون علّة تامّة أو جزء علّة أو معدا فعلى الأول يصحّ أن يتعلّق أمر الأمر بالسبب أو المسبب ولا فرق في التشريعيّات أو التكوينيّات والعلّة وإذا كان الجزء الأخير أمرا اختياريّا من العلّة مثل القاء ، على النار ، فيتعلّق الأمر بهما ، وإذا فرض العلل من حيث العرضيّة كما إذا اجتمع جماعة إلى إلقاء شيء إلى شيء آخر ، فعلى الأول إذا كانت العلّة تامّة يكون طوليّا والمقدّم على الأخير يكون معدّا بحسب المراتب ، وعلى الثاني يكون الجميع علّة تامّة يكون كل واحد جزء علّة كما عرفت.

وأما إذا لم يكن الجزء الأخير اختياريّا لا يصلح تعلّق الأمر بجزء الأخير ، اما أن يكون جزء الأول اختياريّا كالزرع أو الوسط كالسقي ، وإذا كان أحد جزء من أجزاء العلل غير الأخير تحت قدرة المكلّف واختياره

١٥٠

يكون هو الداعي المعروف على الألسنة بعد كون هذا القسم من الأفعال التوليدية مثل الأول ، كما إذا تعلّق الأمر بالسبب بكون المسبب عنوانا له مثل إلقاء في النار ، فانّ الإلقاء بما أنه إحراق وإذا تعلّق الأمر يكون السبب بالمسبب من المقدّمات لكن لا مثل المقدّمات الأخر حتى تكون مقدّميته من باب حكم العقل أو غير ذلك ، بل تكون مقدّمته من حيث هو هو ، فتكون المقدّمة بالحمل الشائع الصناعي ، ومن ذلك باب الطهارة اختلفوا في رفع الخبث ورفع الحدث ، فانّ رفع الخبث من القسم الأول من جهة تعلّق الأمر تارة على السبب كما في الخبر : «اغسل ثوبك عن بول ما لا يؤكل» ، وتارة بالمسبب كما في قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).

فيستكشف عن الموردين تعلّق الأمر بأحدهما عين تعلّقه على الآخر بخلاف الحدث ، وذهب بعض بأنّ التطهير في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، ليس أمرا متحصّلا من الغسل معدّا له وهو أمر معنوي بيد الله تعالى وبيد ملائكته المقرّبين ، فيكون من القسم الثاني.

وذهب بعض بأنّ التطهير أيضا من القسم الأول ، وهو التوليديّة لأنه لا فرق بين الغسل والوضوء فقد تعلّق الأمر في الوضوء بالسبب في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...) إلخ ، وتعلّق الأمر بها بالسبب فلا فرق بينهما فيكون من القسم الأول من التوليديّة ، فعلى أيّ وجه كان هذا ضابط لملاكات الأوامر تكوينيّا كان أو تشريعيّا ، وسيجيء توضيح ذلك في مقدّمة الواجب.

١٥١

وبالجملة :

فلا يعقل اجراء البراءة في الأقل والأكثر في المقام مثل الصلاة وغيره لا شكّ حينئذ يكون في العنوان المحصّل فلا نعرف أحدا يلتزم في مورد المحصّلة بالبراءة مثل الإزالة بالنسبة إلى الظهر عند الشكّ في حصوله تشريعيّا كان أو تكوينيّا.

ثم انهم احتجّوا بعدم تعلّق التكليف بالمسبب لكونه غير اختياري فانّ المنقول من احتجاجهم وجوه ، أما الوجوب في السبب فلا جماعاتهم ولأن وجود المسبب عند وجود السبب ضروري ، وعند عدمه ممتنع فلا يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور ولأنّ التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا ، وليس ذلك في الشرط ، فتعيّن السبب ، ولأن الطلب يتعلّق بفعل المكلّف من الحركات الإراديّة الصادرة عنه التابعة بتحريك القوّة المنبعثة في العضلات.

وأمّا الأمور التابعة لتلك الحركات المعلولة لها فليست فعلا اختياريّا للمكلّف فلا يمكن تعلّق التكليف بها ، وأما عدم الوجوب في غيره فللأدلّة التي اعتمد عليها النافي بالنسبة إلى مقدّميتها ، وكيف كان وقد عرفت تعلّق الأمر بالمسببات تفصيلا ، فإذا كان المسبب من مقولة الحركات والفعل كتحريك المفتاح المسبب عن تحريك اليد وإن لم يكن وجود المسبب مغايرا لوجود السبب في الخارج فلا وجه للمنع عن تعلّق التكليف ، وأما كونه تابعا لفعله الآخر فلا ينافي تعلّق التكليف به كما عرفت.

١٥٢

توضيح ذلك :

انّ الأمور التوليدية تارة تكون من مقولة الحركة سواء كان اختلافهما بمجرّد العنوان مع اتحادهما الموجد في الخارج كالإحراق الحاصل بالإلقاء في النار وكتحريك المفتاح الحاصل بتحريك اليد أو كان الموجود منهما أيضا متعدد كحركة المفتاح واليد ، وأخرى يكون من غير مقولة الفعل والحركة كالعلم الحاصل بالنظر والتحصيل فعل الأول لا مانع من تعلّق التكليف بعنوان المولود من فعله الآخر سواء كان متحدا مع عنوان المولّد أو مغايرا.

وأما الثاني فظاهر ، وأما الأول مدار التكليف على القدرة ، والمفروض كون الذات مقدورة وإلا لم يكن تعلّق التكليف صحيحا بالسبب أيضا لاتحاد الذات فيهما ، وعلى الثاني وهو يكون من غير مقولة الفعل والحركة كالعلم الحاصل بالنظر والتحصيل الذي هو من مقولة الفعل فلا يعقل أن يكون العنوان المولّد من الفعل موردا للتكليف فانه ليس فعلا فلا وجه للطلب فالمطلوب النفسي هو عنوان السبب ويكون المسبب الحاصل به داعيا إلى الأمرية ولا يتأتّى ذلك وجوبه النفسي إلا أن يكون حقيقة.

«الأمر السادس» في الأوامر» :

والواجب إما مطلق أو مشروط ، وإما عيني أو كفائي ، وإما تعييني أو تخييري ، ثم انّ القوم قدّموا ما حقّه التأخير وبالعكس وقدّمنا ما هو حقّه

١٥٣

التقديم ، وأخّرنا ما هو حقّه التأخير تبعا للنائيني ـ قدس‌سره ـ فنقول : يحتاج في بيان حقيقة الواجب المطلق والمشروط إلى ذكر أمور :

الأمر الأول :

في بيان الفرق بين القضيّة الحقيقية والخارجيّة وهو أن القضيّة الحقيقية عبارة عن ترتّب الحكم وعروضه على جميع أفراده وموضوعاته بجامع وملاك واحد بحيث ينطبق على جميعها بعنوان عام بما أنها مرآة لها ، وبما أنه ينطبق عليها فيكون كلّيا طبيعيّا لا بأنه موضوع لها بما أنه يكون كلّيا عقليّا بحيث لا ينطبق على الخارج كما انّ متعلّقات الأحكام وموضوعاتها على الوجه الأول دون الثاني وإلا بمعزل عن الانطباق على ما في الخارج بخلاف القضيّة الخارجية فليس عروض الحكم لموضوعاتها بملاك واحد واحد بعنوان عام بحيث ينطبق على جميع أفراده بجامع واحد بل كل فرد حكم يخصّه بملاك خاص بغير ملاك الآخر ولا يقع في طريق الاستنباط لعدم تأليف منها القياس إنما تكون صورة قياس فانها في قوّة الجزئية لا كاسبة ولا مكتسبة ، فالمعتبر فيها علم الأمر باجتماع الشرائط وما له دخل في حكمه ، ولا يعتبر وجودها الواقعي فيها ولا يتوجّه التكليف على شخص كوجوب الإكرام أمر بشخص باكرام شخص آخر إلا بعد علم الآمر في الظاهر باجتماع الشرائط واشتراكهما في التكليف ومع عدم العلم لا يصدر الحكم.

ومن هنا يلزم إشكال الدور فيها لا في القضيّة الحقيقيّة إلا مع الخلط بينهما فانّ المعتبر في القصد الحقيقية تحقق وجودها الواقعي

١٥٤

لا وجودها العلمي والإشكال المعروف وهو أن الاستنتاج من الشكل الأول دوريّ هذا الإشكال وارد ، ولو كان الكبرى من قبيل القضيّة الخارجيّة لأنه يكون حينئذ العلم بالنتيجة موقوفا على العلم بالكلّية الكبرى والعلم بالكلّية الكبرى موقوف على العلم بالنتيجة ، وأما لو كان الكبرى من قبيل القضيّة الحقيقية فلا يبقى محل إشكال أصلا بل كلّية الكبرى تستفاد من شيء آخر.

الفرق الثاني :

انّ الجعل والإنشاء في القضيّة الحقيقية يكون قبل فعليّة الحكم دائما لكونه أزليّة ، وإنما تكون الفعليّة بعد تحقق الموضوع في الخارج فما يكون مقدّر الوجود فلا يكون قبل فعليّة الحكم دائما لكونه أزليّة ، وإنما تكون الفعليّة بعد تحقق الموضوع في الخارج فيما يكون مقدّر الوجود فلا يكون قبل تحقق الموضوع وجوب حتى يسمّى بالحكم الإنشائي في قبال الحكم في موطن وجود موضوعه قبل تحققه ويثبت الحكم مع الحقيقة فيكون فعليّا.

ولا يختلف الحكم بعد التحقق ، فاذا أوجد العاقل البالغ المستطيع ولم يوجد الحكم يلزم أن لا يوجد بالإنشاء وهو محال ، والقضيّة الخارجيّة يتّحد زمان جعلها مع زمان فعلها ويكون فعله بعين تشريعه وإنشائه ، فقوله : «أكرم زيدا» يتحقق وجوب الإكرام إلا إذا علّق على شرط لا يتحد زمان الإنشاء مع فعليّته ، ربّما يتوهّم أن ذلك في القضيّة الحقيقيّة بأن كان من قبيل الكسر والانكسار التكويني بحيث لا يمكن أن

١٥٥

يتخلّف زمان الانكسار عن الكسر ولا يعقل تخلّف زمان الإنشاء عن المنشأ ، فلا يكون الإنشاءات أزليّة ومنشئاتها بعد ذلك عند تحقق وجودات موضوعها ، وإلا يلزم أن يتخلّف زمان الوجود عن الإيجاد مع أنه غير معقول لعدم تخلّف زمان الكسر عن الانكسار ولكن لا يخفى ضعف هذا التوهّم والقياس في غير محلّه لا في التكوينات زمان الانكسار ليس بيد الكاسر بل الذي بيده هو الكسر.

وأما الانكسار فحصوله قهري بخلاف باب المنشئات فانها أمور اعتبارية فيكون زمانها بيد المعتبر ولو أن يوجد الملكيّة في الحال أو في الاستقبال كما عرفت ، وإلا يلزم التخلّف المنشأ عن الإنشاء ، وكذا الحال في الأحكام الشرعيّة بأنها بيد الشارع وله جعلها وإنشائها على أيّ وجه أراد ، بل يوجد ويتحقق بعد ألف سنة.

والفرق الثالث :

بينهما انه فبجريان النزاع على القضيّة الحقيقيّة بين الاعلام فيها مجال وانّ المجعول الشرعي هل هو المسببات عند وجود أسبابها أو سببيّة السبب بخلافه على القضيّة الخارجيّة لأنها ليس إلا حكم شخصي على شخص خاص ، فالنزاع فيه غير معقول للعلم باجتماع الشرائط في الحكم وانه مجعول شرعي.

هذا بخلاف القضايا الحقيقية فانّ ترتّب الحكم على الموضوعات بعد تحققه في الخارج فللنزاع فيها مجال بأن يقال : انّ المجعول

١٥٦

الشرعي هل هو الحكم على فرض وجوده أو سببيّته لموضوع يترتّب الحكم عليه ، والحق هو الأول ، فانّ الثاني غير معقول لما عرفت بعد وجود السببيّة والمسببيّة فيه.

الأمر الثاني :

قد عرفت انّ الأحكام الشرعيّة وردت على نحو القضايا الحقيقيّة دون على نهج القضايا الخارجيّة ، ويترتّب الحكم أو الوصف على العناوين مرآة لموضوعاتها وأفرادها المقدّرة وجودها ولا وجوب قبل تحقق الشرط والموضوع بحيث لو لم تكن القضيّة الحقيقيّة يلزم عدم تصوّر الواجب المشروط فالحكم مشروط بهما ثبوتا ، وأما إثباتا فالقضيّة إذا صدرت تارة يصدر الحكم بدون الشرط ومطلقة كقوله : «المستطيع يحج» ، وأخرى مع الشرط كقوله : «إن استطعت فحج» فاذا صدر مع الشرط فلا بدّ أن يعلم محل الاشتراط بحسب القواعد والصناعات العربية اللغوية بأنه هل يرجع الشرط المأخوذ في الأمر بأيّ كيفيّة للهيئة أو المادة أو المجموع ، فيه خلاف والحق انّ القيد للمادة فانّ الهيئة معنى حرفيّ ليس قابل للاطلاق والتقيّد.

قد عرفت في مبحث المشتق وقع النزاع انّ مبدأ الاشتقاق هل هو المصدر أو اسم المصدر ، بناء المتقدّمين هو الأول وبناء المتأخّرين هو الثاني ، وقلنا فيه الحق ليس واحد منهما بأن مبدأ الاشتقاق لا بدّ أن يكون المعرّات عن كل هيئة ، وليس هذا إلا المادة وهي عبارة عن قابليّة صرفة ويعبّر عنه المصدر من دون لحاظ وضع الهيئة لها وقد

١٥٧

أوضحنا في الحروف فلا يمكن أن يكون المصدر مبدأ اشتقاق إذ لا يعقل عروض هيئة على هيئة وكذا اسم المصدر فلا يمكن أن يرجع الشرط إلى المادة بناء على كون المصدر بكلا قسميه على المبنيين مبدأ اشتقاق إذ انّ الخصوصيّات أو القيودات وغيره صالحة لا يتخصص أولا تخصص متعلّقات الأحكام أو موضوعاتها لا تخلو إما أن يكون التخصيص بها وعدمه من الانقسامات اللاحقة لها بعناوينها الأوليّة من حيث نفس ذواتها بلا مدخليّة لأحكامها ولا يعقل اهمالها في نفس الأمر بالنسبة إلى شيء مع علم الأمرية والتفاته إلى ما له دخل منها في غرضه ويتساوى وجوده وعدمه وما ينافيه لأنه لو كان الشرط قيدا للمادة قبل الحكم يمتنع فيها فعليّة الحكم من دون فعليّة موضوعه فقبل النسبة لا فعليّة.

وأما بناء على المختار انّ المادة عبارة عن قابليّة صرفة مجرّدة عن جميع الهيئات والعناوين والربط لا يتحقق له فعليّة إلا بعد عروض الهيئة لها فيمكن أن يرجع الشرط إلى المادة حينئذ فيكون الطلب والخطاب فعليّا أو مطلقا وإنما يكون الواجب خاصّا مقيّدا ، والإكرام على تقدير المجيء فيكون الشرط من قيود المادة حينئذ ، فكلّما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى المادة ، ولكن ذهب في الكفاية انّ الظاهر انّ الواجب المشروط نفس الوجوب فيه مشروطا بالشرط بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط كما هو ظاهر الخطاب التعليقي ضرورة ظاهر الخطاب : «إن جاءك زيد فأكرمه» كون الشرط من قيود الهيئة ، وانّ الطلب الإيجاب وإكرامه يتعلّق على المجيء لا أن الواجب يكون مقيّدا به.

١٥٨

وفيه :

أولا :

قد عرفت انّ الهيئة لا تتصف بالإطلاق والتقيّد لا يمكن يقيّد إذ مفادّها حرفيّ بل هو مغفول فانّ في معناه لا لكونه جزئيّا وانّ الموضوع له فيه خاص حتى يقال : انّ المعنى الحرفيّ ليس بجزئي بل الموضوع فيه كالوضع عام فليس الطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيّد ، فانها موضوعة لنسبة إيقاعها على من يتوجّه إليه طلبه مسوقة ليبعثه على الفعل.

وثانيا :

إذا كان نفس الوجوب مشروطا بالشرط والقول بأن المشروطيّة لا تحقق الوجوب وانه لا طلب واقعا والمفروض تحقق الوجوب بانشاء الطلب بقولك : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، وانّ الهيئة قد وضعت لإنشاء الطلب وعلى هذا والقول بأن الوجوب لا يتحقق إلا بعد تحقق الشرط مستلزم لتفكيك الإيجاب عن الوجوب وإن التزم بعدم تحقق الإيجاب لزم إهمال في هذه القضيّة.

والحاصل : على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

١٥٩

فان قلت :

المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصول الشرط فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلا لتخلّف عن إنشائه وإنشاء أمر على تقدير كالإخبار به بمكان من الامكان.

قلت :

انّ ذلك موقوف على إطلاق الهيئة والمفروض انّ مفادّ الهيئة ليس إلا لنسبة إيقاعها على من يتوجّه إليه طلبه مسوقة لبعثه على الفعل وتوجّه إرادته نحوه فلا يتّصف معنى الحرفي بالإطلاق والتقيّد كما عرفت في باب الحروف.

فالمانع من الإطلاق والقيد ليس جزئيّة المعنى حتى يقال بأنّ المعاني الحرفيّة معان كلّية لا جزئيّة ، فهي قابلة للتقيّد بل المانع هو كون المعنى ملحوظا آليّا ولا يرتفع بكون المعنى كلّيا فلا بدّ فيه.

والحاصل : انّ الإكرام المطلق الذي هو المادة ليس متعلّقا للنسبة الطلبيّة من غير تقيّد بل يكون متعلّقا بالإكرام المقيّد بمجيء زيد ، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلّق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبيّة فالقيد راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى الفاعل ، فوجوب الإكرام موقوف على مجيء زيد.

١٦٠