الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

كما تقضي به العادة في المطلق والمقيّد.

هذا تمام الكلام في العام والخاص بجميع أقسامه بعون الله تبارك وتعالى.

**

الخامس : في المطلق والمقيّد :

ينقّح بطيّ مباحث البحث الأول في حدّه ، عرف له حدّين :

(الأول) :

انّ المطلق ما دلّ على شايع في جنسه أي على حصّة محتملة الصدق على حصص كثيرة مندرجة تحت جنس ذلك الحصص ، وهو مفهوم كلّي الذي يصدق على هذه الحصص ، وعلى غيرها ك : «أعتق رقبة» فانها شايع في جنس يصدق على المؤمنة والكافرة والزنجيّة والعالمة والجاهلة والصحيحة والمريضة والصغيرة والكبيرة بخلافه إذا قال : «أعتق رقبة مؤمنة» بالعنوان كان في مقام التقييد ولم يكن احتمال صدقه بتخصص كثيرة عن الحدّ كما يخرج في صورة انصراف المطلق إلى فرد خاصة معيّن ويظهر خروج الاعلام الشخصيّة من الحدّ لعدم الاحتمال فيها إلا لمعيّن خاص ويلحق به المعهود الخارجي.

وأما المعرف بلام الجنس المأخوذ معه إضافته بعض قيوده

٥٠١

كالرقبة المؤمنة ولم يدلّ دليل على خروجه ، ويخرج عنه باعتبار كونه حصّة مندرجة تحت جنسه إلا الجنس كالحيوان لعدم اندراجه تحت جنس مع أنه من أفراد الحدّ ، فانّ الماهيّة الغير الملحوظة يخرج عن الحدّ فانها لم يلاحظ فيها الإضافة إلى شيء كاسم الجنس والاحتمال ليس في الحدّ على وجه الشمول والاستغراق لجميع ما تحتملها تلك الحصّة خرج العام فانه يدلّ على حصّة مستغرقة.

وأما الماهيات فهي خارجة عن الحدّ على النكرة ، فاذا قال : جئني برجل انه غير معيّن مندرج تحته جنسه محتمل الصدق على حصّة كثيرة ، ويلحق بها المفهوم الذهني ، وأما المفهوم الخارجي يلحق بالاعلام الشخصيّة ويصدق الحدّ بعلم الجنس ، فالتعريف فيه لفظيّ كالتأنيث كأسامة ، والمشهور أنه مما هو متعيّن بالتعيّن الذهني يعامل معه معاملة المعرفة ويخرج ما كان وضعه عامّا ، والموضوع له خاصّا.

(الثاني):

عرّف المطلق جماعة منهم الشهيد بأنه لفظ دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، والمراد من الماهيّة أعمّ من الماهيّة الغير الملحوظة منها شيء كالحيوان مثلا من دون ملاحظة لحوق فصل للجنس من غير فرق بين التعبير عنها بما يكشف عن الماهيّة المركّبة على وجه الإجمال كالفرس في المثال أو على وجه التفصيل كقولنا : «حيوان ناهق أو ناطق» فيشمل الحدّ لما هو المقيّد أو لغير المقيّد أصلا لكنّه ملحوظ من جهة إطلاقه في حصص وافراده ، فانه يصدق عليه أيضا انه دالّ على الماهيّة

٥٠٢

من حيث هي هي ، ولا يوجب المطلق مما لا يقيّد فيه كما في جنس الأجناس ، إذ لا فرق قطعا بين الإجمال والتفصيل ، كما لا يخفى.

وأما الماهيّة الملحوظة صحّ التشخيص وإن كان على وجه الإبهام كما في النكرة الظاهر عدم انطباق هذا الحدّ على ولا يمكن إدراجها تحته إلا بتكلف فاسد ، فالإنصاف انّ الحدين كلاهما قاصران عن بيان ما هو المراد من المطلق كما يظهر من تضاعيف كلماتهم ومطاوى موارد الإطلاق والحدّ الأول لا يصدق على اللفظ الدال على الماهيّة المطلقة كاسم الجنس كالحيوان والفرس والحجر وغير ذلك مع انه من أفراده.

والثاني لا يصدق على النكرة مع انّ القوم قد عاملوا مع كل واحد منهما معاملة المطلق وأجروا عليه أحكامها من غير فرق بينهما ، ولا يبعد أن نعرّف المطلق بما هو المستفاد من اللغة وفاقا للشيخ ـ قدس‌سره ـ فانّ المطلق في اللغة ما أرسل عنانه فيشمل الماهيّة المطلقة والنكرة يكون المقيّد بخلاف الإرسال فهو لم يرسل عنانه سواء كان مطلقا ومرسلا من الأول ثم لحقه التقيّد فأخذ عنانه وقلّ انتشاره مثل رقبة مؤمنة لا من حيث إطلاقه وإرساله بل بلحاظ التقيّد أو لم يكن مرسلا من أول الأمر كالأعلام الشخصيّة ونحوها ولكن الإطلاق على الأعلام الشخصيّة من قبيل ضيق فم الركية ، وهذا الاستعمال في غاية الشيوع بينهم ولا يرد على المطلق أسماء العدد فانها لا إرسال كما هو الظاهر ، فيقال : «أرسلت الدابّة أطلقها» ومنه الإطلاق فيما إذا تحقق الإرسال.

٥٠٣

«البحث الثاني» :

يقع البحث من جهتين :

أحدهما : فيما وضع له المطلق.

ثانيهما : في أن التقيّد هل يوجب مجازا في المطلق أم لا؟.

والحق كما عليه أرباب التحقيق لا يوجب مجازا فيه.

قال الشيخ ـ قدس‌سره ـ : أول من صرّح بذلك هو السيّد السلطان من أئمة الفنّ وان يظهر من جماعة من المحققين في غير الفنّ كما لا يخفى على المتدبّر.

وذهب بعضهم إلى أنه مجاز ، بل نسب إلى المشهور ، وقال الشيخ : لا أظنّ صدق النسبة إلى المشهور ، وفصل ثالث بين التقيّد بالمتّصل بأنه لا يوجب المجاز وبين المنفصل ، فذهب إلى أنه مجاز ، وذهب النائيني ـ قدس‌سره ـ انّ النزاع بين المشهور والسيّد في مبدأ الإطلاق جار بأن السيّد ذهب بأن الإطلاق من مقدّمات الحكمة ، والمشهور انه من اللفظ.

ولكن قد عرفت وستعرف أن النزاع بينهما في أن القيد هل يوجب المجاز في المطلق أم لا؟ ، وكيف كان انّ تحقيق المقام موقوف

٥٠٤

على تمهيد مقدّمات وهي انّ الماهيّة يمكن اعتبارها على وجوه مختلفة ، فتارة يعتبر على جهة التقيّد بشيء خاص سواء كان ذلك مما يقتضي حصرها في شيء خاص كما في ماهيّة الإنسان الملحوظة معها خصوصيّة زيد على وجه لا يمكن التعدّي أو كان ما يقتضي بعدم حصرها في شيء خاص مثل ما يلحق الإنسان من الاعتبار الموجب لكفاية الإكرام لكل فرد منه في مقام الامتثال لو تعلّق الأمر باكرامه.

ولا ريب انّ ذلك اعتبار زائد على نفس المعنى ولا يلازمه دائما لجواز انفكاكه من الماهيّة وهذا هو المعبّر عندهم بالماهيّة بشرط شيء ولا يوجب بالتقيّد مجازا في المطلق وأخرى يعتبر على وجه عدم التقيّد وهي الموسومة عندهم بالماهيّة بشرط لا وهذا مما لا يحقق لها حكم علمي بعدم إمكان تحققها إلا في الذهن ، فان كان التقيّد الملحوظ عدمه فيها هو الوجود أو ما يلازمه لا يلازمه لا يوجب اعتبار عدم التقيّد مجازا فيه.

وثالثة تلاحظ الماهيّة المطلقة على وجه الإرسال وعدم ملاحظة شيء معها من أمر وجودي أو عدمي في هذه المرتبة ليست إلا هي ، ويمكن حذف جميع ما عداها وسلبها عنها كما انها في هذه المرتبة يحمل عليها الأضداد وهي الموسومة عندهم بالماهيّة اللابشرط شيء والتي يرتفع عنها النقيضان بمعنى عدم أخذهما فيها ، كما هو الموضوع لهما أيضا من دون حاجة لا يلاحظ معها قيد في صحّة حمل الأضداد أو المتناقضين عليها ، كيف؟ ، وتلك القيود لا بدّ من رجوعها إلى الأضداد وهي ثابتة لها من دون قيد دفعا للتسلسل.

٥٠٥

وهذه الوجوه في المطلق والمقيّد باعتبار الماهيّة وفي المشتق باعتبار آخر ولا فرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي إلا بمجرّد الاعتبار والتفات في القسمي بأنه في قبالهما وفي المقسم غير ملتفت به وإن كان أيضا كذلك فانّ الرقبة في ضمن الأقسام يكون بهذا الاعتبار مقسما وباعتبار أنها قسم ويكون قسيما ، وما ذكر إنما يجري بالنسبة إلى جميع القيود التي يمكن لحوقها على أمر سواء كان ذلك الأمر مما قد لوحظ معه شيء آخر غير ما فرض كونه لا بشرط بالنسبة إليه أولا.

وإذا تقرر ذلك نقول : انّ اللفظ الذي ذكرنا في الحدّ الأول على شايع في جنسه وفي الحدّ الثاني انّ المطلق هو اللفظ الدال على الماهيّة من حيث هي هي بكلا قسميه إنما هو موضوع للمعنى اللابشرط الذي لم يلاحظ فيه وجود القيد وعدمه من القيود التي يمكن لحوقها له سواء كانت ماهيّة غير مقيّدة بفرد ، كما هو مقتضى التحديد الثاني أو نكرة كما هو مقتضى الحدّ الأول ، لأن المفروض فيها أيضا إمكان لحوق معنيّة لتشخيص المبهم المأخوذ فيها بالموضوع له هو نفس المعنى الذي قد يكون ذلك المعنى واحدا ، وقد يكون هو بعينه كثيرا ، وقد يكون أبيض حال كونه أسود.

ولا ريب أن المعنى بعد ما كان هذا الوجه لا يعقل أن يوجب التقيّد مجازا واختلافا في جميع مظاهره واطواره وشئونه ، ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع.

فالماهيّة بهذه الملاحظة ملحوظة بشرط شيء كما أشرنا إليه من

٥٠٦

أن الشيء المشروط أعم من ذلك ومن غيره ، لذلك تكون القضية التي أعتبر موضوعها على هذا الوجه من المحصورة في وجه.

وبالجملة : فهي اعتبرت مع نفس المعنى أمر غير ما هو مأخوذ فيه في نفسه ، فهو من أطوار ذلك المعنى سواء كان ذلك الأمر هو اعتبار الوجود الذهني كبشرط لا أو الخارجي كبشرط شيء أو اعتبار آخر غيرهما ، وفي جميع هذه الأطوار نفس المعنى محفوظة لا تبدّل ولا تغيّر فيه بوجه ، وإنما تبدّل وجوه المعنى كما هو الظاهر.

وإلى هذا المعنى المذكور يشير السيّد السلطان بقوله : يمكن العمل بالمطلق والمقيّد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق باطلاقه فلا يجب ارتكاب مجاز حتى يجعل ذلك وظيفة للمطلق فانّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان حتى ينافي مدلول المقيّد بل هو أعم منه ومما يصلح للتقيّد بل المقيّد فى الواقع ألا ترى أنه معروض للتقيّد كقولنا : «رقبة مؤمنة» وإلا لزم حصول المقيّد بدون المطلق مع أنه لا يصلح لا أيّ رقبة كانت ، فظهر أن مقتضى المطلق ليس ذلك وإلا لم يتخلّف فيه.

انتهى كلام السيّد.

قوله : فانّ مدلول ليس صحّة العمل والوجه فيه ما عرفت من أن هذه الملاحظة من أطواره وشئونه ومدلول اللفظ ليس إلا نفس المعنى.

قوله : بل هو أعم منه ، ومما يصلح للتقيّد ، بل المقيّد في الواقع والوجه فيه هو ما عرفت من أن اللفظ موضوع لنفس المعنى الذي هو

٥٠٧

المقسم في الأقسام المعبّرة في المعنى وإن كان أحد أقسامه وهو ما يصلح للتقيّد المعبّر عنه بالماهيّة لا بشرط أيضا نفس ذلك المعنى من غير خلاف بينهما إلا بمجرّد الاعتبار كما عرفت ، بل المقيّد ليس للاضراب كما زعمه بعض الأجلّة ، بل هو للترقّي ، والوجه فيه هو أن المقيّد هو ذلك المعنى القابل للتقيّد الذي عرضه التقيّد بواسطة تلك القابلية وذلك لا يوجب خروج المعنى عمّا كان عليه بل هو هو ، ولذلك يصحّ الحمل عليه ، ولو لا أن اللفظ موضوع لنفس هذا المعنى لم يصلح حمل المطلق على فرد من أفراده في قولك : «زيد إنسان» من دون تأويل ، وخروج عن الظاهر وبطلان التالي كنفس الملازمة ظاهر جدّا إذ الماهيّة الملحوظة على وجه السراية والشيوع ليست متّحدة مع الموضوع بل المتّحد معه هو نفس المعنى على وجه لا يمازجه شيء غيره.

فقضيّة صحّة الحمل بدون تأويل كون اللفظ موضوعا لنفس المعنى القابل للتقيّد والشيوع والسراية خارجة عنه ، ولعمري أن ذلك من المعاني الظاهرة التي لا ينبغي خفائها على أحد إلا أنه يظهر من بعضهم كلمات تخالف ما ذكرنا.

فالقول بالمجازيّة مما لا يعرف له وجها ، والذي يقتضي بذلك مضافا إلى ما عرفت انّ المركّبات لا بدّ لها من وضع شخصيّ أو نوعيّ به يدلّ ما هو المقصود من التركيب من توصيف أو إضافة أو اتحاد.

ففي قولنا : «رقبة مؤمنة» لفظ الرقبة يدل على موصوف كالمؤمنة على صفة والهيئة على التوصيف وكل واحد من هذه المعاني مما يدلّ

٥٠٨

عليها اللفظ بدون وبدون قرينة أو العلاقة ، فمن أين يحكم بكونه مجازا؟ هكذا التوجيه أيضا عن الشيخ.

ثم ذكر في تقريرات النائيني ـ قدس‌سره ـ في المقام في أن أسماء الأجناس الموضوعة بإزاء اللابشرط القسمي ، كما هو مقالة المشهور ، فيوجب التقيّد مجازا ، ثم ذكر أن الحق هو كون أسماء الأجناس الموضوعة بإزاء اللابشرط المقسمي كما هو مقالة السلطان ، فانّ المراد من الماهيّة المرسلة هو نفس الماهيّة وذات المرسل الساري في جميع أفراده والمحفوظ مع كل خصوصيّة. والموجود مع كل طور وليس الفرق بالاعتبار.

قال : فانه لا معنى لكون الفرق بينهما اعتباريّا مع كونه بشرط لا وبشرط شيء من أقسام اللابشرط فانهما مضادّان اللابشرط القسمي بل الفرق بين اللابشرط القسمي والمقسمي لا بدّ من أن يكون واقعا وثبوتا لا اعتباريّا.

وفيه : قد عرفت ليس الفرق بين اللابشرط القسمي والمقسمي إلا بمجرّد الاعتبار ، كما عرفت الوجه مما ذكرنا لعدم المنافاة بينهما ، فانّ اللابشرط يجتمع معها ، وانّ التقيّد لا يوجب مجازا في المطلق لكون اللفظ وضع للمعنى اللابشرط مجرّدا من دون أن تكون السراية والشيوع جزءا للموضوع له ولم يلاحظ فيها وجود القيد وعدمه وانّ اللفظ موضوع لنفس المعنى والمقسم في الأقسام والشيوع والسريان خارجا عنه ، ولا يخرج المطلق عن إطلاقه بلحوق القيد.

فمدلوله ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان حتى ينافي مدلول المقيّد

٥٠٩

بل هو أعمّ منه ، ومما يصلح للقيد فيحمل عليه الأضداد والمتناقضين فليس الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي إلا بمجرّد الاعتبار.

فيظهر مما ذكرنا بطلان قول القائلين بأن المطلق مجاز بعروض القيد عليه ، وانه وضع اللابشرط القسمي ، وانّ السريان والشيوع خبران للموضوع له ، ولا يخفى انّ البحث خلط بالبحث الآتي.

ثم اعلم انّ اللابشرط على ثلاثة أقسام :

(الأول) :

الذي أعتبر فيها الطواري واللواحق والشئون ، ومنها ظهوره على وجه السريان والشيوع بأن يصلح لحوق القيد عليه والماهيّة المطلقة وضع لمعنى اللابشرط ولم يلاحظ فيه وجود القيد وعدمه في حال الوضع وحينئذ بعد لحوق القيد بجميع ظهور وأطوار وشئون ، ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع بالماهيّة اللابشرط بهذا المعنى ، والملاحظة ملحوظة بشرط شيء في المقام ، وهو المبحث المطلق والمقيّد ، فيجتمع مع الأضداد.

(الثاني):

اللابشرط الذي هو كلّي عقليّ العادي عن جميع أنحاء الوجود وهو عند العقل يقال : اللابشرط العقلي ، ولا ربط له بالمقام.

٥١٠

(الثالث):

اللابشرط العرضي الراجع إلى باب المشتق وله جهتان ؛ تارة يلاحظ بالنسبة إلى ذاته في باب الفرق بين الجنس والفصل والمادة والصورة والفرق بين المشتق ومبدئه الاشتقاقي والمراد بشرط هو لحاظ شيء بشرط لا عمّا تجديه لحاظ الجنس بشرط عدم اتحادها مع الجنس وهما بهذا الاعتبار بيان عن الحمل وتارة يلاحظ الربط ويتحد مع موضوعه وهو اللابشرط غير آبيين عن الحمل يصحّ حمل أحدهما على الآخر وحملها على ثالث.

وكيف كان إذا علمت انّ الشياع والسريان ليسا جزءان للموضوع له سواء كان معنى اللفظ نكرة أو اسم جنس لا بدّ من إثباتهما إلى التماس دليل آخر غير اللفظ ، فنقول : انه موقوف على أمرين :

أحدهما : انتفاء ما يوجب التقيّد داخلا أو خارجا.

الثاني : كون اللفظ وارد في مقام البيان لتمام المراد ، وعند ذلك يفيد معنى اللفظ الشياع والسريان.

وإذا علمنا انتفاء أحد الأمرين فيما إذا دلّ الدليل على تقدير المطلق أو علمنا انّ المتكلّم ليس في مقام البيان لا وجه للأخذ بالإطلاق لارتفاع مقتضى الإطلاق ولا لوجود المانع عنه ، وإن كان الدليل الدال على التقيّد أيضا يكفي في رفع ذلك الاحتمال ، ولا يعارض بأصالة الحقيقة في المطلق أو التقيّد لا يوجب التجوّز إنما حمل على الإطلاق والإرسال بواسطة عدم الدليل ، فالإطلاق بمنزلة الأصول العمليّة في قبال الدليل وانّ معدودا في عداد الأدلّة دون الأصول فكأنه برزخ بينهما.

٥١١

وإذا شككنا في أحد الأمرين لا يحكم أيضا بالبراءة والشياع إلا أن يكون هناك ما يوجب ارتفاع الشكّ من أصل أو دليل كما لو علمنا بعدم التقيّد مع الشكّ فيه مع وروده في مقام البيان.

ولا ينبغي الإشكال في أداة التخيير والشياع إذ لولاه إما أن يراد منه البعض المعيّن أو جميع الأفراد ، وكل واحد منهما خلاف الفرض لما عرفت من العلم بعدم التقيّد ، فلا بدّ أن يراد منه التخيّر.

فان قلت : يكفي في إثبات التخيّر والشياع استواء نسبة الهيئة الغير ملحوظة بشيء من الاعتبارات إلى جميع أفراده ، فلا حاجة إلى إحراز كون المتكلّم في صدد البيان لتمام المراد ، كما صرّح بذلك جماعة منهم بعض الأفاضل.

قلت : لو لا كونه في مقام البيان لا يجدي ذلك في إفادة التخيّر إذ استواء نسبة لا ينافي أن يكون المتكلّم في مقام البيان في بعض المراد ، وقد علم إفادة الشياع في ذلك المقام.

نعم ؛ يفيد ذلك بعد إحراز كونه في صدد بيان تمام المراد فيحكم العقل بحصول الامتثال بالنسبة إلى كل الأفراد المتساوية في صدق الماهيّة عليها.

وأما إذا شكّ في أحد الأمرين فانّ الشكّ في ورود المقيّد ، فبأصالة عدم ورود المقيّد المعمولة عند أرباب اللسان يستكشف عدم التقيّد.

٥١٢

ومما لا ريب فيه ، واما عند الشكّ في ورود المطلق في مقام البيان هل هناك أصل يرجع إليه؟ ، قد يقال : انّ أغلب موارد استعمال المطلّقات إنما هو ذلك فعند الشكّ يحمل الإطلاقات ويرجع إليها وليس بذلك بعد.

تذنيب :

وكما ذكرنا من معنى اللفظ وعدّ اعتبار شيء في الموضوع له من الوجوه الطارية والقيود اللاحقة عرفت بعدم الفرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة والنهي بها بحسب القواعد اللفظيّة الممحضة في مداليل اللفظ بحسب الأوضاع اللغويّة.

فانّ قولك : «لا تضرب» لا يفيد إلا طلب ترك ماهيّة الضرب المفروض كونها لا يرد عليها شيء من الاعتبارات ، نعم ؛ ملاحظة ماهيّة الضرب على وجه الشيوع والسريان التي هي أحد الوجوه الطارية عليها ، ثم النهي عنها يوجب التكرار والدوام.

وقد عرفت أن ذلك خارج عن معنى اللفظ ، فلا بدّ من التماس دليل آخر ، كما هو محتاج في الأمر أيضا.

والقول بالفرق من حيث انّ قولنا : «ليضرب ولا تضرب» متناقضان فلا بدّ من القول بافادة النهي التكرار بواسطة بملاحظة المناقضة واضح الفساد لما عرفت من أن نفس المعنى فهو فاسد لجواز اجتماع النقيضين في مقام نفس المعنى فهو فاسد كارتفاعهما ، وإن أريد ثبوته

٥١٣

باعتبار آخر فهو لإثبات فيما نحن بصدده.

«البحث الثالث» :

«في المطلق والمقيّد»

قد عرفت أن حمل المطلق على الإطلاق موقوف على أمرين : وجودي وعدمي ، ويتولّد من كل واحد منهما شرط الحمل على الإطلاق كما أفاده بعض المحققين في فوائده :

(الأوّل):

أن لا يكون منصرفا إلى بعض الأفراد ، والظاهر انّ ذلك الاشتراط في المقام بعد قيام الانصراف مقام التقيّد اللفظي ومن موارد الانصراف وأقسامه :

منها : انصراف بعض أقسام المعنى في الذهن بواسطة أنه به كالشيوع يخطر بالبال كانصراف الماء إلى ما هو المتعارف شربه في البلد كماء الفرات لأهل الكوفة ، وماء دجلة لأهل سامرّاء ، وهكذا مع القطع بعدم مراد المتكلّم.

ومنها : أن يكون أقوى منه لكن يرتفع بالتأمّل يسمّى بالتشكيك البدوي.

٥١٤

ومنها : أن يكون الانصراف المطلق إلى أفراده الشائعة موجبا لاستقرار الشكّ واستمراره على وجه لا يزول بالتأمّل والنظر كالشكّ الحاصل في المجاز المشهور عند التردد في وصول الشهرة حدّا يمكن معها التصرّف إلا أنه في المجاز محكوم بارادة الحقيقة نظرا إلى أصالتها وفي مقام محكوما بالإجمال نظرا إلى أن الحكم بالإطلاق مما لا قاضي به على المختار فلأن بعد احتمال البيان قويّا لا ضير في ترك الإطلاق به ولا يجري أصالة الحقيقة ، وأما على المجازيّة فلأن شيوع هذا المجاز هو الفارق بينه وبين غيره عدم جريان أصالة الحقيقة عند احتماله.

ومنها : بلوغ الشيوع حدّ الشياع في المجاز المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة إلا أنه يحكم بالمجاز بالتوقّف وبالتقيّد في المقام اما على المختار فلما عرفت من صلاحيّة البيان وبعد وجود ما يصلح له لا يحكم العقل بالإطلاق من غير فرق بين القرينة الداخليّة ، أعني الشيوع وغيرها.

ومنها : بلوغ الشيوع وغيرها حدّ الاشتراك ثم النقل ثم انّ الانصراف كما يختلف مراتبه كما عرفت كذلك يختلف مراتبه لأنه بمنزلة التقيّد ، فيستقلّ بل هو هو بعينه إلا أن المقيّد هنا لبّي ، فقد يكون اللفظ من أحد الجهات متصرّفا من جهة أخرى مطلقا ، ويلحق لكل جهة حكمها من دون سراية إلى الأخرى ، ولو شكّ في بلوغ حدّ إلا يؤخذ معه بالإطلاق ففي الأخذ به أو عدمه وجهان ، بل قولان ، ولعل الأول أقرب لعدم العلم ، ولا ما يقوم مقامه من أصل ونحوه بالبيان ، فاعتبار المتكلّم على ذلك نسخ ولا رفع له من حكم العرف بالبيان فتأمّل.

٥١٥

تفريع :

إذا قام إجماع أو نحوه على ثبوت حكم المنصرف إلى شايع للفرد النادر ، فهل يوجب ذلك الحكم باطلاقه للفرد النادر الذي يكون منصرفا بالنسبة إليها أو لا؟ ، فيقتصر على ثبوت الحكم للفرد النادر بدليل خاص ويؤخذ بالانصراف في الجهات الباقية وجهان.

فالمشهور أنه لا إطلاق لتقييده بالانصراف فلا يوجب ثبوت الحكم للفرد النادر من حيث الإطلاق ، بل ثبوت الحكم له بالخصوص فينصرف قوله : «اغتسل للجنابة» وأمثاله إلى ما يحصل بالماء المطلق فلا يجوز التطهير بالمضاف لكونه مقيّدا بالانصراف ونسب إلى الشريف المرتضى لجواز التطهير بالمضاف كما انه من الأفراد النادرة وكذلك الغسل بماء الكبريت ونحوه من الأفراد النادرة أيضا لثبوت الحكم المنصرف إلى الشائع للفرد النادر يوجب ثبوته له باطلاقه من جميع الجهات والإجماع على جواز التطهير بأمثال ماء الكبريت وبذلك يستكشف عن كون المراد هو المطلق على وجه الإطلاق.

ومما ذكرنا يظهر أن السيّد حكم بالإطلاق في ذلك المورد الخاص لا مطلقا ، وهو في محلّه ، وانّ السببيّة المذكورة إليه لا دليل عليها.

(الشرط الثاني):

في حمل المطلق على إطلاقه من أيّ جهة من الجهات أن يكون المتكلّم في مقام بيان تلك الجهة بخصوصها ، فيمسك بالإطلاق في الجهة

٥١٦

التي لم يرد المطلق في إثباتها وفاقا للشيخ ـ رحمه‌الله ـ ولو أفتى مجتهد مقلّده بجواز الصلاة في قلنسوة نجسة فلا يجوز التمسّك بجواز الصلاة فيها إذا كانت مغصوبة ، ولا يستدل على طهارة موضع عضّ الكلب باطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) مع وروده في مقام البيان للحلّية ولا ربط بجهة الطهارة والنجاسة.

نعم ؛ من لا يرى أن جهة العموم في المطلق هو ما ذكرنا ، بل العموم عنده وضعيّ مثل من ذهب إلى أن وجه العموم هو استواء النسبة الماهيّة الملحوظة بنفسها إلى جميع الأفراد من غير حاجة إلى إحراز مقام البيان وإن كان قابلا بخروج الشيوع عمّ المعنى كما هو ظاهر من بعض ، ويشهد بما ذكرنا بالمراجعة إلى المحاورات العرفيّة وموارد الإطلاق المطلق ، فانه أقوى شاهد. ثم انّ وروده في مقام بيان الحكم الآخر قد يكون واضحا جليّا ، وقد لا يكون كذلك فيحصل به الشكّ ، فهل يحكم بوروده في مقام بيان الحكم من جميع الجهات أو من الجهة المشكوك فيها وجهان متباينان على دعوى الغلبة وفي كل منهما مجال الكلام واسع.

تذنيب :

قد عرفت انّ حمل المطلق على إطلاقه أن يكون في مقام البيان في تلك الجهة التي ورد في بيانها ، ولا يسري إلى الجهة التي لم يرد المطلق في بيانها إنما هو إذا لم تكن جهة أخرى ملازمة عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة للجهة التي ورد في مقام بيانها مثل ما ورد في صحّة الصلاة إذ

٥١٧

لم يعلم أنها في ثبوت فيه عذرة ما لم يؤكل لحمه من جهة النجاسة ، ويستدلّ بها على صحّة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه عند عدم العلم بها إذا كانت النجاسة من عدم الانفكاك بينهما على هذا التقدير ، فلو حمل على الإطلاق على الجهة التي ورد في بيانها لزم إلغائه بالمرّة ومثله أيضا أنه سئل الإمام ـ عليه‌السلام ـ عن الكافر إذا وقع في البئر ومات فيها؟ قال : ينزح سبعون دلو ، فانه وإن ورد من جهة النجاسة من حيث أنه كافر لكن النجاسة الحادثة بالموت فيكون ملازما نظرا إلى الإطلاق لا يمكن أن يكون أزيد منها وإلا لغي الكلام ويبقى بلا مورد.

ومنها : ما ورد من طهارة سؤر الهرّة حيث انّ الغالب عدم خلوّ موضع السؤر عن النجاسة فيحكم بكون السؤر طاهرا مطلقا ، ولو كان قبل الملاقاة ملاقيا بالنجاسة بل ذلك هو العمدة في اتّكالهم على طهارة الحيوان بزوال النجاسة فراجع.

ومثله في الاستدلال بعموم البراءة الواردة في الشبهة الموضوعيّة البدويّة على حلّية أطراف الشبهة الغير المحصورة لعدم انفكاك هذه الجهة في الأغلب عنها ، فلو لم يدل على هذه الجهة تبقى تلك العمومات عادم الموارد لأن النادر كالمعدوم.

٥١٨

«البحث الرابع» :

«من أبحاث المطلق والمقيّد»

فاما أن يكون المحكوم متّحدا أو متعددا ، وعلى التقديرين فيهما إما مثبتان أو مختلفان ، وعلى التقدير إما أن يكون الموجب واحدا أو متعددا.

وتنقيح المقام يحتاج بذكر صور ثلاثة :

(الأولى) : إذا اتّحد الموجب المذكور أو مستورا أو كان كلام مبين لا إشكال في حمل المطلق على المقيّد ، ذهب إليه المشهور بل في كلام جماعة صرّحوا بالإجماع كالعلّامة والعميدي والبهبهاني والآمدي والعضدي والحاجبي إذا قال : أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة مجرّدين عن ذكر الموجب أو مضافين إلى قوله : إن ظاهرت ، والعرف يساعد بالحمل بأن المراد من المطلق هو المقيّد فانه جمع بين الدليلين وتوهّم الأمر فيهما على التخيّر بين المفرد والكلّى.

وأما الثاني : فانّ حمل المقيّد بالاستحباب ليس تصرّفا في معنى اللفظ ، وأما التصرّف في وجه من الوجوه ، فالمعنى الذي اقتضى تجرّده عن التقيّد مع تخيّل وروده في مقام تمام المراد يعلم وجود التقيّد إجمالا.

٥١٩

(الثانية) : أن يكون محكوما به متعددا في جميع الصور لا حمل حينئذ كقولك : «أطعم فقيرا ، واكس فقيرا هاشميّا» لعدم ما يقتضي الحمل لعدم الارتباط بينهما إلا أن هناك ما يقتضي أحد الموضوعين الآخرين التوقّف كقولك : «اعتق رقبة» ولا تملك رقبة كافرة ، فانّ توقّف العتق على تلك أوجب تقيّد الرقبة بالمؤمنة كما اختاره في المثال صاحب الكفاية في الحمل فانه عند العتق ذلك خارج عمّا نحن فيه ، فانّ قولك : «اعتق رقبة» بمنزلة أملكها وأعتقها بواسطة التوقّف فيدخل في المتّحدين الذي فيه حمل. هذا إذا كان اختلافهما على وجه تباين كلّي في محل النزاع.

وأما إذا كان بينهما عموما من وجه فلا حمل أيضا إلا إذا كان في مورد اجتماع الفعلين بالامتثال إذا تعلّق الأمر بهما ، ولعلّه ظاهر ، وأما إذا كان بينهما عموما من مطلق فكما إذا كان بين متعلّقهما كذلك.

(الثالثة) : إذا تعدد الموجب ولو كان المحكوم به متّحدا فلا يحمل المطلق على المقيّد أيضا كقولنا : «إن ظاهرت أعتق رقبة» إن قلت : «أعتق رقبة مؤمنة» ، وعليه أصحابنا الإماميّة أجمع لعدم التنافي بينهما ، فلا حمل خلافا لبعض أهل الخلاف فانه قائل بالحمل والجمع يكفي في الاعراض عنه لشذوذه.

ثم إذا عرفت في صور الأولى : انّ الحمل على الاستحباب فاسد لما عرفت من أن التقيّد ليس تصرّفا في معنى اللفظ إما هو تصرّف في وجه من الوجوه المعنى الذي اقتضاه تجرّده عن التقيّد مع تخيّل وروده

٥٢٠