الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

بالضدّين ، فلا محالة من أن يقع فاسدا.

وحكي عن المحقق الكركي ـ القائل باقتضاء الضدّ يفيد العبادة وعدمه لا يفيد ـ انّ مقالة البهائي لا يستقيم باطلاقه بل إنما يتمّ في خصوص المتزاحمين المقتضيين ، إذا كان أحدهما أهم كما لو فرضنا مزاحمة الصلاة في آخر الوقت لواجب آخر أهم بناء على صحّة العبادة على الأمر بها فعند مزاحمته لواجب أهم لأمر بالأهم لامتناع الأمر بالضدّين فيسقط الأمر عن المهم وهذا لا يستقيم أيضا باطلاقه وذلك انّ عمدة ما يلزم من المحذور في مسألة الضدّ طلب الضدّين من شخص واحد في زمان واحد ، ومحذوره الزام بالجمع بينهما إلا أن اللازم تعلّق الطلب بشيئين في زمان واحد من شخص واحد وهو طلب الجمع بينهما.

فلو أمكن للمكلّف الجمع بينهما إلا أن اللازم من تعلّق الطلب المولوي لكل منهما في زمان واحد كالصلاة والصوم فلا محذور ، ولو لم يكن الجمع ممكنا كانقاذ الغريقين والصلاة والإزالة ، فهذا طلب الضدّين والإلزام بالجمع بينهما ، ثم الجزء الأخير للعلّة التامّة الإلزام بالجمع بين الشيئين هل هو فعليّة الخطابين الناشئة من اجتماع شرائطهما أو إطلاقهما أي تعلّق الطلب بكل منهما مطلقا في زمان فعل الآخر وتركه ، فلو كان منشأ الالتزام بالجمع فعليّة الخطابين فالترتّب لا يصححه ولا يرفعه الإلزام بالجمع لأن يكون أحد الخطابين مترتّبا على عصيان الآخر مع فعليّته ولحصول شرطه وفعليّة الآخر الذي هذا مترتّب عليه لا يفيد لرفع محذور طلب الجمع.

٢٨١

فالحكمان لو كان بينهما أهميّة يسقط خطاب المهم ولو لم يكن منهما أهم ، فمن جهة بطلان الترجيح بلا مرجّح يسقط كلاهما والعقل لإحراز الملاك في كلا الخطابين لأنّ الباب باب التزاحم ، ويستكشف خطابا تخيّريّا نظير التخيّر في الخصال غاية الفرق بينهما انّ التخيّر في الخصال لعدم المقتضى في الجمع لأنّ كل من العدلين قائمان بمصلحة واحد والتخيّر في المقام المانع من الجمع ، ولو كان منشأ الالتزام بالجمع إطلاق الخطابين بالترتّب برفع طلب الجمع لتقييد أحد الخطابين بمعصية الآخر ، كما انّ تقييد كل منها بترك الآخر أيضا برفع طلب الجمع.

وبالجملة :

لو كان المحذور ناشئا من إطلاق الخطابين ، فحيث ان يرفع المحذور بقدر المحذور ، لأنّ المحذورات تتقدّر بقدرها فلو كان بينهما أهميّة يرفع إطلاق المهم ولم يكن تقييد كل منهما بالآخر ، وأما رفع أصل الخطاب فلا موجب له وعلى هذا باطلاقه لا يستقيم ثم الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم الذي يكون في الضدّ.

وتفصيل القول في باب التزاحم يقع في مقامات :

(الأول):

في الفرق بين البابين الذي يكون في الضدّ ، قد اختلف في ذلك كلمات الأساطين ولا يرجع إلى محصّل أصلا ، والتحقيق الأحكام قد جعل

٢٨٢

بعنوان القضايا الحقيقيّة لموضوعاتها المقدّرة وجوداتها ، فانّ التعارض لا يقع إلا بالنسبة إلى القضايا الخارجيّة الشخصيّة وحينئذ لا دخل لأحد البابين إلى الآخر أبدا من جهة انّ باب التزاحم يكون في مرحلة الفعليّة بعد تحقق الموضوع كما في : «صل وأزل النجاسة» ، فانّ كل واحد مجعول في مرتبته نفسه على نحو القضايا الحقيقيّة ، ولكن لمّا كان للمكلّف قدرة واحدة يرجع إلى الأهم أو المهم بعد تحقق موضوع التكليف وتزاحم الحكمين بخلاف باب التعارض فانه ليس في مرحلة الفعليّة بل راجع إلى مرحلة الجعل والتشريع لا يستلزم التناقض ، فبين المسألتين بون بعيد.

(الثاني):

التعارض لا بدّ أن يكون دائميّا والتزاحم أن يكون اتّفاقيّا.

(الثالث):

فمرجع النتيجة في باب التعارض في المرجّحات إلى أحد الدليلين إلى الترجيح المنصوصة اما راجع إلى السند في أحد الدليلين الذي يوافقان المشهور أو كونه أوثق أو أصدق ، وفي باب التزاحم يرجع إلى المرجّحات الجهتيّة فيرجع بواحد منها الأول الشرط العقلي فيقدّم على الشرط الشرعي لأنّ الحج مشروط بالاستطاعة فيحصل أقسام ثلاثة :

اما الشرعيين ، واما العقليين ، أو مختلفين.

والأول : إذا كان راجعا إلى المصالح النوعيّة الإسلاميّة ، فيقدّم على

٢٨٣

جميع الموارد وإلا بأن كان في مورد فيقدّم الأسبق منهما لعدم بقاء الموارد إذا اشتغل بالأول للآخر والمقدّم زمانا يقدّم امتثالا.

وأما الثاني : بأن كان لأحدهما بدل فيقدّم ما ليس له البدل عليه ، فالبدل أعمّ من أن يكون له بدل شرعي كما في الطهارة الحدثيّة والخبثيّة أو يكون عقليّا كما في الموسعات ، فهذا هو المورد الأهميّة ، فيقدّم الأهم على المهم من جهة انّ الأوامر مشروطة بالقدرة عقلا.

فالأهم موجب لتعجيز العبد بالنسبة إلى المهم فانّ انقاذ الابن موجب لتعجيز إنقاذ الأخ بخلاف العكس ، فحينئذ يبقى المهم بلا أمر فيقدّم الأهم ، فهناك مذاهب ثلاثة إذا أتى المهم وعصا بالأهم :

أحدهما : البطلان ، كما قيل مثل البهائي بعدم الأمر بالمهم أو اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه.

الثاني : الصحّة اما لعدم الاقتضاء للمهم لكونه مقيّدا باطلاق الأهم إلا بالعصيان بالأهم للترتّب كما إذا نذر المسافرة في كل يوم الخميس للزيارة ثم عصا ولم يسافر يتمّ صلاته ويصوم في شهر الصيام ، وهذا ليس إلا بامكان الترتّب لوقوعه وصحّته وعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعلى القول بالترتّب فالأمر يكون طوليّا بقوله : إن عصيت الأهم فأت بالمهم ، فيجب أن يكون الخطاب هكذا : أيها المسافر لا تنوي الإقامة وإن نويت فصلّ التمام أو بقيت إلى الزوال يجب عليك الصوم.

٢٨٤

الرابع :

هي أن تكون نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر بأحد من الوجوه المذكورة يرجع إلى رفع الحكم عن موضوعه ، وفي باب التزاحم يرجع إلى الحكم برفع موضوعه.

الخامس :

انّ التزاحم على خمسة أقسام كما قيل الأول : أن يكون في زمان ويكون راجعا إلى الضدّين كما في وجوب صوم يوم معيّن وحرمته في ذلك اليوم ، الثاني : التزاحم بالنسبة إلى قدرة المكلّف كقدرته على قيام أحد الركعتين فقط ، الثالث : أن يكون التزاحم زمانيّا في الوجود كاستقبال القبلة واستدبار الجدي ، فالاستقبال ملازم لاستدبار الجدي في الخارج ، الرابع : أن يكون التزاحم في الاجتماع في الأمر والنهي ، الخامس : أن يكون التزاحم في التصادق كتزاحم الجهتين مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق» ، ولكنّ هذا القسم غير مستقيم لعدم صحّة هذا الترتيب.

وثانيا : القسم الأخير ليس من باب التزاحم بل راجع إلى باب التعارض ، والأولى في الترتيب وهو الأول النافي للزمان الثاني النافي في قدرة المكلّف كما ذكر.

الثالث : التنافي توقّف في مقدّمة الحرام كما في الضدّ كالتصرّف في ملك الغير لإنقاذ الغريق.

٢٨٥

الرابع : التنافي التلازم في الوجود كما ذكرنا.

الخامس : التنافي في الاجتماع وهذه الثلاثة الأخيرة تكون على قسمين ، بمعنى كل واحد منهم ان كان دائميّا يكون راجعا إلى التعارض وأما إذا كان اتفاقيّا فيكون راجعا إلى باب التزاحم ، كما انّ الجهتين أيضا كذلك إذا كان دائميّا يكون راجعا إلى باب التعارض ، وأما إذا كان اتّفاقيّا يكون راجعا إلى باب التزاحم.

وتوضيح ذلك : انّ القسم الثاني من هذه الأقسام يكون اتّفاقيّا لا غير وغير الأخير يكون اتّفاقيّا دائما ، والأخيران إن كان من باب التصادق يدخل تحت باب التعارض وإذا كان من باب الاجتماع يكون من باب التزاحم ، وأما القسم الأول وهو التنافي في متعلّق التكليف يقدّم هذا القسم على ساير الأقسام.

نذكر سائر الأقسام في باب التعادل والتراجيح.

السادس :

انّ موارد التزاحم كان في التشريعيّات التي كان وضعها ورفعها في يد الشارع بأن يكون تحت قدرة المكلّف بحكم الشارع بصرف قدرته إلى أحد الموضوعين ، فانّ الأهم موجب صرف قدرته إليه كما في إنقاذ الابن إذا اجتمع مع الأخ فتصرف قدرة العبد إلى أحد الوجهين في عالم التشريع بحكم الشارع بتقديم الأهم على المهم :

وأما مثل التكوينيّات كالبلوغ والعقل لا تزاحم بينهما ، نعم ؛ قد

٢٨٦

يقع التزاحم في باب القدرة كفروع الزكاة كما إذا كان مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستّة أشهر ثم ملك واحدة أخرى من الإبل فمقتضى القاعدة الأولية ، هو أنه عند انقضاء الحول لخمس وعشرين إبلا يؤدّى خمس شياه لكل خمس إبل شاة ، وبعد انقضاء ستّة أشهر الذي ذكره ، لكن بعد ما قام الدليل على أنه لا يزكّى المال في عام واحد مرّتين فيقع حينئذ التزاحم بين دليل حول النصاب وهو الخمس والعشرين والستّ والعشرين ولا بدّ من سقوط ستّة أشهر من حول أحدهما ولعلّه يتّفق التزاحم في هذا المورد إلا أن الغالب يقع باب التزاحم في ما كان للعبد فيه القدرة.

وقد علم مما سبق أن التزاحمين إذا كان شرعيين فيرجع أسبق منهما حكما فيقدّم لفعليّة امتثاله على الآخر كما إذا نذر المكلّف بصوم يوم الخميس ويوم الجمعة ، وإذا لم يكن قادرا إلا صوم أحد اليومين فلا محيص من ترجيح الأسبق منهما ولو كان المتأخّر أهمّ ، كما إذا دار الأمر باتيان أحد للقراءة أو القيام للركوع ولكن اختلف في المسائل من الأمثلة كما إذا نذر زيارة الحسين ـ عليه‌السلام ـ في يوم عرفة قبل أشهر الحرم ثم حصل الاستطاعة للناذر بعده.

وعن المحقق السيّد اليزدي ـ قدس‌سره ـ العمل بنذره بأنه أسبق فانّ النذر راجح في حينه وانه ليس بمستطيع حين النذر وليس تحليل الحرام ، فالعمل بالنذر بمقتضى القاعدة لعدم استطاعته حينه ، وفيه انّ الرجحان يلزم حين العمل لا حين النذر وهو المستفاد من الأدلّة فيحلّ النذر إذا صادف بيوم المعيّن وان شرط الله قبل شرطكم.

٢٨٧

«الحادي عشر» :

«في الترتّب»

لمّا كانت مسألة الترتّب معنونة في بابين ؛ أحدهما : في المقام وهو باب الضدّ ، والثاني : في باب الجهر والإخفات والقصر والإتمام كليهما بنحو الترتّب كما عليه بناء الشيخ ـ رحمه‌الله ـ فيجب أن نقتفي أثره وأول من صحح العبادة المبتلى بالضدّ بنحو الترتّب على ما حكى المحقق الثاني فانه في شرح قول العلّامة ـ قدس‌سره ـ ببطلان صلاة من عليه دين حالي معجّلا في أول الوقت ، قال : ويمكن تصحيحها أولا بمنع المقدّمة ، وثانيا : بنحو الترتّب ، وثالثا : بالملاك ، وتبعه كاشف الغطاء وصهره والمحقق وأخوه وجماعة من المتأخّرين ـ كالنائيني وغيره (قدس‌سرهم) ـ.

ومعنى ترتّب أحد الحكمين على الآخر في المقام هو ترتّب أحد الخطابين على عصيان الآخر ، ثم انّ تصحيح الخطابين بنحو الترتّب يقال في مقامين :

الأول : في باب الضدّ وبأنحائه.

الثاني : في باب ما إذا توقّف الواجب على مقدّمة محرّمة يتوقّف إطفاء الحريق أو انقاذ الغريق يتوقّف على التصرّف في ملك الغير فبعد بطلان القول بأن التصرّف ليس حراما إذا كان الإنقاذ والإطفاء أهمّا

٢٨٨

ولو قصد به المتصرّف التنزّه للوجدان الحاكم بأنه إذا لم يقصد المتصرّف الإطفاء أو الإنقاذ لم يخرج التصرّف عن الحرمة بحسبه.

أما باختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة كما اختاره صاحب الفصول (رحمه‌الله) ، وأما القول باختصاصه بما إذا قصد بالمقدّمة التوصّل بها إلى ذيها كما اختاره الشيخ ـ قدس‌سره ـ.

وأما القول بالترتّب ، ثم يقع الكلام تارة في أصل صحّة الترتّب وأخرى في دخول المقام في عنوان الترتّب وفي الصغرى أي على فرض صحّة الترتّب هل يصحّ تعلّق الخطاب بالجهر والاخفات معا نحو الترتّب أولا ملازمته بينهما.

وتنقيح البحث في الكبرى موقوف على تمهيد مقدّمات :

«الأولى» :

في بيان ما يلزم من المحذور من تعلّق الخطاب بشيئين حتى نرى أن الالتزام بالترتّب يرفعه أم لا؟.

فنقول :

وإن قيل بمحاذير عديدة في الالتزام به مثل الالتزام بالواجب المعلّق أو الالتزام بالشرط المتأخّر وأمثالهما من المحاذير كما سيجيء تنقيحها في طيّ المباحث إن شاء الله ، إلا أن ما يلزم من المحذور في مسألة الضدّين من شخص واحد في زمان واحد هو محذوره والالتزام بالجمع بينهما إلا أن اللازم تعلّق الطلب بشيئين في زمان واحد من

٢٨٩

شخص واحد هو طلب الجمع بينهما.

فلو أمكن المكلّف الجمع بينهما الّا أن اللازم من تعلّق طلب المولى بكل منهما في زمان واحد كالصلاة والصوم فلا محذور ولو لم يمكن الجمع كانقاذ الغريقين أو الصلاة والإزالة فهذا هو الطلب للضدّين والالزام بالجمع بينهما ثم الجزء الأخير للعلّة التامّة للالتزام بالجمع بين الشيئين هل هي فعليّة الخطاب الناشئة من اجتماع شرائطهما أو إطلاقهما أي تعلّق الطلب بكل منهما مطلقا في زمان فعل الآخر وتركه ، فلو كان منشأ الإلزام بالجمع فعليّة الخطابين فالترتّب لا يصححه ولا يرفع الإلزام بالجمع لأنّ كون أحد الخطابين مترتّبا على عصيان الآخر مع فعليّته ولحصول شرطه وفعليّة الآخر الذي هذا مترتّب عليه لا يفيد ليرفع محذور طلب الجمع.

فالحكمان لو كان بينهما أهميّة يسقط خطاب المهم ولو لم يكن بينهما أهم ، فمن جهة البطلان الترجيح بلا مرجّح يسقط كلاهما والعقل لإحراز الملاك في كلا الخطابين لأنّ الباب باب التزاحم يستكشف خطابا تخيّريّا نظير التخيير في الخصال ، غاية الفرق بينهما ، انّ التخيير في الخصال لعدم المقتضى في الجمع لأنّ كلا من العدلين قائمان بمصلحة واحدة والتخيير في المقام للمانع من الجمع ولو كان منشأ الالتزام بالجمع إطلاق الخطابين فالترتّب يرفع طلب الجمع لتقييد أحد الخطابين بمعصية الآخر كما انّ تقييد كل منهما بترك الآخر أيضا يرفع طلب الجمع.

٢٩٠

وبالجملة :

لو كان المحذور ناشيا من إطلاق الخطابين فيجب أن يرفع المحذور بقدر المحذور ، لأن المحذورات تتقدّر بقدرها ، فلو كان بينهما أهميّة يرفع إطلاق المهم ولو لم يكن يقيّد كل منهما بالآخر ، وأما رفع أصل الخطاب فلا موجب له ، وعلى هذا فقول الشيخ ـ قدس‌سره ـ في المقام بأنّا لا نعقل الترتّب في المقامين وانّما يعقل ذلك فيما اذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق المعصية ، الأول كمن عصا بترك الصلاة مع الطهارة المائية فكلّف لضيق الوقت بالترابيّة مع قوله في أوائل مبحث التعادل من أن وجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة بضميمة ما ذكرناه في مسألة الضدّ من أن المانع عن الترتّب هو الالتزام بالجمع بينهما تفاوت بيّن.

وذلك لأنه لو لم يكن ما ذكرناه في مسألة الضدّ لأمكن حمل كلامه في المقام بأنّا لا نعقل الترتّب على عدم معقوليّته من باب الشرط المتأخّر أو الالتزام بالمعلّق ولكن بعد ما ذكر في مسألة الضدّ بأن المانع هو طلب الجمع وعدم اعتنائه بما ذكروه محذورا له من ساير المحاذير يعلم انّ وجه عدم معقوليّته فيما ذكره في المقام هو الإلزام بالجمع والإلزام بالجمع لو كان ناشيا عن الفعليّة لما كان وجه لما ذكره في باب التعادل من أن إطلاق كل من الخطابين يقيّد بعدم امتثال الآخر لأن لازم الفعليّة أن يتساقط الخطابان لو لم يكن بينهما أهميّة.

٢٩١

والمهم لو كان الآخر أهم لا يفيد كل منهما أو أحدهما لأن يقيّد الإطلاق لا يرفع الفعليّة ولو كان ناشئا عن إطلاق الخطابين لما كان وجه لما ذكره في المقام من عدم المعقوليّة.

فانّ ما ذكره في باب التعادل من تقيّد كل من الخطابين ليس إلا ترتّبين أي كل من الخطابين مترتّب على عصيان الآخر.

وما أنكره في المقام ترتّب واحد ولا يعقل صحّة ترتّبين وفساد ترتّب واحد.

وبالجملة : وإن كان الفرق بين المقام أنه ترتّب واحد وفي باب التعادل ترتّبان ، وانّ في المقام لو ترك الأهم وأتى بالمهم يعاقب بخلاف ما إذا قيّد إطلاق كل من الخطابين فانه لو امتثل واحدا منهما لا يعاقب لعدم حصول الشرط المتروك إلا أن الفرقين ليسا فارقين في المحذور ، فتلخّص انّ الترتّب في موارد إطلاق الخطابين.

«المقدّمة الثانية» :

انه لا إشكال في الفرق بين علل التشريع وشرائط المجعول ، فانّ علّة الجعل والتشريع ما يوجب ارادة الجاعل للجعل وينشأ ارادة التشريع منه كالمصالح والمفاسد.

وبعبارة أخرى : هو عبارة عن العلّة الغائية المقدّمة على الفعل تصوّرا والمتأخّرة عنه ترتّبا اما غالبا أو دائما لأن مثل رفع العطش الذي

٢٩٢

هو علّة لشرب الماء أيضا وان يتوهّم مقارنته للشرب إلا أنه متأخّر عنه حقيقة.

وأما شرائط المجعول فهي عبارة عمّا يؤخذ موضوعا للأحكام بنحو القضيّة الحقيقيّة من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل ، أو الخاصّة كالاستطاعة والخلوص عن الحيض مثلا والشرط بحسب الاصطلاح هو هذا القسم من الشرط ، فاطلاق الشرط على العلل مسامحة والتعبير عنها بداعي الأحكام أولى. ثم كلّما كان من قبيل العلل فهو واسطة للثبوت وكل ما كان من قبيل الشرائط فهو واسطة في العروض لأن الواسطة في الثبوت عبارة عن خصوصيّة بواسطتها يعرض عرضا على المعروض فهي علّة لعروض العرض على المعروض كالنهي عن الفحشاء الذي هو واسطة لثبوت الحكم على الصلاة والواسطة في العروض عبارة عن الموضوعات والمحمولات التي صارت هذه الموضوعات موضوعا لمحمول آخر كالاستطاعة التي هي واسطة لعروض وجوب الحج على أشخاص المكلّفين ، فالحكم يعرض أولا للمستطيع ، وثانيا على زيد.

وبعبارة أخرى : الحكم يعرض أولا للعناوين المأخوذة بنحو القضيّة الحقيقيّة موضوعا للحكم ثم يعرض الحكم ثانيا على الذوات المتّصفة بهذه العناوين كالضحك العارض أولا للتعجّب ثم بواسطة كون الإنسان متّحدا مع المتعجّب يعرض للانسان فالتعجّب علّة للعروض لا أنه علّة للثبوت وكون الشرائط المجعولة واسطة في الثبوت موقوف على الأمرين على سبيل منع الخلو :

الأول : أن يكون السببيّة مجعولة بنفسها لأنّ الأسباب لو تعلّق

٢٩٣

بها الجعل وكانت قابلة للانشاء تشريعا فكل شرط للمجعول سبب لثبوت المجعول خارجا ولا يحتاج إلى جعل الحكم أصلا. مثلا لو كانت السببيّة للدلوك أو السببيّة للاستطاعة مجعولة أي أمكن إنشاء السببيّة للدلوك والاستطاعة فيترتّب عليها وجوب الصلاة والحج قهرا ويصير الدلوك مثلا واسطة لثبوت الوجوب على الصلاة ، فكل شرط للحكم المجعول علّة لثبوت الحكم على موضوعه فيتحد علل الجعل وشرائط المجعول لأنّ كل منهما علّة الجعل.

والثاني : أن يكون الأحكام الواردة في الشريعة إخبارا عن إنشاء الأحكام بعد تحقق موضوعاتها وشرائطها أي كان قوله ـ عزوجل ـ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، إخبارا بما سيأتي بمعنى أنه لو استطاع زيد أو عمرو ينشأ بعد استطاعتهم لكل شخص حكم مخصوص وانشاء على حدة لعلّة مشتركة بينهم وهي الاستطاعة فتصير الاستطاعة علّة لثبوت وجوب الحج على زيد.

وهكذا البلوغ لانشاء الحكم على عمرو ومعصيته حكم علّة الانشاء حكم آخر على بكر وهكذا ترجع جميع الشرائط العامّة والخاصّة الى علل الجعل لأن جميعها بعد تحققها واسطة لانشاء الأحكام على المتّصف بها والواجد لها فعلى فرض ثبوت أحد هذين الأمرين جميع الشرائط راجعة الى علل الجعل ، وإذا كانت علّة له ولا يعقل الترتّب أصلا ولا يرد إشكال الشرط المتأخّر رأسا لأن كلا من الأهم والمهم حكمان عرضيّان ثابتان لثبوت علّتهما غاية الأمر كل لعلّة على حدة ، ويكون علّة جعل المهم معصية الأهم

٢٩٤

يوجدها علما لا عينا خارجيّا لأن علل الأحكام والإدارات علّة لوجودها العلمي لا لوجودها الخارجي ، ولذا لو علم بوجود الماء يتحقق إرادة شربه ولو لم يكن هناك ماء بل سراب ولو لم يعلم لم يتحقق ارادة شربه ولو كان هناك بحر كما انّ شرائط المجعولات شرائط بوجودها العيني الخارجي ولذا قلنا : انه يفرض وجودها خارجا وينشأ الحكم على تقدير وجودها بحيث لو لم يتحقق خارجا لا يصير الحكم فعليّا.

وبالجملة :

لو كانت الشرائط علل للجعل لكان وجوده العلمي علّة ووجودها كذلك موجود فالحكم بالمهم متحقق في عرض الحكم بالأهم فليس هناك ترتّب ولا طوليّة بل حكمان عرضيّان وفعليّان واردان على شخص واحد في زمان واحد. وكذلك لا معنى للاشكال على الشرط المتأخّر لأن الشرط لو كان علّة للثبوت علّة لوجودها العلمي لا بوجودها الخارجي العيني ، فأين تأخّر حتى يرد الإشكال فلا يعقل وكذلك لو كانت الشرائط علّة للجعل لثبوت الحكم على أشخاص المكلّفين بعدد آحادهم صحّ إطلاق واجب المطلق على المشروط الحاصل شرطه لأن شرطه لو كان علّة لا موضوعا وواسطة للعروض لا يبقى للواجب شرط بعد تحقق علّته فهو مطلق فتحصل أن يكون موضوعات الأحكام واسطة لثبوت الأحكام على الأشخاص المكلّفة موقوف إما على قابليّة السببيّة للجعل ، وإما على كون الأحكام الواردة عن الشرع إخبارا عن ما سيأتي. وأما لو لم تكن السببيّة قابلة للجعل ولم تكن

٢٩٥

الأحكام إلا إخبارا عن المجعولات فيما مضى فيصير موضوعات الأحكام وسائط للعروض والحق عدم قابليّة الأسباب للجعل وكون الأحكام إخبار عن المجعولات في ما مضى.

أما الأول : فلبداهة انّ سببيّة السبب ليست إلا خصوصيّة في ماهيّة الشيء بها يترتّب عليه المسبب وهذه الخصوصيّة غير قابلة للجعل التكويني إلا بالانقلاب أو المعجزة التي راجعة إليه فضلا عن التشريعي فبإنشاء الإحراق للجدار والتبرّد للنار لا يحدث الحرارة ولا البرودة ، هذا مضافا بأنه لو أنشأ سببيّة الدلوك بوجوب الصلاة مثلا يلزم أن يكون إرادة الشارع للحكم من رشحات الدلوك تابعا لتحققه مع انّ القائل بقابلية السبب للجعل قائل بأن المسببات أيضا مجعولة وعلى هذا جعل الحكم بعد جعل علّته التامّة لغو وبالجملة بطلان القول بقابليّة الأسباب للجعل من أوضح الواضحات ، وسيجيء ان شاء الله تحقيقه في محلّه.

وأما الثاني : فأمره واضح وبداهته أظهر :

اما أولا لظواهر الأدلّة بأخذ الشرائط من قبيل الأوساط في العروض فيقال : انّ المستطيع يجب عليه الحجّ كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وإن كان الواجب أن يقال : أيها الناس الاستطاعة سبب لإنشاء وجوب الحج على زيد وعمرو وبكر بحيث كان الإنشاء والمنشأ متعددا بحسب تعدد الأشخاص.

وأما ثانيا : فلأن العلم بالصلاح الذي هو علّة تخلق العالم على نحو الحدوث الزماني علّة أيضا لجعل الأحكام والإنشاء على نحو

٢٩٦

القضايا الحقيقيّة فلو كان إنشاؤها مصلحة يستحيل تخلّفها عن تعلّق الجعل بها ، فعلى هذا يكون الأحكام الصادرة من صاحب الشريعة إخبارا عن اللوح المحفوظ أو لإيجادها معها إنشاء على طبقها ، ولا يعقل لأن يكون إخبارا عمّا سيأتي فعلى هذا لا مانع من أحد عصيان خطاب موضوعا لخطاب آخر ، ويصير العاصي موضوعا للتكليف أولا وشخص المتّصف بالعصيان موضوعا له ثانيا ولا يصحّ إطلاق المطلق على المشروط الحاصل شرطه لأنّ بعد حصوله أيضا لا يخرج عن المشروطيّة ، ولا يندفع إشكال الشرط المتأخّر لأنّ لحاظ الشرط للانشاء والشرط للمنشإ كان بالوجود العيني شرطا.

فتلخّص : انّ الترتّب في الشرط المجعول وهو كون الأحكام بنحو الحقيقة الشرعية وهو واسطة في العروض وإلا فلا ترتّب كما عرفت تفصيلا.

«المقدّمة الثالثة» :

انّ شرط الواجب مطلقا موسعا كان أو مضيقا تارة يؤخذ تحققه المساوق للانقضاء شرطا ، وأخرى يؤخذ تلبّسه المساوق للفعليّة شرطا.

وبعبارة أخرى : قد يؤخذ ماضويّة الشرط الذي هو محل النزاع في المشتق شرطا وقد يؤخذ التلبّس بالشرط الذي هو محل الوفاق في باب المشتق شرطا وهذا لا اشكال فيه بحسب الثبوت والاثبات امّا ثبوتا فلأنه لا مانع من أخذ الشرط مقدّما على المشروط زمانا أو مقارنا معه ولا ينافي هذا كون الشرط بمنزلة الموضوع للحكم والحكم يجب تأخّره عن المشروط لأنّ تأخّره عنه بمعنى تأخّره عنه رتبة لا زمانا لأن حال الأحكام الشرعيّة وترتّبها على موضوعاتها ليس إلا كترتّب المعلولات التكوينيّة على عللها ، فانّ النار

٢٩٧

حال وجودها بحسب الزمان يؤثّر في الإحراق فيمكن أن يكون الموضوع الشرعي أيضا متحققا مع حكمه في زمان واحد وإن كان الحكم متأخّرا عنه رتبة.

وأما ثالثا : فلا إشكال في مقارنة الصوم زمانا مع طلوع الفجر وصحّة الصلاة في أول الحقيقي من الظهر ، هذا حال الشرط المقارن ، وأما الشرط المقدّم ووقوعه في الشرعيّات فأمره أظهر غاية الأمر لا بدّ أن يجعل الشرط جزء الأخير للعلّة التامّة هو آخر زمان انقضاء الشرط حتى تتقارن العلّة مع معلولها زمانا كتعلّق التكليف بالتيمم بعد عصيان الطهارة بالماء وتعلّق وجوب الزكاة بعد بلوغ النصاب.

ويظهر من بعض المحققين كصاحب هداية المسترشدين والمحقق الرشتي ـ طاب ثراهما ـ انه لا بدّ من تحقق الشرط أولا ثم تحقق المشروط أي لا يمكن تقارنهما زمانا ، ولذا قال صاحب الهداية انه لا بدّ من فرض الوجوب آناً ما قبل طلوع الفجر وإلا يلزم إما طلب الحاصل أو طلب المحال.

توضيح مرامه : انّ طلوع الفجر شرط إما للواجب دون الوجوب بنحو الوجوب المعلّق ، وإما شرط للوجوب بنحو الشرط المتأخّر وعلى أيّ حال فالوجوب متحقق قبل طلوع الفجر وإلا لو تعلّق الوجوب مقارنا له فالآن الأول من طلوع الفجر أي انّ الحقيقي إما تحقق الصوم من المكلّف فبعد تحققه طلب الصوم منه في هذا الآن طلب الحاصل ، وإما لم يتحقق منه فطلبه منه في هذا الآن يشتمل لانقضائه فلا بدّ من فرض الوجوب

٢٩٨

قبل طلوع الفجر حتى يتمكّن المكلّف من الصوم حين طلوع الفجر.

وفيه : انّ فرض الوجوب قبله آناً ما من باب تحقق شرطه قبله إما بنحو المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر فرض بلا موجب لأنّ فرضه إما للزوم تقدّم الموضوع على الحكم تقدّما زمانيّا فقد عرفت انه ليس بلازم لأن الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها ليست إلا كحال المعلولات التكوينيّة وعللها ، فانّ النار حين وجودها محرقة لا بعده ، واما للزوم تأخّر الانبعاث عن البعث أي يجب أن يكون بعث أو لا حتى ينبعث العبد منه.

وفيه : لا يشكّ في اعتبار المقارنة الانبعاث مع البعث أي حين البعث ينبعث العبد فيجب أن يكون تحريك المولى باقيا حتى يتحرّك العبد بحركة كتحرّك المفتاح حين تحريك اليد ، نعم : يجب علم العبد بانشاء البعث كما يجب على المولى إنشاء البعث قبل زمان البعث فينشأ المولى الصلاة في الوقت أولا ثم يطّلع العبد عليه ثم يصلّي حين بعثه إلى الصلاة وهو أول الوقت الذي يجب فيه الفعل هو وقت البعث الفعلي كما هو وقت العلم بالفعليّة لأنه إنشاء البعث في هذا الزمان لا البعث قبله فحقيقة البعث يتحقق أول الوقت كما انّ العلم بالبعث الفعلي يتحقق أول الوقت.

نعم ؛ العلم بأصل الإنشاء يجب تحصيله قبل الوقت فالعلم بالبعث الفعلي مثل أصل الوجوب كما لا يعقل تقدّمه مع أخذ الوقت موضوعا له كما انه لو تحقق الوقت لا يعقل تأخّر البعث عنه فلو أنشأ

٢٩٩

التمليك بعد الموت لا يعقل تحققه قبله ولا عدم تحققه بعده وإلا يلزم تخلّف المجعول عن الجعل أو الجعل عن المجعول ولذا قلنا ببطلان الشرط المتأخّر والمتقدّم والواجب المعلّق وسرّه انه لو كان المتأخّر بوجوده الخارجي شرطا لفعليّة الحكم كيف يتعلّق فعليّته قبل تحققه ، وكذا لو تحقق الشرط وسبب الفعليّة كيف يتأخّر الفعليّة من الشرط لا من باب انّ تأثير المعدوم في الوجود ممتنع بل للخلف وكذا لو كان للشرط دخل في تحقق الفعليّة وملاك الحكم فالواجب مشروط لا معلّق لو لم يكن له دخل ، فالواجب مطلق ، ويجب تحصيل مقدّماته ولو كان من قبل الوقت فيلزم جرّ الزمان.

وبالجملة :

حال الشرائط وموضوعات الأحكام حال الأسباب الخارجيّة إذا تحقق الموضوع يتحقق معه الحكم زمانا وإذا لم يتحقق لا يعقل تحقق الحكم وترتّب الحكم على الموضوع صار منشأ لتوهّم جعل السببيّة فتوهّم انّ سببيّة الموضوع تحقق الحكم مجعولة.

فتلخّص مما ذكرنا من إمكان أخذ الشرط بنحو تلبّسه شرطا وموضوعا للحكم بل لا بدّ من أخذه كذلك ولذا قلنا : انّ الشرط بنحو الانقضاء هو آخر الأزمنة انه لا بدّ من تحقق زمان الوجوب والواجب في زمان الشرط حتى في مورد الموسع فضلا عن المضيق ، فالآتي بصلاة الظهر في آخر أزمنة وجوبها آت بما هو تكليفه في هذا الحال ومنبعث عن البعث الذي تعلّق به في هذا الزمان لا عن البعث في أول الوقت

٣٠٠