الذخر في علم الأصول - ج ١

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي

الذخر في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد أحمد النجفي الأردبيلي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

متعلّق الحكمين فلأن غاية ما يجديه ذلك هو التخلّص عن أحد محذورين : الاجتماع وارتفاع المانع عن إطلاق متعلّق الأمر عند عدم تنجّز النهي بذلك.

اما عدم مقدوريّة المجامع للمحرم هو عند تنجّز الحرمة ، فهو محذور آخر بترتّب البحث من مانعيّته من شمول الإطلاق وعدمها على الفراغ عن الجهة الأولي بعد البناء على تبعية إطلاق متعلّق الأمر بمقدار مقدوريّته كما عرفت انه مبنيّ على مزاحمة المضيق لإطلاق الموسع ونحوه ولا بدّ حينئذ من تقيّد متعلّق الأمر بما عدى المنجز حرمة بناء على الامتناع على ذلك فيستقيم ما تسالموا عليه من دوران مانعيّة النهي مدار تنجز وغير ذلك مما لا مساس له بالامتناع من الجهة الأولى كما فصّل.

ولمكان تلازم الجهتين إيجادا ووجودا فيسري قبح الفاعلي الناشئ عن تنجّز النهي إلى ما يجامع المبغوض ويمتاز عمّا يضاد المضيق بذلك ولا يصلح بهذا الاعتبار للأمر الترتّبي أيضا مضافا إلى عدم معقوليّته في المقام من حيث نفسه من جهة رجوعه إلى طلب شيء على تقدير وجوده فيكون السقوط به كالسقوط بفعل الغير وكغير الاختياري لا كالسقوط بما يضادّ المضيق ونحوه كما لا يخفى.

وما يقال من صحّة الصلاة في المكان المغصوب عند الجهل إنما هي لوجود الملاك والاقتضاء ، حيث انه يعتبر في مورد الاجتماع ثبوت كل من ملاك الحكمين وبذلك كان فرق بين باب الاجتماع وباب التعارض وهذا الوجه غير وجيه لأن الاشتباه ناش من خلط الجهل الراجع إلى

٣٨١

الحكم في مقام الإثبات وفي مقام العمل وبين الجهل الراجع إلى مقام الجعل والتشريع ، فعلى الأول لا ينجز على المكلّف وعلى الثاني لا يجعل لعدم معلوميّة الاقتضاء والملاك ومع تزاحم المقتضيين فيقدّم الجاعل ما هو الأقوى ملاكا ومع تزاحم الحكمين فيعمل المكلّف بقاعدة التزاحم.

وبالجملة :

التزاحم بين المقتضيين الراجع إلى الأمر في عالم الثبوت والتزاحم بين الحكمين الراجع إلى مقام الامتثال وإلى المكلّف وبينهما بون بعيد ، فتصحيح العبارة بالملاك إنما يكون بعد الفراغ عن مقام ثبوت الحكم وتشريعه مطلقا.

بعبارة أخرى : في ردّ ما يقال : انه عند تزاحم المقتضيين ثبوتا وفي مقام الجعل مع أقوائيّة أحدهما ولا يثبت ما هو الأضعف اقتضاء وملاكا ، ولا يصحّ موجبا للصحّة إنما يكون إذا كان الاقتضاء فيه اثم وأقوى ثبوتا وتصحيح العباد إنما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها في مقام الجعل والتشريع فيجعل الأمر مع العلم بالاقتضاء وملاكا مع كون أحدهما أقوى فيجعله بخصوصه ومع الجهل بهما أو بأحدهما فلا يجعل أو يجعل على طبق ما هو معلوم عنده ملاكا واقتضاء كما عرفت.

وعلم الآمر بها وجهله دخيل وأما تزاحم الحكمين في مقام العمل فان تساويا يكون المكلّف مخيّرا بينهما وإن لم يتساويا فيعمل بالراجح ،

٣٨٢

وإن جهل بأحدهما أو كلاهما فلا ينجز الحكم في حقّه فيكون علم المكلّف وجهله دخيلا ولكن جهل أحدهما أجنبيّ عن جهل الآخر فيهما بون بعيد.

وأما دعوى أنه بعد ما كان لكل من الحكم مقتضى في عالم الثبوت فلا مانع من إنشاء كل من الحكمين على طبق المقتضى ويكون الحكم في كل منهما اقتضائيّا لكان الحكم الفعلي هو ما يكون ملاكه أقوى وأتم.

وفيه : قد عرفت آنفا انّ المقتضى إذا كان أقوى في أحد الحكمين عند التزاحم فلا ينشأ إلا ما هو الأقوى اقتضاء للزوم اللغوية من إنشاء الأضعف منهما ، فانه مع فرض أقوائيّة حرمة الغصب عن وجوب الصلاة من حيث الاقتضاء والملاك فلا بدّ من تخصص دائرة الجعل والتشريع مما عدا مورد الاجتماع وحينئذ لا تصل النوبة لامتثال ما هو أضعف ملاكا عند التصادق لأن المفروض امتثال ما هو الأقوى لأنه هو الحكم الفعلي فجعل الأضعف يكون لغوا.

ولا يخفى عليك أنّ المدّعي يدّعى أنه كان عند الجهل بالغصبيّة الحكم الفعلي هو الصلاة مع أضعفها ملاكا واقتضاء ، ويظهر من تشريع كل منهما ثبوتا أثره عند الجهل ، وهذا على مبنى المدّعي من معنى حكم الفعلي يكون صحيحا ولا يرد على ذلك شيء من الإيرادات إلا إيراد واحد على فساد مبناه وانّ حكم الفعلي ليس على هذا المعنى كما تقدّم.

فظهر مما ذكرنا جميعا بطلان الصلاة في المكان الغصبي بناء على القول بالامتناع وتكون مسألة الاجتماع حينئذ مندرجة في باب التعارض

٣٨٣

وهو تقديم جانب الحرمة لتنجّزه ويكون من باب النهي في العبادات يقدّم النهي لكونه شموليّا على البدلي الذي هو صرف الوجود.

وأما بناء على القول بالجواز فتدرج المسألة في باب التزاحم وإن كان يقدّم جانب الحرمة إلا أنه بملاك آخر هو برجحان باب التزاحم وهو تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ويكون لعلم المكلّف وجهله حينئذ دخل في ذلك.

فظهر مما ذكرنا أيضا انّ القول بصحّة الصلاة في الدار الغصبي في صورة الجهل والنسيان على الاجتماع كما عرفت الوجه بأن سقوطها كالسقوط بفعل الغير وكغير الاختياري لسقوط موضوعه لا من باب امتثال الواجب فلا يجتمع ذلك مع القول بالامتناع يمكن أن يكون قول المشهور بصحّة الصلاة في صورة الجهل مضافا إلى اعتبار قيد المندوحة التي لا ينفع إلا بعد الفراغ من الجهة الأولى.

وقد يستدل على الجواز بأن الاجتماع بوقوعه في الشرعيّات فوق حدّ الإحصاء كاجتماع الوجوب مع الكراهيّة أو الاستحباب والكراهيّة والصلاة في مواضع التهمة وفي الحمّامات والصيام في السفر في بعض الأيام لكون الأحكام متضادّة بأسرها ولا اختصاص بالوجوب والحرمة ، والجواز ناش من تعدد الجهة والعنوان في جميع الأحكام الخمسة ، ثم انّ جواز الاجتماع في العبادة المكروهة على ثلاثة أقسام :

أحدها :

أن يكون بين متعلّق النهي التنزيهي ومتعلّق الأمر العموم

٣٨٤

والخصوص من مطلق كالنهي عن الصلاة في الحمّام ، كما إذا قال : صل ولا تصل في الحمّام وهذا خارج عن محل النزاع لأن محل النزاع فيما كان بين العنوانين العموم من وجه أو لأن النهي الكراهتي عن العبادات ليس كالنهي التحريمي مما يوجب تقييد الأمر بما عدا مورد الاجتماع مطلقا لعدم اقتضاء التقييد فيه ولا اتحاد في متعلّقهما حتى يلزم الاجتماع فانّ الأمر الوجوبي تعلّق بصرف الطبيعة على نحو البدلي ولم يتعلّق بجميع حصصها على نحو الشمولى والسريان ولا يقتضي الأمر المتعلّق بالطبيعة على صرف الوجود ، أريد من الرخصة في إيجاد الطبيعة في ضمن أيّ فرد من أفراد الطبيعة ، وهذا لا ينافي النهي التنزيهي ، فلا يعامل معاملة التعارض ولا يحملون المطلق على المقيّد كما في اعتق ولا تعتق رقبة كافرة ولا يعاملون معاملة التعارض من وجه ، فجواز الاجتماع في هذا القسم لا يكون لأجل تعدد العنوان أو الجهة.

ثانيها :

وهو أن متعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر وكان بين العنوانين العموم والخصوص من وجه كالنهي عن الكون في موضوع التهمة والكون في بيت مظلمة وإن كان هذا القسم يدخل في محل النزاع إلا أن النهي الكراهتي قد علمت في القسم الأول ليس كالنهي التحريمي بأن يوجب تقيّد متعلّق الأمر بما عدا مورد الاجتماع سواء قلنا بالجواز أو بالامتناع لعدم تدافع بين الاقتضائين باطلاقهما محفوظة من التضاد في الجمع بخلاف النهي التحريمي فانه يقتضي باطلاق الشمولي المنع وعدم

٣٨٥

الرخصة في إتيان ذلك الفرد فيحصل التدافع فلا بدّ من تقيّد إطلاق متعلّق الأمر بما عدا ذلك الفرد لأن النهي الشمولي مقتضاه المنع وعدم الرخصة في إتيان ذلك الفرد باطلاقه التحريمي بخلافه في التنزيهي فانّ مقتضاه بنفسه الرخصة كالأمر ، فلا تدافع بين اقتضائهما باطلاقهما بأن امر الصلاة تعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، ويتحقق على الفرد باتيانه على البدل والنهي التنزيهي تعلّق بالطبيعة على مطلق الوجود بحيث لا يجتمع الكراهة مع الوجود فلا يلزم اجتماع الضدّين فالرخصة في فرد لا تنافي الكراهة لكونها أيضا رخصة ويجوز تركه إلى البدل ، كما إذا كان المطلق هو المطلوب.

والقائل بامتناع الاجتماع لا يلزمه التقييد عن الاطلاق في التنزيهي كما يلزمه في التحريمي.

والقول بعدم الفرق بين النهي تحريميّا كان أو تنزيهيّا فيما إذا كان المتعلّق أحدهما ما تعلّق به بعين الآخر لثبوت المضادّة بين جميع الأحكام الخمسة ضعيف فانّ الأمر تعلّق بالطبيعة بما أنها مرآة لما في الخارج ويكون المأتيّ به مما ينطبق عليه الطبيعة بمقتضى إطلاقها.

وقد عرفت انّ الإطلاق لا يقتضي أزيد من الرخصة في كل فرد مع جواز تركه إلى بدل لمكان كون الافراد متساوية الاقدام في انطباق الطبيعة على كل منها والنهي التحريمي يوجب رفع هذا التساوي وإلا لزم اجتماع الرخصة واللارخصة والنهي التنزيهي لا يرفعه لبقاء الرخصة على حالها ، هذا إذا كان بين متعلّقهما العموم والخصوص من وجه.

٣٨٦

وثالثها :

أن يتعلّق الأمر بعين ما يتعلّق به النهي في العبادة المكروهة التي لا بدل لها كالنهي عن النوافل المبتدأة في الأيام الخاصّة كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء وأمثاله يتعلّق النهي بنفس العبادات المأمور بها بالنهي التنزيهي بذلك وإن كان استحبابا والنهي تنزيهيّا لعدم تعلّق الأمر بالطبيعة الصرفة بل تعلّق الأمر والنهي بطبيعة الصوم باعتبار الافراد ولا يكفي الجواب في القسمين الأولين فيه.

ولا يعقل أن يتعلّق الأمر الاستحبابي والتنزيهي معا بخصوصه بالصوم في يوم عرفة ويوم عاشوراء ، فانّ استحبابهما باعتبار صوم كل يوم مستحب بالخصوص ولا يعقل تعلّق النهي التنزيهي للمضادّة بينهما وإن كان أحدهما استحبابيّا والآخر تنزيهيّا فيشكل أن يتعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي ، فيجمع الأمر والنهي التنزيهي باعتبار الافراد ولا يكفي الجواب المذكور.

هذا وقد يوجّه ذلك بأمور :

أحدها : عن الشيخ وتبعه صاحب الكفاية.

وثانيها : عن أستاد أستادنا السيّد محمد الفشاركي الطباطبائي الأصفهاني ـ طاب ثراهم ـ.

وأما ما أجاب السيّد ـ رحمه‌الله ـ : وهو أن يقال برجحان الفعل من جهة أنه عبارة ورجحان الترك أشدّ من رجحان الفعل غلب جانب الكراهة وزال وصف الاستحباب ولكن فعل الصوم لمّا كان مشتملا على

٣٨٧

جهة راجحة لو أتى به يكون عبادة إذ لا يشترط في صيرورته عبادة وجود الأمر بل يكفي تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق ، فهذا هو الفعل المكروه فعلا لكون تركه أرجح من فعله وإذا أتى به تقع عبادة لاشتماله على الجهة.

ويشكل بأن العنوان الوجودي لا يمكن أن ينطبق على العدم لأن معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي ، والعدم ليس له وجود.

ثانيها : التوجيه الذي ذكره الشيخ الأنصاري ـ رحمه‌الله ـ وهو أن فعل الصوم في يوم عرفة وعاشوراء راجح وتركه مرجوح وأرجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن أن يجتمع مع الصوم ، ويلازم عدمه ، ولمّا كان الشارع عالما بتلازم ذلك العنوان الأرجح مع عدم الصوم نهى عن الصوم للوصلة إلى ذلك العنوان والنهي على هذا ليس إلا إرشاديّا ، ولا يكون للكراهة أو مجرّد كون الضدّ أرجح لا يوجب تعلّق النهي بضدّه الآخر بناء على عدم كون ترك الضدّ مقدّمة كما هو الحق ولعل السرّ في الاكتفاء النهي عن الصوم بدلا عن الأمر بذلك العنوان الأرجح عدم إمكان إظهار استحباب ذلك العنوان.

هذا ، ومما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض جهة الاستحباب.

٣٨٨

وثالثها : التوجيه الذي ذكره النائيني ـ قدس‌سره ـ قال : ما ذكره الشيخ وصاحب الكفاية فاسد ، لأنه يمكن أن يكون ترك الفعل راجحا ومستحبّا شرعا لأن المتيقّن من وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين من فعل شيء وتركه وكيف يعقل عدم وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين مع وقوعهما بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما ولا يعقل أن يكون كل من الفعل والترك راجحا ومستحبّا شرعا.

ثم قال :

هذا الوجه الذي أفاده الشيخ فلا يحسم مادة الإشكال ، فالأولى في توجيه رفع الإشكال أن يقال انّ مركّب النهي الكراهتي غير مركّب الأمر الاستحبابي ، فانّ تركّب الثاني هو نفس العمل وذات الصوم ومركّب الأول هو التعبّد بالعمل والتقرّب إليه تعالى فيكون الصوم مستحبّا ومع ذلك يكون التعبّد به مكروها ولا منافات بينهما إذا لم يتّحد متعلّقهما.

وفيه : انّ مركّب الأمر استحباب صوم يوم عاشوراء باعتبار استحباب صوم كل يوم فيكون النهي عن ذلك الفرد من الصوم فيكون مركّبهما واحدا فانّ متعلّق كل منهما هو الفعل.

والحق ما ذهب إليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ فانّ النهي إذا كان إرشاديّا لا يكون بينهما المضادّة حتى يلزم محذور الاجتماع بينهما الآن المخالفون يتبرّكون هذا اليوم بالصوم ومن يكون فيه صائما يزعمون الناس في حقّه أنه يتبرّك هو بالصوم فزعمهم مكروه للشارع فيكون الصوم مقدّمة لشيء مبغوض لله تعالى وليس بمحرم ولا يكون مكروه فانّ الشيطان على

٣٨٩

عرشه يفتخر لأولاده وأعوانه بعبادة من يسجد في وقت طلوع الشمس والشارع لا يحبّ افتخاره لهم فلا يكون نهيا بل إرشاد إليه.

وقد عرفت في القسمين الأولين كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمّام والصلاة مستقبلا إلى النار ونحوه قد ذكرنا سابقا في توجيههما على حده ليس ذلك من باب اجتماع الأمر والنهي في شيء لعدم اتحاد الكون في الحمّام مع الصلاة وعدم جزئيّة الاستقبال إلى النار بالصلاة وكذلك مواضع التهمة ليس بجزء متّحد معها وانها كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة فانّ الصلاة مركّب من أجزاء كالقيام والركوع وغيرها.

وأما الكون فيه من لوازم الجسم وليس بمتّحد معها ولا دخل للاستقبال والكون لها لكونها مقارنا للصلاة وليس بمتّحد ولا ملازم كالخياطة في الدار الغصبي والخياطة شيء والكون شيء آخر غير متّحد كما عند العرف.

نعم ؛ يمكن أن يكون غسل الجمعة والجنابة من باب اجتماع العنوانين في متعلّق واحد ولكن لم يقل به أحد بل يقال أكثر ثوابا بل يقال انّ مع اجتماع الوجوبين أو الاستحبابين أو الوجوب مع الاستحباب ومع إتيان أحدهما يسقط الآخر ويدلّ عليه الرواية كقراءة القرآن وعيادة المريض وتشييع الجنائز.

٣٩٠

تنبيه :

انّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع الحرمة والعقوبة عن المضطرّ كالمحبوس في الدار الغصبي مع بقاء ملاك الوجوب لو كان مؤثّرا ولو صلّى فيه ولم يكن مندوحة كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام ، وفيما إذا أتى الواجب في ضمن المجمع يقع البحث في توضيح ذلك بيان تقادير ومقامات فانه إما أن يكون اضطراره إلى ارتكاب الحرام بغير سوء اختياره ، كما إذا حبس في الدار الغصبي ، واما بسوء اختياره وعلى كلا التقديرين اما يمكن له التخلّص منها أو لا؟ ، وعلى جميع الصور يقع البحث عن حكمه التكليفي بالنسبة إلى ذلك الحرام أو عن حكمه الوضعي بالنسبة إلى صحّة الصلاة وبطلانه الذي يقع في الدار الغصبي. اما المقام الأول فيما إذا حبس فيها ولا يمكن منها الخلاص وذلك يحتاج إلى بيان مبان ثلاثة فيها لكون الصحّة والبطلان تترتّب بتلك المباني.

الأول :

إنه إن قلنا بأن الحكم الوضعي وهو عدم إيقاع الصلاة في الدار الغصبي من القيود العدميّة المعتبرة في المأمور به وينتزع من الحكم التكليفي ، ويستفاد عنه كالحرمة وتكون مرتبة القيود متأخّرة عن الحكم التكليفي.

فمقتضى القاعدة الأوليّة صحّة الصلاة فانه إذا سقط الحكم التكليفي بالاضطرار تسقط القيديّة فانها تدور مدارها.

٣٩١

هذا هو المشهور كما رآه أيضا الشيخ الأنصاري ـ قدس‌سره ـ ، ولا فرق فيه على القول بالامتناع والجواز.

الثاني :

انّ القيديّة إن كان مستقلا وهو الحكم الوضعي ، فالقيود تكون ابتدائيّة مستقلّة والحكم التكليفي ينتزع ويستفاد منه كالقيود المستفادة من النواهي الغيريّة كما في صورة الاضطرار إلى لبس الحرير أو غير المأكول الذي يعتبر عدمها في الصلاة.

فمقتضى القاعدة الأوليّة فيه هو الإطلاق في القيديّة على تقدير جريان مقدّمات الحكمة والدليل الدال على التقيّد لازمه سقوط الأمر عند انحصار الامتثال بالفرد فاقد التقيّد إلا أن الدليل الدال على أن الصلاة لا تسقط بحال يدل على سقوط كل قيد عند عدم التمكّن.

والثالث :

كون الوضع والتكليف مستقلان في عرض واحد وليس أحدهما منتزعا عن الآخر ولفظ النهي يشمل الحرمة وبطلان الصلاة فيزاحم المأمور به مع النهي عنه وتقديم جهة الحرمة على الواجب لأن القيديّة والحرمة معلولان للنهي في رتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما ويكون حال هذا القسم كحال القسم الثاني انّ سقوط الأمر هو مقتضى القاعدة الأوليّة كما انّ سقوط القيديّة هو مقتضى القاعدة الثانويّة ، فانّ التزاحم فرع وجود

٣٩٢

التكليف التحريمي وتنجزه.

فالأولى أن يقال انّ القيديّة المستفادة من النهي النفسي الظاهر يقتضي القيديّة المطلقة ولكنّ هذا لا يؤثّر له في باب الصلاة لأن الظاهر من قوله : «الصلاة لا تترك بحال» هو قيديّة كل قيد به مقصودة بحال التمكّن سواء كانت القيديّة مستفادة من النهي النفسي أو من النهي الغيري.

هذا كلّه على الامتناع ، وأما بناء على الجواز فسقوط القيديّة عند الاضطرار أولى من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات باب التزاحم ، كما عرفت.

والقيديّة المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيديّة كما كان الأمر بالنهي النفسي كذلك لا موجب بفساد الصلاة وبعد الاضطرار إلى الغصب لا يكون هناك مزاحم يقتضي الفساد والمحبوس في الدار الغصبي يصحّ صلاته عند المشهور ، وعند الشيخ وعلى القول بالجواز والامتناع وعلى المختار في هذا المقام وإن كان الاضطرار بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدّي إلى الحرام وضاق الوقت إلا عن الصلاة فيها على المختار.

وأما بناء على مختار صاحب الكفاية انّ الخطاب حينئذ وإن كان النهي ساقطا بالاضطرار إلا أنه بسوء الاختيار حيث يصدر مبغوضا وعصيانا كذلك الخطاب ومستحقّا عليه العقاب لا يصحّ لأن يتعلّق عليه الايجاب. وهذه في الجملة مما لا شبهة ولا ارتياب على بنائه ـ قدس‌سره ـ

٣٩٣

وإنما الإشكال فيما إذا كان ما اضطرّ إليه بسوء اختياره فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال إلى خمسة :

الأول :

وهو للمحقق القمّي فانه مأمور به بالخروج ومنهي عن البقاء والكون فيه كما هو ظاهر الفقهاء ، وقال : الخروج مأمور به ومنهيّ عنه فعلا ، ذهب إليه أبو هاشم والقمّي ، وفيه : انه طلب المحال وهذا مستحيل من الحكيم.

الثاني :

ما ذهب إليه صاحب الفصول ، وهو انّ الخروج مأمور به وواجب شرعا مع جريان حكم المعصية عليه بمعنى يعاقب عليه بالنهي السابق الساقط حال الخروج بالاضطرار.

وهذا القول أيضا مثل الأول لأن اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا أثر له لوضوح أن النهي عن الخروج في زمان سابق عن الدخول إنما يكون بلحاظ حال وجود الخروج مع كون هذا الحال منهيّا عنه كيف يكون مأمورا به ، هل هذا إلا توارد الأمر والنهي على شيء واحد ، فالمنافاة بين الحكمين ولو مع اختلاف زمانين فلا يعقل من الحكيم العالم بجميع المصالح والمفاسد الأمر والنهي بمتعلّق واحد.

والقول بأن المقام لو كان من صغريات قاعدة الامتناع بالاختيار

٣٩٤

لا ينافي الاختيار فلا يتعلّق بخروج الأمر ولا النهي وإلا فيتعلّق بغير المقدور وهو لغو ، فامتناع الخروج إنما يكون بترك الدخول لا بفعله ، وعلى ذلك يكون عكس القاعدة وموردها وهي كترك السير الذي هو مقدّمة الحج يوجب امتناعه الذي كان هو ذي المقدّمة.

واما في المقام فامتثال النهي المقدمي هو ترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه لا فعل الدخول فانّ فعل الدخول موجب للتمكّن من الخروج لا أنه موجب لامتناعه ، ولا يخفى ما فيه ، ويظهر وجهه بما نذكره من أن مورد القاعدة فيما كان المقدّمة الوجوديّة الذي كان باختيار المكلّف فيكون التكليف الممتنع بالنسبة إليها ، وأما بالنسبة إلى المقدّمة الوجوبيّة فانها خارجة من صغريات القاعدة ، مثلا : انّ السير إلى الحج مقدّمة يوجب لامتثال النهي فانّ ترك الدخول في دار غصبي يوجب لترك الكون فيها فيحصل الامتثال على النهي.

وأما إذا دخل الدار فيمنع امتثال النهي لوقوعه إلى الحرام يكون من صغريات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لأنه امتنع بنفسه عن امتثال النهي بسوء اختياره فيوافق بمذهب صاحب الكفاية ، وهو أنه ليس بمأمور به ولا منهيّ عنه لكونه لغوا وعبثا لكن يجري عليه حكم المعصية عقابا ، فنقول هذا بالنسبة إلى الكون الذي قبل حال الخروج ، وأما بالنسبة إلى الكون الذي يتحقق في ضمن الخروج لا يكون منهيّا عنه بوجه من الوجوه في زمان من الأزمنة بل الواجب في جميع حالات الوجوب عدم التصرّف في مال الغير وردّه إلى صاحبه شرعا وعقلا ، فيكون مأمورا به فقط ويجري حكم المعصية.

٣٩٥

القول الثالث :

لصاحب الكفاية ، ومن تبعه ، وهو أن الخروج غير منهيّ عنه فعلا لسقوط النهي السابق بحدوث الاضطرار ، ويجري عليه حكم المعصية للنهي السابق فيكون معاقبا لعصيانه بسوء اختياره ولا يكون الخروج مأمورا به مستقلا ولا مقدمة على ترك الحرام ، بل انّ الخروج مقدمة لكونه في الخارج فيكون الخروج واجبا عقلا فيكون هذا القول كبرى لقاعدة : انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا.

وفيه : انه إذا كان بسوء اختياره ثم شرب الخمر دفعا لأثر السمّ المهلك لحفظ نفسه ، فيكون ذلك واجبا شرعا وعقلا فاذا كان الخروج بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص عن الحرام أو سببا كان مطلوبا ويتّصف بالمحبوبيّة ، ويحكم عليه بأنه مطلوب ولا فرق حينئذ بين كونه بسوء الاختيار أو لا.

والقول الرابع :

وهو أن الخروج منهيّ عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.

والقول الخامس :

للشيخ الأنصاري واختاره النائيني ـ قدس‌سرهما ـ وهو المختار ، وهو أن الخروج واجب ولا يعاقب عليه ، فنقول : لا يجري عليه حكم المعصية على قوله ـ قدس‌سره ـ لدخول وجوب ردّ المال إلى صاحبه

٣٩٦

وهو أيضا قاعدة ولا ربط بقاعدة الامتناع بالاختيار ... إلخ ، من جهة العقاب والخطاب أو من جهة العقاب فقط.

هذا تمام الكلام في الحكم التكليفي.

أما الكلام في الحكم الوضعي وهو صحّة الصلاة في حال الخروج عند ضيق الوقت بناء على كون المكلّف مأمورا بالخروج وعدم جريان حكم المعصية عليه فيومي للركوع والسجود أيقع تصرّف زائد على الخروج ومع سعة الوقت تبطل الصلاة لإتيانها خارج الدار ، اما بناء على جريان حكم المعصية عليه وجواز اجتماع الأمر بالركوع والنهي السابق الساقط بالاضطرار عن الكون فيها حال الخروج يمكن القول بوجوب الصلاة لمكان انّ الصلاة لا تترك بحال ويسقط القيدية أو نقول بصحّتها تبعا للقيام على الجزئيّة لها يكون مأمورا به مع كونه معصية في مثل المقام لأهميّة الصلاة اما بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي فتبطل الصلاة وإن كان يمكن أيضا أن يقال بصحّة الصلاة لمكان انّ الصلاة لا تترك بحال. هذا تمام الكلام في اجتماع الأمر والنهي.

البحث في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟ ، ولا بدّ من تقديم أمور :

(الأول):

في بيان الفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وبين هذه المسألة وهو أن الموضوع في مسألة الاجتماع تعلّقهما بعنوانين مختلفين كاجتماع الصلاة والغصب وكانت النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه والنزاع

٣٩٧

فيه أنهما هل يكون مبدءين تقيّدتين بشرط لا أو يكون مشتقّين متّحدين لا بشرط. بناء على الأول يقتضي جواز الاجتماع لكونهما من مسألة المتزاحمين وبناء على الثاني تكون المسألة من باب التعارض والموضوع في هذه المسألة هو اقتضاء النهي الفساد أم لا؟ والنسبة بينهما العموم المطلق ، نعم ؛ بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي يكون البحث فيها من صغريات تلك المسألة ، وفيها عن كبرى والفرق بينهما في غاية الوضوح.

(الثاني):

انّ هذه المسألة من المسائل الأصوليّة للاستلزاميّة العقليّة ، وليس من المباحث اللفظيّة ، إلا أنه قول من الأقوال بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بين الفساد والحرمة.

فنقول : انّ النهي تارة يدل على الفساد من غير ملازمة بين الفساد والحرمة ، وتارة يدل على الفساد يكون بينه وبين الحرمة ملازمة وإذا دلّ عليه ولا يكون حراما كما في النهي عن المعاملات ، وأما إذا دلّ عليه ويكون بين الفساد والحرمة ملازمة كما إذا توجّه النهي بالعبادة فبناء على الأول يكون النهي إرشاديّا ، والنزاع قطعيّا.

وبناء على الثاني يكون مولويّا ، والبحث في المسألة عن الملازمات العقليّة في الأحكام خصوصا بناء على ما هو الحق من أن الفساد يدور مدار عدم الأمر والملاك معا.

٣٩٨

ولا يكفي فيه عدم الأمر كما حكي عن الجواهر فانه لا دخل للّفظ بالملاك سواء كان مدلول اللفظ أو لم يكن ويستفاد من الاجماع أو من العقل ، نعم ؛ لو قلنا : انه يكفي النهي في الفساد عدم الأمر كما ذهب إليه صاحب الجواهر كان النهي بنفسه دالّا على عدم الأمر ، ومع ذلك لا دخل للّفظ ، فانّ النهي الواقعي يدل على عدم الأمر فلا موجب لعدم المسألة من مباحث الألفاظ والبحث عن ذلك مسألة في باب الفاظ إنما هو لأجل عدم انعقادهم بابا عن البحث عن الملازمات العقليّة للأحكام مستقلا ، إذ دخول هذه المسألة في مباحث الألفاظ.

ثم انه فرق بين المسألتين بأن هذه المسألة من مسائل الأصول لأنها تقع كبرى قياس استنباط الأحكام ابتداء ، ويستنتج منها فساد العبادات والمعاملات ، وأما المسألة السابقة فليس من المسألة الأصوليّة بل من مبادئ التعارض.

(الثالث):

انّ الظاهر من لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي إلا أن ملاك البحث يعمّ التنزيهيّ في بعض الموارد في الجملة لأن النهي التنزيهي ثلاثة أنحاء :

قسم منها يكون مقتضيا للفساد ، فانّ النهي عن صوم يوم عاشوراء بما أنه صوم يوم عاشوراء مستحبّ باستحباب كل يوم لشمول عموم عام يكشف عقلا عدم الأمر ملاكا وأمرا عن النهي لاقتضائه فساد المنهيّ عنه

٣٩٩

وهو الصوم بخلاف القسمين الأخيرين عدم الاقتضاء فيهما للرّخصة الوضعيّة ، كما إذا نهى الشارع الصلاة في الحمّام أو الكون في مواضع التهمة.

قد عرفت سابقا في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وأما النهي الغيري المسبوق لبيان المانعيّة كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه وهو خارج عن البحث فانه لا ريب في اقتضائه الفساد ولا نجري احتمال الصحّة.

وأما النهي الغيري التبعي المستفاد من المانعيّة العقليّة بناء على مقدّمة ترك أحد الضدّين في الآخر في اقتضاء النهي الفساد كلام لعدم كونه كاشفا عن الملاك كالأمر بالصلاة والإزالة ، ويدخل جميع ذلك في محل النزاع على مبنى صاحب الكفاية ويدخل على مبنى النائيني ـ قدس‌سرهما ـ في عنوان النزاع النهي التحريمي النفسي فقط ، والغيري والتبعي على ما فيه كلام ، ويدخل في عنوان النزاع التحريمي النفسي وقسم من التنزيهي والغيري التبعي على ما فيه كلام على المختار.

(الرابع):

المراد من الصحيح هو ما يترتّب عليه الأثر المطلوب والفاسد ما لم يترتّب عليه ذلك الأثر بعد الفراغ عن قابليّة المورد يتّصف بالصحّة والفساد ويحملان عليه والبسائط ليس قابلا بالاتصاف بهما ، وعلى ذلك يلزم إشكال لو توجّه النهي إلى المسببات لأن البسائط لا تتصف بالصحّة

٤٠٠