الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

فمعلوم على الأول لا يمكن الدلالة على البقاء فيه واستفادة كونه من قبيل تعدد المطلوب وإن لم يدل على التقيّد فيخرج عن كونه واجبا موقّتا.

ثم استدلّ النائيني ـ قدس‌سره ـ أيضا بمختاره بوجوب قضاء الصوم المعيّن الواجب بالنذر فانه مع مضيّ قيده يستحيل قضاءه بالأمر الأول المقيّد لا يمكن تحصيله بدون قيده فيحمل دليل القضاء على ثبوت واجب جديد بأمر جديد بملاك جديد.

وفيه : انّ المطلق كان في ضمن المقيّد منذورا فالنذر إذا تعلّق بالمقيّد فقد تعلّق بالمطلق لا محالة ، فدليل القضاء دلّ على لزوم الإتيان بذلك المنذور ، نعم وإن كان تعلّق نذر الناذر بالمطلق إلا أنه كان موضوع النذر المطلق والمقيّد معا على نحو وحدة المطلوب ولكنّ الشارع جعل كلا من المطلق والمقيّد مطلوبا على حدة ، وأمر باتيان المطلق الذي يكون منذورا يكون داخلا تحت القدرة وإن كان المقيّد قد خرج عن تحت القدرة بمضيّ وقته.

نعم ؛ حديث عبد الأعلى يمكن أن يكون ناظرا إلى وحدة المطلوب ، وهو تنزيل المرارة منزلة البشرة.

قلت : هذا مناف لاستشهاده ـ عليه‌السلام ـ بأنه نفي الحرج ، فانّ دليل نفي الحرج شأنه الرفع لا الوضع ، فمقصوده ـ عليه‌السلام ـ انّ القيد يسقط بالتعذّر وبقي أصل المطلق مطلوبا فتدلّ الرواية على تعدد المطلوب ويسقط الأمر بالأداء لكونه مشروطا بالتمكّن من اتمام

٢٠١

الركعة في الوقت ، ولا يتوجّه الأمر بالقضاء لكونه مشروطا بخروج الوقت.

واستدلّ ثانيا بأنه إذا ضاق بحيث لم يبق من الوقت إلا أقلّ من مقدار ركعة واحدة فلا يشمل عليه أدلّة الأداء ودليل القضاء ، فيظهر انّ المكلّف به في خارج الوقت مغاير لما كلّف به أولا ، وانّ الواجب صرف الوجود والمطلوب واحد لا تعدد فيه وانه مقيّد بالوقت الخاص ، فيحمل المطلق على المقيّد ويسقط الأمر الأول بمضيّ وقته ، والقيد والمقيد شيء واحد ، فدليل القضاء بأمر جديد فليس دليل تعدد المطلوب لصدق عنوان الفوت عليه.

هذا تمام تقريب ما ذهب إليه ـ قدس‌سره ـ.

وفيه : انّ عدم صحّة الصلاة مطلقا ممنوع ، فيصدق الفوت مع عدم دركه من الوقت مقدار ركعة بل يصحّ الصلاة قضاء لصدق الفوت لها وملاك الأمر الأول موجود ، قوله : انّ الصلاة المطلقة لم يكن في الوقت ذات ملاك بل تحقق الملاك بفوت الوقت بعيد جدّا لوجود الملاك من أول الأمر ، قوله ـ قدس‌سره ـ بعدم صدق الفوت للمطلق فممنوع فانه يصدق عليه في ضمن فوت المقيّد فانّ المقيّد إذا لم يؤت به يصدق فوت المطلق به ، فانّ دليل القضاء وهو يدل على المطلق الفائت كان مطلوبا في نفسه كما كان المقيّد مطلوبا ، وإذا كان الثاني غير قابل التدارك فالأول كان قابلا له فيكون واجب التدارك بالأمر الأول لكون المطلوب متعددا وليس في دليل القضاء منع عن كون المطلوب متعددا ولا استحالة فيه ، والوقوع دليل الإمكان ، ورواية عبد الأعلى صريحة في تعدد المطلوب.

٢٠٢

وأما قوله في نقض ما نحن فيه بعتق الرقبة المؤمنة : بأنه يرتفع الأمر بعدم القيد.

ففيه :

انّ المطلوب فيها هو القيد والمقيّد معا ، فالمطلوب يكون واحدا بخلاف ما نحن فيه فانّ المطلوب متعدد ، وقوله ـ قدس‌سره ـ : انّ كونه من قبيل تعدد المطلوب فيخرج عن كونه واجبا مؤقّتا.

وفيه :

انه لا منافاة بين كونها واجبا مؤقّتا وكون المطلوب متعددا.

فائدة :

بناء على كون الحكم الوضعي كالشرطيّة والمانعيّة والسببيّة ينتزع عن الحكم التكليفي غير قابلة للجعل بذاتها وهو الحق ، وإن كانت ساير الأحكام الوضعيّة قابلة للجعل بذاتها ، فدليل القيد في الشرط كقوله : «صلّ مع الستر» فيكون هذا الحكم تكليفيّا ، فينتزع منه الشرطيّة بداهة انّ الحكم التكليفي لا يكون إلا مع التمكّن ومع عدمه يكون سالبة بانتفاء موضوعه ، كيف ينتزع منه الشرطيّة مع عدم وجود حكم تكليفي؟ فلا يمكن أن نقول : انّ دليل الشرطيّة بالستر شامل مع عدم التمكّن كما قيل ان لها دخالة مطلقة ولا يدلّ دليل القيد بأن الصلاة غير مطلوبة للشارع مع عدم التمكّن من القيد لإمكان التمسّك باطلاق دليل الصلاة في صورة كون دليل القيد منفصلا ، وأما مع اتّصاله لا ينعقد لها إطلاق

٢٠٣

حتى يتمسّك بها كما إذا قال : «صلّ مع الستر» ، وكذا الحال في الجزئيّة والمانعيّة والسببيّة فلا يمكن القول بأن ظاهر الدليل هو الشرطيّة المطلقة والمانعيّة المطلقة والسببيّة المطلقة إلا أن يكون دليل ثانوي يدلّ على دخالة المطلقة في المطلوب الواقعي بأن يستفاد منه إن لم يتمكّن من الستر فأصل الصلاة غير مطلوب.

وبالجملة :

فلا يسقط المطلق مع تعذّر قيده في الأدلّة الأوليّة ، وبمقتضى القاعدة كقاعدة الميسور في كلّ باب يثبت بموافقة عمل الأصحاب وكذلك قاعدة نفي العسر والحرج ، ورواية عبد الأعلى ، واما إن لم يكن الأصل دليل إطلاق الحكم فهل يرجع إلى التمسّك بالاستصحاب بالنسبة إلى الأجزاء الباقية للعلم بوجوبها سابقا ، والشكّ في سقوطها عن الوجوب أم لا كما إذا تعذّر من قراءة السورة وفرض الشكّ في كيفيّة دخلها أو عدم ثبوتها من الأدلّة الثانويّة.

والتحقيق :

عدم جزء زائد لأن السورة إما أن يعلم دخلها في الموضوع فيقطع بانتفاء الحكم بعدم التمكّن منها ، أو يعلم عدم دخلها فيعلم بقاء الحكم أو يشكّ في ذلك فيشكّ حينئذ في بقائه للموضوع ، ويحتمل انّ الواجب كان خصوص الأجزاء التي مع السورة.

وعلى جميع الصور الثلاث لا مجال للاستصحاب ، وعلم انّ موضوع

٢٠٤

القضاء هو الفوت والكلام في أنه إذا شكّ في الفوت وعدمه بعد الوقت فيما يجري قاعدة الحيلولة كما هو مذهب النائيني ـ قدس‌سره ـ فهل يمكن إثبات الفوت بالاستصحاب أو لا؟.

هذا مبتني على أن الفوت هو عبارة عن عدم الفعل أو عبارة عن خلوّ الوقت عن العمل ويجري الاستصحاب على الأول دون على الثاني لكونه مثبتا فيكون ذلك من فائدة هذا البحث.

ويشكل القول بأن القضاء بأمر جديد ، وأما بناء على كون دليل القضاء كاشفا عن بقاء الأول والحكم على نحو تعدد المطلوب بلا حاجة إلى إثبات الفوت بالاستصحاب كما هو مذهب الشيخ بل كان مجرى قاعدة الاشتغال عند الشكّ كما هو مذهب صاحب الحاشية أو الاستصحاب عند عدم الإتيان سواء ثبت بذلك الفوت بأن قلنا انه نفس عدم الإتيان بالفعل ، أم لا بأن قلنا يلزم من عنوان خلوّ الوقت عن الفعل.

فائدة :

المشهور فيمن فات عنه صلاة كثيرة ينسى عدّها كان عليه الاحتياط واختار النائيني ـ قدس‌سره ـ بأن ذلك خلاف القاعدة الحيلولة ، فالشكّ فيها بعد الوقت لا اعتناء فيه والقاعدة حاكمة على الاستصحاب مضافا إلى أن قاعدة الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطي مجرى البراءة وإلا فاستصحاب عدم الإتيان الثابت عند الشكّ فلازمه الاحتياط وعلى

٢٠٥

مختاره ـ قدس‌سره ـ يشكل فتوى المشهور.

وذهب صاحب الحاشية ـ قدس‌سره ـ انه إذا فات من المكلّف صلاة وعلم مقدارها حين الفوت فيحكم بالقضاء وإن نسي مقداره فيحكم بالاحتياط في قضائها واحتمال التكليف المنجّز منجّز ولا تجري قاعدة الحيلولة فانه من أطراف العلم الإجمالي منجز ، فانّ جريان القاعدة في الشكّ البدوي وانّ اشتغال الذمّة يقتضي البراءة اليقينيّة وهذا هو المختار.

«الأمر الثامن : البحث في اقتضاء الأمر الإجزاء» :

انّ المراد من الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة لا بنحو العلّية ، والمراد من الأمر جنسه أنه لا فرق بين أن يكون الأمر واقعيّا أوليّا أو اضطراريّا أو ظاهريّا ، والمراد من الإجزاء أنه لا يحتاج بعد الامتثال مرّة ثانية ويحصل بأول وجوده الامتثال ولو لم يحصل بأول وجوده الامتثال لم يحصل بمرّة ثانية وثالثة وهكذا إنما النزاع في نسبة اقتضاء الإجزاء إلى الأمر الأولي وإلى المأمور به ، فعلى الأول يكون النزاع لفظيّا وعلى الثاني يكون عقليّا والانطباق قهريّا ، والمشهور في تحرير محل النزاع نسبة الإجزاء الأمر باتيان المأمور به ، فالنزاع لفظيّ :

وصاحب الكفاية ذهب إلى اقتضاء الأخير باتيان المأمور به على وجه يقتضي الإجزاء إلا من باب التبديل بأحسنها لورود الرواية في باب

٢٠٦

اعادة الصلاة من صلّى منفردا ثم حضر الجماعة ... إلخ.

وفيه :

انه ليس بأمر الأول بل بأمر جديد استحبابي وليس ذلك امتثالا بعد امتثال ، قال ـ قدس‌سره ـ : ليس الدلالة اللفظيّة لا اقتضاء بل انها عقليّة الظاهر أنه اقتضاء بنحو العلّية والتأثير لا بنحو الكشف والطريقيّة ، فانّ الإجزاء من جهة حصول الغرض ، فعدم وجوب الاعادة يكون بحكم العقل.

والمختار : انه لا فرق بين نسبة الاقتضاء إلى الأمر أو إلى المأمور به فانه يصحّ نسبة اقتضاء الأجزاء إلى الامر والى المأمور به والمثبت والمثبت لعدم الفرق بينهما كما ذكرنا ردّا على صاحب الكفاية في جوابه على الشيخ في قوله انّ البحث لا يكون عن أحوال السنّة وعوارض الخبر.

والحاصل : انه يصحّ نسبة الاقتضاء إليهما لكنّ الاقتضاء ما له النتيجة وهي في صورة كون الاقتضاء الأمر سواء كان للمأمور به اقتضاء أم لا.

وذهب النائيني ـ قدس‌سره ـ انّ التعبير بأن الأمر يقتضي الإجزاء مسامحة واضحة ، فالإجزاء لا يستند إلى الأمر وليس من مقتضياته بل يستند إلى فعل المكلّف ، ثم انه لا نزاع في اقتضاء الأمر الواقعي الإجزاء فانه مجز مطلقا إنما النزاع في الأمر الاضطراري والظاهري ، اما الأمر الاضطراري كما إذا اضطرّ بالتيمم ثم انكشف الخلاف قبل خروج الوقت وبعد إتيان الصلاة أنه غير مضطرّ بوجود الماء ، خلاف بين الأعلام.

٢٠٧

قيل : يتمّ صلاته ومجز ولا يوجب كشف الخلاف الاعادة مطلقا لجواز البدار.

وقيل : لا يجوز البدار ، بل الانتظار إلى آخر الوقت وإلا يجب الاعادة فانّ الاضطرار حكم طريقيّ ظاهريّ والاقتضاء نحو الكشف والطريق ليس بعقليّ لا يجزي بكشف الخلاف لعدم كونه مضطرّا واقعا ، ثم انّ موارد الاضطرار مختلف تتصوّر على أنحاء :

«الأول» :

أن يكون واقعيّا تكوينيّا وهو أن لا يكون المكلّف قادرا حقيقة على إتيان الجزء والشرط كالعاجز عن القيام في الصلاة فيسقط الجزء الذي اضطرّ فيه ، فانّ الاضطرار مقيّد بالواقع والباقي يكون مأمورا به مع العجز والاضطرار في الوقت وورود النصّ عليه مجزي عن الواقع الأولي ومع عدم ورود النصّ إما أن يكون المأمور به ساقطا رأسا بحكم العقل وهو خلاف المفروض فانّ الصلاة لا تسقط بحال ، واما أن يكون ثابتا بالنسبة إلى الباقي لعدم القدرة إلى الجميع فتكون بالنسبة إلى الباقي مجزيا بحكم العقل ولكن التحقيق عدم الإجزاء ووجوب الاعادة فانّ موضوع الحكم هو صرف الوجود من الوقت فلا بدّ من صدق الاضطرار بالنسبة إلى تمام الوقت وإلا يصدق عدم كونه مضطرّا.

«الثاني» :

أن يكون الاضطرار من باب المتزاحمين بين الأجزاء والشرائط ويكون المكلّف مضطرّا باتيان أحدهما وترك الآخر لمراعاة الأهم من المهم

٢٠٨

للنصّ وبحكم العقل ، ويستفاد أهميّة بعضها كالطهور والوقت وقصد القربة عن ساير الأجزاء والشرائط من حديث : «لا تعاد ..» ومع ارتفاع العذر في الوقت بعد إتيان المأمور به بحيث اعادتها بعد كونه مضطرّا من الأول.

إن قلت : انّ الاضطرار يكون مقيّدا للواقع فيسقط الجزء والشرط فيكون المأمور به هو الباقي في الواقع فيكون مجزيا.

قلت : هذا النحو من الاضطرار ليس اضطرارا واقعا لقدرة المكلّف عن إتيانه تكوينا ، فالخطاب والملاك غير مرتفع ولا يقيّد الواقع بذلك الاضطرار باختيار الأهم من المهم بحكم العقل بكونه غير مضطرّ واقعا وإلا لرجع باب التزاحم إلى باب التعارض فمع ارتفاع العذر ينكشف عدم التزاحم بل يتخيّل بأنه مضطرّ وليس الاضطرار إلا في تمام الوقت فالنزاع صغروي.

«الثالث» :

أن يكون الاضطرار من باب البدل كالتيمم بدل الوضوء ، وإذا ارتفع العذر قبل خروج الوقت ينكشف عدم كون المكلّف مضطرّا ، فلا يجزي قبل خروج الوقت المأتيّ به عن الواقع ، والكلام فيما لم يكن فيه نصّ ، وأما معه كما ورد النصّ في خصوص المسافر مع فقدان الماء والفحص نلتزم بحكم النصّ في خصوص باب السفر ونقول بالاجزاء ، فنحكم في الحضر على طبق القاعدة ، وقد علم استدلال القائلين بعدم الاجزاء بارتفاع

٢٠٩

العذر في الوقت من جهة كون الوقت صرف الوجود وعدم وجدان الماء بالنسبة إلى تمام الوقت.

وأما استدلال القائلين بالاجزاء وعدم الاعادة إذا ارتفع الاضطرار قبل خروج الوقت وبعد العمل سفرا كان أو حضرا بأن المأتيّ بالحكم الثانوي الواقعي وليس بحكم ظاهري.

ذهب الشيخ في المقام في توضيحه بذكر مقامين :

الأول :

في أن قضيّة القواعد الشرعيّة عدم وجوب الاعادة في الوقت لأن الواجب الموسع هو القدر المشترك بين الأفعال الواقعة عن المكلّفين بحسب اختلاف تكاليفهم في موضوعات مختلفة ، فقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) هو الواجب بتخصيص للحاضر في ضمن أربع ركعات وللمسافر في ضمن ركعتين وللواجد للماء في الصلاة مع الطهارة المائيّة وللفاقد له في ضمنها مع الطهارة الترابيّة فيكون الأمر الواقعي الاضطراري أحد أفراد الواجب الموسع ولا إشكال في أن الإتيان بفرد من الماهيّة يوجب سقوط الطلب بالنسبة إليها وبعد سقوط الطلب لا وجه لوجوب الاعادة فلا يعقل الأمر بالاعادة بمجرّد الأمر بالصلاة لاستلزامه طلب الحاصل.

وبعد زوال العذر يرجع الشكّ إلى ثبوت التكليف والأصل براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ما لم يكن دليل شرعيّ ولا يصحّ الاستناد في مقام إثبات التكليف باطلاق الأمر وعموم الأدلّة بأن يقال إطلاق ما دلّ على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة قاض بتحصيله وخرج

٢١٠

منه حالة الاضطرار ومع زواله يرجع إلى العموم والأخذ بأصالة عدم التخصيص واستصحاب حكم المخصص لعدم عموم زماني حتى قيل بتخصيص الزماني لزم عدم الأخذ بأصالة الحقيقة في المقام.

المقام الثاني :

في أن الإتيان بالمأمور به في الواقع الاضطراري هل يجزي عن الإتيان به قضاء أو لا؟.

قد يقال : انّ مقتضى عموم دليل القضاء هو عدم الاجزاء فانّ ما يقضى بالقضاء ليس هو الأمر الأول ، بل قوله : «اقض ما فات ..» ، ونحو ذلك من الأدلّة التي أقيمت عليه في مقامه مما يتوقّف تحققه على صدق الفوت وهو معلوم في المقام ضرورة عدم وصول المكلّف إلى المنفعة الحاصلة من الأمر الاختياريّ وفوات المصلحة المترتّبة على المأمور به الواقعي الأولي ، فان فات ان فوت المصلحة إنما هو فرع لأن يكون المكلّف في معرض الوصول إليه ومع عدم توجّه الخطاب الواقعي الاختياري إلى المكلّف ليس في معرض الوصول فلا يصدق الفوات بالنسبة إليه.

قلت : لا نسلم كونه تابعا للخطاب الفعلي بل يكفي فيه وجود المصلحة في الفعل مع كونه ممن يصلح لأن يخاطب بايجاده كما يشهد بذلك ملاحظة ما عدّوه من أسباب القضاء من الجنون والحيض والتعمّد والنوم والإغماء ، فانّ أغلب تلك الأسباب مما لا يصلح معها وجود الخطاب الفعلي مما هو الملاك في الأمر بالقضاء في تلك الأسباب موجود في المقام أيضا.

٢١١

وتوضيح ذلك :

انّ مراتب الفوت متفاوتة مختلفة ، فتارة يكون سبب الترك العمدي بعد وجود الطلب الفعلي ، وثانيها يكون بواسطة وجود مانع عن إدراك تلك المصلحة كما في ذوي الأعذار الشرعيّة أو العقليّة كالإغماء والجنون والنوم ونحوها من السهو والنسيان.

ثالثها : أن يكون بواسطة كون المكلّف أهلا لأن يحصل منه الفعل المشتمل على المصلحة كما في الحيض فانّ المرأة أهل ولو بحسب نوعها لأن يوجد منها صلاة مثلا أو صوم ، لا إشكال في صدق الفوت على الأوليين.

وأما الثالث فالظاهر ذلك فيها أيضا كما يشهد بذلك ما ورد في حقّ النساء من أنهنّ ناقصات العقول والحظّ والأديان ، وعلل الأخير بأنها تمكث شطرا من دهرها ولا تصلّي.

وبالجملة :

فان صدق الفوت في المقام بل يظهر من العلماء صدق الفوت مع عدم اجتماع شرائط التكليف وعدم الشأنيّة حيث انهم عدوّا عدم البلوغ والعقل من أسباب الفوت ، فمقتضى عموم دليل القضاء وجوب القضاء وعدم الاجزاء بالنسبة إليه ، وعلى هذا فيمكن القول بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة للاجماع المركّب بين وجوب القضاء ووجوب الاعادة بل وبالأولويّة القطعيّة.

٢١٢

ولا يمكن القلب بأن يقال : انّ قضيّة ما ذكرناه هو الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة والإجماع المركّب منضمّا إلى الأولويّة يوجب الاجزاء بالنسبة إلى القضاء لأنّ ما يوجب القضاء هو عموم دليله أقوى من دليل عدم وجوب الاعادة.

هذا غاية ما يمكن الانتصار به للقول بوجوب القضاء.

ولكنّك خبير بما فيه لعدم صدق الفوت بعد إحراز المصلحة المترتّبة على الفعل الاضطراري على وجه يوجب قضاء ذلك الفعل وكونها أكمل من المصلحة المترتّبة على الاضطرار لا يوجب ذلك لعدم عموم في دليل القضاء فانّ الموجود في كتب الرواية ليس ما هو المشهور في الألسنة من قولهم : «اقض ما فات كما فات» بل الموجود فيها قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ما فاتك من فريضة فاقضها كما فاتك» ، ومن المعلوم عدم صدقه في المقام سيّما بعد ملاحظة وروده في مقام بيان الكيفيّة.

نعم يصدق الفوت بالنسبة إلى الزيادة على المترتّبة على الفعل الاختياري ودلالة في الرواية على وجوب تدارك كلّ فائتة ، والمقدار المذكور ليس من الفرائض كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكرنا انّ قضيّة القواعد الشرعيّة هو الاجزاء وهذا هو الدعوى الأولى ، أما الثانية : أعني إمكان عدم الاجزاء بواسطة ورود دليل على وجوب الاعادة فلأنه لا استحالة عقلا وشرعا وعرفا في أن يقول الآمر للفاقد للماء متى قدرت على الماء ، فظهر إذ المفروض أكمليّة المصلحة الموجودة في الطهارة المائيّة ، فيصحّ الأمر بها إحرازا ، ودعوى

٢١٣

عدم صدق الاعادة على مثل المفروض بعد كونه مما لا فائدة تتعلّق باثباتها أو نفيها لظهور المراد بها في المقام دعوى فاسدة ، إذ لا يراد من الاعادة إلا ما يكون تداركا وتلافيا للفعل الواقع أولا وإن لم يكن مستفادا من الأمر الأول وإن كان الظاهر من العنوان الاعادة ذلك ولذلك قلنا بأن القول بوجوب الاعادة في الأمر الاختياري أفسد من القول بوجوب القضاء ولكنّه قد تستعمل في عرفهم في مجرّد التدارك ولو بأمر آخر أيضا كما ترى في أمر الشارع باعادة الصلاة مع الجماعة مع وقوعها منفردة وغير ذلك من موارد الاعادة كما هو ظاهر. انتهى كلامه.

وبالجملة :

الساقط بسبب التعذّر من القيود لا بدّ أن لا يكون ركنا مقوّما لمصلحة الصلاة مطلقا وإلا لما أمر بها في كتابه تعالى : .. (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، وإلا يسقط الأمر كفاقد الطهورين للزوم أمر بلا ملاك المنافي لمذهب العدليّة لكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد فيكشف من الأمر بالصلاة مع التيمم عند ركنيّة الطهارة المائيّة وعدم قوام مصلحة الصلاتيّة بدلا اضطراريّا واجد المصلحة بكل من الخطاب والملاك الذي يتقوّم بها الصلاة ، ولا محذور في أن يكون داخلا في ملاك في حال دون حال فلا بدّ من سقوط الاعادة.

وأما القضاء فلا يصدق الفوت مع إتيانه في الوقت بالطهارة الترابيّة فيسقط القضاء لعدم إمكان استيفاء مصلحة الطهارة المائيّة مستقلا

٢١٤

لعدم قيام المصلحة فيها إلا في ضمن الصلاة ، وقد استوفى مصلحة أصل الصلاة مع الطهارة الترابيّة مع انّ القضاء يدور مدار الفوت والمفروض انه قد استوفاه وأتى به في الوقت مع انه يستفاد الاجزاء بالنسبة إلى القضاء من الرواية التي تدلّ بالاجزاء بالنسبة إلى الاعادة ، فبطريق أولى بالنسبة إلى القضاء والقائلون بالاجزاء القائلون في المقام بأن الطهارة الترابيّة من باب البدل عن الطهارة المائيّة فيلزم منه تعدد الموضوع فلا يجري استصحاب التكليف ، والقائلون بالاجزاء قائلون بتعدد الموضوع كالمسافر والحاضر بأنهما تكليفين مستقلّين.

واستدلّ الهمداني ـ رحمه‌الله ـ في باب التيمم بالاجزاء بالروايات الكثيرة بأنهما من باب تعدد الموضوع عرضين مستقلّين ، فجميع المراتب غير طوليين إلا أن قوله تعالى : (.. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) يدلّ على أن حالة الاختيار والاضطرار طوليان.

قال الهمداني : لا يفهم من الآية أزيد من الظهوريّة ، ثم ان مقتضى القاعدة الإجتزاء بالصلاة الواقعيّة مع التيمم الصحيح وعدم اعادتها مطلقا إلا أن يدل دليل تعبّدي نظير ما أوجب الشارع جماعة عند انعقاد الجماعة ، فيلزم حينئذ من باب التعبّد لا لأجل القاعدة ، ويدل على عدم وجوب الاعادة مضافا إلى أخبار كثيرة.

وأما البحث في الاجزاء بالنسبة إلى الأمر الظاهري انه هل يجزي عن الأمر الواقعي بعد انكشاف الخلاف وقبل خروج الوقت أم لا؟ وفيه مقامان :

٢١٥

الأول : أن يكون ظهور الخلاف قطعيّا.

الثاني : أن يكون ظهوره ظنّيّا.

أما المقام الأول :

فيه خلاف منهم القائلين بالاجزاء كصاحب الكفاية وغيره ، قال : الاجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه.

والتحقيق : انّ ما كان منه يجزي في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة والحلّية بل استصحابهما في وجه قوى ونحوها بالنسبة إلى كلّما اشترط بالطهارة أو الحلّية تجري فانّ دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبيّنا لدائرة الشرط وانه أعم من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة.

فانكشاف الخلاف لا يكون لانكشاف فقدان العمل لشرطه بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل هذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا كما هو في لسان الإمارات فلا يجزي.

وفيه :

انّ الحكم الظاهري فرع لا ثبوته وهو أنه غير ثابت رأسا إنما الثابت في باب الإمارات هو الطريقيّة وفي باب الأصول هو الترخيص في ترك الواقع إذا ظهر خلافه فلا يكون مجزيّا ، والواقع إذا كان منكشفا بالقطع يقال له : حكم واقعي ، وإذا انكشف بالإمارة يقال له : انه حكم ظاهري ،

٢١٦

فيكون مجرّد اسم يسمّيان بهما ، فالحكم واحد واقعي والعمل بهما بالطريق والحجّة وليس حكم ظاهري حتى يقال انه مجز أم لا.

وبعبارة أخرى :

انّ الاجزاء فرع الأمر ، والإتيان بالمأمور به بعد ذلك ، ومع انتفاء الأمر كما في المقام يمتنع الإتيان بالمأمور به على أنه مأمور به فلا يتحقق الامتثال ويمتنع حصول الاجزاء ، وكذلك باب الأصول ، ولا يرد حينئذ إشكال التصويب الأشعري والمعتزلي ، ولا إشكال في اجتماع الحكم الواقعي والظاهري بجميع أقسامه وحينئذ لا يحتاج إلى ذكر الجواب في ردّ الإشكالات لعدم كون الأصول والإمارات أحكاما ظاهريّة ، بل العمل بهما عمل بالحجّة والطريق وبانكشاف الخلاف فيجب إتيان حكم الواقعي ولا تجري ولا بأس بترخيصه ولا حكم بالنسبة إليه واقعا لأن ثبوت الحكم مع الترخيص لغو ولا يلزم التصويب.

أما تصويب الأشعري يلزم إذا كان حكما معلوما فيكون مخصوصا بالعالمين ، وعلى ذلك يلزم أن يكون الحكم في موضوع العلم مأخوذا وهو دوريّ باطل.

وأما تصويب المعتزلي وهو عبارة عن تبدّل حكم الواقعي بحكم الإمارة بقيامها وإطلاق الأخبار الواردة عليه ما من واقعه إلا وله حكم ويقتضي إطلاقه ثبوته للعالم والجاهل.

ومن التزم بالحكم الظاهري فقد ورد عليه الإشكالات المذكورة

٢١٧

والأجوبة المذكورة توضيح ما ذكرنا ، كما إذا قام خبر واحد على عدم وجوب السورة وعمل بفتوى مجتهد ثم قام خبر متواتر قطعي بوجوبها ، قال ـ قدس‌سره ـ بالاجزاء ، وكما إذا قامت بيّنة على نجاسة الماء فصلّى مع التيمم ثم انكشف بدليل قطعي طهارة الماء قبل خروج الوقت ، قال ـ قدس‌سره ـ بالاجزاء ، وكما إذا توضّأ وصلّى بالماء بجريان قاعدة الطهارة فيه أو باستصحاب الطهارة ثم انكشف قطعا نجاسة الماء ، ذهب ـ قدس‌سره ـ بالاجزاء وعدم الاعادة بالطهارة التي هي شرط في الصلاة بالقاعدة أو استصحابهما يجعل بهما فردا أحدهما : الطهارة الواقعيّة ، الثاني : الطهارة الظاهريّة ، فيكون مجزيّا لكونه حاكما على دليل الاشتراط ومبنيّا لدائرة الشرط وانّ الطهارة أعم من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، والحق في جميع الأمثلة عدم الاجزاء كما عرفت بأن الحكم واحد واقعي والطرق والإمارة العمل بهما عمل بالحجّة إن صادف هو الواقع وإلا فلا أمر فيمنع الامتثال.

وبالجملة :

العمل بالإمارة بأنه طريق إلى الواقع ثابت على حاله ، فان أصابه فهو وإلا فمعذور ، والفوت مستند إلى الشارع لإمضاء حجّيتها التى كانت حجّيتها تكوينا الثابتة ببناء العقلاء على العمل بالعلم والاطمينان من جهة امضاء الشارع ، فانّ خبر العدل مورث للعلم والاطمينان ، فالجعل من الشارع بالنسبة إلى طريقتها غير صحيح لكونها بنفسها طريق تكوينا لا يناله يد الجعل على مبنى النزيل فانه لو صحّ لكان حال الخبر حال الاستصحاب ولا وجه لما يقولون به من مثبتاته وتقدّمه على الاستصحاب لا يصحّ أيضا تتميم الجعل فهو إمضاء الشارع.

٢١٨

وأما تتميم الكشف أمر تكويني لا تناله يد الجعل كما عرفت.

وعلى هذا لا يجزي من الأصول كقاعدة الطهارة والحلّية بل واستصحابهما عن الأمر الواقعي ولا يوسع الشرط ليكون للشرط فردان من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، فبناء على كون الإمارة والأصول حجّة وطريقا إلى الواقع لا يكون مجزيّا لعدم كونهما حكما.

إن قلت : كيف يمنع عن العمل بالقياس الذي هو طريق عقلائي والأحكام غير متناهية ، والمستفاد من الكتاب والسنّة ليس إلا قليلا من الأحكام ويستحيل أن يكون المتناهي دليلا على غير المتناهي فينحصر حينئذ الدليل بالقياس.

قلت : انه إذا راجعنا الكتاب والسنّة بقوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فتتضمّن هذه الآية بجميع الأحكام ونحن نرجع إلى السنّة ونستفيد منها القواعد الكلّية والفروع الغير المتناهية فيستفاد من الروايات الأصول القواعد وإن لم يمض الشارع الإمارة ولم يكن لنا طريق لإحراز الواقعيّات ويفوت الملاكات وانّ الكتاب وإن كان مجملا إلا أن الشارع أمضى الأخبار والعمل بما يوجب تدارك الواقع وتحصيل المصلحة بمقدار الذي اعتمد على الامارة إذا لم يكن ظهور الخلاف إلى آخر العمر وإلا فيعيد في الوقت ويقضيه في خارج الوقت لكونه طريقا ولا تصويب فيها لعدم كون الحكم الظاهري أمرا وحكما بل انه طريق وحجّة بجميع معانيها سواء أكان التصويب الأشعري والمعتزلي أو التدريجي الثابتة على القول بالمصلحة السلوكيّة التي غير مصلحة الصلاتيّة ، ولا دليل على المصلحة السلوكيّة أصلا ، ولا

٢١٩

يلزم من إنكارها إشكال التصويب في باب الإمارات ، فانه لو لا حجّيتها لفات جميع الملاكات وكذلك الأصول ، وهو حكم ظاهري وليس فيها إلا الترخيص في مخالفتها الواقع ، وكذلك الإمارة تكون حالها حال الأصول ، فلا مجال للاجزاء ، فانّ فيها ترخيص ترك الواقع عند الشكّ والإتيان عند العلم بالواقع ، فلا ضير في الترخيص في المخالفة.

ثم انه نكشف الحكم الواقعي بطريق الاطمئنان من الإمارة فقط مع قطع النظر عمّا يستفاد من مجموع الإمارات والأصول معا ، فانه لو لا هذه الجهة لقلنا نستفيد الصلاة من الإمارة فان أخبار العدول بعد العلم بالصدور كأنه سمعنا من الإمام بلا واسطة ، والمستفاد منها الجزئيّة والقيديّة لا تمام العمل ويبقى الباقي بأصل البراءة مع احتمال مدخليّة فيها بعد رفع الإشكال المثبتة لكون الصلاة عمل مركّب من الأجزاء والشرائط وكل واحد منها جزء في نفسه وإذا استفيد بالجزئيّة والقيدية من الإمارات ونقيّد سائر القيود المشكوكة بالأصل المثبت لأنه من لوازمه وفي أجزاء البراءة في القيود المشكوكة للاطلاق يلزم منه إشكال ، فانه إما واقعي ويسقط القيود المشكوكة واقعا مع وجوده في الواقع لزم التصويب كما قيل.

وأما الظاهري مع بقاء الواقع على حاله وحينئذ يلزم الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري كما قيل.

وأجيب عن الإشكال بوجوه :

الأول : الالتزام بالتصويب المعتزلي ـ وهو عبارة عن تغيير الحكم

٢٢٠