الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أشرق بنور ذاته ذوات الآنيات ، وهوية الممكنات ، وبدع الجواهر العقلية ، وأضاء سواطع السنّة والكتاب ، فأحكم الفروع بأصولها في كل باب ، وأصلي على محمد صلّى الله عليه عبده المنذر ، ، والمعلّم ، ونبيّه المبشّر ، وعلى آله الطيّبين الأنجاب خزنة أسرار الوحي واليقين ، وحملة كتاب الحق المبين ، وأبواب الوصول إلى جوار ربّ العالمين ، وأستعين وأسأل منه التوفيق أن يجعل الذخر ذخيرة ليوم الدين ، وهو خير معين.

أما بعد :

هذا الكتاب يشتمل على مقدّمة ، ومباحث ، وفوائد ، وأمور.

أما الأول ، ففيها أمور :

(الأول) : في تحديد ذلك العلم ، وعرّفوه بتعاريف لا تخلو عن الإشكال.

منها : هو العلم بالقواعد.

ومنها : هو العلم بالقواعد الممهّدة.

ومنها : هو العلم بالقواعد الممهّدة التي تقع في طريق استنباط

٣

الأحكام الشرعية.

وأسدها من التعاريف هو الأخير.

وفيه : أنه ليس جامعا لأفراده ، ولا مانعا عن غيره لعدم دخوله تحت ضابط كلّي ، وقاعدة كلّية ، لأنه : إن أريد منه المرتبة الأخيرة من أجزاء العلّة ، يدخل فيه مسائل معدودة من المسائل الأصولية ، فلا يكون جامعا لأفراده ، وإن أريد الأعم منها يعني جميع المراتب من أجزاء العلّة فيدخل فيها المرتبة الأولى كالألف والباء وحينئذ يدخل الأغيار فيه ، فلا يكون تعريفا حقيقيا.

فالأولى في تعريفه أن يقال : أن نتيجة مسائل علم الأصول إنما يكون كبرى كلّية في القياس بحيث لو انضمّ صغرياتها إلى كبرياتها الكلّية كانت النتيجة الحاصلة منها حكما كلّيا ، فتنطبق صغرياتها على كبرياتها الكلّية فتكون المسألة أصولية.

(الثاني) : في بيان موضوعه :

وقد اشتهر عند الأصوليين في تعريفه ، بأن موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

وقع الخلاف بينهم في تفسير العوارض على أقوال :

منها : ما يعرض الشيء بأمر أخص.

ومنها : ما يعرض الشيء بأمر أعم.

ومنها : ما يعرض الشيء بأمر مساوي.

ومنها : ما يعرض الشيء بأمر مباين.

٤

وهذه الأربعة من الأقوال في الحاشية.

ومنها : ما ذكره النّائينيّ «رحمه‌الله» قال : إن العوارض الذاتية ما هو بواسطة في الثبوت فان الرفع في الفاعل والنصب في المفعول من اقتضاء ذاتهما بلا علّيّة ولا سببية.

ومنها : ما ذكره في الكفاية ، وهو : إن العوارض ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض.

ثم إنّ العوارض التي يبحث عنها في العلوم تسعة عند المشهور وليس جميعها ذاتية بل الذاتي منها ثلاثة ، وستّة منها من العوارض مع الواسطة.

فالعرض الذاتيّ هو ما يعرض الشيء بلا واسطة كقولنا : الإنسان إنسان إذا كان بأمر مساو ، وكقولنا : الإنسان حيوان إذا كان العارض بأمر أعم كالجنس العارض بالفصل ، وكقولنا : الحيوان ناطق إذا كان العارض بأمر أخص كالفصل العارض للجنس. فغير خفيّ انّ الحمل في هذه الثلاثة ذاتيّة كما انه مبنيّ على اعتبار المغايرة بضرب من العناية ولا مغايرة في البين.

وأما إذا كان العرض غير ذاتيّ كما هو عند المشهور ، فان كان مع الواسطة تكون عروضه مجازا ، كما كان حقيقة في عرض الذاتيّ وهي ستّة ، هو أن يعرض الشيء أولا وبالذات ثم يعرض الشيء الآخر ثانيا وبالعرض. وهذه الوجوه إما داخلية مساوية ، كقولنا : «الإنسان متكلّم» فعروض التكلّم عليه بواسطة النطق ، فانّ النطق عرض ذاتيّ للانسان ، وكونه متكلّما عرض غير ذاتيّ.

٥

وأما ما يعرض المحمول لموضوعه بواسطة الأعم كالحركة العارضة على الإنسان بواسطة عروضها للحيوان كقولنا : الإنسان متحرّك. ولا قسم ثالث يعني ليس بواسطة الأخص في المقام.

إما خارجية : وذلك أربعة ، اما أن يكون بأمر مساو كعروض الضحك للانسان بواسطة كونه متعجّبا ، فعروض التعجّب للانسان ذاتيّ وعروض الضحك له بواسطته يكون عرضا غير ذاتيّ ، كقولنا : الإنسان ضاحك ، واما أن يكون بأمر أخص كعروض الضحك للحيوان بواسطة الإنسان ، كقولنا : هذا الحيوان ضاحك. واما أن يكون بأمر مباين كعروض الحرارة للماء بواسطة النار.

وأما الوجه الرابع : كالحركة العارضة للسفينة فانه ذاتيّ ، والحركة العارضة لجالسها غير ذاتيّة ، فانها تعرض للسفينة أولا وبالذات ثم تعرض لجالسها ثانية وبالعرض بواسطة العرض الذاتيّ ، فتكون الأقسام ستّة عند المشهور ، ويقال لها : عرضا غريبا. فتكون العوارض من المحمولات الغير ذاتيّة ، فيرد الإشكالات على تعريف المشهور من الأصوليين في المسائل التي كانت غير ذاتيّة ، كالمسائل التي كانت مع الواسطة.

أما تعريف المشهور كما عرفت وهو :

ان موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة.

ثم انه من الإشكالات الواردة على تعريف المشهور :

منها : انّ كلمة (جنس) أعم موضوع لعدّة من العلوم ، وفصوله

٦

موضوع مسائله كالرفع العارض للفاعل كان عارضا للكلمة بواسطة الفاعل ، والصحة والاعتلال العارض للكلمة بواسطة الفعل فحينئذ كيف يختصّ البحث بالعوارض الذاتيّة للموضوع في العلم ، وبعبارة أخرى : الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع العلم هو نفس الكلمة ، والأول بشرط شيء والثاني لا بشرط ، فيحصل المغايرة بين موضوع العلم وموضوع مسائله ، فلا يتحدان مع انه يقع البحث في موضوع مسائله في العرض الغريب على مبنى المشهور ، فلا يكون البحث من العوارض الذاتية لموضوع العلم ، فلا يكون جامعا لأفراده.

وأجاب عن هذا الإشكال في الفصول وتبعه في الكفاية ، وهو أن البحث في موضوع كلّ علم ، ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أي بلا واسطة في العروض ، يعني : ان العوارض كلّها ذاتيّة ليس فيها عرض غريب ، فالعوارض كلّها حقيقية فينعدم العرض الغريب في المقام ولو كان بألف واسطة فتكون ذاتيّة.

ومنها : أنه إذا كان العارض عارضا للموضوع مع الواسطة فيختلف موضوع العلم مع موضوع مسائله فتحصل المباينة بينهما ، فيكون البحث عن موضوع مسائله لا عن نفس موضوع العلم ، فيلزم استخدام في مرجع الضمير في تعريفه ، فيرجع الضمير الى موضوع العلم ويقصد منه موضوع مسائله.

ومنها : أنه إذا قلنا ان عوارض الجنس الأعم ذاتيّة وهي الفصول التي تحمل وتعرض الجنس ، وهو نفس موضوعات مسائله ، فيتحد مع موضوعات مسائله ، فالكلمة التي هي موضوع العلم في النحو ، وفي علم

٧

الصرف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان والفلسفة ، وغيرها من العلوم ، فيكون البحث عن عوارضه الذاتيّة في موضوع واحد من العلوم ، فيستلزم البحث عن عوارض موضوع جميع العلوم ، لكون الكلمة موضوعا في جميعها فيدخل بعضها في بعض في جميع المسائل.

ثم انه العارض تارة يعرض الشيء بلا واسطة ، كادراك الكلّيات لكونها من لوازم ذات الإنسان ، وتارة يعرض الشيء مع الواسطة ، لكن لم تكن واسطة في العروض ، فانها غير محتاجة إلى واسطة أخرى ، كالتعجّب يقال له : واسطة في الثبوت. وتارة يعرض مع الواسطة ، ويحتاج إلى واسطة أخرى ، يقال لها : واسطة في العروض ، وهي العرض الغريب.

وأجاب النائيني «قدّس الله سرّه» عن الإشكال الأول والثالث بمرتبة واحدة ، بأخذ الحيثية في تعريفه ، ان الفاعليّة علّة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا أن الرفع يعرض للفاعليّة أولا وبالذات ثم تعرض الكلمة ثانية وبالعرض.

فالواسطة في المقام إنما تكون واسطة في الثبوت لا في العروض ، والواسطة في الثبوت لا ينافي مع العرض الذاتيّ ، فان الموضوع في علم النحو ليس هو الكلمة مثلا من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما ان الكلمة من حيث الصحّة والاعتلال موضوع لعلم النحو ، فيتحد مع موضوع المسائل ، فانّ كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء ، بداهة ان الفاعل

٨

ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدّم رتبته من رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب ، والمفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذلك يقال في مثل الصلاة : واجبة من حيث ان الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلّف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية ، فيرتفع بقيد الحيثية إشكال الأول ، وهو عدم اتحاد موضوع العلم مع موضوع مسائله لو كان بواسطة العرض الغريب. وكذا يرفع إشكال تداخل العلوم بعضها على بعض فيتّحد موضوعها ، لأن كلا من موضوع العلم مع موضوع المسائل ملحوظة بشرط شيء وتقيّد الحيثية ، وليس موضوع العلم مطلق لا بشرط وموضوع المسائل مطلق بشرط شيء حتى لا يكون متحدا للتنافي بينهما على مبنى المشهور.

توضيح جواب النائيني (قدس‌سره) في تقريراته :

وهو أن الأحكام تتعلّق على فعل المكلّف ، وهي تارة بعرض الحكم بالموضوع مجرّدا عن القيد ، كما إذا قال : الشرب حرام وهو مطلق ، وتارة يعرض الحكم على الموضوع مقيّدا ، فعلى الأول تكون الحرمة لجنس الشرب ، وعلى الثاني تكون الحرمة عروضها للشرب المقيّد بالحرمة ، كما إذا قال : شرب الخمر حرام ، فيكون المحمول في كليهما حراما ، كذلك إذا قلنا : اللفظ المقتضى يكون الموضوع جنس اللفظ والمحمول مقتضى ، وإذا قلنا مقيّدا كقولنا : اللفظ المقتضى الاعراب فيكون الموضوع مقيّدا والمحمول مقتضى الاعراب ، فيكون تمايز موضوع النحو لفظ المقتضى من حيث هو غير اللفظ المقتضى اللفظ في الصرف من حيث هو ، فيختلف

٩

بحسب الحسيّات ، فالاقتضاء في كلّ واحد منها يكون ذاتيّا غيره في الآخر ، فاللفظ العربي بذاته مقتضى لجنس الاعراب ، فذات زيد في الابتداء مقتضى للرفع ، وعلى هذا المبنى ترتفع جميع الإشكالات إلا الإشكال الثاني.

وهو أن يكون البحث عن المسائل والافراد لا عن الجامع الكلّي ، مع ان البحث من الجامع الكلّي. وتقريب الإشكال الثاني بعبارة أخرى هو أنه :

إذا كانت الخصوصية والاقتضاء والقابلية في الجنس لا في المسائل والنوع ، يكون المحمول للجامع الجنسي ، وإن كان للمسائل والنوع يكون لمحمولها ، مع انه نرى بالوجدان الأثر للمسائل والمصاديق وحينئذ ، فلا يكون الجامع متّحدا مع موضوعات مسائله للمباينة بينهما.

وإذا كان الاتحاد بينهما فيتحد فعل المكلّف مع الصلاة والصوم والخمر والزنا وغير ذلك ، فيصدق أن يقال : ان فعل الصوم والصلاة وشرب الخمر وفعل الزنا مع كونهما من المباينات ، لا يصحّ الاتحاد بينهما.

وأجاب عنه الشاهرودي بقوله :

انه إذا قلنا : ان موضوع كلّ علم ما يبحث عن حالاته ووجوداته ، فلا يلزم الإشكال الثاني ، وهو إشكال الاستخدام في الضمير ، سواء قلنا له جامع أم لا لعينية الافراد والطبيعة واتحادهما ، فان الطبيعة لا توجد ولا تتشخّص إلا بتشخص أفراده. وليس مرادنا من الطبيعة التي

١٠

لا وجود لها ، بل هي ليست إلا هي ، بل المراد هاهنا ما يلاحظ الوجود في عالم التصوّر ، ثم يكون مأمورا به أو منهيّا عنه أو جامعا لشيء إذا تعلّق بالافراد من حيث الوجود لا من حيث الشخصيات الخارجية وحالاته ، يعني من دون عروض بأحد الخصوصيات اللازمة للوجود من الكون والطول والقصر.

والطبيعة المرادة ليس وجودها إلا بوجودات أفراده ، يعني البحث عن وجود الطبيعة من حيث الافراد لا من التشخّصات الخارجية ، كما عرفت بأن الافراد عين وجوداتها ، فماء الكوز البارد وماء النهر المالح ليسا تحت طبيعة واحدة ، بل حقائق الطبائع متغايرة ، فلا يصحّ لها الجامع ، وإذا كان وجود الافراد عين وجود الطبيعة يكون نفس موضوعات مسائله عينا ، وما يتحد معها خارجا كان تغايرهما مفهوما تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده كما ذهب إليه في الكفاية.

إن الموضوع هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي هي ، كما ذهب إليه الشيخ ، ولا بما هي كما ذهب إليه صاحب الفصول ، بأن البحث عن كان التامّة مع ان المقام بحث عن كان الناقصة ، فيخرج البحث عن خبر الواحد ، مع انه من أصول المسائل الأصولية لا يصحّ دخوله استطرادا ، ويخرج التعادل والتراجيح مع انه من مهمّات المسائل الأصولية ، ولا يصحّ دخوله استطرادا لكون البحث عنها هو كان التامّة ، ولا يقيّد قول الشيخ وقول صاحب الفصول لو كان المراد بالنسبة منها هو نفس قول المعصوم أو

١١

فعله أو تقريره ، كما هو المصطلح فيها ، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثه كحجّية ظواهر الكتاب والإجماع والعقل ، وكحجّية الأصول العلميّة لأن البحث فيها عن كان التامّة كما عرفت لرجوع البحث في الحقيقة الى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد في مثله حجيّة الخبر كما أفيد كلام الشيخ ، فيكون البحث عن ثبوت الموضوع ليس بحثا عن عوارضه فانّها مفاد كان الناقصة.

وعلى قول الشيخ البحث عن ثبوته بحث عن عوارضه وحالاته ، فان البحث عن الجزء وعن ثبوته التعبّدي حقيقة بحث عن كان الناقصة ، فهو من قبيل المتضايفين ، لأن البحث عن ثبوت حجّية الخبر تعبّدا بحث عن حالات النسبة التي هي موضوع العلم ، لأن حجّية الخبر إثبات لحجّية النسبة فيكون البحث عن حالاتها ، فان إثبات الابنيّة إثبات الأبوّة. هذا ، ولكن ذلك من عوارض الخبر الحاكي للسنّة لا من عوارض السنّة المحكية به.

وبالجملة الثبوت الواقعي ليس من العوارض ، والتعبّدي وإن كان منها إلا أنه ليس من عوارض السنّة بل من عوارض الخبر فتأمّل.

أما بناء على تعريف الشاهرودي (ره) لا يرد من الإشكالات شيء وهو ان موضوع علم الأصول هو :

اقتضاء محمول يفيدنا في طريق الاستنباط ، فيدخل الاستصحاب الكلّي والبراءة ، وخبر الواحد ، والتعادل والتراجيح ، من المحمولات التي مقتضى لذلك فيكون اقتضاء المحمول كلّيا طبيعيا جامعا.

١٢

الكلّية المعبّرة وأفرادها مسائلها ، فتدخل جميع المسائل سواء كان من المباحث اللفظية أو العقلية الملازمة ، بأنه هل المقدّمة واجبة أم لا؟ وهل يقتضي الأمر بالشيء النهي عن ضدّه؟.

أو هل يجوز اجتماع الأمر والنهي أم لا؟

وإن لم تكن بين الملازمة وبين المباحث اللفظية مناسبة إلا أنه ذكر كثير في المقام.

وبالجملة : إن اقتضاء المحمول الذي ينفعنا في موضوع العلم بالنتائج في الأصول ، أو المحمول الذي ينفعنا في الوظائف المقررة للمجتهد في تعيين المكلّف إسقاطا وسقوطا.

إن قلت :

إنّ الاقتضاء بحسب المسائل اختلافها وتشتتها ومباينتها فكيف يصحّ أن يكون تحت جامع واحد متحدا مع اختلافها.

قلت :

ليس لنا جامع بل نقول بالحالات وبوجود المسائل فيها ، انتهى كلامه دام بقاءه ورحمة الله عليه.

فنقول :

إنّ أصل هذا النزاع الذي وقع في باب المطلق والمقيّد بين السيّد السلطان ، وبين المشهور ، وهو : إنّ القيد هل يوجب مجازيّة المطلق أم لا؟.

ويظهر من جماعة من المحققين في غير هذا الفنّ مجازيّة المطلق

١٣

كما لا يخفى على المتدبّر بل نسبه بعضهم إلى المشهور ، وقال الشيخ في تقريراته في هذه النسبة نظر.

ويظهر من مقالة السيّد الذي هو من أئمة الفنّ ، عدم مجازيّته به ، واختار ذلك أيضا الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) ، ومنشأ الاختلاف راجع إلى اختلافهما في وضع المطلق ، والمشهور إلى أن المطلق وضع للمعنى بلحاظ السريان والشيوع ، بحيث أخذ لحاظهما جزءان للموضوع له ومقيّدا بذلك ، فالتقييد يوجب المجازيّة فيه ، وفي مقالة السيّد والشيخ انه وضع لنفس المعنى مجرّدا عن لحاظهما ، ولا يلاحظ وجودهما ولا عدمهما في الوضع ، فيصلح أن يجتمع بكلّ قيد ، والمعروف ان المطلق اللابشرط يجتمع مع ألف شرط ، ففي المقام ان الأعراض والمحمولات تكون قيدا للمطلق والجنس ، فبناء على مقالة المشهور يوجب التقييد على مجازيّته في جميع الأعراض الغريبة ، فيلزم الإشكالات المذكورة ، بخلاف مقالة السيد فلا يوجب التقييد مجازيّته فتكون في جميع الأعراض التسعة حقيقيا ذاتيّه ولا يرد من الإشكالات شيء ولذا نعرض عنه.

قال في الكفاية في تعريف موضوع العلم بلا واسطة في العروض يعني : ليس فيها عرض غريب ، بل جميع العوارض التسعة ذاتيّة لموضوعات مسائله متحدا مع موضوعات العلوم وهو المختار.

الأمر الثالث من المقدّمة :

إن في وضع اللفظ للمعنى أقوالا :

١٤

منها :

بكونه ذاتيّا لا تعهّد فيه في دلالتها على المعاني فانه يلزم على ذلك ترجيح بلا مرجّح لو قلنا بالوضع.

ومنها :

دلالة الألفاظ على معانيها ، لا بدّ من الوضع والعهد والترجيح ، ثم اختلفوا في تعريفه بعد تسليم كونه بالوضع ، فعلى المشهور انّ الوضع تعيين اللفظ للمعنى ودلالته بنفسه عليه ، أو بجعل اللفظ للمعنى ، وعلى ذلك يلزم خروج وضع التعيّن عن التعريف ، ولذلك اختلف في تعريفه.

ويندفع الإشكال بأن الوضع اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصصه به تارة ، ومن كثرة الاستعمال أخرى فيصحّ تقسيمه إلى : التعييني والتعيّني ، فيكون الوضع بمعنى اسم المصدر ، والقول بأنه ذاتيّ لا إشكال فيه ، فان القول بعدم كونه ذاتيّا يشكل القول بالتعهّد ولمحاليّة كونه من شخص واحد معيّن خاص ، مثل : «يعرب بن قحطان» لعدم إمكانه ، ولكن يمكن الوضع متدرّجا في الأزمان والأشخاص والأمكنة ، من البشر تارة ومن وحي يوحى أخرى ، كقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) ، ويمكن بالتعييني والتعيّني.

**

١٥

الرابع : فائدة في المعاني الحرفية :

وحيث ان الكلام تارة يقع فيها في تحرير حقيقتها وأخرى في أنها هل هي خاصّة في كلا مرحلة الوضع والاستعمال أو عامّة كذلك أو تفصيل بين المرحلتين في ذلك ، ففيها مقامان :

المقام الأول :

في بيان حقيقة المعنى الحرفي ، ولا بدّ من تقديم أمور :

الأمر الأول :

إن مقولة المعاني والمفاهيم ، وأعني بها ما يكون ألفاظه الموضوعة له فانية في ظرف الاستعمال لإفادتها ، ويجري بالنسبة إلى ما يراد إظهاره لما في الضمير مجرى تفصيل المجمل ، وليست مقولة الإدراكات وهو ظاهر ، ولا بدّ من وجوده الذهني الذي أثبته المحققون الحكماء ، ونفاه الآخرون ، كيف؟ ومع الغضّ عن أنّ مسألة الوجود الذهني معركة الآراء ومحل خلاف عظيم ، ولا يعقل نزاع في باب المفاهيم ، فلا محيص أن مرجع القول بالوجود الذهني إلى إثبات وعاء آخر ، لتفرّد الماهيّات أو أشباهها في صقع النفس ، كعالم العين ، وبإزائه.

والنافي ينكر أن يكون ما وراء الإدراكات والصور العلميّة أمر آخر ، سواء قلنا به أم لم نقل ، فلا مساس له بباب إظهار ما في الضمير في قوالب الألفاظ أصلا ، وانّما هي من مقولة آخرى كالوجود من أعرف الأشياء من جهة وأخفيتها من جهة أخرى.

ومهما ما كانت حقيقتها الواقعة ومن أيّ مقولة كانت ، فلا خفاء في

١٦

أنها لا تركيب لها من جنس وفصل ، ولا مادة لها ولا صورة وليست هي إلا حقايق بسيطة يمتاز كل نوع منها عن الآخر بعين ما يشاركه في المفهومية المشتركة بينهما أجمع ، كما هو الشأن في جميع ما لا تركّب لها من الأمرين وليس لها مادة ، ولا جهة قوّة أصلا ، وإنما هو فعليّ كلّه فكما ان كلا من اللونين المختلفين في الحقيقة ، أو المتفقّه فيها ، والمختلفين شدّة وضعفا ، يمتاز عن الآخر بعين ما يشاركه له لا لغيره ، فهو بعين ما يكون به لونا يكون سوادا شديدا مثلا ، لا لشيء آخر ، فكذلك المقام أيضا ، فكل من المعنى الاسمي والحرفي ، إنما يكون اسميّا وحرفيّا بعين ما يكون مفهوما وليس في البين قدر مشترك ذاتيّ يكون جنسا لأنواعها ، ويجري الاستقلال في المفهوميّة وعدمه بالنسبة اليه مجرى الفصول المقسّمة كما لا يخفى.

الأمر الثاني :

إنهم صرّحوا بأن انقسام المعنى إلى الاسمي المستقل بالمفهوميّة والحرفي اللامستقل فيها هو بعينه من قبيل الانقسام الموجود النفسي إلى الجوهر المستقل في الشيئية ، والعرض اللامستقل فيها ، وهو كذلك على ما سيجيء بيانه في محلّه.

وواضح انّه كما انّ الموجود في باب الجوهر والعرض انّما هو معروض الوجود ، فانّه هو الذي يكون حاصلا حال وجوده امّا لنفسه أو لغيره وامّا نفس الوجود فليس الّا عبارة عن تقرر الهويّة الكذائية أو الكذائية في موطنها اللائق ، ولا يعقل أن يلحقه هذا الانقسام بنفسه أولا وبالذات ، ويسري منه إلى

١٧

معروضه والى هذا أو أشباهه نظير قولهم : ما جعل المشمش مشمشا وانّما جعلها موجودا ، وكذلك المقسم في المقام أيضا ، إنما هو نفس المعنى الموضوع لفظه له بما هو مفهوم يستعمل لفظه فيه فانه هو الذي يكون عند إيراد بلفظه جاريا في حصوله لنفسه أو لغيره مجرى الجواهر العينية أو اعراضها.

وأما استعمال لفظه فيه فليس هو عبارة عن إيراد معنى كذائي أو كذائي بقالب لفظه ، وكما لا يعقل أن يكون كذائية ما يعرضه للوجود من ناحية وجوده ، ويوجد هوية واحدة عينية كذائية جوهرها تارة وعرضها أخرى ، ولا تكون هي بما أنها هوية تعرضها الوجود لا هذا ولا ذاك ، فكذلك لا يعقل أن تكون كذائية المعنى من ناحية إيراده بلفظه ويلاحظ هوية مفهومية واحدة عند إيرادها بلفظها اسميّا تارة وحرفيّا تارة أخرى ، ولا تكون هي بما أنها مفهوم تورد بقالب لفظه ، لا هذا ولا ذاك ، والصورة العليّة أو معلولها الخارجي ككون «زيد في الدار» مثلا ، وإن أمكنت حكايتها تارة بمثل «زيد في الدار» ، وأخرى بمثل «الدار» ظرف لوجود «زيد» وغير ذلك ، لكن حيث أنه لا مساس للأمور الخارجية ولا للصور العلمية ولا غيرها بمعاني ألفاظ أصلا وإنما هي عبارة عن نفس ما يورد في ظرف الاستعمال بقوالب ألفاظها ، فله مجال لأن يرجع المفاهيم اللفظية إلى ذلك الأمر الواحد الصالح للتعبير عنه بوجوه شتّى ، ويجعل الاسمية والحرفية من العوارض اللاحقة من لحاظه في طرف الاستعمال كما لا يخفى.

كما أن إمكان لحاظ المعنى الحرفي اسميّا بلحاظ الآخر أجنبيّ

١٨

عن توارد اللحاظين على هوية مفهوميّة واحدة وصيرورته اسميّا بأحدهما وحرفيّا بالآخر ، وإنما هو من باب إخطار هويّة خارجية بالمفهوم الصادق عليه حسبما سنحققه آنفا ، من رجوع حقيقة الاستعمال بالنسبة إلى المعاني الاسمية إلى إخطاره وإظهاره في قوالب الألفاظ ، وبالنسبة إلى المعاني الحرفية إلى إيجادها بها ، وعلى هذا يكون حال معاني الحروف مع ما ينطبق عليها من المفاهيم الاسمية هو بعينه حال سائر الهويات الخارجية مع مفاهيمها المنطبقة عليها.

وكما لا يعقل أن يرجع شيء من الهويات الخارجية التي توجد في غير موطن الاستعمال بأدائيّة غير الحروف مع المفاهيم المنطبقة عليها الى ذاتيّة بالحقيقة وانما يمتاز كل منهما عن الآخر في حقيقته وسنخه بأوسع فيما بين السماء والأرض ، فكذا الحال إذا كان موطن تحققها هو التراكيب الاستعمالية وأدوات إيجادها هي الحروف وما يلحق بها ضرورة عدم تعقّل الفرق له من جهة أداة الإيجاد ولا موطن للوجود من ذلك ، فالإشارة الخارجية إلى زيد بقوله : «هذا» مثلا بعينها كالإشارة إليه بطرف العين ونحوه كما لا يعقل أن ترجع هي مع مفهومها الصادق عليها إلى واحد بالحقيقة ، كذا إذا كان اسم الإشارة أيضا أداة إيجادها بها كما لا يخفى.

وما ينسب إلى نجم الأئمة من ذهابه إلى مساواة معنى كلمة الابتداء مثلا ، فالعبارة المحكيّة منه وإن كانت بظاهرها موهمة لذلك لكنّها مضافا إلى ما سيجيء من أن مثل : «من ، وإلى ، وفي» وما شابهها موضوعة لإفادة النسب خاصّة ، بين طرفيها ، وإن ما ذكره علماء الأدب في بيان معانيها من قولهم : «من» للابتداء ، و : «إلى»

١٩

للانتهاء ، ونحو ذلك معرّفات لخصوصيات تلك النسب ، وليست وافية بشرح تمام المعنى.

فغير خفيّ انّ العبارة المذكورة محمولة بقرينة صدرها وذيلها على المساواة من جهة العموم والخصوص دون ذات المعنى ، كما ان ذيل تلك العبارات وإن تشبّث به من فرط فيها وادّعى خلوّ الحروف من المعنى رأسا ، وكونها محض علامات لإلجاء استعمالات الأسماء والمعاني تحت ألفاظ أخرى ، إلا أن مجموع كلامه ـ رفع مقامه ـ صريح في أنه بصدد بيان ما ذكروه من حصول المعاني الحرفية كالأعراض العينيّة في غيرها فيحمل ما تشابه من كلماته على محكماته.

وبالجملة ؛ فرجوع المعاني الحرفية والمفاهيم الاسمية المنطبقة عليها إلى هوية مفهومية واحدة ، وكون الاسمية والحرفية من العوارض اللاحقة من ناحية الاستعمال وإن أوهمته عبارة الرضى وارتضاه من ثبت العلمية وسادتها في عصرنا ـ أنار الله برهانه ـ ولكنّه مما لا سبيل إلى المساعدة وسيجيء مزيد تنقيح لذلك إن شاء الله تعالى.

وقد حصل مما حررناه هاهنا وفي المقدّمة الأولى أن الاستقلال بالمفهومية وعدمه يجريان من المعاني مجرى الفصول المقسمة لها على حدّ ساير ما يتركّب من الأجناس والفصول ولا مجرى اللواحق العارضة لها من ناحية الاستعمال مع حدّ سائر العوارض المترتّبة لحوقها على تعيّن ذات معروضاتها وانما يجريان فيها مجرى ساير المقوّمات الذاتيّة بالنسبة إلى الحقائق البسيطة الممتازة عمّا يشاركها في الحقيقة بعين ما

٢٠